هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فلست أريد أن أتجاهل قولك في العبارة المذكورة؛ إنك تريد مناقشة علنية «ليعرف كل إنسان قدره»، فما هو موضوع المناقشة الذي تقترحه، بحيث تضمن لقدر نفسك أن يبرز أمام الناس عملاقا، ويضؤل الآخرون أقزاما؟ ومن يا ترى الذي يترك له اختيار الموضوع؟ أنت أم أنا؟ أغلب ظني أنك لو تركت لي الاختيار لاستطعت الوقوع على ما تجهله أنت وما أعلمه أنا، وكذلك إذا ترك لك الاختيار، حدث عكس هذا، فالله سبحانه وتعالى قد قسم الأرزاق بيننا في المال وفي العلم أيضا، والله لا يحب كل مختال فخور. (3)
جاء في عبارتك ما يلي: إن ما يقوم به (هؤلاء الثلاثة) لا يمت إلى الحق بصلة، وما يكتبونه هو قضية تحمل الضلال والإضلال.
وعن الشق الأول أعيد ما قلته في رقم 1، وخلاصته أن فضيلتك لا يجوز لك أن تحكم حكما كهذا، إلا إذا كنت قد ألممت بكل ما قمت به، ثم حددت «الحق» كما تراه، ثم وازنت فلم تجد من ذلك الحق شيئا فيما قمت به. والأرجح أن أيام فضيلتك لم تتسع لبحث متسع كهذا.
وأما الشق الثاني، فأنا أدعو لك الله عما ورد فيه رحمة وغفرانا، فلأن يكون فيما كتبته «خطأ» فكثير على فضيلتكم أن تصفوه «بالضلال»، وأكثر منه أن تصفوه «بالتضليل» إن الله غفور رحيم. (4)
ورد في حديثكم أنك تريد المناقشة العلنية «لأكشف هؤلاء الناس للمسلمين في العالم أجمع، وأرد عليهم، ونترك الحكم لجميع المسلمين.» وتعليقي على ذلك هو أنك لو قلت إنك تريد أن تحتكم إلى «عقلاء» المسلمين لكنت أكثر توفيقا، أما «جميع» المسلمين يا فضيلة الإمام، فمشغولون اليوم، يقتل بعضهم بعضا في حرب الخليج، ويعترك مذهب منهم مع مذهب في كل أرجاء الإسلام. أإلى هؤلاء تريد أن تحتكم فيما قد ينشأ بيننا من اختلاف، وما من مجموعة منهم إلا وتلعب بها خناصر «الكفار»؟ يا سبحان الله العلي العظيم!
أما بعد يا فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي، فإنني أحمل لك التقدير وأكبر فيك الشجاعة في إبداء رأيك علانية، ويقيني أنك تريد لسواك أن يكون له مثل ما لك من حق التفكير وحق التعبير، والله يوفقنا جميعا إلى ما هو أهدى سبيلا.
أقولها كلمة صدق
لم أعد أذكر على وجه الدقة متى كان ذلك، حين تلقيت دعوة الوزير للقائه في مكتبه، وكل ما أذكره هو أن ذلك قد حدث عندما اقتربت الخمسينيات من نهايتها. والذي يساعدني على التذكر، هو أحداث صغيرة سبقت دعوة الوزير، فلقد أشاعت تلك الأحداث - على صغرها - مزيجا في نفسي من الخوف والدهشة، فمنها أنني لاحظت أن بواب العمارة التي كنت أسكنها يبتسم لي كلما خرجت أو دخلت، ابتسامة تكاد تنطق أن وراءها معنى، ولكني صبرت على القلق، حتى أقدم هو على الهمس في أذني قائلا: لقد شهدت لك بما أرضيت به ضميري، فأنت رجل طيب. فسألته: ولمن كانت تلك الشهادة يا عم أحمد؟ فلم يجب بأكثر من ابتسامة الخجل، وتكرر هذا نفسه مع سائس الجراج، لكن السائس كان أكثر جرأة وصراحة، فلما سألته السؤال نفسه، ولمن كانت تلك الشهادة يا عم عبده؟ أجابني: ومن يكون إلا رجلا من المباحث؟ وربما صدق الرجلان أو كذبا، فلست أدري.
ومرت أيام قلائل بعد حديثي مع البواب والسائس. لقيني بعدها زميل في كلية الآداب، ولم يكن معنا ثالث، فقال لي إن زائرا من جهة رسمية زاره في داره؛ ليسأله عما يعرفه عني، وبالطبع كانت شهادة الزميل طيبة، وإلا لسكت عما حدث، فسألته: وهل علمت لماذا السؤال؟ فأجابني بأنه لا يعلم ذلك، لكنه من الواضح أنه إما ليدفعوك دفعة إلى أعلى، وإما ليجذبوك جذبة إلى أسفل، فكلتا هاتين الحالتين تحتاج إلى سؤال.
نعم، أحدث لي كل ذلك مزيجا من الدهشة والخوف، وظللت صابرا أنتظر، حتى جاءتني دعوة الوزير للقائه في مكتبه، فلقيني أكرم لقاء، ثم أنبأني بما انعقد عليه العزم من نقلي إلى منصب ذي شأن، فقلت له: إنني إذ أشكر شكرا صادقا ومخلصا، ألتمس قبول اعتذاري، فدهش الرجل لما سمعه مني، وقال: أتأبى أن تكون كذا وكيت؟ ألست على استعداد لخدمة «البلد»؟ فأجبته: لا يا سيادة الوزير، عفوا إنني إذا كنت قد رغبت عن المنصب المعروض، فإنني في الوقت نفسه أقرر بأنني إنما أردت بذلك أن أخدم البلد فيما أستطيع الخدمة فيه، وهو التعليم، أليست هي خدمة لمصر حاضرا ومستقبلا أن أشارك في تعليم شبابها؟
Неизвестная страница