هذه هي النتائج المعروفة التي نشاهدها إثر المصائب العديدة، التي تنتاب الناس وتنزل عليهم بهموم النفس وآلام القلب. وهذا خطأ مغفور، ولكنه خطر شديد وخيم العاقبة، ينتقل بالمنكوب من حال سيئة إلى أخرى أسوأ منها. فجدير بمن خسر أن يجمع القليل الباقي، ويفرغ جهده في الحرص عليه والسعي في إنمائه واستثماره؛ لعله يدرك بعد قليل ما يعزيه وينسيه ألم الضائع المفقود. فالسعي والعمل يخففان من لوعة المصاب، والاستسلام والاستكانة يزيدان الألم ويدميان القلب المقروح، والتعلق بالقليل الباقي أسلم عاقبة من اليأس الذي يلاشي حتى البقية الباقية، والتشدد في مقاومة الكوارث، والتصبر في احتمال الآلام خير من الاندحار والسقوط تحت أعباء الهموم النفسية. والوقوف في وجه النازلة ومقابلة الخطر خير من الهرب والفرار؛ لأن المقدور صائر لا محالة.
وليتذكر الغافل أن نفرا قليلا من الناس عمروا الأرض بعد الطوفان، بعد دمارها، ومن نسلهم ظهرت هذه الملايين العديدة التي تضيق بهم المسكونة. وأن اليسر لا بد وأن يعقب العسر وأن الفرج لا يأتي إلا حين تشتد الأزمات. وكم حياة ضاعت لأوهن الأسباب! وكم منكوب عز بعد ذل وكرم بعد هوان وامتهان!
كل حوادث التاريخ تؤيد هذا القول وتؤكد للباحث أن المصائب العظيمة والرفعة والسمو قد تأتي عن أحقر الأسباب شأنا؛ فليس من الحكمة إهمال الصغائر. وعلى الإنسان الثبات والصبر ومعاودة الكرة عقب الفشل فإنها سبيل الفوز وسر النجاح. •••
من الغريب أن شيئا من الوهن أو الإهمال يغشى أبصار الخلائق وبصائرهم، فيمنعهم من معرفة الواجب وتقديره وأدائه، فينظرون إليه ممسوخا أو من جانب واحد، مع أنهم ينشطون ويتشددون لاكتشاف الغوامض البعيدة على نظر الإنسان، ويتشوقون إلى معرفة ما لا يضر ولا ينفع، فيقضون على جزء عظيم من الإرادة والقوة بالتعلق بأمثال هذه الأوهام. وأي فائدة تعود على الإنسانية من ترديد عبارات الإشفاق والحنو والاهتمام للخير العام والعطف على المجهولين، الذين أخنى عليهم الدهر بخطوبه، وهم في أنحاء الأرض القاصية بعيدين عن الآذان والأبصار؟ ماذا تفيد هذه الظواهر؟ وماذا ينفع التشدق بدعوة الناس إلى عمل الخير في مجاهل هذه السبل، مع كون الآذان تكاد تصم من أصوات البائسين القريبين منا، والقلوب في الصدور منفطرة مكسورة من جراء ما تسمع من أنين المنكوبين الذين تراهم أعيننا وتلمسهم أيدينا، ونعثر بهم في كل خطوة من خطواتنا؟
أوليس من الخطأ الفاحش أن يتجشم الرجل أهوال الأسفار؛ ليعرف ضروب النوع البشري، ويرحل الرحلات العديدة لهذا الغرض، بينما هو يجهل كل الجهل أبناء بلده، كأنما هم من غير الآدميين الذين يفتش عن أنواعهم، ويبحث عن ماهيتهم. فلا يحفل بمعرفتهم ولا يحدث نفسه بحاجتهم إلى التعليم والتربية، كأنه يظن أنه لا يعنيه شيء من شئون معيشتهم وراحتهم أو شقائهم، ولا ينظر في أمر حكومتهم ومعاملتها لهم. بل لقد تراه لا يسعى حتى في معرفة الذين يظلهم وإياه سقف واحد، ولو كانوا مجهدين أنفسهم في خدمته واكتساب رضائه. وقد يجهل أيضا أو يتجاهل حال العمال الذين يعدون له معدات النعيم والرفاه، ولا يعبأ بشأن سائر الخلائق الذين تربطه بهم عدة روابط اجتماعية لا غنى لامرئ عنها.
