وليس الغرض حمل الناس على ترك الأبحاث الفلسفية والاستقراءات الدقيقة لمعرفة الحقائق الأدبية، واستجلاء غوامض المسائل الأخلاقية التي استعصى حلها حتى الآن. فكل سعي في هذه السبيل ممدوح ومحمود، ولكن المراد عدم توقف الباحث عن أداء الواجب الإنساني قبل أن ينتهي من أبحاثه. والعاقل من يتذكر دائما كونه خلق قبل أن توضع هذه النظريات، وقبل أن تخلق هذه المشكلات. وقد خلق الواجب مع الإنسان فهو سابق لها، فالرجل الحقيق بهذا اللقب من يؤدي واجبات الرجولة.
والخبير بضمائر الناس وخفايا القلوب لا يشك في كثرة الاعتراضات التي يعترض بها على ما مر، ولكن من تسول له نفسه الفرار من واجب الإنسان، لا يخجل طبعا من انتحال الأسباب المبررة للسقوط الأدبي. •••
من الصعب أن يتخبط الرجل في طريق الواجب المجهول، وأن يتلمس في الظلام طريق الهدى والسبيل القويم، وعسير عليه أن يهتدي بين المتناقضات والاختلافات العديدة التي تدور حول الواجب وفروض الإنسانية. وقد يكون الواجب في بعض الأحايين فوق الطاقة وفي غير وسع المرء، ولكن من المؤكد ندرة هذه الأحوال الحرجة التي تستدعيها بعض الاضطرابات الاستثنائية. وخير ما يعمل الإنسان في تلك المواقف أن يلزم الأناة والحذر؛ لأن الذي يقبل عذر من يكبو في الطريق المظلم المجهول، ويشفق على المحارب أن يقهر بين نارين، لا يتردد في الرفق بمن يقصر عن ضعف، أو يسقط رغما عنه سقوطا أدبيا ما دامت القوى التي تغالبه فوق طاقته.
وليس السقوط الإجباري عابا على الساقط، ولا يجوز توجيه الانتقاد والعذل إلى المقصر المرغم على التقصير، ولا يصح أن يقصر الكلام على ذلك الواجب المتعذر أو المستحيل أداؤه، بل يجب أن يتناول السهل الذي يتسنى لكل إنسان القيام به بدون إجهاد النفس، ولا استنفاد القوة ولا تبذير المتاع، إن المهم إنما هو أداء الواجب الممكن؛ فتعدد القائمين به بين الأفراد يخفف ويلات المجتمع الإنساني ويلطف الحال.
وليس العار على من يقصر في القيام بأعباء الواجبات الثقيلة، بل العار كل العار على من يحجم عن تأدية الممكن السهل منها إهمالا وتقصيرا.
ولو أن واحدا من ذوي اليسار والمراكز السامية يتخلى عن عرش نعيمه ويطوف خلال صفوف الناس؛ ليخفف ويلاتهم ويمد للمنكودين منهم يد المساعدة والمعونة، فلا يلبث أن يرى في هذه البيئة ما لا يحصى من أنواع الشقاء الذي لم يترك دارا إلا دخلها، ولا عائلة إلا حط بين أفرادها، فيقف على كثير من أنواع الآلام النفسية والجسدية التي يعانيها القوم، ويئنون منها في كل لحظة. وكلما اختلط بأولئك الأفراد ودقق النظر في حالتهم المعيشية اكتشف من أنواع البؤس ونكد العيش ما يهوله ويقصر همته؛ حتى ليتصور أن تخفيف هذه الكوارث وتلطيف حال أولئك المتعسين البائسين ليس في طاقة أحد من الناس، مهما أوتي من حب الخير والسعة التي تخوله الأخذ بأيدي المعوزين والبؤساء؛ لوفرة عدد المنكودين، واتساع الدائرة التي يخيم على من فيها الشقاء ويحكم فيها البؤس. ومع ميل الكرام إلى بذل ما في الوسع من المساعدة ترى الحيرة تأخذهم أمام هذا المشهد المخيف، فيتساءلون عن فائدة ما يقدم من المساعدة ويعمل من الطيبات، وهو لا يشفي الغلة ولا يدفع الغائلة. ومنهم من يروعه اليأس فيكف عن المبرات، مع أن قلبه يتقطع إشفاقا وحنوا على ذلك الفريق المنكود. وهذا هو عين الخطأ ومنتهى الخطل؛ لأن مساعدة المنكوب واجبة على أخيه الإنسان القادر على قدر ما يستطيع، فليس حتما عليه أن ينقذ العالم من مخالب الشقاء، ويدفع عن كل المنكوبين عاديات الدهر وصروف الزمان، ويترك هذه الأرض سماء، فما كلف الله نفسا فوق طاقتها.
