كانت إلهام في السنة الثانية من كلية الآداب، وكان من الطبيعي أن تسبق أخاها الأكبر، فهي لم تتخلف مطلقا في دراستها، وقد أخذت الفتاة عن أمها شعرها الناعم المنساب، وأضافت إليه عينين واسعتين سوداوين وقواما دقيقا، فهي رقيقة القسمات وادعة الملامح، عيناها تطلع هانئ، مطمئنة إلى المستقبل، لا يعرف القلق إلى نفسها سبيلا إلا ذلك القلق الجميل، الذي يصاحب تلك السن التي تنهد من المراهقة إلى الشباب.
كانت إلهام تشعر أن أمرا ما تدبره أمها مع نعمات أم مجدي، ولم يكن هذا بالذي يخفى عليها، ولكنها كانت تتظاهر أنها لا تفهم شيئا، وهي تتغابى في ذكاء نافذ عن الإشارة من أمها أو التلميحة من خالتها نعمات. •••
حين سكن سويلم عمارته الجديدة كان من بين شققها شقة مفروشة، كان صاحب العمارة يؤجرها لخبير ألماني، وحين انتهى عقدها اتفق سويلم مع زوجته على أن يمدا العقد لخمس سنوات أخرى، ثم يجعلا هذه الشقة سكنا لابنهما بعد تخرجه وزواجه.
وكان بالعمارة أسرة توطدت صلتها بنعمات وسويلم، كان الوالد موظفا كبيرا في البنك الأهلي، وكان له ابنة توفيت عنها والدتها منذ خمس سنوات، وتزوج هو بعدها بزوجته الحالية، أما البنت فاسمها سميحة، وكانت في سن إلهام وكانت زميلتها في الكلية، أما زوجة أبيها فهي الست فوزية وكانت طيبة النفس، تعامل ابنة زوجها أحسن معاملة، وقد أنجبت لزوجها الأستاذ فريد عبد القادر ابنه علي، وألحقه بابنته الطفلة هناء.
تعرفت الأسرتان وتزاورت السيدات، ونقل سويلم حسابه إلى فرع البنك الأهلي بالجيزة، حيث يعمل فريد عبد القادر. •••
كيف ينشأ الحب ولماذا؟ إنه مشاعر لا منطق لها ولا عقل ولا مقدمات، كانت سميحة صبيحة الوجه ولكن الأمر الذي لا يختلف في شأنه اثنان، أن إلهام كانت أجمل منها بكل مقاييس الجمال، هذه المقاييس التي تواضع الناس أن يجعلوا منها قواعد يعطون على أسسها جوائز الجميلات، ولو أن إنسانا رأى الفتاتين دون أن يكون في نفسه هوى إلى واحدة منهما لحكم من فوره أن إلهام أجمل، كانت سميحة مستديرة الوجه في براءة وطيبة، في عينيها حزن يكسبهما الحنان الإنساني الشريف، وكانت رشيقة القوام تميل إلى الطول بعض الشيء.
حين رآها مجدي أول مرة رآها في العمارة أحس نحوها بإعجاب، وقد كانا طفلين معا فلم يكن غريبا أن يضم ملعبهما أطفال العمارة جميعا، وفي سن الطفولة الناعمة هذه يبدأ نوع من الحب الذي لا مثيل لطهره على الأرض، كنسمة من نسائم الجنة، أو كنبضة من نبضات الإيمان، أو كتسبيحة متبتل في محرابه أو كهيام متصوف في نجواه، الابتسامة عند الطفل المحب دنيا، والهمسة حياة، والحدب خطرة من روح الله، فإذا خلا الطفل بحبيبته فهذا جميعا وأكثر، ويشب الحب مع الطفل لحظة بلحظة وهمسة بهمسة، فإذا بلغ الشباب اندلع الهوى براكين وهزيم رعد ورياح عواصف، لولا الحياء والدين والخلق لاجتاح لا يبقي، ولاندفع لا يتوقف، ولأعلن عن نفسه للعالم أجمع.
نشأ هذا الحب بين مجدي وسميحة، قالاه وهما طفلان في كرة يختارها هي لها حين كانا يتراميان بالكرة، وقالاه ابتسامة لقفتها ابتسامة في خفية عن عيون الصبية، وقالاه سؤالا عن امتحان لقية سؤال عن امتحان في همسة خبيئة عن الآذان، وقالاه وهما شباب أحبك استقبلتها أحبك، واندلعت ألسنة الهوى وتعالت أمواجه، والفتاة على أبواب الجامعة، والفتى في السنوات الأولى منها، وفي كل عام يمر يزداد الهوى اشتعالا، فالأمل كلما اقترب من التحقيق ازدادت ملامحه قوة وتبينت معارفه، حتى كأنه تم وتوضحت معالمه، فهو بعد ليس أملا وإنما فعل حدث، إن لم يكن فعلا ماضيا فهو فعل حال يتشكل واقعا.
تخرج مجدي في كلية الهندسة، وأقام أبوه ليلة فرح كبرى، ودعا كل أصدقائه من التجار ومن سكان العمارة ومن الجيران.
وشاء الله الرحيم بعباده أن يحصل فكري في نفس العام على الثانوية العامة، فكان فرح فؤاد به أكثر من فرح سويلم بتخرج ابنه، فقد كان فؤاد واثقا أن الثانوية العامة هي نهاية المطاف بالنسبة لفكري، وكان يكاد يقطع أن ابنه لن ينالها عمره كله، وقد هدأت نفسه إلى هذا واطمأنت إليه لا يداعبها أمل مهما يكن ضعيفا، أن يخيب فكري ظنه ويحصل على الثانوية العامة، وقد كان يريده أن يكون تاجرا مثله، لكن التجارة لم تعد مثل هذه الأيام الناعمة التي بدأ فيها هو ممارسته للتجارة، إن التجارة أصبحت مسبعة وحوش ضارية، وصارت أيامها فتاكة تلتهم الغافل التهاما، حتى لا تبقي فيه من باقية، أو ترفعه إلى سماوات لم يحلم تجار الأزمان الماضية مجتمعين أن يصلوا إلى جزء ضئيل منها، وأين العشرات والمئات التي كانت تلقيها الأفواه من التجار في حرص شديد، وبعد أخذ ورد وتفكير وتدبير من كلمة مليون وعشرة ملايين ومائة مليون، يلقيها تجار ما بعد أكتوبر وكأنهم يلقون تحية سلام فاترة لا تعني شيئا.
Неизвестная страница