ونعود بعد هذا التقسيم إلى ما أسلفناه، من أن الفيصل الحاسم في تمييز ما يصلح أن يكون علما مما لا يصلح، هو القابلية لإثبات بطلانه، حتى إذا ما استعصى على ذلك الإبطال، عد مما يجوز قبوله في عالم التفكير العلمي، فنسأل إزاء مجموعتي العلوم اللتين ذكرناهما: ماذا تكون وسائل التحقق من الصدق واستحالة البطلان في كل منهما؟ والجواب هو أننا في العلوم الطبيعية، نجعل إمكان تطبيق نتائجنا التي نصل إليها على الواقع الفعلي، هو مقياس القبول، وأما في مجموعة العلوم الرياضية، أو ما ينهج نهجها، فوسيلتنا إلى الحكم بصواب النتيجة أو بخطئها، هو الرجوع بها إلى المسلمات الأولى، التي صدرنا بها خطوات السير، والتي جعلناها مفروضة الصدق مقدما، فإذا وجدنا أن النتيجة المعينة قد تولدت تولدا سليما من تلك المقدمات المسلم بصوابها، كانت نتيجة صحيحة. وألفت نظرك مرة أخرى، إلى أن هذا الضرب من التفكير العلمي، لا شأن له بأمر من أمور الواقع الفعلي، في عملية الحكم بالصواب وبالخطأ.
وبعد هذا كله، نعود إلى «علم الدين»، فنراه علما قائما ضمن المجموعة الرياضية من حيث المنهج؛ وذلك لأن الباحث العلمي فيه، يسير على خطوتين، هما كالخطوتين اللتين يسيرهما الباحث في العلوم الرياضية. أما الخطوة الأولى في علم الدين، فهي المقدمات المسلم بصوابها بادئ ذي بدء، وأولى تلك المقدمات عند العالم الديني المسلم، هو بالطبع النص القرآني الكريم. وأما الخطوة الثانية في طريق السير، فهي استخراج ما يمكن استخراجه من نتائج، تتولد من ذلك النص، فإذا تولدت لأحد العلماء نتيجة معينة - كأن يتولد له حكم شرعي معين مثلا - كان من حق من يراجعونه أن يسألوه عن النص الذي ولد منه ذلك الحكم، وطريقة الاستدلال التي مكنته من ذلك التوليد. وقد يختلف العلماء بعد ذلك فيما يرونه مترتبا على نص معين، فتنشأ بذلك الاختلاف مذاهب.
هذه العملية الاستدلالية التي تنصب على النص المعين لتستخرج منه ما يجوز استخراجه مع التزام منطق القياس، هي عملية «علمية» كأدق ما تكون العلوم. فمن الحقائق التي يجب توضيحها في سياق حديثنا هذا عن التفكير العلمي وطبيعته، أن العلم لا يشترط لنفسه موضوعا بعينه؛ إذ العلم إنما يكون علما بمنهجه لا بموضوعه، فاختر ما تشاء من موضوع للنظر، وتناوله بالمنهج الذي يضمن لنا سلامة الوصول إلى نتائج صحيحة، تكن بموضوعك ذاك صاحب نظرة علمية. فقد تختار لبحثك «العلمي» صخور المقطم، أو دودة القطن، أو تلوث الهواء في سماء القاهرة، أو المسرح الشعري عند شوقي، أو موقف المصري تجاه الولادة والموت، أو أي موضوع يعن لك أن تتناوله بالبحث العلمي، فأنت بما اخترته تكون في دائرة العلم ما دمت تنهج نهج العلم في خطوات سيرك، بغض النظر عن الموضوع المختار، وأما نهج العلم فهو - كما أسلفنا لك القول - إما أن يرتكز على مشاهدات الحواس في حالة العلوم الطبيعية، ويكون مقياس الصدق هو التطبيق على الواقع، وإما أن يرتكز على مسلمات مفروض فيها الصدق مقدما، في حالة العلوم الرياضية أو ما يدور مدارها. ويكون مقياس الصدق هو سلامة استدلال النتائج من تلك المسلمات. وعلم الدين (أو علومه) من هذا الضرب الثاني.
