وكأن الموت ذاته قد وقر فريسته الكريمة واستهابها، فلم يجسر على إتلاف تلك الجثة الطاهرة فلم يعترها فساد، بل كانت وهي جثة مبتسمة ذلك الابتسام العطوف اللطيف الذي كان أثناء حياتها يبدو دائما على شفتيها.
وكانت الردهة التي فيها جسد الفقيدة مظلمة بعض الشيء؛ لما على نوافذها من السجوف المسدولة، وحول الجنازة صف من الشموع تحدث أنوارها مشهدا مهيبا ينشئ في النفس شعائر يعجز اللسان عن وصفها، وكانت الراهبات رفيقات الفقيدة منتقبات بنقبهن البيضاء يتناوبن الركوع حول مرقدها ويسكبن من عيونهن الدموع ومن أفواههن الصلوات.
وقد أقبل أيضا على الردهة التي كان فيها جسد الفقيدة عدد كبير من الغرباء تباعا مدفوعين إلى الأمر بتلك الجاذبية غير المعروفة التي بها تجتذب القداسة النفوس وتستهوي الألباب.
ثم انفتح باب الغرفة ودخل منه أربعة أشخاص بملابس السواد ووشاحات الحداد الكامل وهم رجل وامرأة عليهما سيماء الوقار، ثم صبية يستند إلى ساعدها شاب عليه آثار المرض، وكنت إذا أمعنت النظر إلى ما كان عليه ذاك الشاب من الهزال واصفرار اللون صعب عليك أن تعرف أنه البارون «دي لينس» خطيب «وردة» الذي كان ممتلئا صحة وقوة ونشاطا، والذي كانت عناصر الحياة والبهجة تبدو على حركاته وسكناته، فتقدم الأربعة إلى مرقد الفقيدة، وجثوا حوله واستمروا مدة راكعين خاشعين متأملين يصلون ويبكون سرا ... أجل إنهم كانوا يجدون لدموعهم رغما عن مرارتها مجرى عذبا وشهيا، فإنهم ببكائهم على الابنة المحبوبة والشقيقة العزيزة والخطيبة المأسوف عليها كانوا يعتقدون أنها في السماء بين مصاف القديسات، ويلتمسون صلواتها، وهي البارة شهيدة الإخلاص.
أما الراهبات، فإنهن خرجن من الغرفة إجلالا للزائرين المتقدم ذكرهم وتلطفا بهم في حال حزنهم.
وكان البارون لا يستطيع أن يحول نظره عن جثة الفقيدة التي كان يظهر وجهها متغير الهيئة كأنه قد أشرقت عليه شعاع من المجد السماوي الذي أصبحت نفسها تتمتع به مع أولياء الله، ثم هتف «شرل دي لينس»: «أيتها الخطيبة الكريمة القديسة، إنني لم أكن أهلا للاقتران بك، مع أني قضيت ثلاثين سنة بالكد والعمل؛ لكي أستحق امتلاك مثل هذا الكنز الثمين، إن الله قد سمح أن ألحظ فضائلك برهة ... فليكن اسمه مباركا ... على أنني أنحني خاضعا لأوامره وأحكامه التي لا يدرك أسرارها بشر.»
وبينا كان البارون يسترسل في تبيان حزنه وإظهار تلهفه إذ نهض المسيو «ب» بمظهر المهابة ثم قبض بسلطة أبوية على يد «سوسنة» وجعلها في يد «شرل» قائلا: «ليحب كل منكما الآخر يا ولدي، وابقيا متحدين زمنا مديدا، تلك أمنية فقيدتنا العزيزة، وهي من أعالي السماء تبارككما كما أني أبارككما أنا أيضا.»
وبينما كان المسيو «ب» يتفوه بهذه الكلمات خنقته التأثرات، فانقطع عن الكلام، ثم نهض جميعهم ولثموا يد «وردة»، وعانقوا ذلك المصلوب الذي كان فوق رأسها، ومنه التمست الفقيدة المحبوبة الشجاعة أثناء النزاع الذي انتهى بتضحية حياتها.
ثم إن هذه الأسرة التي اشتدت عليها التجارب والامتحانات أحست وقتئذ بسكينة وسعادة لم يشعر بها أعضاؤها منذ سنتين، فتعانقوا جميعا وعيونهم مغرورقة بالدموع، بيد أنها كانت آخر دموع أذرفتها عيونهم في حياتهم حسبما تنبأت لهم «وردة» قبل وفاتها. •••
هذا ولم تطل المدة حتى برح القنصل العام وذووه مدينة فينة عائدين إلى سورية، وما حان أول الصيف حتى اقترن «شرل دي لينس» ب «سوسنة».
Неизвестная страница