ولست لأدري هل ذلك جهل بالأمور وسوء تصرف غير مقصود، أم هو إهمال عن احتقار واستهانة بهذا الخليط الآدمي؟ وهنالك ما هو أفظع من ذلك؛ فإن بعض النساء لا يعرفن عن أزواجهن شيئا كأنهم غرباء عنهن، وكذلك الأزواج تراهم على جهل بنسائهم كأنهن في غير عصمة الرجال. وكم يجهل الكثيرون شأن أولادهم والوسائل المتبعة في تربيتهم وتهذيبهم، ولا يعرفون أفكارهم ونياتهم، ولا يهتمون لشيء من الأخطار التي تتهددهم أو الآمال التي تملأ قلوبهم، كأن هذه الأمور تافهة حقيرة أو كأنها لا تعنيهم قط. وكما ترى الآباء لا يعرفون كثيرا عن أبنائهم، فكذلك ترى الأبناء لا يعرفون شيئا عن والديهم، فهم يجهلون ما يصيبهم من شقاء أو ينالون من نعيم وسعادة.
ولست أعني بمن ذكرت القبائل الهمجية التي لا تكاد توجد علاقة بين بطونها وأفخاذها، حتى ولا بين أفراد العائلة الواحدة منها. ولكنني أعني الهيئات الراقية من كل أمة، والتي هي عنوان كمال الشعوب ورقي البلاد، أولئك السراة الذين ألهاهم ما هم فيه حتى عن أعز الناس لديهم وأقربهم منهم، فصرفوا أنظارهم إلى ما وراء الأفق، فلم يعودوا يبصرون ما أمامهم ولا ما تحت أرجلهم؛ حتى داسوا أقدس ما يجب على الرجل نحو ذويه وعائلته ومواطنيه. وأعماهم التطلع إلى الشهرة من وراء التظاهر بعمل الواجبات العظيمة الخطيرة؛ عن أداء الواجب المعتدل السهل المفروض أداؤه نحو من يعولون من الأبناء، أو من يتصل بهم من الأقرباء. فإن قام بها ومد يده لنصرة الغير كان فضلا منه، وإن أهملها وتطلع إلى ما يبغي به الشهرة والظهور عيب عليه النقص، وكان ما يبنيه على غير أساس يدكه الكلم ويمحوه القدح القليل والذم من الناس.
فليكن الرجل حكيما قبل كل شيء يقوم بما عليه لنفسه، فأفراد عائلته، فأبناء بلدته، فمواطنيه، فإذا كان في وسعه فوق ذلك وعمل خيرا شكر وأثيب.
إن من لا يرتب عمله يلهو بما لا يفيد ولا ينفع عما يفيد وينفع، وكل من يشتغل بما لا يعنيه مقصر فيما فرض عليه، وآت بدليل على حمقه وجهله وغباوته. وهذه هي أقوى الأسباب التي تربك الهيئة الاجتماعية وتجعل الخلل يتطرق إليها ويشوش مجرى الأمور.
ومن الناس من يقول: إن المرء مسئول عن إصلاح ما أفسد، وهذا حق لا غبار عليه، ولكنه من باب الصالح قولا لا فعلا، ونتيجة الاعتداد بهذه الدعوى هي ترك الفاسد فاسدا حتى يوجد المفسد فيكلف إصلاح ما أتلف. ولست أدري كيف يصلح الفاسد إذا لم يوجد المتلف، أو إذا هو وجد وأبى الإصلاح أو لم يقدر عليه؟
Неизвестная страница