ولكن هل هناك صلة بين المعرفة النبوية والمعرفة الطبيعية؟ يظن البعض أن المعرفة الطبيعية أي المعرفة الإنسانية أقل بكثير من المعرفة النبوية، وهذا غير صحيح، فالنبوة معرفة يقينية، أوحاها الله للناس، والمعرفة الطبيعية معرفة يقينية، وصل إليها العقل بمفرده، كلاهما معرفة يقينية، النبي هو مفسر الأوامر الإلهية للناس لأنهم لا يقدرون بأنفسهم على الاتصال بالله، ولا يقدرون إلا على إدراكها بالإيمان، والمعرفة الطبيعية أيضا معرفة إلهية، لأنها معرفة يقينية، ولكن العلماء ليسوا أنبياء؛ لأن المعرفة الطبيعية تعتمد على النور الفطري، لا على النور النبوي، فالله يتحدث، ونحن نعرف حديثه، إما من المعرفة النبوية، أو من المعرفة الفطرية، وكل ما نعرفه بوضوح وتميز يصدر عن طبيعة الله وتصورنا له. المعرفة النبوية خاصة بالأنبياء وحدهم، والمعرفة الطبيعية عامة للبشر جميعا، ولكن العامة وحدها تحتقر المعرفة الطبيعية، ولا تعترف إلا بالمواهب الخاصة، وتخرج الوحي من نطاق المعرفة العقلية. والحقيقة أنه لا فرق بينهما إلا في شيئين: الأول أن المعرفة النبوية تستعمل الصور الخيالية من أجل التأثير على النفوس، في حين أن المعرفة الطبيعية تدرك الحقائق ذاتها دون تخييل، والثاني أن المعرفة الطبيعية غايتها الحق، في حين أن المعرفة النبوية غايتها الخير، وفيما عدا الوسيلة والغاية لا فرق بين النبي والفيلسوف.
59
سابعا: الميثاق المؤقت والميثاق الأبدي
لقد أعطيت النبوة للناس، ولكنها أعطيت بوساطة إنسان معين، وهو النبي، لشعب معين، وهم بنو إسرائيل، وكأن الوحي لا يذاع ولا يكشف إلا لشعور جماعي لشعب معين، وكأن النبوة لا ترسل إلا لدى قوم ذوي بناء اجتماعي قائم. لم يتناثر الوحي مرة هنا ومرة هناك، بل ظل في مسار واحد له لدى بني إسرائيل حتى اكتملت النبوة في المسيح، آخر نبي من أنبياء بني إسرائيل. ولكن هل يعني ذلك ميزة معينة لهذا الشعب على غيره من الشعوب؟ هل يدل ذلك على أن الله إله خاص بهم لا تشاركهم فيه الشعوب الأخرى؟ هل يعني أن الله عقد معهم ميثاقا أبديا من أجل تفضيلهم على سائر البشر، ومن أجل اصطفائهم؟
ليس السعادة الحقة في حصول البعض على المغانم وحرمان الآخرين منها، كما لا يكون الناس أكثر سعادة إذا هم حصلوا على مغانم أكثر، والذي يفرح بهذه السعادة التي تفوق سعادة الآخرين يكون فرحه فرحا صبيانيا، وناشئا عن الحقد والحسد. السعادة هي الحكمة ومعرفة الحق، لا أن يكون الإنسان أحكم من الآخرين، أو أن يحرم الآخرون من الحكمة؛ فذلك لن يزيد من سعادته شيئا، ومن يفرح لسعادته ولشقاء الآخرين يكون حسودا شريرا، لا يعرف السعادة الحقيقية، وطمأنينة النفس.
لذلك، عندما يخبرنا الكتاب بما فضل الله به العبرانيين حتى يحثهم على طاعة الشريعة، فليس معنى ذلك أنهم حصلوا على السعادة الحقة وحدهم دون غيرهم؛ فما كانت سعادتهم أقل لو أن الله دعا جميع البشر إلى الخلاص، وما كان الله أقل رعاية لهم لو أنه رعى الآخرين أيضا، وما كانت الشريعة أقل عدالة لو أنها وضعت للناس جميعا، وما كانت المعجزات أقل قدرة لو أجراها الله للناس جميعا. وعندما أخبر الله سليمان بأنه لا يوجد من يفوقه حكمة، فإنه أراد بذلك أن يعبر عن مدى حكمته، لا عن أنه لم يعد أحدا سواه بحكمة أعظم من حكمته. صحيح أن الله أعطى موسى الشريعة للعبرانيين، وأنه خاطبهم، وكشف لهم عن نفسه كما لم يحدث لأمة أخرى، ولكنه لم يستبعد الأمم الأخرى من علمه ورحمته، بل إن العبرانيين، بالرغم مما أعطاهم الله من فضله، لم يكونوا أصفياء الله فيما يتعلق بالحياة الحقة والتأملات السامية.