فالعاقل من يرشد هذا الفريق اليائس إلى محجة الصواب، ويهديهم إلى عمل الخير المستطاع؛ لأن الكف عن المساعدة - وإن قلت - يعد ضررا واسع الأذى. والواجب في مثل حالتنا الاجتماعية أن يساعد الإنسان أخاه بما في استطاعته، وأن يتخذ من البؤساء والمتعسين إخوانا يواسيهم ويلطف آلامهم، وإن كانت هذه المساعدة غير محسة في جانب المصائب التي تحوط جزءا عظيما من النوع الإنساني، فإن فائدتها محققة، وأقل من ينالها فرد من أبناء هذا النوع. وربما اقتدى بالكريم غيره، فيكثر عدد العاملين على نصرة الضعفاء والمنكودين، وتحسن الحال بعض الشيء، وتخف على تلك البيئة وطأة الفاقة، فتجف جذور الحقد في قلوب البائسين الذين يسخطون على الكون ومن فيه، وتقوى الرابطة الإنسانية بين سائر الطوائف، فيقل الشر، ويجد الخير سبيلا ممهدة وأرضا خصبة. وكلما زاد العاملون قل الشقاء وتقطعت أوصال البؤس.
وإذا انفرد الجواد بصنع الخير فإن القلوب تعطف على عمله والألسنة تحمد صنيعه، ولا ينكر المكابرون ما بذل من الحسنات لأداء الواجب الإنساني. وماذا يريد المرء بعد أن يرضى ضميره عن عمله المبرور، ويعترف الناس باستقامته وقيامه بما تستدعيه المروءة والإنسانية؟ ليعرف الناس أن الطمع ذلك الداء الذي يوسع دائرة الأحلام والأوهام ويغرر بالناس، لم يصل بصاحبه يوما إلى ما يؤمل، مع ما يعانيه من المشاق، وما يبذله من المجهودات للحصول على أماني النفس الجشعة. وإلى العاقل كل حوادث الماضي والحاضر، فمن المحال أن يجد فيها إلا ما يؤيد هذا القول. •••
سر النجاح المؤكد في حسن التفكير ودقة العمل وطول الأناة والتعقل والاهتمام بكل شيء، حتى بالأمور الطفيفة الحقيرة؛ لكونها دعامة الفوز، وواسطة للحصول على النتائج المنشودة. ولكن الناس يهملون هذا الأمر ويتناسون هذه الحقيقة، فليتذكر الغافل أن الغريق لينجو من لجة البحر الهائج على قطعة من لوح أو مجذاف مكسور. وما أشبه الحياة بلجة البحر والمنكوب بالغريق! فليتمسكن جهده بما يستهين به؛ فربما كان ذلك الشيء الحقير سفينة الخلاص وفلك النجاة والسلامة. ألا إن احتقار الصغائر لسيئ العاقبة؛ فإن معظم النار من مستصغر الشرر، وإن الثروة الطائلة تجمع درهما فدرهما.
إن عبر الدهر كثيرة وصروف الزمن جمة عديدة، وقد يحدث أن يخسر المرء ماله وتنزل به الفاقة، أو يفقد عزيزا عليه، أو تضيع أمام عينيه ثمرة جهد شديد وعمل شاق وصبر طويل، فيعجزه استرداد الثروة وإحياء الميت واستعادة الضائع والتعوض من المفقود؛ فتتلاشى قوة المنكوب وهمته، ويقف مكتوف اليدين، خائر العزيمة أمام هذه الكوارث النازلة. ثم يتراخى في شئون حياته الخاصة، ولا يعود يهتم لحاجات بيته وتنقطع عنايته بأطفاله.
Неизвестная страница