إذا كان المطر يتطرق إليك من سقفك الخرب، فهل تتركه يتلف أثاث البيت ورياشه ريثما تجد العامل الذي كان سبب هذا الإتلاف؟ وإن كانت الريح تنفذ إلى غرفتك من الزجاج المكسور، فهل تتركه على حاله من التلف حتى تجد من كسره وحطمه؟ إن الصبيان وحدهم هم الذين يتشبثون بهذه الآراء السخيفة. وكثيرا ما نرى الطفل يقول: إنني لم ألق هذا الشيء؛ ولذلك لا أرفعه. وإن الكثيرين لينتحون هذا النحو، ولكن العاقل منهم من يبادر إلى إصلاح المختل؛ لأن الاعتماد على تلك النظرية - الصحيحة عقلا - يوقف حركة الأعمال، ولا يأتي بنتيجة غير العطلة والتأخير. فيجب أن يتلاشى هذا الاعتقاد الراسخ في أذهاننا، ويجب أن نتذكر جميعا أن ما يتلفه الواحد يصلحه الآخر؛ لأن هذا هو الواقع فعلا، والمشاهد في كل أدوار الحياة وحوادثها الجمة، فالبعض يتلف والبعض يرم، والبعض يخلق المشاكل والمعارك والبعض يصلح ذات البين ويحول بين المتعاركين، والبعض يثير الأشجان ويستنزف دموع الأعين والبعض يعزي ويواسي ويلطف الأحزان، والبعض يسطو على الأعراض والأموال والأنفس، والبعض يضحي نفسه للدفاع عن الإنسانية ويقوم في وجه الشر والأشرار. هذا هو حال العالم ونظام الخلائق لا تبديل فيه ولا تحوير. هكذا نشأ الناس وهكذا يبقون إلى الأبد، تلك قضية عقلية، ولكنها مما تنحني له الرءوس ولا يكابر في صحتها المكابرون. والنتيجة من كل ما ذكر هي وجوب المبادرة إلى إصلاح ما فسد، سواء توفق المرء إلى معرفة المفسدين أم لم يتوفق. والتجارب الكثيرة علمت الناس ألا يعتمدوا على المفسدين لإصلاح ما أتوه من الضرر والإفساد.
الإنسان في حاجة إلى قوة تساعده على القيام بالواجب، وإن سهل واعتدل، فما هو نوع هذه القوة وأين توجد؟ إن الواجب لحمل على المرء يثقل عليه وينفر منه، إن لم يكن يعرف قدر نفسه، ويرغب في أداء ما عليه رغبة خالصة بلا تمليق ولا رهبة. وكثيرا ما يفر الإنسان من الواجب، وكلما اشتد طلبه وضرورته اختلق سبلا للتخلص والإفلات منه، وشأنه في ذلك شأن اللص الماهر الذي يعرف كيف يفر من وجه العدالة، ويضلل أنظار الشرطي، فإن قبض عليه فإنما يسوقه إلى السجن، لا إلى الطريق القويم والسبيل السوي.
وليس الإنسان الكامل من يؤدي ما عليه طوعا للأمر والنهي، ولا تلك الوسيلة بالدواء الناجع الذي يشفي الإنسانية من داء التقصير ومرض الإهمال. بل لا بد من الانصراف إلى ذلك حبا في القيام بالواجب حبا حقيقيا، غير مشوب بالغايات والمقاصد الشخصية، فإن من يقوم بعمل لا يريده مكرها عليه لا يحسن القيام به، وإن انحطت عليه كل قوى العالم وساقته إلى الأحكام سوقا عنيفا. ولكن من يتعلق بمهنته وعمله يجيده ويلذ له الإتقان والإبداع فيما يعمل، ويستحيل صرفه عن خطته، أو تقليل عزمه وتحويل إرادته. وهذه هي الحال في قضيتنا التي تشغل الأفكار وتضني العقول.
وخير علاج لتلك الحال حب الحياة على ما فيها من راحة وتعب ونعيم وشقاء ويأس وأمل، وحب الناس على ما فيهم من ضعة وسؤدد ونبل وسفالة وفقر وسعة، وحب الإنسانية التي تقوي الرابطة بين الخلائق، وتلطف آلام المنكوبين، وتخفف نوعا من الشرور المنتشرة والآلام الكثيرة التي يئن منها النوع الإنساني. فإذ ذاك يشعر المرء بقوة خفية تتمكن من قلبه وإرادته وتدفعه إلى طريق الخير، كما تدفع الريح السفينة إن تمكنت من شراعها. وسرعان ما يعرف معنى الشفقة والعدل ودفع الحيف والغبن، فيقدم ما استطاع من الطيبات والإحسان وهو مسوق بإرادته المحضة. وتتغلب عواطفه على ميول النفس الخبيثة إن حاولت رده عن هذا السبيل المحمود، وضميره يقول: لا خير في الإنسان إن لم يعمل خيرا، ولا فائدة من وجوده إن لم يكن نصيرا للضعيف وأخا للبائس ورفيقا للمنكود وطبيبا للمريض ومعزيا للحزين.
