الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
Неизвестная страница
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
Неизвестная страница
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
Неизвестная страница
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
النهر لا يحترق
النهر لا يحترق
تأليف
ثروت أباظة
الفصل الأول
الحر شديد، شديد، وفوكيون لمبرو يحمل حقيبته الثقيلة ثقل الزمن، وبيده اليسرى يحمل البقجة المنتفخة بالأقمشة، والمثقلة بها أيضا، عجيبة أن تكون الأقمشة الحريرية والأخرى الشفيفة بكل هذا الثقل، إن شأنها شأن الزمن ما هو إلا ثانية وثانية، ثم دقيقة ودقيقة، ثم ساعة وساعة، ثم أيام ثقيلة الخطى، ثم سنون ترزح على كتف الإنسان فإذا القامة المديدة تحنيها الأعوام التي لم تكن إلا أياما، كانت ساعات وكانت دقائق وكانت ثواني.
ومن تراكم الثواني شاب شعر فوكيون لمبرو، ومن تراكم الحرائر والشفائف في الحقيبة والبقجة يئن فوكيون لمبرو، وكأن الشمس لا يكفيها ما هو فيه من معاناة، فإذا هي تصليه تلك النار الضارية، تخترق قبعته وتعتصره اعتصارا.
ويمشي لمبرو، والحر شديد، شديد.
Неизвестная страница
ويمر ببيت الست عدلات، ويله من الست عدلات، إنه لا يشتهي مطلقا أن يذهب إليها؛ فهي كثيرة التقليب في الأقمشة، غزيرة الكلام بطيئة الحركة، شحيحة المال، قليلة الشراء، نادرة الدفع.
يعبر البيت ويستمر سائرا في ذلك الشارع الجميل، الذي يرافق النهير العظيم، الذي سماه أهله وذووه بحر مويس، فلم يكفهم في شأنه أن يرفعوه من نهير إلى نهر، بل أفاضوا عليه بما عرف عنهم من كرم، وأطلقوها عليه بحرا فأصبح بحرا، وكان يقوم بين البحر والشارع سور من الأعواد الحديدية العريضة بعض الشيء والمدببة الهامة، وهكذا استطاع أهل الزقازيق أن يحموا مويس من أن يكون موئلا لمن يفكر أن يلقي به ما يشوه جماله، واستطاعوا أيضا أن يردوا الأطفال عن خوضه والتعرض لمائه العميق.
وفي هذه الأيام التي كان فوكيون يماشي فيها النهر في ذلك السعير، لم يكن على الجانب الآخر من النهر إلا قليل من المباني، على قلة عددها جليلة الشأن عظيمة الخطر، فمن هذه المباني المدرسة الابتدائية، وكان كثير من التلاميذ يعبرون إليها في مراكب صغيرة، لقاء مليم أو مليمين يتقضاهما صاحب المركب، فقد كانت الكباري لا تزيد على اثنين، أحدهما على رأس النهر حين يتجه شرقا إلى القاهرة عن طريق أبي حماد، والكوبري الآخر في الجهة المتجهة غربا إلى منيا القمح فبنها، وكان منزل الباشا المدير في هذا الجانب أيضا.
أما الجانب الذي يسير فيه فوكيون، فهو زقازيق تلك الأيام بكل ما فيها من معالم، وحيث يدور النهر تمتد بجانبه تأبى أن تبتعد عنه، وكان فوكيون يسكن في شارع البوستة، وهو أهم شارع بالزقازيق، وحين تزوج - أتينا فروسو وشدد السين حتى تصل إلى النطق الصحيح - أقاما بنفس البيت، فقد عرفها فيه وهي تقيم مع أخيها متراكي، صاحب محل البقالة الشهير بالزقازيق.
دام زواج فوكيون لأتينا فروسو اثنتي عشرة سنة، ولم ينجبا أطفالا، والعجيب أن كليهما لم يحزن لهذا، فقد كانا يعرفان كيف يعملان حين يعملان، وكيف يستمتعان بالإجازة حين يرغبان.
كانت أتينا تذهب مع فوكيون كل شهر إلى محل الحاج محمدين الطوخي في الحمزاوي، وتنتقي منه الأقشمة لسيدات الزقازيق، وكانت تعرف الغالبية العظمى منهن من قبل أن تتزوج فوكيون، فقد كانت هي التي تقوم بتفصيل ملابسهن، وقد كانت على ذكاء حاد فعرفت أذواقهن، وهكذا استطاعت أن تكون ذات فائدة عظمى لزوجها، وبعد أن كانت الأقمشة التي يشتريها يتخلف منها جزء غير يسير فترات طويلة عنده، مما يضطره آخر الأمر أن يبيعها بغير مكسب أو بخسارة، أصبحت الأقمشة التي تنتقيها فروسو تنفد في أسابيع قليلة، إلى درجة أنه كان أحيانا ينزل مع فروسو مرتين أو ثلاثا إلى القاهرة ليتزود ببضاعة جديدة.
وكان الزوجان يصران على أن ينالا شهرا إجازة في كل عام، وكانا يختارانه شهر يوليو، ففي هذا الشهر تكون السيدات في الصيف هن أيضا قد انتهين من إعداد ملابس الصيف، ويكون الشتاء بعيدا، فأغلبهن يبدأ بشراء الأصواف قبل أغسطس إن لم يكن سبتمبر.
سنوات طيبة عاشها الزوجان معا، العمل عند كليهما يحميهما من الفراغ والشجار، والإجازة السنوية تجدد نشاطهما، والخروج إلى الفسحة كل أسبوع يدخل على حياتهما اليومية الرتيبة تجديدا، وكانا يذهبان في كل يوم أحد إلى كنيسة الأروام، ثم يتناولان الشطائر عند الغداء في حديقة وابور النور، الذي يقع في آخر الزقازيق بعد منشأة أباظة، ثم يذهبان إلى سينما أبولون في حفلة الساعة السادسة، ولا يمنعهما شيء عن هذا البرنامج إلا المرض ونادرا ما كانا يعرفانه، والعجيب أو ربما لم يصبح عليهما عجيبا أنهما كانا يستمتعان غاية المتعة بالموسيقى العربية والمارشات العسكرية، التي كانا يسمعانها من فرق الجيش في كشك وابور النور، فقد كانت موسيقى الجيش تعزف أيام الخميس والجمعة والأحد من بعد الظهر.
وكانت كثير من السيدات يمزحن مع فروسو وهي تخيط لهن ملابسهن، ويقلن لها إنك مصرية يا فروسو أكثر من المصريات، فلماذا لا تتكلمين مثلنا وتتركين لهجتك الجريجية هذه.
وتضحك فروسو وتقول: دا سغل يا خبيبتي، أقصد أقول دا شغل يا حبيبتي.
Неизвестная страница
وتضحك السيدات وتقول هي: إذا أنا إكلمتوا أربي الستات يقول دي خياطة بلدي، ويتركنني ويذهبن إلى خياطة جريجي غيري.
كانت فروسو تعلم أن السيدات يحببن أن يلوين ألسنتهن باسم أجنبي، إذا أردن أن يذكرن اسم الخياطة التي تفصل لهن فساتين.
وكانت فروسو إذا ذهبت إلى أحد البيوت لتخيط لسيداته أصبح ذهابها موسما، وتجمعت عند هذه السيدة الصديقات الأخريات اللاتي تفصل لهن فروسو، ولا بأس أن يداعب الرجال فروسو أيضا على مشهد من الزوجات، فقد كانت مداعبات تثير الضحك ولا تثير الغيرة. قال لها لطفي سعيد بمنطق المال: لمن تجمعين يا فروسو كل هذا المال أنت وفوكيون؟
وتضحك فروسو ولا يمسها طائف من الحزن أنها لم تنجب وتقول: من عارف يا لطفي بك. لصاحب النصيب. - ألم تفكري أنت وفوكيون من هذا الذي يمكن أن يكون صاحب النصيب؟ - أو، أنا وفوكيون نفكر في كل حاجة سوا سوا. - فيمن تفكران إذن ليكون صاحب النصيب؟ - على كل حال لطفي بك، مش إنت.
