وهيهات لا تفنى جميعا وإنما
لديك من الأسرار باق مخلد
ولما يقنع الفيلسوف بهذه الأقوال المبهمة الساذجة حاول أن يضع مبدأ أساسيا يحيط بكل موجود، وعنه يصدر كل شيء، قال قائلون: «لا شيء غير الروح، وليست المادة إلا ظاهرة من ظواهرها.» ويسمى هؤلاء بالروحانيين، وقال آخرون: «لا شيء غير المادة، وليست الحياة والحركة إلا وظيفة من وظائف المادة أو صفة من صفاتها، حتى إذا عرا المادة الانحلال فلا حياة.» ويسمى هؤلاء بالماديين، وذهبت طائفة ثالثة إلى أن هناك أساسين متحدين امتزج بعضهما ببعض؛ وهما: المادة والروح، ويسمى هذا المذهب «بالاثنينية» تمييزا له عن القولين الأولين الذاهبين إلى أن هناك أساسا واحدا؛ إما المادة أو الروح، ويسمى مذهب هؤلاء «بالواحدية». (1) المادية والروحانية
في إحدى حجر الفاتيكان صورة شهيرة في حائط صورها «روفائيل» تسمى مدرسة أثينا، مركز هذه الصورة أرسطو وأفلاطون يحيط بهما أتباعهما وتلاميذهما، وفيها يشير أفلاطون بإصبعه إلى السماء، وأرسطو يصغي إلى قوله في فتور مشيرا بيده اليمنى إلى الأرض. هذه الصورة تمثل تاريخ المذاهب في أثينا، بل وتمثل تاريخ الفكر الإنساني والنظريات الفلسفية في كل العصور، تمثل المادية والروحانية اللتين ثارت الحرب بينهما من ذلك العهد إلى الآن، فالروحانية تشير إلى السماء، والمادية إلى الأرض.
المادية
تطلق «المادية» على المذهب القائل بأن الظواهر المتعددة للأشياء ترجع إلى أساس واحد (هو المادة)، ويرى أن العالم مجموعة مكونة من شيء واحد، ويذهب إلى أن المادة أساس كل شيء، وينكر وجود روح قائمة بنفسها قد تتصل بالمادة وقد تنفصل عنها «كالحصان يربط في العجلة ويحل منها»، قال موليشت: «مضى الزمن الذي كان يقال فيه بوجود روح مستقلة عن المادة.»
فالماديون يرون أن لا شيء غير المادة، مخالفين في ذلك الروحانيين، كما أنهم يخالفون الاثنينيين القائلين بأن الظواهر لا ترجع إلى شيء واحد، بل إلى أصلين: المادة، والروح أو العقل، ويرى هؤلاء الماديون أن ما نسميه العقل ليس إلا شكلا من أشكال المادة الدائمة التغير والتنوع، وليست المادة كتلة عديمة الحياة لا حراك بها، تأتي إليها الروح وهي منفصلة عنها فتنفخ فيها وتنتج حياة، وإنما القوة ملازمة للمادة ومظهر من مظاهر المادة المتنوعة، والحياة والفكر ليستا إلا صفتين غريزيتين للمادة ونتيجة لامتزاج جزئيات المادة مزجا معقدا.
وليس القول بوجود قوة وروح وإله منفصل عن المادة يسبح فوقها يدفعها ويسخرها إلا قولا خاملا هراء في نظر المادي العنصري «موليشت»، ومن السخف عنده القول بوجود روح مجردة وقوة خالقة مغايرة للمادة.
نكرر القول - على مذهبهم - بأن كل الظواهر النفسية ليست إلا وظيفة لأحد أعضائنا - وهو المخ - فالأفكار والإرادات والعواطف تتوقف على قوة المخ وعمله وحجمه وتركيبه، وعلم النفس إنما هو فرع من علم وظائف الأعضاء يبحث في المخ، وليس الفكر إلا حركة للمادة ينعدم بانعدامها، وأعمال العقل مظهر خاص لقوة حية نشأ عن تركب المخ تركبا خاصا، والإنسان يفكر بواسطة المخ كما يهضم بواسطة المعدة، وليس القول بوجود نفس منفصلة عن الجسم مستقلة عن المادة إلا لغوا اختلقه فلاسفة علم النفس ليس له قيمة علمية، وعلى الإجمال فكل شيء إما مادة أو مظهر من مظاهر المادة، والمادة لا تحد ولا تفنى، وقوانينها أبدية لا تتغير، وهذه المادة لم يخلقها الله ولا الإنسان، بل هي قديمة أزلية أبدية لا تتغير ولا تفنى، وليس في هذا العالم شيء يعتريه الفناء ولا ذرة واحدة، وإنما تتغير الأشكال:
خفف الوطء ما أظن أديم ال
Неизвестная страница