لقد أرسل الله الوحي للبشر، فكان لا بد أن تحدث النبوة في جماعة، وقد حدثت في بني إسرائيل لظروف تاريخية محضة، أي لظروف طارئة، دون أن يدل على اختيار أبدي لهم، أو على اصطفاء الله لهم، وتفضيلهم على العالمين؛ وذلك لأنه إذا كان كل ما يصبو إليه الإنسان لا يتعدى أشياء ثلاثة: معرفة الأشياء بعللها الأولى، السيطرة على انفعالات النفس للتحقق بالفضيلة ثم العيش في سلام مع جسم سليم، فإن وسائل الحصول على الغايتين، الأولى والثانية، موجودة في الطبيعة الإنسانية، ومن ثم فهي لا تقتصر على أمة دون أمة. أما الغاية الثالثة فهي تعتمد على الأشياء الخارجية، كما تعتمد على الرزق والحظ الذي يجهله الجميع؛ لذلك اعتمد الناس على تنظيم حياتهم، وتعودوا على اليقظة، وقد دلت التجربة على أن أفضل وسيلة لذلك هو تكوين مجتمع تحكمه القوانين، وذلك باحتلال بقعة من الأرض، وتوحيد قوى سكانها في هيكل اجتماعي واحد؛ إذ يعطي المجتمع مزيدا من الأمن والاستقرار، ويكون أقل اعتمادا على الحظوظ الخارجية، ويتجاوز مرحلة المجتمع البدائي الذي يعتمد كلية على هذه الحظوظ، أو يعتمد على مجتمع آخر يحكمه، أو إذا تخلص من المخاطر، يقدس حكم الله من حيث تأثيره في الموجودات الطبيعية، لا في الأفكار الإنسانية لأن الله قد أعطاه كل شيء، دون انتظار منه، وكأنه معجزة.
لذلك، فإن النظام الاجتماعي هو الذي يميز أمة عن أمة؛ ولهذا السبب، تم اختيار الأمة العبرانية، وبهذا المعنى تم تفضيلها على باقي الأمم، نظرا لنظامها الاجتماعي، ولغنمها المادي. وقد بقيت الدولة العبرانية سنين طويلة، ولم يكن السبب في ذلك تفوقها في العقل، أو في صفاء النفس، بل تفوق العبرانيين في تدبير شئونهم المادية، وفيما عدا ذلك، يتساوى العبرانيون مع غيرهم. وإذا فكرنا قليلا، وجدنا أن العبرانيين كانوا يعتقدون في الله اعتقادات فظة، ولا يمكن لله أن يفضلهم من أجلها، لقد اختارهم الله ليسرهم في الحياة ولثرائهم، ولم يعد الله البطارقة شيئا سوى ذلك، ولم تعد الشريعة شيئا، جزاء رعاية العبرانيين لها ، إلا الإبقاء على الدولة، ومظاهر النعيم الدنيوي، ولم توعدهم، عقابا لهم على نقض الميثاق، إلا بالقضاء على الدولة، وإصابتهم بأعظم المحن. كانت للعبرانيين شرائعهم الخاصة، وكذلك كانت لكل أمة قوانينها الخاصة، ولم يكن حب الله للعبرانيين أعظم من حبه لسائر الأمم، بل إن الله أظهر من المعجزات أكثر مما أظهر للعبرانيين، ولم تكن هبة النبوة خاصة بالعبرانيين وحدهم، بل كانت عامة للأمم جميعا، وهذا ما يشهد به التاريخ المقدس، فكان للوثنيين أنبياءهم الذين لم يعتن العبرانيون بتسجيلهم، وتدوين قصصهم؛ لأنهم لم يسجلوا في العهد القديم إلا شئونهم الخاصة حتى جعلوه تاريخا وطنيا لهم. ومع أن الفريسيين يدعون أن النبوة خاصة بالعبرانيين وحدهم، إلا أن موسى لم يطلب إلها خاصا بأمته وحدها، لأن الله إله الجميع إله العبرانيين والأمم الأخرى على السواء.
60
أما التشريع الذي سنه موسى لهم، فإنه لا يلزم إلا اليهود وحدهم، ولا يلزم أي شعب آخر، بل إن اليهود أنفسهم لم يخضعوا لهذا التشريع إلا في أثناء قيام دولتهم؛ ولهذا السبب اختارهم الله، ولكنه كان اختيارا مؤقتا، لا اختيارا أبديا، كما اختار الكنعانيين من قبل، ثم رفضهم لسعيهم وراء اللذات، ولرخاوتهم، ولعبادتهم الزائفة. ولقد حذر موسى العبرانيين من أن يرتكبوا نكاح المحرمات، كما فعل الكنعانيون من قبل، وإلا لقضوا على الدولة، وهناك نصوص كثيرة في الكتاب المقدس تدل على أن الله لم يصطف العبرانيين إلى الأبد. هناك فئة قليلة وهي القلة القليلة الباقية المؤمنة من الشعب
Неизвестная страница