ويضحك الجميع ويقول لطفي: دا مؤكد فروسو، دا مؤكد.
وتقول هي جادة: لطفي بك تفتكر أنا وفوكيون نقدر نشتغل كدا على طول، يجيء يوم نتعب. نحب نستريح، يكون الفلوس موجودة، سفت لطفي بك. أنا وفوكيون أصحاب النصيب مش حد تاني.
ونقلت أتينا هذا الحديث بأكمله إلى فوكيون لمبرو وهما يتناولان العشاء ويسمران، وضحك فوكيون وقال لها باللغة اليونانية الخالصة: أحسنت الإجابة يا أتينا.
أتينا هو اسمها الحقيقي أما فروسو فاسم أبيها، ومع ذلك لا يناديها أحد بأتينا إلا زوجها وأخوها متراكي، فهو أيضا اسمه متراكي فروسو، ولكن أحدا لا يعرف عنه إلا متراكي، ولا يرى أحد داعيا مطلقا أن يبحث عن بقية اسمه، ومن عرفه صدفة لا يرى داعيا أن يناديه به. •••
وحين ماتت أتينا فروسو دون أي توقع، أصبحت الحياة عند فوكيون لمبرو صحراء جرداء لا تستحق أن تعاش، كان قد أعد مع أتينا كل خطوة سيخطوانها في المستقبل، ولكنها أخلفت موعدها في لحظة عابرة، وهما جالسان في البيت يلعبان الورق.
لم تقل إنها ذاهبة ولم تقل إنها متعبة، كل ما قالته بعد أن وضعت الورق على المنضدة: فوكيون. وقبل أن يجيب كانت هي قد أجابت داعي السماء.
Неизвестная страница
لا معنى للحياة، ولكن الحياة لا تعترف برأي الأفراد ولا حتى برأي الجماعات أو الشعوب، إنها تمضي كما تعودت أن تمضي، ثانية تدفع ثانية ودقيقة تسوق دقيقة، وساعة تستحث ساعة ويوم يستبطئ يوما، وأعوام تنتهب العمر انتهابا.
ماذا أنا صانع إذا لم أعمل، إذا كنت أعددت المستقبل لي ولأتينا، وتخلفت هي فالمستقبل لن يتخلف، بل هو قادم رغبت أنا في قدومه أو لم أرغب، وسيجدني أنتظره ما دمت على قيد الحياة، والمصيبة الكبرى أنني لا بد أن أظل على قيد الحياة، والمصيبة الأعظم أنني لا أعلم متى سأغادر هذه الحياة، وقد أصبح العمل هو كل ما أملك في الحياة بعد أن كانت معه أتينا، أخشى إذا أنا توقفت عن العمل أن يهملني الموت ولا يذكرني، فهو زبون بلا موعد ولا منطق ولا عقل، يخطف أتينا وهي في قمة صحتها لا تشكو مرضا، وينسى غيرها من الذين أنهكهم المرض سنوات طوالا، قد يرسل إلي المرض، فالمرض من أتباع الموت ومن خدمه وحاشيته، ثم ينسى أنه أرسل لي المرض ويتركه عندي السنوات الكثيرة، وأصبح بلا مال أنفقه على الضيف الذي أرسله إلي الموت وعلى نفسي أيضا.
لا بد إذن أن أعمل، فلئن جاءني الموت أو خادمه المرض وعندي مال، خير ألف مرة من أن يأتيني أحدهما، وخاصة الخادم، وأنا قليل المال، فالمرض ضيف لا حياء له ويرغم مضيفه على كثير من الإنفاق، ولا يقف به الطمع عند حد، فهو رذل وقح عربيد، لا يخجل ولا يبالي أن يطلب آلاف الجنيهات، وهو واثق أنك ستدفعها ولا تناقش.
أعمل إذن، ولكن الحر شديد، وموت أتينا أصاب مشاعري بإحباط كثيف، واللذة التي كنت أستشعرها وأنا أعتصر الحياة معها انعدمت تماما، ولم يصبح للحياة رحيق ولا للمال ذلك الطعم الساطع، الذي كان يملأ النفس رضى وهناءة وطمأنينة وثقة.
والحر شديد وأنا لا أريد أن أذهب إلى الست عدلات، ولكن لا بد مع ذلك من الذهاب، فإن عليها لي مبلغا من المال ونحن الآن في موعد حصاد القمح، وربما استطاعت أن ترد لي شيئا من ديونها، ثم أنا لا أستطيع أن أمضي خطوة بعد هذا، أمري إلى الله.
وفتحت نعمات خادمة الست عدلات الباب، وقالت في ألفة: يوه هو أنت يا خواجة لمبرو؟
وقال لمبرو بعد أن دخل وقعد على كرسيه المعهود: هو أنا يا نعمات. كنت تنتظرين أحدا آخر؟ - أبدا يا خواجة، فقط كيف تقدر على المشي في هذا الحر الشديد. - أكل العيش يا نعمات! - بل أكل الجاتوه يا خواجة. ماذا ستعمل بكل هذه الفلوس يا خواجة، قل لي يا خواجة لمبرو أتكتم السر؟ - كل أعمالنا أسرار. - سلفني مائة جنيه أتزوج بها، وأرد لك كل شهر حاجة. - وأنا كيف سأراك إذا تزوجت يا نعمات. - بلدنا قريبة. - وتريدينني أن أروح لبلدك كل شهر من أجل القسط؟ - معروف تعمله في، ألا تعمل معروفا لله أبدا؟ - الله يعلم ولكن الذي تطلبينه مستحيل. - أنا أحضر لك الفلوس حتى بيتك. - قولي يا نعمات، من خطيبك؟ أنت ما زلت صغيرة على الزواج. - أبو الروس. - من؟ - سويلم أبو الروس. - ماذا يعمل؟ - يعمل في مقهى في البلد. - كم عمره؟ - قريب مني. - أكبر؟ - يا ترى كل هذا التحقيق له فائدة؟ - أين الست عدلات؟ - جائية. - أهي ليست هنا؟ - عند الست تفيدة. - فوق؟ - نعم. - فهي لن تأتي إذن. - لماذا يا خواجة لا قدر الله؟ - الاثنتان لا تتوقفان عن الحديث إلا بالبوليس.
وتضحك نعمات وتقول له: الله يجازيك يا خواجة لمبرو. ماذا قلت؟ - فيم؟ - خواجة. أنسيت؟ - قلت لي عمره كم؟ - أنت مالك. - أعرف. - ما دخل هذا فيما أطلبه؟ - فقط قولي، أهو أكبر منك؟ - يا سلام يا خواجة. - كم عمرك؟ - ثماني عشرة سنة. - يعني عنده عشرون تقريبا. - لن أقول لك. - فهو أصغر منك إذن. - يا خبر أسود. هل هذا معقول؟ - ليس مهما. - وما رأيك؟
وقبل أن يجيب تدخل الست عدلات، وتفاجأ بالخواجة لمبرو. - يخيبك يا لمبرو. في هذا الحر؟ - وأنت ست عدلات تخرجين في هذا الحر، أنا أخرج من أجل العمل، لكن أنت تخرجين من أجل التسلية. - الفلوس على قلبك ستقتلك، وتخرج في هذا الحر؟ - والله ست عدلات لم أعد أحب أن أبقى في البيت أبدا، البيت كله أسود في وشي. - الله يرحمك يا أتينا، والله من يوم ما راحت وأنا لم ألبس شيئا أرتاح له. - مرسي ست عدلات. - هل معك حاجة جديدة؟ - طبعا. لكن أنت أليس عندك حاجة قديمة؟ - يخيبك يا لمبرو. كم حسابي؟ - خمسة وعشرون جنيها. - وكم تريد منها؟ - خمسة وعشرين جنيها. - أليس عندك دم؟ - أنت سألت كم تريد وقلت لك ما أريد وأنت حرة. - طيب أرني ما عندك. يا نعمات، بنت يا نعمات.