لكن علم الدين، لا هو «الدين» ولا هو «التدين»، إنما هو فاعلية عقلية تقام على الدين. ومن الجائز أن يكون للقوم «دين» يعتنقونه بمعنى أن يكون لهم «كتاب» يؤمنون بما جاء فيه، دون أن يكون قد ظهر من بينهم من يتناولون ذلك الدين بالتفكير العلمي ومنهجه. ولعلي لا أخطئ إذا قلت إن الإسلام قد لبث «دينا» للمؤمنين «يتدينون» بمبادئه وتعاليمه فترة قبل أن يظهر «الفقهاء» ليقيموا عليه العلم بمنهج التفكير العلمي.
إنه عندما نزلت الآية الكريمة، وفيها قول الله تعالى:
اليوم أكملت لكم دينكم ...
كان قد كمل دين الإسلام، ودخل الناس في دين الله أفواجا، ولم يكن قد كتب بعد سطر واحد في أي علم من علوم الدين، مما يقطع بأن الدين نفسه شيء، والمتدينين به شيء ثان، والعلوم التي تقام عليه شيء ثالث.
وتسألني: فيم هذا العناء كله، وهو عناء قد لا يغير من الأمر الواقع شيئا؟ فأجيبك بإجابات ثلاث؛ أولاها: إجابة تشبه إجابة أول رجل استطاع صعود جبال الهملايا إلى قمتها، فسأله سائل: ولماذا عانيت كل ما عانيته عدة أعوام متعاقبة، حتى استطعت تسلق الهملايا إلى قمتها؟ فقال له المتسلق (وأظنه كان «مالوري»): لأن الهملايا موجودة. وإجابتي الثانية: هي أن الحياة الفكرية بمعنى من أدق معانيها، هي تحديد الفواصل بين المعاني المتداخلة أو المتشابهة. ولك أن تحكم على أمة بدرجتها في مدارج الحياة الفكرية، بمقدار ما استطاع أبناؤها تحديد المعاني التي يتداولونها. وإجابتي الثالثة: هي أنني - كما ذكرت لك في أول الحديث - صادفت اثنين هما من أفضل علمائنا في الدين، لكنني عجبت لهما - لكل منهما على حدة حين صادفته مقروءا أو مسموعا - إذ رأيتهما لا يفرقان بين الدين وعلم الدين. والتفرقة الوحيدة عندهما هي بين الدين من جهة، والمتدين من جهة أخرى. ولهذه النظرة ما لها من نتائج، لعل أيسرها هو حرمان المؤمن العادي البسيط، من أن يكون له «دين» يعرفه، ويقرأ كتابه، ويقيم عليه حياته مستهديا بمبادئه، دون أن يكون إلى جواره علماء دين أقاموا علمهم على أساس نصوصه. نعم، إن وجود العلماء أضمن لدقة المعرفة وضبطها، ولكن ماذا إذا لم يجد مؤمن في محيطه عالما؟
ويبقى الود ما بقي العتاب
كنت قد لبثت أعواما، أسمع عن فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي، ولا أسمع منه، وكان الذي سمعته عنه خلال تلك الأعوام، مدعاة للزهو والرضا، ففضلا عن إخوتنا: في الإنسانية، وفي الإسلام، وفي العروبة، فنحن فوق ذلك كله إخوان في المصرية. ولا تسلني عن الإخاء بين المصري والمصري، حين يكون المجال مجالا للفخار بالوطن. وقد لا يشعر هذا الشعور إلى أغواره العميقة، إلا من يجد نفسه بين غرباء، ثم يجيء سياق الحديث حاملا على موجه ذكرا حميدا لمواطن مصري، كما حدث لي أكثر من مرة، وورد في حديثي مع جماعات من غير المصريين، اسم فضيلة الشيخ متولي الشعراوي، مقرونا بالثناء والتقدير، فعندئذ أحسست وكأن الثناء والتقدير موجهان إلى شخصي. نعم هكذا تتحد هوية المصريين جميعا، وتتجمع كلها مركزة في أي فرد من أفرادنا، وهو يتحدث إلى غرباء، عن مصري بكلمات التقدير، فما بالك إذا كان ذلك المصري ذا قامة فارعة، بلغت ما بلغته عند فضيلة الشيخ متولي الشعراوي.
Неизвестная страница