وهذه القوة التي تتمكن من القلب وتحكم فيه أقوى من أن تقهر، وأكبر من أن تعرف، ولكنها تستطيع البقاء في مكامن القلوب والعواطف. وكل ما في الإنسان من عاطفة حية وإحساس رقيق وميل إلى الخير؛ ناشئ من هذه القوة الغريبة التي تحتل الأفئدة والصدور. وكذلك كل ما يمتاز به الرجل النابغ من الفكر والعمل الجليل يكون نتيجة هذه القوة المتسلطة على الإرادة والعقل؛ لأن الشجرة التي تورق وتثمر تستمد جذورها الحياة والقوة من خصب الأرض، ويأخذ ما ظهر منها كفايته من النور والهواء وحرارة الشمس. والرجل الذي يحتفظ بنفسه، فلا يطوح بها إلى المفاسد في هذا الوسط الإنساني المملوء بصنوف المضار والشرور، ويتبع السبيل القويم، إنما يستمد القوة والهدى من ينبوع طاهر وضمير حي شريف.
وقد تظهر نتائج هذه القوة الكامنة في أشكال جمة، منها: قوة الإرادة، والحنو، والعطف على أبناء الإنسانية. ومنها: الفكر المستنير الذي يعمل لتلطيف شرور المجتمع الإنساني ويفتق عن كل وسيلة ناجعة؛ لشفاء أمراض الهيئة الاجتماعية. ومنها: الإشفاق على اللقطاء الذين تركهم أمهاتهم تحت رحمة الله والإنسان. ومنها: الرفق بالحيوان الأعجم الذي لا يشكو ولا يعرف كيف يدفع غائلة الأذى وشرور صاحبه. ومنها: طول الأناة في تكوين الجمعيات الخيرية لنصرة الضعيف وإغاثة الملهوف. ومنها كثير غير ما ذكر من أنواع المساعي الخيرية التي يبررها العاقل، ولا ينكر فضلها الخبيث الساقط.
وكل عمل من هذه الأعمال يدل على وجود هذه القوة في مكامنها الطاهرة الشريفة، فتنشط وتنزع النفوس إلى طريق الخير وصالح الأعمال، وكل من وهبه الله هذه النعمة يغبط نفسه عليها، ولا يلتذ له إلا أن يقف وجوده على تخفيف أرزاء الإنسانية والتلذذ بخدمة النوع البشري، وهو هنيء سعيد بذلك، لا يميل بأذنه إلى شكر صنيعه ولا تأبه نفسه للفخر بعمله؛ لأنه يستصغر كل مجد ظاهر، ويعرف أن قيمة الحياة ومجد الإنسان في قيمة العمل وفي الخير الذي يسديه إلى البائس والمنكود.
الاعتدال والمطالب
عندما يشتري الإنسان طائرا من بائع الطيور يوقفه البائع على كل ما يتعلق بغذاء ذلك الطائر، وطرق معيشته بكلمات قليلة موجزة. والإنسان نفسه لا يحتاج إلى أكثر من هذه الكلمات لمعرفة حاجاته الضرورية؛ لكونها على غاية من البساطة لا تسئم ولا تضني، ولا تتطلب جهدا يتعب ويكرب. فمن تعداها كثرت متاعبه، وزادت حيرته في الحياة، واعتلت صحته، واحتواه الملل والضجر، وعرف الهموم ومتاعبها الجمة؛ إذ لا شيء يحفظ صحة الإنسان وقواه كالمعيشة البسيطة الخالية من كل شذوذ، ولا شيء يضنيه ويتعبه غير تناسي هذه الحقيقة، والابتعاد عن السذاجة الفطرية والبساطة. ولو تساءلنا عما تتطلبه الحياة من الماديات ليعيش الإنسان عيشة راضية، لما كان الجواب إلا الطعام المغذي واللباس البسيط والمسكن الصحي والهواء والحركة. تلك هي الحاجات البسيطة التي تكفل للكائن الحي العافية والقوة. بيد أن النفس تتوق إلى غير الاعتدال في الحاجات، وتشتط في المطالب الكمالية التي تنوء بها الكواهل، وتطرد من العائلات السعادة والهناء. وليس على المرء إلا أن يرسل نظرة دقيقة إلى الهيئة الاجتماعية؛ ليتحقق من ابتعاد الجميع عن روح الاعتدال الحميد.
ولو خطر لأحدهم أن يسأل أفرادا من الناس عن لوازم المعيشة، والحاجات الضرورية للحياة لجمع خليطا من الأجوبة المتباينة، فتتضح له رغبات الناس وأماني النفوس الطامعة متفاوتة بتفاوت المطامع ودرجات التربية والتهذيب.
Неизвестная страница