كنت أود أن أعانقك وأعانق والدي و«سوسنة»، ولكني أردت أن أبعد عنكم جميعا مقابلة الحزن هذه، بل أردت أيضا أن أضيف هذه التضحية إلى تضحية حياتي، إني قدمت لله هاتين التضحيتين من أجل شفاء «شرل»، وإني على ثقة بأن الله قبل ضحيتي، فما أحلى هذه الثقة لدي ... إنني أموت راضية فرحة مسرورة؛ لأن الواجب المفروض علي في هذه الدنيا قد كمل وتم، وإني لأنتظركم في السماء حيث يكون اجتماعنا أبديا.
يجب على «سوسنة» أن تقترن ب «شرل»، ذلك جل ما تبتغيه شقيقتها المائتة، بل ذلك أمر مني لا بد من إجرائه ...
كفكفوا دموعكم يا أقاربي الأحياء ... إنني واثقة بأن الدموع التي تذرفونها الآن إنما هي آخر بكاء تبكونه ... لم يكن ليخطر لي مطلقا أن في التضحية وفي الموت حلاوة مثل التي أشعر بها ...
اضربوا الصفح عما سببته لكم من العناء ... ولما كانت الحال تقضي بأن أموت أنا أو أن تموت شقيقتي افتكرت أنه لم يبق مجال للتردد، فجعلت نفسي فدى عن تلك التي أحبها أكثر من حياتي ... إنكم بموتي تفقدون ابنة، ولكن الابنة الباقية لكم هي خير مني ... الوداع يا والدي، الوداع يا والدتي، ويا شقيقتي الحبيبة ... بل أودعكم على أمل اللقاء.
وردة ب ...
أما البارون فإنه عندما نظر حلي خطيبته الكريمة ظهر عليه كأنه خرج من سبات عميق وتنفس الصعداء ثم أجال البصر نحو الحضور دهشا كأنه لا يدري من سابق أمره شيئا، ولم يلبث أن قام متعافيا وآب إليه رشده وأول ما صنع أنه ترامى على تلك الآثار العزيزة لديه وقبلها بتأثر وهيام شاكرا له تعالى على عظيم منته وجميل رحمته، وكانت الدموع تنهمل من عينيه كالغيث المدرار ...
أجل، إن التقدمة التي قدمتها «وردة» قد قبلت لدى الله، وبناء على ذلك قد نال خطيبها الشفاء من دائه العياء.
16
اليوم الذي نروي حوادثه الآن إنما هو يوم أحد الشعانين، أكرم به يوما صفا هناؤه وتوفرت بهجته، وكان أهالي فينة قد ارتدوا بملابس العيد وذهبوا إلى الكنائس والمعابد يقضون فروضهم الدينية، وكنت تراهم بعد انقضاء صلواتهم يخرجون من الكنائس زرافات يحمل كل منهم في يده غصنا من البقس وكان يمتزج بالهواء عرف البخور الطيب بينما كانت أجراس الكنائس تصدح كالبلبل الصياح، وتشدو كالهزار في جميع أرجاء تلك العاصمة الفيحاء، أما الهواء فكان نقيا والجو صافيا والسماء رافلة بحلة زرقاء بهية ترتاح إليها الأبصار، وكانت شمس نيسان الساطعة قد بددت منذ زمان مديد الضباب اللطيف المتصعد من وادي الطونة، وكانت الأشجار المنتصبة صفوفا منظمة في رياض فينة ومتنزهاتها قد ظهرت عليها البراعم زاهرة والأوراق مخضرة، وكانت الطيور تأتي على أغصانها مغردة صادحة بنغماتها الطيبة المطربة كأنها بذلك تحيي الربيع المقبل وتستقبل الطبيعة المنتعشة.
ففي تلك الضحى وعلى تلك الحال التي وصفنا كانت جثة الراهبة «أغنس» راقدة في ردهة من دير «راهبات المرضى» في ظل صليب مرتكز لدى رأسها ... وكانت تلك الفتاة القديسة كأنها نائمة بهدو النوم الأخير.
Неизвестная страница