وتأتي نعمات مبتسمة ومعها حقيبة يد سيدتها.
Неизвестная страница
وتضحك نعمات ويضحك لمبرو: كيف عرفت يا بنت أني أريد حقيبة يدي؟
وقالت نعمات وهي تضحك: وهل يأتي إلا من أجل حقيبة يدك؟
ويقول لمبرو: ملعونة أنت يا نعمات. لما أخلص مع الست لي معك كلام أمام الست عدلات. - صحيح يا خواجة. - ليس كما فهمت، ولكنك ستفرحين جدا. - الله يخليك يا خواجة. - مش مهم يا نعمات مش مهم. لا أريد أن يخليني مش مهم. - برضه الله يخليك ويعطيك الصحة. - آه، دا مهم، الصحة مهم، مرسي نعمات مرسي.
وتعطي الست نعمات للخواجة لمبرو عشرة جنيهات، ويدور جدل طويل يقصد لمبرو أن يطيله حتى تنكسر حدة الحر، ويستمتع بفنجان القهوة الذي أحضرته نعمات مع الماء البارد.
وتبدأ الست عدلات في رؤية الأقمشة الجديدة، وتنقلب الحقيبة رأسا على عقب، وتتناثر محتويات البقجة، ويخرج عثمان بك من نومة القيلولة، ويجد بهو بيته مليئا بالأقمشة ولا يعجب، فهو أمر تعوده ويمزح مع لمبرو: أنا يا لمبرو لا أشوفك إلا ومصارينك كلها ملقاة على الكراسي والسجاجيد. - أمر الله يا عثمان بك. أمر الله. - لا تترك منها الكثير، فأنا الذي أدفع ثمنها كما تعرف. - أعرف وأنا الذي أنتظر الثمن حتى تطلع روحي يا عثمان بك.
ويضحك عثمان بك ويخرج ويستمر العرض.
وتغرب الشمس، وتنتقي عدلات هانم قطعة واحدة من كل الأقمشة التي كانت ملقاة بعرض البهو وطوله، تعطيه جنيهين من ثمنها، وتدخل نعمات تعاون لمبرو في إعادة الحقيبة والبقجة إلى ما كانتا عليه عند قدومه، ويسأل لمبرو في إصرار: كم عمر عريسك؟
وتدهش نعمات من هذا الإصرار. - ماذا جرى يا خواجة أتريده في الجيش، ألم تقل أنت عمره؟ - فقط قولي. - عشرون سنة كما قلت أنت. - اتفقنا. - أتعطيني المائة جنيه؟ - أكثر بكثير.
وتسأل عدلات هانم وتنقل لها نعمات الحوار الذي دار بينها وبين لمبرو، وتقول عدلات: ألم يقل سيدك إنه سيعطيك المائة جنيه في القطن؟
وتضحك نعمات في حياء، وتقول: وماذا أعمل يا ستي؟ - يا لهوك! تعملين في ماذا؟ - الولد سويلم يريد أن يتزوج في مولد سيد أبو مسلم، وتضحك عدلات وتقول: آه مستحيل. طيب ولا يهمك يا بنت، جهازك على نفقتي في أي وقت. - ربنا يطول عمرك يا ستي ويخليك.
Неизвестная страница
ويتدخل لمبرو: يعني أنا خارج الموضوع إذن؟
وتضحك نعمات وهي تقول: البركة في ستي يا خواجة. أما أنت فإننا نريدك في الخير.
ويقول لمبرو: ولكن أنا الذي أريدك الآن يا نعمات. - كيف؟ - أنت قلت إن سويلم يعمل في مقهى؟ - نعم. - وهل هذا عمل؟ - لا يعرف كيف يفلح الأرض. - أحسن. - كيف؟ يا ليته كان فلاحا. - ما رأيك يا نعمات وأنت ست عدلات، أن يأتي سويلم ويساعدني في العمل.
وصاحتا معا: ماذا؟
وساد الصمت مليئا بالضجيج.
وما له والله فكرة يعمل مع لمبرو، وفي هذه الحالة لا تتركني البنت نعمات، ولا أحتاج للبحث عن غيرها، وأين أجد مثلها؟ أنا التي ربيتها وأصبحت تعرف كل طلباتي، وكم كنت سأتعب حتى أجعل خادمة غيرها مريحة لي مثلما هي مريحة.
وساد صمت آخر. - والله فكرة.
إذن فقد قضي علي أن أبقى هنا، وما له، اللقمة طيبة والهدمة نظيفة، والذي نعرفه خير مما لا نعرفه، وهل كان سويلم سيستتني لا بد أنني كنت سأخدم في البلد، إن لم يكن عند العمدة، فعند أحد الأعيان وربنا يعلم أين، ولكن! - ولكن يا خواجة ... - انطقي يا نعمات، ولكن ماذا؟ - سيدخل سويلم معك إلى الستات.
وضحكت الست عدلات وضحك الخواجة، وهو يقول: هذا شغلنا يا نعمات وأكل عيشنا. أتخافين عليه من الستات وكلهن كبيرات وزوجات أعيان؟ - أتخافين عليه من الستات يا مضروبة؟ - يا لهوي يا ستي أليس رجلا، لا بد أن عينه ستروح هنا، أو هنا.
الفصل الثاني
Неизвестная страница
أأعمل مع الخواجة لمبو؟ هل اسمه لمبو؟ أظن لا. لا تفرق، وأين أجد المتعة التي أجدها هنا وأنا أبيع الكازوزة لركاب القطارات؟ أين في العالم فرجة مثل هذه الفرجة؟ أنا قاعد مستريح والعالم يمر علي كله في القطارات وفي الزبائن.
أنا واحد من معالم هذا المكان، الزبائن لا يعرفون المعلم فرج قدر ما يعرفونني، بل ركاب القطار المنتظمون لا ينادون المعلم فرج في غدوهم ورواحهم، وإنما ينادونني.
أين سأجد حرية مثل حريتي هذه التي أنعم بها، أصنع ما يحلو لي والكل يحبني وأنا أحب الجميع، موظفو المحطة لا يحلو لهم طلب لا أقدمه إليهم، وأعيان البلدة جميعا يسعون إلى مقهانا هذا ينفحونني نفحات طيبة، ومرزوق والحمد لله، ما الذي يجعلني أترك هذا جميعه للخواجة لا أدري اسمه هذا، لمبو. لا لمبرو؟ ما شأني أنا به؟ وماذا سأصنع معه؟
ولكن المسألة ليست بسيطة، البنت نعمات قالت كلاما معقولا، الزواج محتاج إلى مصاريف وأنا - والحمد لله - ما يجيء يذهب ولا يبقى شيء لأقيم به بيتا ولا حتى عشة، ولنفرض أن نعمات عملت في أحد بيوت البلد، ألا تحتاج هي الأخرى إلى ملبس ومصاريف.
وفي الزقازيق ستقيم هي عند عثمان بك وأنا سأقيم عند الخواجة، وقد قال إنه سيترك لي غرفة أستقبل فيها عروسي في الإجازة، وقال أيضا إنه سيرسلني أسبوعا في لوكاندة رأس البر كهدية زواج منه، والله حلوة هذه، والبنت نعمات تقول لي في ابتسامتها الحلوة، التي تحاول أن تخلطها بتكشيرة: أكنت حفظت القرآن والكتابة والحساب لتظل طول عمرك صبي مقهى؟
قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون . من يدري ربما يكون عملي مع الخواجة لمبرو هو المصير الذي اختاره الله لي.
