Мустафа Нахас

Аббас Хафиз d. 1378 AH
70

Мустафа Нахас

مصطفى النحاس

Жанры

وابتدأ المغير المنتصر يقتص من الصامدين له، ويتعقب الذين ناهضوه وقاوموه؛ فجرت محاكمات، ووقعت عقوبات، واختنق الجو بأنفاس التهم والدسائس، وساد الأفق ظلام مخيم رهيب، توارت فيه الوطنية المصرية تلتمس المنجاة خيفة البطش، وتلوذ بالمكامن خشية الطغيان.

ولكن الوطنية ظلت في قيد الحياة، وبقيت سارية تحت التيار، فكان أول يوم في الاحتلال هو كذلك أول يوم في عذاب الوطنية الحزينة الجريح، الوطنية التي تخشى أن تذهب كلمة ماكرة بحياتها، وتجد أشد ألوان العقاب على مجرد الاتهام أو محض الارتياب.

وأعقب السنين الأولى من «التصفية» التي عمد الاحتلال إليها للاطمئنان بأنه قد استأصل الوطنية المصرية من الجذور، وأخمد حركتها فلم تعد ترسل ولا أنفاسا من لهب، ولا ذوائب من دخان. أعقب تلك السنين عهد لورد كرومر، وهو عهد من عهود السياسة الإنكليزية في مصر لم يمر على البلاد مثيل له؛ فقد جمع يومئذ بين العنف واللين، والصرامة والتسامح، واستعان الترغيب والترهيب، فكان في ذلك كله عهدا أفتك أسلحة من كل العهود، وكان مرحلة من أخطر المراحل التي مرت على الوطنية المصرية في مجتازها إلى الحركة القومية الثانية التي كانت تعدها العناية الإلهية ويتمخض عنها الزمان.

بيد أن الوطنية المصرية لم تلبث أن وجدت معوانا جديدا ، وظفرت بعامل آخر من العوامل الصالحة لها، الكافلة لتغذيتها، وهو «الصحافة» وقيام الأحزاب؛ فقد ظهرت البوادر الأولى للصحافة في تلك الفترة الساكنة في الظاهر، وإن كانت في الباطن فترة تجمع الأبخرة المحتبسة في جوف البركان، وكان لورد كرومر من الدهاء ولطف السياسة وبراعة الوسائل والأساليب بحيث لم يعمد إلى مقاومة هذا العون الجديد، وإنما رأى أن يصانعه ولا يشتد في محاربته، أو على الأقل لا يتظاهر صراحة بمقاومته ومناوأته؛ فبدأت الصحافة تنمو، وراحت تشب وتترعرع وتسري رويدا، وينفسح لها المضطرب، ويتسع لها الفضاء.

وكان الخديو الجديد عباس الثاني الذي تولى الأمر بعد الثورة الأولى قد اتخذ موقفا دقيقا للغاية، وسلك مسلكا يدل على يقظة وحذر بالغ؛ إذ كانت دعوى الإنكليز في احتلال البلاد من أنهم جاءوا لحماية العرش لا تزال الحجة التي يبررون بها بقاءهم، وكانت تلك الحجة هي أصل المصاب وسر النكبة، وكان الخديو الجديد الذي ورث أعقاب ذلك المصاب وتركة ذلك البلاء، يعرف مبلغ الأكذوبة التي تنطوي تلك الحجة عليها، كما رأى نفوذه الذي قيل إن الاحتلال إنما أتى ليؤيده، ولم يجئ إلا ليصونه، قد وجد من مدعي حمايته وزاعم صيانته افتياتا تدريجيا عليه، وقصا على مهل من أطرافه؛ فلم ين أن أخذ يقاوم أحيانا ويدع المقاومة أحيانا أخرى، ويصانع في شيء ويصمد في شيء، وهو بين ذلك عجيب السياسة، غريب الأساليب.

وكان هناك عامل آخر من الخارج يحرض سرا على المقاومة، ويبث في الخفاء روح الاعتراض والمغالبة إزاء سياسة الاحتلال وسلوكه وتصرفاته، وذلك العامل هو الدولة العثمانية بحكم سيادتها التي اعتدى عليها ولم تستطع أن تفعل شيئا، وتريد أن تنجو تابعتها من النير الطارئ الذي وضع فوق عنقها، وقد وقفت هي تشهد ذلك عاجزة.

وكذلك سارت هذه العوامل الثلاثة صدرا لصدر، تتجاوب وتتعاون على المقاومة ولكن في حذر، وفي غير كبير أمل؛ لأن الأمة كانت قد خرجت من الثورة العرابية بكراهية للسياسة، ونفور من السياسيين، وإشفاق من أشباح الماضي القريب وذكرياته الدامية، ولكنها مع ذلك لم ترتض الاحتلال لحظة واحدة ارتضاء تسليم وقبول، وإنما خلت إلى وطنيتها الحزينة وشعورها المكتئب صابرة متجلدة، ولكنه صبر لا يتاخم الذل، ولا يجاوز حدود المهانة والإذعان.

وكما كان الخديو ماضيا في سياسته اللولبية، كانت الصحافة ممثلة في «المؤيد» بادئ الأمر تعمل من ناحيتها ولكن بحذر أيضا ورفق ومخاوف، وكان الصحفي الكشاف من الأزهر كذلك شيخا مجاورا على جانب كبير من الذكاء، وقد أوتي حظا خارقا للمألوف من اللباقة وبراعة التناول ومهارة الأداء.

ذلك هو الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد، ذلك العصامي العجيب الذي سار بالصحافة في طريقها الجديد لولبيا كروح العصر، مواربا مماذقا وفق طريقته وأسلوبه، ولكنه وطني مع ذلك كله، ووطنيته متمشية مع الزمن ومراعية في مسالكها الظروف والموقف والاتجاه.

وفي ذلك الحين كان في مدرسة الحقوق شاب ذكي يطلب العلم، وقد بدأ يفهم المحيط السياسي الذي يكتنف حياة بلاده، وإن كان فهمه له فهم الشباب قبل أن تصقلهم الخبرة، وتعالجهم التجربة، ويفتح أعينهم على سعة أحداقها الاندماج في البيئة، والتوغل في الدرس والبحث والازدكار.

Неизвестная страница