71

ثم ارتمت بين ذراعيه.

الأمير بدر الدين بيليك

«عندما تعصف الأهواء بالحكمة، كم من ضحايا ذهبت في سبيل الأهواء الصغيرة التي مهدت طريق الأمم المنحدر نحو الفناء!»

سار الموكب العظيم عائدا من بلاد الشام، وكان فرسان المؤخرة يسوقون الأثقال من غنائم أرمينية وأذربيجان وآسيا الصغرى والقوقاز. ولكن السلطان العظيم بيبرس الذي عاد بتلك الغنائم لم يكن على رأس الجيش في صدر الموكب. كانت المحفة البديعة المزركشة بالأبنوس والعاج والصدف تسير متئدة فوق أعناق الإبل، والفرسان يرفعون نحوها أعينهم في خشوع إذ كان فيها قائدهم العظيم الذي صرعه المرض. وكان الأمير بدر الدين بيليك نائب السلطنة يسير مطرقا على ظهر جواده الأبيض إلى يمين المحفة، يلفت رأسه بين حين وآخر فيرمقها بحزن.

وكان الصمت يلف الصحراء إلا من وقع أخفاف الإبل وحوافر الخيل على الرمال الناعمة.

واشتد حر الظهيرة، وبدا الكلال على الخيل بعد أن واصلت السير إلى مطلع الفجر، فأمر بدر الدين بدق الكئوس مؤذنا بوقوف الركب للراحة. وأنزلت المحفة في رفق فوضعت فوق الرمل على قوائمها، وأشار نائب السلطنة إلى الفرسان المحيطين بها أن يذهبوا ليستريحوا ساعة. فلما بعدوا عنه رفع الستار عن المحفة وانحنى في خشوع كأنه يحيي مولاه، ولكن المحفة كانت خالية ليس فيها شيء.

وبعد قليل أتى إليه صديقه الأمير قلاوون صهر السلطان ومعه الطبيب، فدخلا إلى المحفة وانحنيا بالتحية كما فعل بدر الدين، ثم تراجعا إلى الوراء وأعادا التحية وأسدلا ستار المحفة الخالية. ثم جلسوا عند باب المحفة ليعدوا نشرة الطبيب معلنة أن السلطان يتماثل للشفاء.

وسار الموكب يوما بعد يوم، والمحفة الخالية محمولة في وسطه، والأمير بدر الدين يرفع عنها الستار في كل يوم مرتين، ويدعو الطبيب إلى زيارتها، ثم يذيع في الجيش أن الملك الظاهر يتنسم في هذا السفر نسيم العافية. وبلغ الموكب أرباض القاهرة، وخرج الناس إليه ألوفا ليستقبلوا بطلهم العظيم بيبرس. •••

وكان الأمير محمد بركة بن بيبرس جالسا في الإيوان الكبير في قلعة صلاح الدين ينتظر موكب والده ومن حوله أمراء الدولة. وكانت الشمس تطل في الإيوان فاترة من خلال النوافذ ذات الزجاج الملون، فشاع الضوء الرقيق في جنباته يكسو أرضه الرخامية بألوان متناسقة مختلفة، بين الأحمر والأزرق والأخضر والبرتقالي. وكان الأمير محمد ولي العهد جالسا فوق كرسي عال من الأبنوس المطعم بالعاج والصدف، إلى جانب كرسي السلطان الرخامي القائم في صدر الإيوان على هيئة المنبر.

وجلس إلى يمينه ويساره أهل الدولة في ترتيبهم المرسوم، ووقف من ورائه كبار الأمراء أصحاب المشورة، وتفرق الحجاب والمماليك في جوانب الإيوان الفسيح في ملابسهم المختلفة الألوان وأقبيتهم الصفراء الحريرية.

Неизвестная страница