أنا بعد في كامل صحتي، وها أنا ذا مقبل على زواج أغلب الأمر أن يعقبه أولاد، وإذا كان ما أكسبه اليوم وما ستكسبه نعمات كافيا لكلينا، فكيف سنواجه الأولاد؟
لقد تيتمت وأنا طفل لم أتم حفظ القرآن، واضطرتني الحياة أن أعمل حين كان أترابي يلعبون، وربما يكون الله سبحانه وتعالى عوضني عن اليتم بحب الناس لي، وأن كثيرا من الناس يقولون لي إن في وجهك القبول يا سويلم، ألا يجوز أن يكون هذا القبول هو نصيبي الذي قسمه لي الله في الدنيا، أنا لا أغضبه، البنت حميدة حاولت معي وقلت في نفسي إني أخاف الله ولم أذهب إلى موعدها، وحين أخطأت مع البنت تفيدة زوجة حسنين خفير العمدة، ظللت نادما أياما طويلة، وخاصة بعد أن رأيت معها عويس قاهي العمدة، إنها بنت سائبة وزوجها هو الآخر حمار، يتزوج بنتا أصغر من ابنته، ويريدها أن تظل شريفة خوفا من شريطه الأحمر.
وها أنا ذا أتزوج وأنا صغير، حتى لا تستطيع فتاة أن تميلني، ونعمات جميلة، قمر ودمها زي الشربات، أليس من حقها علي أن تجدني رجلا كاملا تحتمي في ظله، وتركن إليه فتجد عنده الأمن والطمأنينة،
ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ، وكيف تسكن إلي إذا أنا بقيت خادم مقهى.
Неизвестная страница
لا، لن أستطيع.
أضحي بكل هذا الذي أنعم به؟
وما الحياة إذا لم نسع في أركانها، ونبحث عن أنفسنا في أنحائها؟
وإن عملي مع لمبرو سيجعلني أتعرف على بيوت الأعيان الكبار في المديرية لا في القرية، وإذا كان في وجهي القبول فمن يدري، ربما وجدت بوجهي هذا عملا خيرا من عمل لمبرو، أو ربما أتقنت العمل مع لمبرو، وعاد علي هذا الإتقان بنفع كبير.
على أي حال العمل مع لمبرو اليوم أحسن لا شك من العمل بالمقهى، وإذا لم أضح بمتعتي فلست خليقا أن أكون رجلا ذا زوجة وبيت ومسئولية.
الفصل الثالث
لا يعرف الحاج محمدين الطوخي عن عائلته إلا أنهم طوال حياتهم في القاهرة ويعملون في بيع القماش، وكل التغيير الذي يذكره عن أجداد الأجداد أنهم كانوا يعملون في الحرائر فقط، حتى تولى المحل جده أبو أبيه الحاج المدبولي الطوخي، الذي ارتأى أن يتوسع في التجارة، وأصبح يعمل في الحرائر والأصواف وجميع الأنواع الأخرى من مخرمات إلى شفائف، ويذكر الحاج محمدين أن التجار الآخرين غضبوا من جده؛ لأنه اعتدى على ما تخصصوا فيه من تجارة، ولكن الحاج مدبولي دعاهم جميعا إلى العشاء واسترضاهم وصفت النفوس، ويذكر الحاج محمدين بفخر أن جده قال لهم على العشاء: وماذا كنتم تصنعون إذا جاء شخص غريب عليكم لا تعرفونه ولا يعرفكم، وفتح محلا أو محلات؟
ونظر بعضهم إلى بعض، وقال الشيخ إسماعيل الحريري لصديقه أبو العلا الصواف: ماذا جرى لنا يا أبو العلا هل أصابنا الكبر؟ لماذا لم نفكر في هذه المسألة من قبل أن يفحمنا بها أخونا المدبولي؟
وحكايات الحاج محمدين كلها لا تخرج عن السوق وأحواله، رابطا دائما بين تجارته والسياسة والاحتلال.
ولم ينجب الحاج محمدين إلا ولدا وبنتا، أما البنت عائشة فقد تزوجها يوسف العقاد ابن صديقه زينهم العقاد، وتعيش مستورة وقد أنجبت بنتين وولدا.
Неизвестная страница
أما ابنه فؤاد فهو حزين من أجله غاية الحزن، فقد تزوج من كريمة بنت الشيخ إسماعيل الحريري، وحملت منه ولكنها ماتت في الولادة ومات معها ابنها، ومنذ ذلك الحين وفؤاد مضرب عن الزواج، يقول كلما فاتحه في الأمر: يا أبويا جربت حظي وعرفته.
ويدمى قلب أبيه: يا ابني ليس لي غيرك. - البركة في أبناء عائشة أختي. - أبناء البنت لأبيهم وأبناء الابن لجدهم. - ربنا يقدم ما فيه الخير يا أبويا.
ويدرك الحاج محمدين أن ابنه يريد أن ينهي الحديث.
ويرى في محيا ولده ما يتكتمه الابن وتبيحه ملامحه، لقد أحب كريمة وكبر الرجال فيه يمنعه أن يعلن حبه.
حين عرف سويلم الحاج محمدين، كان الحاج قليل العمل يكتفي بأن يجلس في الدكان، تاركا البيع والشراء جميعه لفؤاد.
فقد أصبح لمبرو يرسل سويلم وحده ليشتري الأقمشة من الحاج محمدين، وكان في أول الأمر يوصيه أن يترك اختيار الألوان للحاج محمدين أو لفؤاد، ومع التجربة ترك لسويلم التصرف جميعا، فقد أصبح يحسن الاختيار كما أصبح على دراية تامة بأذواق السيدات اللواتي يشترين.
صار سويلم قريبا إلى نفس الحاج محمدين وولده فؤاد، فهما يأنسان إليه ويقبلان على حديثه، يجدان النقاء بغير زيف، والرضى بغير شكوى، وقبول الحياة بغير شروط، فقد تعود كلاهما ألا يجدا عند الناس إلا التذاكي مع الغباء، والسخط بغير جهد، والشروط يضعها كل ابن آدم في عقده مع الحياة، وكأن الحياة أمه التي لم تنجب سواه.
في يوم ذهب سويلم إلى محلات الحاج محمدين فلم يجد فؤاد، فاشترى الكمية التي يريدها وجلس إلى الحاج. - ابا الحاج. - خير يا سويلم؟ - أريد أن أقبل يدك. - أستغفر الله لماذا يا ابني؟ - ربنا استجاب لدعواتك لي. - خيرا؟ - نعمات حامل. - صحيح؟ - والختمة الشريفة. - ألف مبروك يا ولد.
ثم نادى: يا سليمان هات ثلاثة أمتار حرير ياباني فستقي، وقيد ثمنها على حسابي ولفها وأعطها لسويلم.
