انتقل من الاستقبال إلى الأمر، والثاني كقوله تعالى: [قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ] (١) الأية.
القسم الثالث: الإخبار عن الفعل الماضي بالمستقبل وبالعكس، كقوله تعالى: [الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا] (٢) الآية، انتقل من الاستقبال إلى الماضي، والثاني كقوله تعالى: [وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ] (٣)، وقوله تعالى: [وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ] (٤) الآية، انتقل من الاستقبال إلى الماضي، فانظر إلى ما أعطى الالتفات في هذه المواضيع من المعاني، وأفـ ادها من الحكم، فتبارك الذي أنزل الفرقان، وجعله معجزا، تنزيل من حكيم حميد.
واعلم أنّ صدر بيت الطغرائي هو بعينه صدر بيت الحريري في مقامته الرابعة والأربعين في قصيدته البائية؛ لأنه قال (٥):
وذي شطاط كصدر الرمح قامته صادفتُه بمنىً يشكو من الحَدَبِ
قال الشارح: ومثل هذا لا يُعدُّ سرقة؛ لأن المعنى ليس ببديع، ولا لفظه بفظيع، ولا الطغرائي عاجز عن الإتيان بمثله، بل جرى على لسانه، ونسي أنّ هذا لغيره؛ لعدم الاهتمام بأمره، إذ ليس هو بأمر كبير، وهذا كثير الوقوع للناس، لا يكاد يسلم الفحول منه، ولهذا قال أشياخ الأدب: ما حفظ أحدٌ المقامات ونسيها إلاّ ونظم ونثر، وقوله مثل صدر الرمح معتقل بمثله من الايجاز والاختصار؛ لأنه استغنى بقوله: بمثله عن أن يقول: برمح طوسيل قويم معتدل، وما أحسن قول المثل المشهور: يكفيك من القلادة / ما أحاط [٢٥ ب] بالعنق، وقال البحتري (٦): (من المنسرح)
وَالشِعرُ لَمحٌ تَكفي إِشارَتُهُ ... وَلَيسَ بِالهَذرِ طُوِّلَت خُطَبُه
وأحسن ما ورد في الإيجاز قوله تعالى: [وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي] (٧) الآية، وقد تكلم أرباب البلاغة فيها وأكثروا، قال ابن أبي الأصبع: هذه الآية اشتملت على أحد وعشرين نوعا من المحاسن، وذكرها، ثم فسّر ذلك، وشرحُهُ يطول هنا، والآية مشهورة بين أرباب البلاغة بالإبداع، وأعظم ما فيها شرح قصة نوح في الطوفان من أوله إلى آخره
_________
(١) الأعراف: ٢٩
(٢) فاطر: ٩
(٣) الكهف: ٤٧
(٤) النمل: ٨٧
(٥) وهي المقامة الشتوية، مقامات الحريري، ص ٣٨٧
(٦) ديوانه ١/ ١٩٦
(٧) هود: ٤٤
1 / 44