72

وبعد حين دقت كئوس الموسيقى تحت نوافذ الإيوان مؤذنة باقتراب طلائع الموكب، ثم سمعت ضجة الموكب، فوقف كل من في المجلس ليستقبلوا السلطان.

ودخل نائب السلطنة مطرقا يسير في بطء، حتى إذا ما صار على بضع خطوات من الأمير انحنى بالتحية حتى لمس بأطراف أصابعه بساط الإيوان، ثم رفع يده إلى فمه فقبلها ووضعها على رأسه، وتقدم خطوة أخرى وانحنى بالتحية مرة أخرى، وتقدم خطوة ثالثة وأعاد تحيته، ثم وقف متجها إلى الأمير خاشعا. فساد الصمت، وفتح الحاضرون أعينهم من الدهشة؛ إذ رأوا نائب السلطنة يحيي ولي العهد مثل تحية السلطان العظيم.

ورفع بدر الدين يديه بالدعاء قائلا: حفظ الله مولاي وأحسن عزاءه ...

ووقف مطرقا، وساد الصمت لحظة، ثم ضج المجلس ضجة الدهشة والمفاجأة، وشاعت الأنباء سريعة في القاهرة أن السلطان الفاتح بيبرس قد دفن في دمشق، وأن الموكب الذي أقبل إلى مصر إنما كان يحيط بمحفة خالية.

واعتكف الأمير بدر الدين بعد ذلك في داره لكي يذوق شيئا من الراحة بعد سفره الطويل، وما كان فيه من مشقة الجسم وكد القلب، فلم يذهب إلى دار النيابة، ولم يبكر إلى خدمة السلطان الجديد، ولم يذهب لعزاء السيدة الوالدة في زوجها العظيم. ولم يشعر بالراحة إلا بعد أيام، فاستطاع أن ينزل من دار الحريم ليجلس في البهو الفسيح من دار الرجال، وكان ذلك المكان آية من آيات الفن، تحليه النقوش الدقيقة بألوان متداخلة يمازجها الفضي والذهبي والقرمزي، وكان حول الجدران من أعلاها إطار كتبت فيه آيات من القرآن بأقلام نوابغ فن الخط، ووزعت حول البهو تحف مختلفة تتصل بذكريات الحوادث التي مرت بصاحب الدار في حياته المضطربة، وكان أثاث البهو يغطي كل جوانبه وأركانه، حتى لم يكن فيه موضع تظهر منه أرضه الرخامية التي كانت تحليها نقوش من الفسيفساء والأحجار الملونة. وكان في وسط البهو «فسقية» من الرخام الأبيض، رسمت في قاعها أنواع من الأسماك، فإذا امتلأت بالماء في فصل الصيف خيل إلى من ينظر إليها أن الأسماك تتلاعب في بحيرتها.

جلس الأمير بدر الدين على مقعد في الصدر، وجعل يجيل بصره في التحف التي تحيط به. فهذه ستارة من الحرير المذهب من غنائم أنطاكية، وإلى جانبها جوشن أهداه إليه السلطان اعترافا ببسالته في حرب التتار عند حلب، وذاك سيف يعيد إليه ذكرى قاسية، فهو سيف «ليفون» الشاب ابن ملك الأرمن الذي تصدى له في موقعة «سيس» على نهر الفرات وكاد يقضي عليه لولا أن عثر الجواد بالفتى فأوقعه على الأرض، واكتفى بدر الدين بأن أخذ منه السيف بعد أن أسره. وهناك غير ذلك كله حلل كثيرة زاهية الألوان مزركشة بالذهب علقت في كل منها منطقة من الذهب الخالص، وهي الجوائز الكثيرة التي أنعم بها السلطان العظيم عليه في مباريات الرماية ولعب الكرة بالصولجان وفي سباق الخيل.

جلس الأمير يستعيد أحداث ذلك الماضي المليء، ثم تنفس نفسا طويلا عميقا كأنه عاد من رحلة طويلة، وأحس في نفسه انقباضا شديدا وهو يستعيد ذكرى ماضيه؛ لأن السلطان الجديد لم يبعث إليه رسولا في هذه الأيام التي قضاها في داره يستريح، ولم يرسل في طلبه ليشارك في الموكب العظيم الذي يشق فيه السلطان الجديد عاصمة ملكه لأول مرة.

فخرج إلى حديقة قصره ليسري عن نفسه، وأخذ يتمشى في مسالكها الضيقة المتعرجة بين أحواض الورد الأصفر والأحمر وحصا البان والعتر وبين الأشجار النادرة التي نقلها من بلاد الشام من مشمش وبرتقال وتفاح.

وكان هواء الأصيل يهب باردا على غير عادة تلك الأيام من شهر أغسطس، فبعث فيه برد الهواء نشاطا أزال عنه كثيرا مما خيم على نفسه من الانقباض والغم.

ومال في ركن من الحديقة إلى أريكة تظللها فروع غزيرة من الياسمين، فاضطجع يستريح، فأتى إليه خادمه مسرعا يخبره أن السلطان بعث إليه رسوله يستدعيه.

Неизвестная страница