ومع ذلك فقد شاء لي الله أن تمضي أعوام، أسمع خلالها عنه، ولا أسمع منه، ولعل ما دعاني إلى ذلك أساسا، هو أن فضيلته يصل إلى الناس عن طريق الإذاعة المرئية المسموعة، وهي أداة لا أتابعها متابعة مطردة، بل هي عندي مرهونة بالمصادفات، فقد أرى وأسمع ما لا أود عن عمد أن أراه وأسمعه، وكذلك قد يفوتني ما كنت أود له رؤية وسمعا، وهكذا فاتتني أحاديث فضيلته لعدة أعوام.
وللأقدار في لفتاتها عجائب ومفاجآت، ومن غرائب لفتاتها أن وجدتني مواجها لفضيلته على صحيفة يومية، فكان ذلك بمثابة اللقاء الأول بيننا، ولم يكن اللقاء - بالنسبة لي - على ما كنت أرجو له أن يكون، إذ قرأت لفضيلته كلمة موجزة يدافع بها عن القول بأنه إذا سقطت ذبابة في شراب، كاللبن مثلا، فما على الشارب إلا أن يغمس الذبابة بأجمعها في الشراب، ثم يمضي في الشرب؛ لأن للذبابة جناحا فيه الأذى، وهو الجناح الذي تسقط به على سطح السائل، وأما جناحها الآخر فمن طبيعته دفع ذلك الأذى، وبهذا التضاد يصبح السائل صالحا للشرب. وأذكر أن فضيلته قد شفع ذلك الرأي بذكر مراجع لعلماء من الألمان، وكان فضيلته يومئذ وزيرا للأوقاف.
ولست أدري كيف تلقى القراء كلاما كهذا، حتى ولو كانت أسانيده مأخوذة ، لا من علماء ألمانيا وحدهم، بل من علماء الأرض جميعا. أقول إنني لا أدري كيف تلقى القراء كلاما كهذا، لكن الذي أدريه على وجه اليقين هو وقعه على نفسي، فدع عنك ما أصابني من غثيان؛ لأن غثياني قد لا يهم أحدا سواي، ولكن ثمة جانبا من الموقف ينبغي أن يكون موضع اهتمامنا جميعا، وهو الذوق الحضاري السليم، فإذا فرضنا ما لا يجوز في رأيي فرضه، وهو أن الذباب على نحو ما وصفه فضيلته - وأنا أعلم أنه قول شائع في عامة الناس - فهل يمكن أن يؤخذ الذباب من حيث هو أجساد مجنحة وكفى، بغض النظر عما ارتبط به في الأذهان، من قذارة ونقل للأمراض؟ فإذا كان الذباب في حياة الناس هو ما هو، فهل يجوز أن يكون غوصه في طعامنا وشرابنا موضعا للدفاع؟ ومن الذي يدافع؟ هو فضيلة الشيخ الشعراوي، الذي إذا قال أنصت الملايين، وإذا كتب قرأ من لا أعرف كم عددهم في بلد تشيع فيه الأمية بمثل ما تشيع عندنا!
لم أملك نفسي يومئذ، فقمت لتوي، ونشرت القرطاس وحملت القلم، وما زلت أذكر كيف أبت نفسي أخذ الموضوع مأخذ الحقائق التي يقام لها البرهان، أو الأباطيل التي تهدم بالبرهان؛ إذ الموضوع كله - كما رأيته - لم يكن يستحق هذا الشرف، فلجأت إلى التصوير الأدبي الغاضب في سخرية، أو الساخر في غضب، وجعلت العنوان «ذبابة تعقبتها».
هكذا جاء لقاؤنا الأول على غير ما كنت أتمنى، ثم مضت بي الأيام مرة أخرى، أسمع عن الشيخ ولا أسمع منه، حتى ملأ الدنيا وشغل الناس - كما قيل عن أبي الطيب المتنبي - فأصبح واجبا ثقافيا محتوما، أن ألتمس أحاديثه التليفزيونية في مواعيدها، فلا أتركها للمصادفات، واستمعت لتلك الأحاديث أربع مرات أو خمسا متتاليات، وبرغم ما أخذته عليه في كل مرة (وسأذكر طرفا منه) أعجبت به إعجابا شديدا، وذلك من نواح كثيرة، فالرجل معلم بطبعه واستعداده، والصلة بين وبين تلاميذه تنبض بالحياة نبضا قويا، وكلامه يجاوز الآذان لينفذ إلى قلوب السامعين في مثل اللمح بالبصر. وسواء لدى هؤلاء السامعين أفهمت عقولهم ما قيل أم لم تفهمه، وحسبهم أن في قلوبهم رجفة الإيمان، بتأثير الأستاذ قولا وأسلوبا، على أن أهم من ذلك كله عندي مما أعجبني منه ذلك الإعجاب الشديد، هو منهاجه في الشرح والتفسير، فهو يتناول المفردات اللغوية التي تتألف منها الآية الكريمة التي يتولى شرحها وتفسيرها، بتناول تلك المفردات مفردا مفردا، لا يترك منها اسما ولا فعلا ولا حرفا، إلا حلله ووضحه.
كما يتناول العلاقات النحوية والبلاغية التي تربط تلك المفردات بعضها ببعض، وإذا بهذا التحليل اللغوي نفسه يضيء بمعنى الآية إضاءة لا تدع فيها موضعا لغموض، فالسامع لحديث الشيخ الشعراوي، يضمن لنفسه ضمانا أكيدا أن يخرج بمحصول غزير في الدراسة اللغوية، وهو فوق ذلك قد يزداد إيمانا على إيمانه الذي بدأ به الاستماع.
