أما سليمان، فقد تصور الله تصورا عقليا بالنور الفطري وبذلك تميز عن أنبياء عصره، وكان أعلى من الشريعة التي وضعت من أجل ضعاف العقول الذين لا يستطيعون إدراك الحقائق بالنور الفطري، وأعلن زوال نعم الحياة، وأنه لا يوجد أفضل من العقل وأشر من نقص العقل. ولكن سليمان لم يراع الشريعة مطلقا، بل خرقها علنا، ولم يكن سلوكه سلوك فيلسوف، وذلك لسعيه وراء اللذات.
وقد بلغ تصور الأنبياء للوحي وللحقائق الإلهية إلى حد أن بعض الأحبار شكوا في الأنبياء، كما وقع لسفر حزقيال، فقد بلغت آراء هذا النبي حدا أن حاول بعض الأحبار حذفه من أسفار العهد القديم، لاختلافه مع تصور موسى، لولا أن أتى حنانيا وشرحه لهم، ولكن لم يمنع هذا الشرح من وجود تعارض صارخ بين آراء حزقيال وأسفار الخروج وإرميا وصموئيل ويوئيل بالنسبة لله والخطيئة والتوبة والغفران.
لم تجعل النبوة الأنبياء أكثر علما بل تركتهم وأفكارهم السابقة؛ ولذلك لا يجوز لنا تصديقهم في الأمور النظرية. لقد جهل الأنبياء أشياء كثيرة، على غير ما تظن العامة، مع أن الأنبياء في رأيهم قد أحاطوا بكل شيء، بل إن كثيرا من أقوالهم في تناقض صريح مع العلم، فقد ظن يشوع أن الشمس تدور حول الأرض لأنه لم يكن عالما في الفلك، كذلك جهل يشوع انكسار أشعة الشمس على البرد المعلق في الهواء، وقد ظن أشعيا أن تناقص الظل يرجع إلى تناقص الشمس. لقد جهل الأنبياء الأسباب الحقيقية للظواهر الكونية. أما سليمان فلم يكن رياضيا مع أنه باني المعبد، واعتقد نوح أن العالم لم يكن مسكونا إلا في فلسطين. كان الأنبياء بشرا ولا ينقص جهلهم بعلل الظواهر الكونية من تقواهم ومن إخلاصهم شيئا.
لا ضير إذن أن يجهل الأنبياء الحقائق النظرية مثلا فيما يتعلق بالأرض والشمس والظل وقوانين الطبيعة؛ لأن الأنبياء ليسوا علماء، أو علماء طبيعة، بل هم بشر، يستعملون أخطاء البشر كصور فنية للتعبير بها عن تعاليمهم النبوية؛ لذلك، لم تختلف تصوراتهم عن ماهية الله وطبيعته وصفاته عن تصورات العامة، حتى موسى، الذي أدرك أن الله ليس كمثله شيء وهو الواحد الصمد، عبر عن الله بصور حسية، ونسب إليه الانفعالات والأهواء البشرية.
ولكن جهل الأنبياء بالأمور النظرية لا يعني جهلهم بالإحسان وبقواعد السلوك في الحياة. وإن كان لا يجوز لنا أن نأخذ من الأنبياء معرفة بالأمور الطبيعية والروحية، فإنه يجوز لنا تصديقهم فيما يتعلق بغاية الوحي وجوهره، وهو العدل والإحسان. وفيما عدا ذلك كل فرد حر أن يعتقد ما يشاء، وكما يتفق مع عقله، فقد أوحى الله لقايين حرية الإرادة لا كعقيدة فلسفية نظرية، وهي متضمنة بالفعل في الوحي، بل ليحيا حياة أفضل، وهو توجيه يتفق مع فهم قايين، وقد فعل المسيح الشيء نفسه عندما خاطب الفريسيين بمبادئهم الخاصة، دون أن يعتقد في وجود الشياطين ومملكة الشياطين، وكذلك عندما خاطب تلاميذه ودعاهم للأخلاق الفاضلة دون أن يعتقدوا في وجود الملائكة ومملكة الملائكة.
58
ولما كانت النبوة لا تعتمد على يقين الفعل، وهي الأفكار الواضحة والمتميزة أو الاستدلالات الرياضية، فإن الأنبياء قد حصلوا على يقينهم من الوحي نفسه، معتمدين على ما أتوا به من آيات، فقد طلب إبراهيم آية بعد أن تلقى الوعد من ربه. ومن هذه الناحية تكون النبوة أقل من المعرفة الطبيعية التي لا تعتمد في يقينها على الآيات، بل تستمد يقينها من طبيعتها، لم يكن يقين النبوة يقينا رياضيا بل يقينا خلقيا، وبالرغم مما قد يثير ذلك من شك في الوحي وفي النبوة، فإن للنبوة درجة عظيمة من اليقين، ويقوم هذا اليقين على أسس ثلاثة: (1)
تخيل الأنبياء الأشياء الموحى بها بطريقة حية كإدراكنا للأشياء الطبيعية. (2)
الآيات التي يعتمد عليها الأنبياء. (3)
ميل الأنبياء الطبيعي إلى العدل والخير.
Неизвестная страница