وبالجملة أقول: إن أحسن مدارس البنات في مصر هي مدارس الحكومة أخلاقا وعلما، على أنها لا تزال تقبل الإصلاح والرقي.
ولي كلمة أخرى في هذا الموضوع تتعلق بالبيت والمدرسة أرجئها لفرصة أخرى. (5) تربية البنات في البيت والمدرسة
كلنا يعلم ما تعودنا على سماعه من أمهاتنا في سن الطفولة الأولى، كان يغرينا النشاط وحب العمل بمداومة الحركة واستكناه كل شيء مما تقع عليه حواسنا، ولو أدى ذلك إلى كسر الشيء أو تلفه، حينذاك كنا نسمع والدتنا تقول: «خذوها للمدرسة» فترسم المدرسة في مخيلتنا عفريتا يهول منظره؛ لأننا كنا نعد غضب الوالدة أكبر قصاص لنا، وهي لم تفه بلفظة «المدرسة» إلا في ساعة الغضب، هذه أول فكرة تلقى علينا من جهة المدرسة، فإذا شببنا قليلا وأتى بنا إليها ملأنا أرضها صراخا وعويلا، وطال أمد الوحشة بيننا وبينها.
تبذل معلمات المدارس جهد الطاقة في تثقيف عقول التلميذات وتعويدهن الفضائل، ولكن تلك الدروس إذا لم تدعمها الممارسة والمشاهدة لا تلبث أن تزول.
ترى إحدى المعلمات تنصح لفتياتها بأن لا يرتدين في المدرسة الأثواب المزركشة أو الرقيقة فتأتمر الفتاة بأمرها، وما هو إلا يوم حتى ترى والدتها أحضرت لها من تلك الثياب أقلها حشمة وأكثرها بهرجة، وإذا عارضت الفتاة وقالت: قد نهينا عن لبس مثل تلك الثياب أمس؛ أجابتها والدتها: لا تكترثي بكلام المدرسة فهو موجه للفقيرات لا لبنات الأغنياء مثيلاتك! إذا ضاع النصح هباء، وتشجعت الفتاة على العصيان وعدم الاكتراث. كذلك المدرسة تدرب التلميذات على النظام وبيوتنا بفضل الجهل لا نظام بها، وقصارى القول: إن ما تبرمه المدرسة لنفع التلميذات ينقض في البيت ولا سيما مسألة الأخلاق.
وأسطع برهان على أن البيت يفسد ما تصلح به المدرسة، الفرق الظاهر بين التلميذات الداخلية والخارجية، فإن الأوائل كلهن أكثر نظاما وترتيبا من الأخر، وأغلبهن أشد تمسكا بالفضيلة لأنهن ينشأن على البساطة والحشمة، وقد رسخ ذلك في أذهانهن.
فلو كانت تلك الأم متعلمة أو جاهلة تقدر العلم قدره لذاكرت لابنتها وأفهمتها ما تعسر عليها فهمه في الحالة الأولى، أو أعدت لها مكانا بعيدا عن لغط الزائرات في الثانية.
أعرف أختين كانتا معي في المدرسة وقد قصتا علينا يوما الحديث الآتي: وقد كانت إحداهما في السنة الأولى الابتدائية والثانية في السنة الثانية، ومعلوم أن تلاميذ وتلميذات هاتين الفرقتين في المدارس المصرية لا يمكنهم التكلم بلغة أجنبية. قالتا: «سألتنا يوما والدتنا إذا كان يمكننا التكلم بالإنكليزية فأجبنا إيجابا ولما لم تكن تعرف هي منها شيئا لم نجد ما نوهمها به سوى بعض أبيات إنكليزية كنا حفظناها في السنة الأولى؛ وهي حكاية عن طفلتين ضاعا في غابة ... إلخ؛ فأخذنا نتناوب شطور الأشعار أقول أنا الأولى، وأختي تقول الثانية، إلى أن فرغنا منها؛ ففرحت والدتنا بذلك وشهدت لنا بأننا «بارعتان في لغة الإنكليز»!»
ذلك مثال من كثير يبين أن جهل هؤلاء الأمهات لا يقتصر على تأثير بناتهن في العلم ، ولكنه يشجعهن على الكذب والفساد أيضا وإن كن لا يدرين.
وأدهى من ذلك وأمر أن الفتاة إذا شبت وكعبت، فإن الأم لا تفتأ تذكر لزوجها - وابنتهما تسمع - أن ابنتها كبرت وأنها يجب أن تترك المدرسة لتتزوج، وأن فلانا وفلانا أرسل والدته أو أخته تخطبها، فلا تلبث الفتاة أن تلتفت إلى أمر الزواج وتهمل المدرسة؛ لأن والدتها تغريها بذلك وتهتم به كثيرا، فإذا أمطرت السماء يوما ولو رذاذا قالت لها: لا تذهبي إلى المدرسة، وإذا اشتد البرد منعتها عنها، وإذا زادت الحرارة قليلا صدتها، وإذا ذهبت لعرس إحدى جاراتها أخرتها يومين أو ثلاثة، وهلم جرا. والفتاة مظلومة إذا لم تستفد من المدرسة بعد هذا، ولكن المدرسة مظلومة أكثر منها إذا نسب تأخر الفتاة كله إليها.
Неизвестная страница