وفي حمية الشباب، وبشعلة الذكاء والإحساس المستجيب للخطابة والإنشاء، بدأ ذلك الشاب الجديد يبرز من المدرسة ولم يكن قد خرج بعد منها؛ إذ انثنى ينشئ - وهو طالب - صحيفة مدرسية، ومضى في حشد يحشده من إخوانه ورفقائه يقف على طريق الخديو في روحاته وغدواته ليؤدي تحية الوطني المخلص لولي البلاد، ويهتف بحياة حاكمها الشرعي، وينبه ذلك الحاكم المتململ من السلطان المشترك مع سلطانه، بل الجائر عليه في قسمة السلطة والنفوذ، إلى أن هناك جيلا جديدا يستجيب له، وشبابا يتأهب لتأييده.
ذلك هو الشاب مصطفى كامل، إذ ليس من شك في أنه كان زعيم الشباب في الحركة الوطنية الثانية بعد فشل الثورة العرابية، وكان وطنيا مستحمي المشاعر، ملتهب الوجدان، غزير الغريزة، زاخر الفيض بالأمل في نهضة وطنه من كبوته، ويقظته من خمود حركته، والمسير به إلى ربوة الحرية وهضبة الاستقلال.
مصطفى كامل.
والتفتت العوامل الأخرى لهذا الوطني الجديد، فجعلت في الخفاء تشجعه، وراحت سرا تؤازره وتدفعه؛ فما لبث بعد ترك مكانه في المعهد العلمي أن اتصل بالقصر، وأقام علاقة خفية بينه وبين تركيا أو دار الخلافة، وراح هو من جانبه يضع كل قلبه في العامل الوطني البارز للناس، وهو «الصحافة»، فاستطاع بفضل المساعدات التي جعلت تتوارد عليه إنشاء صحيفة «اللواء»، وهي في الحق الصحيفة الوطنية الأولى في ذلك الدور الدقيق من أدوار الحركة المصرية، بل الصحيفة التي راحت تغذي الشعور القومي وتنميه، وتستثيره إلى الإفاقة والنهوض.
وكذلك قامت في البلاد صحيفتان وطنيتان: المؤيد ثم اللواء، ولكن طريقهما في الواقع لم يكن واحدا، ومسيرهما لم يكن مؤتلفا، واتجاههما لم يكن مشتركا ولا متفقا؛ إذ جعل «المؤيد» كل وطنيته في مناوأة الإنكليز لمصلحة الخديو ليس أكثر، وإن كانت وجهة تلك المصلحة متفقة أحيانا ومصلحة مصر نفسها، مصر العانية المتألمة المغلوبة على أمرها المستبد بها من جميع الجهات، وجعل «اللواء» كل وطنيته منصرفة إلى استنهاض الشعب، ومحاربة السياسة الاستعمارية، ومناوأة الاحتلال، وإن ظل بحكم المعونة التي كان يتلقاها من الخلافة يدافع عن السيادة العثمانية، ويدعو إلى الجامعة الإسلامية، ويؤلب الشرق على الإنكليز.
على أن دعايته لتركيا لا تقدح في وطنيته، ولا يمكن أن تكون عابا في حق إخلاصه، أو ذاما بالنسبة لنزاهته؛ لأنه في الحق كان يدافع عن استقلال وطنه، ويريد أن يستعيد الحرية لبلاده، وإنما جعل أمر السيادة العثمانية سلاحا آخر في يده، وظهيرا إضافيا يقوي موقفه، ويشد أزره، ويزيد في بيان أحقية دعوته، كما جعل من سياسته ووجوه دفاعه الوطني الالتجاء إلى أوروبا، لحمل دولها على إنقاذ مصر من الاحتلال.
وكذلك كان مصطفى كامل الداعية الأول لمصر في الخارج، حتى لقد قام برحلات كثيرة إلى أوروبا وطوفات بأرجائها، واتصل بكبار ساستها وأهل النفوذ فيها، وخطب في أكبر ندواتها، وأولم أعظم الولائم لإنارة الرأي العام فيها بسبيل قضية مصر ومأساتها، وكان حركة دائمة ملتهبة على فرط تحوله ودقة بدنه ووهن صحته.
ولكنه لم يكن ليأبه بحق بدنه أو يحفل بقواه؛ لأن روحه كانت زاخرة بالقوة، مستفيضة بالعزم، مترعة أملا ويقينا وإرادة شماء.
وقد حارب كرومر في مصر محاربة دائبة، وقاوم اتفاقية السودان في سنة 1899، واستنكر أشد الاستنكار الاتفاق الودي الذي انعقد بين فرنسا وإنجلترا في سنة 1904، وهو ذلك الاتفاق الاستعماري الرهيب الذي تفاهم فيه المستعمران المتنافسان، وتراضيا على أن تطلق فرنسا يد إنجلترا في مصر، مقابل أن تطلق إنجلترا يدها في مراكش والمغرب الأقصى، وكان مصطفى كامل يظن أن فرنسا قد تعينه وتنتصر لندائه، وكان يتصورها بألوانها القديمة، نصيرة الحرية وحقوق الإنسان؛ حتى لقد قدم في بداية جهاده قبل ذلك بسنين كتاب استغاثة إلى شيوخ فرنسا ونوابها، وشفع الكتاب بصورة رمزية رهيبة بارعة الخيال، صورة مصر سيدة عارية الجسد مكبلة بالسلاسل والأغلال، يمسك بها أسد رابض، وعن يسارها شيخ متكئ على إناء تتفجر منه أمواه النيل، وبجوار الأسد رجل قابض على سيفه وواضع قدمه في الماء؛ رمز الاحتلال!
ولكن مصطفى كامل الشاب لم ييأس، وهو القائل: «لا معنى للحياة مع اليأس، ولا معنى لليأس مع الحياة»، وإنما راح يواصل جهوده ناشرا في العالم ظلامة مصر مستثيرا الدنيا إلى حديث وطنه المعذب الأسير.
Неизвестная страница