وأشرقت الفرحة في عيني سويلم، فرح بحب الحاج أكثر من فرحه بالقماش وصاح: والله عندي نداؤك السريع على سليمان يساوي مال الدنيا كلها، إيدك أبوسها، أبي مات وأنا عندي سبع سنوات ولحقت به أمي بعد سنتين، وقد يجد الإنسان المال عند الناس، ولكن الحنان الذي أجده عندك يجعلني أنسى يتمي. - أترضى بي أبا يا سويلم؟ - وأين أنا من هذا؟ - يا ابني أنت طيب ولك قبول، وريحك خفيفة وربنا سيوفقك؛ لأنك تجمع إلى كل هذا الذكاء والمهارة. - يا ابا الحاج الناس قد يخرجون المال، ولكنهم يكنزون الحنان لأولادهم. - وأنت منذ اليوم أخ لفؤاد. - فأنا أعظم الناس حظا؛ لأن ربنا عوضني عن أبي بأبوين. - الخواجة فوكيون رجل طيب يا سويلم. - يا سلام يا ابا الحاج، والله لو كان خلفني ما كان يعاملني هذه المعاملة الطيبة، بعد كم شهر أصبحت أنا الذي أبيع وأشتري وأعمل كافة الأشياء، وبعد الشهر الأول لم يعد يحاسبني قط. - الأمانة عمرها طويل يا سويلم يا ابني. - إن يكن أبواي قد ماتا وأنا طفل، إلا أني يا ابا الحاج تعلمت وحفظت القرآن، وربنا أكرمني كل الإكرام حين عرفت الخواجة الذي عرفني بك. - أرضاك الله يا ابني. - ألا قل لي يا ابا الحاج. - نعم؟ - هو حبيبنا فؤاد عمره كم الآن؟ - آه، لا تذكرني يا سويلم. - قارب الأربعين؟ - يفوتها السنة دي. - ولا زال ... - ويرفض حتى أن أكمل معه الحديث فيه. - واذا جعلته يتزوج؟ - كيف؟ - هذا شغلي. - والله يا سويلم أعطيك مائة جنيه. - حد الله، لماذا تشتمني يا حاج؟ أتسحب مني أعز ما أملك في لحظة إعطائه؟ ألم تقل إنني أخو فؤاد؟ - صدقت. - فأنا الذي سأزوجه. - من؟ - اسمع يا ابا الحاج، الزبائن اللواتي يجئن إلى هنا بنات يحاولن أن يوقعنه ويتزوجنه، وبهذا يجعلنه ينصرف عنهن فهو تاجر لسابع جد، ولا يمكن أن يضحك عليه أحد، وأما سيدات من بنات الأثرياء يجئن في السيارات الفخمة ومعهن السائق والزفة، وغالبا يكن مخطوبات أو غالبا تكون قلوبهن مع أصحاب النصيب. - والله يا ابني كلامك كبير. أستمع إليه وكأنني أنا الشاب وأنت الشيخ، إنما يبدو أن عملنا في التجارة يجعلنا لا نفكر إلا فيها، قل يا سويلم. - العمدة في بلدنا الفؤادية. - اسمها الفؤادية؟ - كان اسمها شقلبان وسعينا حتى أسميناها الفؤادية. - عجيبة. - كأننا أسميناها الفؤادية ليتزوج فؤاد ابنك ابنة عمدتها. -كم عمرها؟ - ستندهش. - كم؟ - خمسة وعشرون سنة. - وما الذي جعلها تنتظر؟ - أكملت تعليمها في الجامعة. - الجامعة وهي ابنة العمدة؟ - عقلها يزن بلدا بأكمله. - ولماذا لم تتزوج زميلا لها؟ - القسمة، زملاؤها كن يخفن منها. - أهي ...؟ - إن لم تكن قمرا في تمامه أكون غير جدير أن تقول لي ابني، لقد صمم أبوها أن يلازمها في ذهابها إلى الكلية والعودة منها، الرجل الذي رباها عم حسنين أبو سعفان، وأقامت والدتها في مصر طوال دراستها في الجامعة. - أليس عند العمدة غيرها؟ - اسم الله عليك، وأرادها أن تتعلم كما لو كانت ولدا. - وهل تقبل؟ - فؤاد متعلم. - ولكن لم يتخرج في الجامعة. - بل تخرج في أحسن جامعة، جامعة محلات الحاج محمدين الطوخي وولده.
Неизвестная страница
ويضحك الحاج محمدين: وكيف سيراها؟ - دع هذا لي. - هل أنت جاد؟ - سأخبرك بالموعد في التليفون حتى تحرص على وجود فؤاد بالمحل. - أنا لن أخبره بشيء. - إياك يا ابا الحاج أن تخبره، سنجعل الموضوع وكأن ابنة العمدة قادمة لشراء لوازمها لا أكثر ولا أقل.
ونادى الحاج محمدين مرة أخرى: يا سليمان.
وصاح سويلم في غضب صادق: إياك يا ابا الحاج، إنما أسعى سعي أخ لأخيه، فلا تفسد علي سعادتي وانشراحي. - ربنا يا بني يكتب لك في كل خطوة سلامة وتوفيق، أدخلت الأمل إلى نفسي بعد أن تملكني اليأس. •••
قال سويلم: يا خواجة أنا عندي فكرة. - قل. - الآن المحلات تملأ الزقازيق، والستات إن كن تعودن الشراء منك، فهن لن يلبثن أن يذهبن إلى هذه المحلات، فهن طبعا يردن أن يخرجن، وأن يكون مجال الاختيار عندهن أوسع. - أنا فاهم هذا. - إذن لماذا لا تذهب إلى القرى، نستأجر سيارة ونذهب مرتين أو ثلاثا في الأسبوع إلى البلاد؟ - فكرة عظيمة يا سويلم، ولكن كيف سنحصل مستحقاتنا ونمر على بيوت البندر؟ - وبيوت البندر أين ستذهب، إنها موجودة ولك علي أمر عليها بعد الظهر في الأيام التي نذهب فيها إلى البلاد. - اسمع سويلم، أنا يا بني كبرت، أنا أشتغل حتى لا أكون عاطلا، أنت تذهب إلى البلاد ومعك البضاعة والمكسب بالنصف. - لماذا النصف هل اشتكيت لك؟ أنت لا تؤخر عني طلبا وأنا راض هكذا. - المكسب بالنصف يا سويلم، أنا عندي فلوس كثيرة ولكن أخشى أن أمرض مرضا أكثر من فلوسي، ولا أريد أن أحتاج لأحد، والناحية الثانية لا تنفع فيها الفلوس، أنا أريدك، أريدك أنت ونعمات في البيت؛ لأنني رأيت فيكما الوفاء والأمانة، وأنا أعلم أنني إذا مرضت لن تتركاني للمرض. - يا رجل أعوذ بالله، من الذي أتى بسيرة المرض الآن يا خواجة؟ - الوحيد لا يخاف شيئا إلا المرض سويلم. - وهل أنت وحيد يا خواجة فوكيون؟ - من يوم مجيئك لم أصبح وحيدا. اسمع سويلم أنت من بكرة خذ البضاعة إلى البلاد، طبعا أول بلد سيكون الفؤادية. ••• - صباح الخير يا حضرة العمدة. - أهلا يا سويلم وبسيارة سويلم. أتكون قتلت الخواجة وسرقت فلوسه؟ - لا قدر الله يا حضرة العمدة، الخواجة لمبرو رجل طيب مثل سعادتك يا حضرة العمدة. - وما هذه الأشياء التي تحملها؟ - بضاعة جئت أعرضها على الست الحاجة والأستاذة وهيبة. - ادخل، الحاجة أمك ووهيبة أختك.
كان سويلم قد انتقى أقل الأقمشة شأنا، وتوقع ألا يعجب الحاجة أو وهيبة شيء مما سيعرضه.
الحاجة سيدة وقور لم تتعد الخامسة والخمسين من عمرها، معتدلة القوام تميل إلى النحافة، في وجهها إشراق ترسل به إليه نفس لم تعرف الحقد يوما ولا الكراهية، يحبها أهل القرية حب أم وأخت، لم تتأخر عن خير تستطيع أن تقدمه.
أما وهيبة فهي فتاة طويلة القامة صبيحة الوجه، بيضاء البشرة، ذات شعر مسترسل ينسكب انسكاب الحرير على كتفيها، وعلى شفتيها ابتسامة تمسكها أن تبقى على رغم أنفها، فكأنما تجد الابتسامة نفسها في غير مكانها، فهي تريد أن تهرب وتولي الأدبار، كأنها لا تعرف لوجودها على هذا الثغر معنى ولا سببا، وفي عينيها الواسعتين الوديعتين قلق يريد أن يعلن الدنيا بوجوده، فترده وهيبة في كبرياء الشريفات وفي ثقة المثقفات، وفي وجهها انسياب حلو فلا هو بالمستطيل ولا هو بالمستدير، لها إطلالة تأمر من يراها أن يشعر بالإكبار والاحترام. - أهلا، أهلا يا سويلم. - أطال الله عمرك يا ست الحاجة. - إن شاء الله تكون مبسوطا. - بركة دعائك يا ست الحاجة.