لكنني لحظت في كل حديث استمعت إليه، من الأحاديث الأربعة أو الخمسة، التي أشرت إليها، نوعا من العداوة للعلم الحديث، وهو يعبر عن عدائه للعلم بصورة لا يبررها صلب حديثه نفسه، أعني أن شروحه للآيات الكريمة التي يتولاها بالشرح، لا تزيد وضوحا بسبب عدائه للعلم. ومن أمثلة ذلك ما ورد في أول حديث سمعته له، وهو أنه بعد أن سخر ما شاءت له السخرية من جهود العلم الحديث في الصعود إلى القمر، والسير على صخوره وترابه، تناول بأصابع يده ورقة من علبة للمناديل الورقية كانت موضوعة أمامه، وقال للملايين الذين يسمعونه: إن هذه الورقة أنفع من الصواريخ التي صعدوا بها إلى القمر. والحق أني عجبت للشيخ يقول كلاما كهذا؛ لأن أقل ما يقال في هذه المناسبة، هو أن أحد الفروع التي تفرعت من إعداد تلك الصواريخ ما نسميه اليوم بالأقمار الصناعية. وبعد أن استخدمت تلك الأقمار في البث التليفزيوني، أصبح ممكنا أن يذاع برنامج التليفزيون على ثلث الكرة الأرضية دفعة واحدة، بل إنه بشيء من الإجراءات الفنية، قد يذاع على الكرة الأرضية بأسرها . وإذا كان هذا هكذا، فربما كان فضيلة الشيخ الشعراوي، وهو يقول لسامعيه إن قطعة الورق التي أمسكها بين أصابعه، أنفع من عملية الصعود إلى القمر من أولها إلى آخرها، أقول إنه ربما كان وهو يقول ذلك، يعان بأحد الأقمار الصناعية - التي هي إحدى النتائج الفرعية لصواريخ الصعود إلى القمر - في إذاعة حديثه على العالم الإسلامي كله في اللحظة عينها، فيكون هو المنتفع بالشيء الذي يستهجنه.
ثم شاءت لي المصادفات في ثاني الأحاديث التي استمعت إليها، أن أسمع صورة أخرى لكراهيته للعلم الحديث؛ إذ كانت إحدى مناطق إيطاليا قد تعرضت للزلازل، وعانت ما عانت، وكان أن أذاع علماؤهم في الناس احتمال حدوث زلازل أخرى في المنطقة الفلانية، في وقت حدده أولئك العلماء. وبعد أن سخر فضيلة الشيخ الشعراوي هذه المرة أيضا بالعلم الحديث في هذا المجال، قال لسامعيه: إن الحق سبحانه وتعالى، ترك هؤلاء العلماء يجرون أبحاثهم، ويعلنون تنبؤاتهم، حتى إذا ما فرغوا من ذلك، باغتهم بزلازل تقع في منطقة غير المنطقة التي عينوها، وفي وقت غير الذي حددوه، وكانت الطريقة التي قال بها الأستاذ ما قاله، أكثر دلالة من معنى القول نفسه، وذلك حين فرقع أصابع يده، وعبرت ملامح وجهه بما يعني أن الله سبحانه وتعالى كان مع عباده العلماء في موقف المنتقم؛ لاجترائهم على أن يعلموا، وعلى أن يتنبأوا.
وفي الحديث الثالث سمعت، وفي الرابع سمعت، مما أثار حيرتي: أيدفع الشيخ الناس بأحاديثه خطوة إلى الأمام في درجات الوعي، أم يشدهم إلى الوراء خطوات؟ ولكنني لا أترك هذا الموضع من السياق، دون أن أشيد بفضل أسداه لشخصي الضعيف في تلك المناسبة نفسها، وذلك أني كنت أضع ملاحظاتي تلك في مقالات أكتبها، مشيرا إلى فضيلة الشيخ متولي الشعراوي، بعبارة «المتحدث الجليل» دون ذكر اسمه؛ إذ شعرت أن نقد الفكرة لا يستدعي بالضرورة ذكر صاحب تلك الفكرة باسمه، ورأيت أن الاكتفاء بعبارة «المتحدث الجليل» أصون لكرامته، فليست المسألة بيننا مسألة نزاع بين أشخاص، وإنما هي نقد لأفكار، وكل منا يؤدي واجبه بعرضه للفكرة التي يعتقد في صوابها، فحدث أن أدلى الشيخ يومئذ بحديث في صحيفة الأهرام، يبين فيه موقفه من العلم الحديث، وذلك ردا على ملاحظاتي، قائلا إنه لا يعادي العلم، ولكنه أيضا لا يريد للإنسان غرورا بقدرته، وأما الفضل الذي أسداه لشخصي، فهو قوله عني في ختام حديثه ما يأتي:
أشكر الله لأخي الدكتور زكي نجيب محمود، إذ هيأ لي فرصة لأشرح فكرة قد تكون غامضة على بعض الناس. وأنا لا أشك أنه قد قصد ذلك؛ لأني أجله إجلالا يرتفع به أن يكون قد فهم مني ما فهم. وحسبي أن يكون الدكتور زكي نجيب محمود هو أول من تعرضت له في التعليق، عما كتب عني؛ لأني أعتز برأيه، وأحب أن يظل رأيه في مكان اعتزازي دائما، ونفع الله به باحثا وأستاذا ومستوضحا، وهداني الله إلى ما يحبه لي من بسط الحقائق بسطا لا يحتاج إلى تعليق. (جريدة الأهرام، الصفحة الدينية، 12 فبراير 1981م)
Неизвестная страница