ثم مضت بنا الأيام، يتكلم كل منا لغة - فيما يبدو - غير التي يتكلم بها الآخر، فما قد رأيته في أحاديثه من عداء للعلم الحديث، وعداء بالتالي للعصر كله، رآه فضيلته شيئا آخر، لكن ذلك لا يغير من أمرنا شيئا، فكلانا يريد للناس خيرا، كل بطريقته
قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا (صدق الله العظيم).
وعند هذه الآية الكريمة أتحول إلى عتاب أوجهه إلى فضيلة الشيخ الشعراوي، كما يعاتب المسلم مسلما لهفوة بدرت منه، وبالعتاب يبقى حبل الود ممدودا بين المخلصين، فقد قالها شاعر، حين قال: ويبقى الود ما بقي العتاب، فالتوجيه الذي يتلقاه المسلم من هذه الآية الكريمة يا فضيلة الأستاذ، هو أن يعمل كل منا، أو يقول (لأن القول ضرب من العمل) وفق ما تمليه عليه ملكاته وقدراته، فلا يحاكي أحد أحدا لمجرد المحاكاة، بل يعبر عن نفسه هو تعبيرا أصيلا صادقا، والله سبحانه وتعالى وحده هو صاحب الحكم، فيحكم على مختلف السبل التي سلكها الناس أيها أهدى من أيها. فواضح من ذلك يا فضيلة الأستاذ، أنه ليس أنت الذي يقضي في عباد الله بالضلالة والهدى.
فلقد فوجئت بما لم أكن أتوقع حدوثه من فضيلتكم، إذ فوجئت بمن أنبأني عن حديث لكم نشرته الصحف، أخذت تضرب فيه ثلاثا منا باليمين وبالشمال، ضربا لم تكن موفقا فيه، وأنت الإمام الذي يأتم به اليوم ملايين المسلمين، كما يقال لي، وأما الثلاثة الذين استهدفتهم بسهامك، ثم استنفرتهم أن ينازلوك أنت وحدك، وأن ينازلوك بثلاثتهم مجتمعين في حلبة القتال، فهم توفيق الحكيم، ويوسف إدريس، والعبد الفقير إلى الله كاتب هذه السطور.
ولكي أكتب ما أكون من صحته على أيقن يقين، سأقصر كلماتي على شخصي، تاركا للزميلين أن يتوليا ما يريدان أن يتولياه من الأمر.
لقد أسلفت القول بأنني لحظت فيما تابعته من أحاديثكم، دقة بالغة في تحليل المفردات اللغوية، حتى لقد خيل إلي أحيانا أنني أمام محاضر في فقه اللغة، لا أمام محاضر في فقه الدين. وعلى هذا الأساس اللغوي الدقيق سيكون نقدي لما هفوت به عني يا فضيلة الشيخ، جاعلا ما وجهته إلى الثلاثة مجتمعين، موجها إلي بالضرورة. (1)
وردت هذه العبارة في حديثكم: إذا كان هناك ما يسمونه فكرا لهم، فكل كلامهم خارج هذا الدين، وكله مردود عليه.
وحول هذه العبارة أقول: قف معي قليلا يا فضيلة الأستاذ عند كلمة «كل» التي ذكرتها مرتين، فلا شك أنك تعني ما تقول، وأنت الرجل الذي يتعقب مفردات الكلام مفردا مفردا، فكم قرأت لي يا ترى مما كتبته، ليجوز لك الحكم بأن «كل» كلامي خارج الدين، و«كله» مردود عليه؟ إن لي أكثر من أربعين كتابا، وفوقها ما لا أستطيع حصره من مقالات وأحاديث، ولست أزعم أن ما كتبته جدير بشرف أن تقع عليه عيناك، لكن ها أنت ذا قد شرفتني بالإشارة إلى «كل» ما نطقت به، و«كل» ما جرى به قلمي، وأنا أعيد عليك السؤال: كم قرأت لي - يا ترى - وكم سمعت؟ إذا كنت لم تقرأ «كل» ما كتبته، ولم تسمع «كل» ما تحدثت به، ألا توافقني في هذه الحالة على أنك قد هفوت معي في الحكم؟ (2)
جاء في عبارتك ما يلي: أنا أريد النقاش علنا، ليعرف كل إنسان قدره، ولا يصبح دين الله نهبا مباحا لكل من يريد أن يتعدى على مقدساته، ويشوهه أمام الناس.
وعن ذلك أقول: مرة أخرى أرجوك يا فضيلة الإمام، أن تقف معي قليلا أمام كلمة «يريد»، وأنت الذي أعلم عنه أنه لا يستخدم لفظا إلا وهو يعنيه، فلو أن فضيلتك قد كفاها أن تحكم على ما كتبته بالخطأ في حق الدين (وأنا أقصر الحديث هنا على نفسي كما قلت) لهان الخطب؛ لأن الأمر عندئذ ما كان ليعدو أن يخطئ كاتب وهو لا يدري أنه أخطأ، وكان يمكن لعالم كفضيلتك أن ينبهه إلى الصواب ويستقيم المعوج. لكنك أصفت «الإرادة» المتعمدة، وأنا أترك لك أنت محاسبة نفسك ومراجعتها: أواثق أنت أنه قد كان وراء الكلام الذي رأيته فوجدته خاطئا، «إرادة» تحركت في جوفي لتتعمد الخطأ والتعدي على مقدسات الدين؟ وإذا أجبتني بكلمة «نعم» فاسمح لي ساعتها أن أطالبك بالدليل، وأما إذا أجبتني بكلمة «لا» أفلا تكون في هذه الحالة قد اتهمت مسلما بأبشع ما يتهم به مسلم أخاه المسلم، وعن غير بينة يستند إليها؟
Неизвестная страница