وأفرجت وهيبة ثغرها عن ابتسامة مرحبة مضيئة: لك وحشة يا ولد يا سويلم، والله أحسسنا بفراغ كبير من يوم أن تركت البلد، وكيف حال نعمات؟ - تسلم على ست الحاجة وعليك، وكانت تريد أن تأتي معي لولا أنها ... - ماذا؟ قل؟ - لا تكسفيني يا ست وهيبة. - لعنة الله عليك، وفيم العجلة يا ولد؟ - قلنا نربيهم ونحن شباب.
وقالت الحاجة: على بركة الله، مبروك يا ابني ألف مبروك.
ثم نادت: يا نوادر.
Неизвестная страница
وجاءت نوادر وقالت الحاجة: مائة بيضة وبرطمان عسل أبيض وضعي متردين قشدة في صفيحة، وضعي كل هذا في قفة صغيرة وأعطيها لسويلم وهو مروح.
وقالت نوادر: إذن نعمات حامل. مبروك يا سويلم يا خويا، هل كان العيل واقفا على الباب؟ النهاية تقوم بالسلامة إن شاء الله. - ربنا يبقيك يا ستي الحاجة، أفضالك سابقة والله لا أنسى عطفك علي وبرك بي، منذ تركني أبي وأمي كنت أحس في حضرتك بالأمن الذي لا أشعر به في أي مكان آخر.
وبدأ سويلم يعرض البضاعة، وصح ما توقعه إلا أن الحاجة قالت: والله القطعة هذه لا بأس بها آخذها.
وقال سويلم: طول عمرك طيبة وقلبك من ذهب، القطعة هذه لا تنفعك، لا تنفع الست وهيبة ولا تنفع نوادر حتى، إنما أنت أردت أن أنصرف من عندك مجبور الخاطر.
وضحك الجميع وقال سويلم: هذا القماش لا ينفعكم، وأنا جئت به عندكم لأراكم، إنما القماش الصحيح موجود. - أين؟
وقطبت الحاجة وجهها: أتخون صاحب عيشك يا سويلم؟ ليس هذا ما أعرفه فيك. - الله يعلم المقاصد يا ستي الحاجة، تأكدي أنني أنا كما أنا لم أتغير، فهذا القماش هو ما تبقى من اختيار السيدات، ونحن نعرف زبائنه، ولكنني أفكر في الست وهيبة وقعدتها في البلد، لا تجد شيئا تفعله. - لا تترك الكتاب من يدها. - ونعم، ولكن النفس تحب التغيير، قلت أعملها حجة وأستأذن حضرة العمدة، ونذهب إلى محلات مصر وتشترين حضرتك لوازمك والأستاذة وهيبة لوازمها، وزيارة وتجارة.
وأشرق وجه الأم وابنتها. - والله يا ولد فكرة، والحاج مسعود لن يرفض.
ويدخل الحاج مسعود: ما هذا الذي لن أرفضه؟
وحين علم قال: وما له!
وقال سويلم: أحضر سيارة وآتي يوم الاثنين الساعة السابعة صباحا، نكون في مصر التاسعة. - وهو كذلك. •••
Неизвестная страница
حين تقدم فؤاد لخطبة وهيبة أدرك الحاج مسعود أبو عطوان ما صنعه سويلم، ورحب العمدة بالحاج محمدين وبفؤاد ترحيبا طبيعيا عن سليقة مواتية، وقال: والله يا حاج من جهتي أنا لا مانع عندي، فأنت تاجر معروف، والرجل حين يكون له مثل اسمك في التجارة لا بد أن يكون شريفا يعرف أصول الناس وأصول المعاملة. - أكرمك الله يا حضرة العمدة. - ولكنك تعلم أن وهيبة تحمل الليسانس.
وقاطعه الحاج محمدين: والله يا حضرة العمدة أنا الذي جعلته يقعد بجانبي في المحل، بعد أن حصل على البكالوريا، فنحن عائلة تجار من جدود والعلم عندنا هو التجارة.
قال العمدة: ونعم الكلام يا حاج، ولكنني أسأت التعبير وليس هذا ما أقصد إليه، فإنه لا عيب في ابننا فؤاد، والتعليم وسيلة للثقافة.
وقاطعه الحاج محمدين: هذا كلام الكبار والله.
وواصل العمدة حديثه: والتجارة تجعل صاحبها أعظم في عمله من الذي حصل على الدكتوراه، وإنما ما قصدت إليه أنني لا بد أن أسأل وهيبة وأجعلها توافق عن اقتناع.
وقال الحاج محمدين : ونعم الكلام. - نحن يا حاج لا نستطيع أن نحمل مسئولية أولادنا وهم كبار، يكفينا مسئوليتهم وهم صغار، ولقد أرادت أن تتعلم وأردت لها ذلك في نفس الوقت، وأنا ليس عندي غيرها، وقلت العلم يجعل من عقلها عقل رجل، والآن وقد تعلمت أصبح من حقها على الأقل أن تختار شريك حياتها. - لقد أوصى النبي بذلك في وقت لم يكن الفتيات فيه عرفن الجامعة ولا حتى المدرسة. متى نرجع يا حضرة العمدة؟ - أسبوع واحد؟ - وهو كذلك. •••
قالت وهيبة: أكون ليسانس في الآداب وزوجي رجل البيت بلا شهادة جامعية؟
وقالت الحاجة: يا بنتي هذا زواج وليس جامعة. - يا نينا البيت يجب أن يكون جامعة للأولاد. - البركة فيك أنت، علمي أولادك علوم المدرسة وأبوهم يعلمهم علوم الدنيا.
وقال الحاج مسعود: يا بنتي لقد تقدم لك الكثيرون من أهل البلد حاملي الشهادات، وللأسف وجدتهم جميعا طامعين في القرشين، أو يريدون أن يتزوجوا بنت العمدة، والمال زائل والعمودية زائلة، لقد كنت مصرا أن يتزوجك من يريدك أنت، وأنت وافقتني ورفضت كل الذين تقدموا، في هذه المرة العريس عاقل وفي غنى عن مالنا، وعرف الدنيا، وجاء يخطب وهيبة، لا يهمه مالها ولا عمودية أبيها، والأمر من قبل ومن بعد لك، قومي يا حاجة واتركيها تفكر. •••
وفيم أفكر، أخطأني الحب، زميلي عزام أحببته وأحبني، لم يزد الكلام بيننا عن جمل تعد على أصابع اليدين، وتركني بعد أن ضاقت به السبل، والحمد لله أنه تركني، لقد تزوج بعد ذلك من ابنة عمه، فهو شاب لا شخصية له، أمره أبوه أن يتزوج فتزوج، ورجل بلا شخصية كالكلام بلا معنى، والأيام تجري، وإن كنت أخفي القلق عن الناس، فهو يمور في نفسي ويثور، يفترسها وينهشها، يقض مضجعي، يحيل ساعات أيامي رعبا وهلعا، أي مصير يمكن أن ألقى إليه إذا لم أتزوج، ولا أخ ولا معين على الحياة بعد أبي أطال الله عمره، هذا زواج منطقي لا عاطفة فيه، والعاطفة لا تغتصب ولا يستطيع أن يخلقها إلا بارئ النفوس، وأين أنتظر العاطفة وأين مني الطرف الآخر فيها وأنا حبيسة البيت، فقد رفض أبي أن أعمل بالليسانس وهو محق، فقد سبق عصره حين جعلني أتعلم، وهو الفلاح القح تحكمه القرية بكل أوضاعها، وقد ارتضى على نفسه تشنيع أعدائه، وأي عمدة بلا أعداء، ومن المستحيل عليه بعد ذلك أن يجعلني أعمل أيضا، وكيف كان يمكن أن أعمل؟ ألم يكف أنه شتت بيته أربع سنوات من أجلي، وسمح لأمي أن تلازمني في القاهرة، وهل يمكن أن يشتت بيته عمره كله، أنا لا أستطيع أن ألومه، وليس من المعقول أن أضع ما أصابته مني ظروف المجتمع على كتف أبي، إن تعليمي كان في ذاته شذوذا عن طبيعة الأمور في حياة مصر، فهل يقبل المنطق أن ألوم أبي اليوم لأنه حقق رغبتي في التعليم؟ أعرف أنها كانت رغبته أيضا لأنه يريد أن يشعر أن ابنته لا تختلف عن الرجال في شيء، أويحسب هذا له أم عليه؟
Неизвестная страница
ترى هل استطعت أن أخفي قلقي عن أمي، هيهات، إن قلقها هي أشد، وأبي أيضا يريد أن يطمئن إلى وجود رجل إلى جانبي، وفؤاد يكبرني بعدة سنوات، ولكن أليس هذا هو الرجل الذي يطمئن إليه والدا البنت الوحيدة، إنهما يريدان رجلا عرف الحياة وعركها، ليكون زوجا وسندا، ولا يهمهما كثيرا أن تتمتع ابنتهما بضع سنوات بزواج شاب يجرب الحياة، ولا يدري من أمرها شيئا، فهو يقدم عليها إقدام الجهلاء الذين يخيل إليهم أنهم أعلم الناس بكل شيء، أما أنا فقد كنت أتمنى شابا نتعرف معا على الحياة، ونخطئ فيها ونصيب، فأغلب الأمر أن فؤاد على الرغم من عدم حصوله على الشهادة العالية، سيكون بالنسبة لي أقرب إلى المعلم، فأحسب أنني قرأت ما يكفي لأن يجعلني أعرف أنني في علم الحياة لن أدري الألف من الباء.
