ومما يستحق الذكر بسبيل هذا أن «جون نينه» الذي كان مرافقا «لعرابي» أكد في كتابه عنه أنه في الوقت الذي بلغ فيه الأسطول البريطاني بورسعيد يحمل ولسلي وجنوده، تلقى عرابي من فردينان دلسبس حافر القناة الرسالة التالية:
لا تحاول سد قناتي فإني هنا، ولا تخش شيئا من هذه الناحية، فإنهم لن يستطيعوا إنزال جندي إنكليزي حتى يكون إلى جانبه جندي فرنسي، وأنا مسئول عن كل شيء.
ويقال إن دلسبس بعد أن احتل الإنكليز القناة راح يعلن أن نزوعه إلى جانب «عرابي» كان ناشئا من مجرد خشيته على القناة أن ينالها عرابي بسوء، وأنه لما رأى الإنكليز كافين للدفاع عنها وحمايتها كف عن ذلك النزوع.
لقد كان عرابي كما قلنا وسط غمرة محيطة به، فلم يلبث أن جاهد بآخر قواه لينهزم شريفا، أو يدافع غير منتصر، إذ لم يعمد إلى تهيئة خطوطه الدفاعية في التل الكبير إلا بعد أن كانت القوات الإنكليزية قد احتلت قناة السويس، وعرت الحدود الشرقية من كل دفاع.
لقد أنقذت إنسانية «عرابي» - وقد تغلبت في ذلك الموقف الدقيق على «وطنيته» - العالم الحديث من خسارة هذا الطريق السلطاني العظيم الذي ساعد الحضارة على الانتشار، ومد لها في السلطان، وكان لها المخرج المأمون من أخطار الطواف بالرجاء الصالح، حتى لقد قال الجنرال ولسلي يومئذ: «لو أن عرابي سد القناة كما كان ينوي لكنا الآن لا نزال في البحر محاصرين مصر، ولكن عرابي تردد أربعا وعشرين ساعة، فكان تردده هذا سببا في نجاتنا.»
كان عرابي وطنيا مخلصا، يحارب وهو ضعيف قليل الأنصار، قوات رهيبة تتسلح للتغلب عليه بعدة أساليب ومختلف وسائل، ولا تكتفي في ذلك بالمدفع والسيف، فإن إنجلترا ذهبت تستعين عليه بما هو أشد من هذين السلاحين فتكا وأفعل أثرا، فراحت تطلب إلى سلطان تركيا أن يعلن المصريين أن عرابي قد شق على خلافة المؤمنين عصا الطاعة وجنح إلى العصيان، كما جعلت تسخر سلطة الخديو توفيق في حض الضباط والجنود والأعيان على خذلان عرابي والانضمام إلى الإنكليز، بل عمدت إلى سلاح آخر - وهو الرشوة - للتغلب عليه، فجعلت ترشو الأعراب في الصحراء، وتشتريهم بالمال حياله، وتستعينهم على ما أرادته به، حتى استطاعت رشا البدو والأعراب من غزة إلى السويس، وقد قال أحد أعوانها في هذه الناحية إنه أنفق عشرين ألفا من الجنيهات على القبائل الضاربة في تلك الأنحاء.
وكذلك ظل قائد القوات الإنكليزية - وهو الجنرال ولسلي - متريثا متمهلا حتى يصيب ثمرات مكائده وأساليبه الخفية، ثم يقدم على المعركة الحاسمة، وقد استبطأته حكومته وقلقت لهذا التمهل منه؛ فجعل يؤكد لها في رسالاته وتقاريره أنه سوف لا يضرب الضربة الأخيرة قبل الثالث عشر من شهر سبتمبر، وهو تاريخ معركة «التل الكبير»، تلك المعركة التي بوغت فيها عرابي في فحمة الليل وسكون الظلام ونومة الجند، فهب مجفلا هو وقواته على دوي المدافع وقصف الرصاص ومحاصد الحياة بمناجل الموت.
وقد رأيت قوما يعيبون على عرابي ما يسمونه «فرارا» من الموقعة وجبانة من الموت، ولكني لا أعتقد ذلك، ولا أقول قولهم، فإن تراجع عرابي إلى القاهرة لا معاب فيه، إذ لم يكن فرار جبن، ولا هرب خيانة، ولا أبوق رعديد، ولكنه أوى إلى القاهرة للدفاع عنها، وإن كان دفاع اليأس كما كان الروح العام في القتال من بدايته، ولو أنه أراد نجاة من الموت بالفرار لالتمس سبيلا أخرى إلى غير القاهرة، ولما عاد إليها راح يستجمع القوى، ويحاول الذياد إلى اللحظة الأخيرة، ولكن الروح المعنوي في البلاد كان قد تحطم بعد أن أضحى العدو المغير على الأبواب، ففزع عرابي إلى سلطان الدولة، ولكنه لم يجد ثم نصيرا.
ودخلت قوات الإنكليز القاهرة في الرابع عشر من شهر سبتمبر سنة 1882، فتمت «المأساة» وحق مصرع الوطنية اليائسة، وابتدأت فواجع الوطنية الحزينة، وطنية المنهزم المتألم، وطنية الحق الذي غلبه الباطل ليتمكن منه إلى حين.
وكذلك فشلت الحركة القومية الأولى؛ لأن بريطانيا تدخلت فأفسدتها في ذاتها، وحرشت بعضها ببعضها الآخر، فأحبطتها بحملتها، ولولا أنها تمكنت من تلك الحركة الوطنية الباكرة واستغلتها لمصلحتها، لكانت مصر اليوم في صف أكبر الدول وأرقى الشعوب. •••
Неизвестная страница