أيهما خير لي، أن أدلف إلى الحياة معصوبة العينين لا أحمل إلا علم الكتب، أم أن أسعى إليها ويميني معتمدة على رجل تمرس بها وعرفها وعرفته، أيهما خير؟
وهل يدري أحد أين الخير؟ إننا نتحسب ونقارن ونزن الأمور بقدر ما تسمح لنا عقولنا، ثم يقع الغيب كما قدر له الله أن يقع. •••
وتم الزواج.
الفصل الرابع
مرت سنوات وعرفت الشيخوخة طريقها إلى لمبرو، وأصبح سويلم يقوم بكل العمل، واكتفى لمبرو بتسلم النقود والجلوس في محل مارك أخي زوجته المرحومة أتينا، ثم بدأ يتخلف عن الجلوس يوما أو يومين في الأسبوع ثم ثلاثة، فرحا بمداعبة مجدي بن سويلم، وحين ذهب مجدي إلى المدرسة كان لمبرو حزينا في وحدته على رغم وجود نعمات بالبيت، فقد تركت العمل ببيت عدلات هانم قبيل ولادتها، وما لها أن تعمل خادمة وقد أصبح العيش ميسورا لها غاية اليسر.
لقد جعل لمبرو منها ومن زوجها أسرته، وكان فرحه بمجدي أعظم من فرحة أبيه وأمه، فقد حقق صراخ الطفل في بيته أملا لم يتصور في يوم من الأيام أنه سيتحقق. كان مجدي بالنسبة لأبويه فرحة الشمس تهم بالشروق، وكان بالنسبة إلى فوكيون لمبرو أمل الشمس تهم بالغروب، فهي تودع الحياة ولا تنتظر منها شيئا.
كان مجدي لأبويه أمرا طبيعي الحدوث، وكان لفوكيون أمرا مستحيل الوقوع، وإن لم يكن ولده. نعم وإن، وقد أسماه هو مجدي لا فهما منه للاسم، ولكن ليكون نطقه سهلا على لسانه الأعجمي.
تحمل لمبرو ذهاب مجدي إلى المدرسة في ضيق شديد، ثم ما لبث المرض أن داهمه، وأصبح من العسير عليه أن يترك الفراش، ولكنه هانئ البال مطمئن، فسويلم يقوم بالعمل، ونعمات مقيمة بالبيت، لم يفكر واحد منهما أن يتركه وحيدا مع مرضه.
وفي يوم عاد سويلم إلى البيت مبكرا بعض الشيء، فلم يجد الخواجة في حجرته. - نعمات أين الخواجة؟ - أليس في حجرته؟ - ما هذا الغباء، أكنت سألت؟ - لا أدري. أنا في المطبخ من الصبح. - هل تناول إفطاره؟ - نعم وتناول الدواء، وكانت صحته طيبة، وترك السرير ليجلس على الكرسي، وتركته أنا وذهبت لشراء الغداء وعدت إلى المطبخ مباشرة، وقلت في نفسي إذا أراد شيئا سيناديني.
Неизвестная страница
ولم يطل النقاش فما لبث لمبرو أن جاء وسأله سويلم: أين كنت؟ - كنت في البنك أسحب قرشين. - ولماذا لم ترسلني مثل كل مرة؟ - اشتقت أن أرى أصدقائي هناك، ووجدت نفسي أريد أن أخرج. - أرجوك يا خواجة، إذا أردت أن تخرج مرة أخرى أخبر نعمات. - طيب، ولو أنني لا أظن أنني سأخبرها. •••
مر على هذا النقاش شهر وبضعة أيام، ثم نادى الخواجة سويلم قبل أن ينزل في الصباح: أين ستذهب اليوم؟ - اليوم لن أمر على بلاد، سأمر على زبائن الزقازيق. - ليس مهما. - لماذا؟ - أنا أريدك. - فيم؟ - اجلس. خذ. - ما هذا؟ هذا شيك أبيض، لماذا لم تكتبه؟ - في هذه المرة أنت ستكتبه. - لماذا؟ أكتبه؟ أنا في حياتي كلها لم أكتب شيكا. - اليوم ستكتب. - أنحبس. - لن تنحبس. - أنا يا خواجة لولاك ما ذهبت إلى البنك في حياتي أبدا. - ستذهب بعد هذا كثيرا. - لا أفهم. - اسمع. أنا ذهبت إلى البنك آخر مرة لأضع أموالي كلها باسمك يا سويلم. - ماذا؟ - ولا كلمة. - ربنا يا خواجة يبقيك، أنت لا تجعلنا نحتاج لشيء. - ولما أموت؟! - علمتني السوق ويكفيك هذا. - ومن يأخذ فلوسي؟
وألجم السؤال سويلم وراح يتهته. - أنت تأخذ هذه الفلوس، هذا حقك، أنا ليس لي أحد في الدنيا، خمسة وعشرون ألفا وأربعمائة جنيه. - يا خبر أسود. أبيض! وماذا أصنع بهذا جميعه؟ - هذا شأنك، وإن كان لي رأي فأنا أرى أن تذهب إلى مصر. وربنا إن شاء الله سيفتح عليك، أنت معك فلوس وتعرف السوق. - ربنا يطيل عمرك. والله أكذب عليك إن قلت إنني لست سعيدا، ولكن هذا كله لا يعوضني عنك يا خواجة، يا أبويا لمبرو. •••
وبعد أيام لم تكتمل شهرا مات لمبرو.
الفصل الخامس
كان طبيعيا أن تزداد الصلة توثقا بين سويلم والحاج محمدين وفؤاد وأسرته الجديدة، وهكذا لم يكن غريبا أن يفرح سويلم فرحا صادقا، حين أنجبت وهيبة ولدها الأول فكري بعد تسعة أشهر من زواجها، وحين حمل الهدية إلى بيت الحاج محمدين حيث يقيم فؤاد ووهيبة لم ينس أن يقول: بينه وبين مجدي عام واحد، وإن شاء الله الحب الذي بيننا يستمر في ولدينا.
وحين مات الخواجة لمبرو بعد ذلك بسنوات لم يكن سويلم قد أطلع الحاج محمدين بما صنعه معه الخواجة لمبرو.
صفى سويلم أعماله بالزقازيق وأقفل شقة الزقازيق، مستبقيا لها لتكون سكنا له إن جاء إلى الزقازيق، وقد نقل العقد إلى اسمه دون أن يجد أي عراقيل من الخواجة مارك صاحب العمارة، واستنتج من ذلك أن الخواجة لمبرو لم يخف عن مارك ما فعله.
وفي القاهرة نزل مع زوجته وابنه في فندق، وتركوا الحقائب واتجهوا من فورهم إلى بيت الحاج محمدين، وحين استقرت بهما الجلسة قص سويلم على الحاج وفؤاد ووهيبة ما صنعه الخواجة، وكان الحاج في شيخوخته ومن العسير على أحد أن يجعله ينبهر لشيء أو يندهش، ولكنه لم يستطع مع حديث سويلم إلا أن يسفر عن ذهول ساطع: ألف مبروك يا سويلم، ولماذا أخفيت علي هذا؟ أنت تعلم كم يفرح له هذا البيت؟ - يا آبا الحاج الأمور تلاحقت كأنما حلم متصل، أنا لم أكن أدري شيئا على الإطلاق، ولم أكن أتصور، إلى أن فاجأني المرحوم بهذا الخبر قبل وفاته بأيام لم تكتمل شهرا، ومرضه جعلني ألازمه ملازمة تامة، وربما احتاج العمل أن أحضر إلى القاهرة، ولكنني امتنعت خشية أن يظن الرجل أنني لم أعد أعنى به بعد أن تنازل لي عن أمواله، وربما خشيت أيضا أن يظن أنني تركته لأحضر إليك خصيصى وأخبرك بما كان، فيشعر كأنني كنت أنتظر ما صنعه أو أتوقعه، والحقيقة يا حاج أنني منذ قال المرحوم ما قال وأنا في ذهول، أنا رجل فقير يا ابا الحاج وهذه المبالغ نسمع عنها ولا نتصور أن نتعامل معها أبدا.
وقال الحاج: أنت رجل طيب يا سويلم، وقد بقيت وفيا للرجل، وقدر هو معروفك وأمانتك.
Неизвестная страница
وقال فؤاد: والله إنك تستاهل أكثر من هذا.
وقالت وهيبة: الوفاء والأمانة في هذا الزمن يستحقان ما نلته يا سويلم.
قال سويلم: الرجل قال لأقاربه حتى لا يسألني أحد، وكتب ورقة قال فيها إنه لا يملك شيئا على الإطلاق يحميني بها من الضرائب ومن الجميع.
وقال فؤاد: وماذا تنوي أن تفعل؟ - وهل فكرت؟ وهل أدري؟ ها أنا ذا جئت لكم وأنا ليس لي أهل إلا أنتم.
ونظر فؤاد مليا إلى سويلم ودار بعينيه في الجالسين، كان الطفلان يلعبان في حجرة أخرى فقال فؤاد فجأة: وهيبة ألا تأخذين قريبك وزوجته إلى حجرة مكتبك، وتأمرين لهما بفنجان قهوة آخر. واجعليه سكر زيادة مثل الشربات.
وضحكوا وفهمت وهيبة الإشارة التي لم تخف عن سويلم ونعمات، وقام ثلاثتهم وانفرد فؤاد بأبيه ولم يطل انفراده به ثم نادى: وهيبة، تعالوا.
وحين جلسوا قال فؤاد: أبوك الحاج سيأخذ منك خمسة آلاف جنيه.
وابتسم سويلم: والمبلغ كله والله العظيم وأنا الكسبان وهذا هو الشيك.
وضحك الحاج محمدين في سعادة وانشراح، وقال له: اكتب الشيك.
وفعلا كتب سويلم الشيك وسلمه للحاج، وأمسك الحاج به وراح يهزه: هكذا دون أن تسأل لماذا أو فيم أو تطلب إيصالا؟ - أتريد أن أكتب شيكا ببقية ما أعطاه لي الخواجة، وبدون إيصال أيضا وحياة مجدي.
Неизвестная страница
وضحك الجميع وقال فؤاد: أطال الله لك عمره، ما لك كسلت بعده ولم تأت بأخ؟ - أخ. أفهم من هذا أن الست وهيبة حامل. - العقبى لنعمات. - ألف مبروك. - ألف مبروك، سويلم لا يريد أن آتي لمجدي بأخ أو أخت.
وقال الحاج: ربما غير رأيه الآن بعد أن صار من الأغنياء.
وقال سويلم: لا والله يا حاج، الأمر وما فيه أنني أريد أن أكرس حياتي كلها لمجدي، وبالعكس بعد ما جاءتني هذه الثروة أصبحت أتصور أنها حقه هو، ولا يجوز أن يشاركه فيها أحد. - ربنا يبارك فيه، اسمع إذن الكلام المفيد، بجانب محلاتنا أنا وأخوك فؤاد لنا مخزن بابه مقفل، لم يعد له لزوم عندنا الآن، بعد أن اشترينا مخزنا كبيرا واسعا في السيدة زينب. - شيء لله يا رئيسة الديوان. - ربنا يجعلنا من بركاتها، هذا المخزن وصل ثمنه أمس إلى ستة آلاف جنيه، أنا بعته لك بخمسة آلاف، وأنت وفؤاد تتحدثان بعد هذا على مهلكما في كيفية فتح محل لك بجانب محلاتنا، وبذلك تكون محلاتنا قد زادت بابا ، فمحلك محل جديد لنا، وعلى بركة الله اكتبي العقد يا ست وهيبة.
الفصل السادس
بدأ سويلم تجارته الثابتة واحتفل به الحاج محمدين وابنه فؤاد، وبذلك أعلنا للحي أجمع أن التاجر الجديد ليس منافسا وإنما هو واحد من الأسرة.
ولكن الأيام تأبى أن تمضي في مجرى واحد لها، ولكل حياة غاية، وكانت حياة الحاج محمدين قد بلغت غايتها، واختاره الله إلى جواره قرير العين بابنه وبحفيديه فكري وإلهام وبعائشة ابنته وأبنائها وبناتها الذين أصبحوا أربعة نفر.
قريرا بذلك الفتى الذي عرفه فلاحا قادما كعود أخضر من بلده بالشرقية، حتى صار أحد تجار المنطقة موفور المال عزيز النفس كريما على نفسه وعلى الناس.
ذهب الرجل في موعده إلى لقاء الحي القيوم، وترك الدنيا وقد حققت له من المال ما نظر إليه. •••
البيت منذ اللحظة الأولى لم يعجب وهيبة، ولكنها لم تشأ أن تدخل بيتا فتشتت شمله وتفرق جمعه، وسويلم أقام بعد أيام من قدومه في شقة صغيرة اعتبرها مسكنا مؤقتا، فلم يكن غريبا أن تدعو وهيبة سويلم وزوجته إلى الغداء حين الطفلان في المدرسة، وبعد الغداء يتضح ما تبيته وهيبة. - صلوا على النبي جميعا. - وعليه ألف صلاة وألف سلام. - هذا الغداء غداء عمل.
وقف فؤاد في حركة سريعة ذكية: الله أكبر، ستغير بيتك يا سويلم.
Неизвестная страница
وصفقت له وهبية: ما هذا الذكاء؟
وضحكوا جميعا وقال سويلم: هل سأغير بيتي وحدي؟
وقال فؤاد في استسلام: أنا كنت أعرف مصيري وليس في الأمر مفاجأة لي، أما أن تدعوك أنت ونعمات، فهي إذن قد بيتت أمرا لي ولك ووقعتنا ...
ويقاطعه سويلم: بيضاء إن شاء الله، قولي.
وقالت وهيبة: أنتما تاجران، أليس كذلك؟
ويقول فؤاد: المقدمة مخيفة يا ولد يا سويلم.
وتقول نعمات: يا أخي انتظر حتى نرى ماذا تريد الشابة أن تقول.
وتقول وهيبة: قولي له والنبي، بدلا من أن ننتقل إلى شقة بالإيجار أنا وجدت عمارة بأكملها في المعادي.
ويرين الجد على الحاضرين ويأخذ الرجلان في التفكير، وبعد صمت ليس طويلا يقول سويلم: لمن العمارة هذه؟
وتقول وهيبة: نشتريها معا.
Неизвестная страница