مقدمة المترجم للطبعة الأولى
مقدمة المؤلف
الكتاب الأول: في الفلسفة وفروعها
1 - تمهيد في معنى الفلسفة وفروعها
2 - ما بعد الطبيعة أو ما وراء المادة
3 - الفلسفة الطبيعية
4 - علم النفس (سيكولوجيا)
5 - علم المنطق
6 - علم الجمال
7 - علم الأخلاق
Неизвестная страница
8 - علم الاجتماع (سسيولوجيا)
9 - مجمل تاريخ الفلسفة أو تاريخ ترقي الفلسفة
10 - فصل في تاريخ الفلسفة الإسلامية
الكتاب الثاني: مسائل الفلسفة ومذاهبها
1 - مقدمة المؤلف
2 - مسائل ما بعد الطبيعة
3 - مسائل علم الأخلاق
4 - نظرية المعرفة
الخاتمة
مقدمة المترجم للطبعة الأولى
Неизвестная страница
مقدمة المؤلف
الكتاب الأول: في الفلسفة وفروعها
1 - تمهيد في معنى الفلسفة وفروعها
2 - ما بعد الطبيعة أو ما وراء المادة
3 - الفلسفة الطبيعية
4 - علم النفس (سيكولوجيا)
5 - علم المنطق
6 - علم الجمال
7 - علم الأخلاق
8 - علم الاجتماع (سسيولوجيا)
Неизвестная страница
9 - مجمل تاريخ الفلسفة أو تاريخ ترقي الفلسفة
10 - فصل في تاريخ الفلسفة الإسلامية
الكتاب الثاني: مسائل الفلسفة ومذاهبها
1 - مقدمة المؤلف
2 - مسائل ما بعد الطبيعة
3 - مسائل علم الأخلاق
4 - نظرية المعرفة
الخاتمة
مبادئ الفلسفة
مبادئ الفلسفة
Неизвестная страница
تأليف
أ. س. رابوبرت
ترجمة
أحمد أمين
مقدمة المترجم للطبعة الأولى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أتى على العرب حين من الدهر كانت لغتهم تكفي لحاجتهم؛ فلهم منها أسماء ما يأكلون وما يشربون وما يلبسون وما يفكرون، فإن لم يجدوا نقلوا عن غيرهم أو خلقوا خلقا جديدا، ساروا مع زمانهم في تشريعهم وفي علومهم وفي لسانهم وفي نظمهم؛ إن أحسوا أن أمة سبقتهم في علم أنفوا أن يروا لغتهم عاطلة من حليه، فأسرعوا في ترجمته، وسدوا نقصا شعروا به، وإن رأوا معنى جديدا أو مخترعا جديدا وضعوا له لفظا جديدا، وأدخلوه في معاجمهم، وذكره العلماء في كتبهم، وإن أنتجت حالتهم الاجتماعية أنواعا من المعاملات جديدة، وأنماطا من الجرائم لم يكونوا يعرفونها شرعوا لها تشريعا جديدا يتفق مع الحوادث، وقالوا كما قال عمر بن عبد العزيز: «يحدث للناس من الأقضية بقدر ما يحدث لهم من الفجور.» وكما قال زياد: «وقد أحدثتم أحداثا لم تكن، وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة.» فكانوا والزمان فرسي رهان يعدوان جنبا لجنب؛ علما منهم بأن لا نجاح لأمة في الحياة ما لم تعدل حياتها على وفق ما يحيط بها.
ثم وقفوا واستمر الزمن يعدو، وكلما طال وقوفهم زاد البعد وبعدت مسافة الخلف، وقفوا سبعة قرون أو تزيد، تغير فيها مفهوم الكلمات، وزادت المعاني والمخترعات، ولا تزال معاجم لغتهم مما وضع منذ قرون أمثال قاموس «الفيروزآبادي» و«لسان العرب» مما ألف لزمن غير زمانهم، في موقف غير موقفهم، والأمم الحية لا ترضى أن يكون لها في نصف قرنها الحالي معجم ألف في نصف قرنها الماضي!
اختلفت أنواع المعيشة وأصبح بعض ما كان يعد حسنا قبيحا والعكس، وتغيرت أشكال المعاملات وهم أمام ذلك جامدون، اخترعت علوم جديدة وأبطلت نظريات قديمة، واستكشفت قضايا وقوانين غيرت وجه العلم وحولت مجرى الحياة وهم يأبون إلا أن تكون الكتب كتب الأقدمين، والنظريات نظريات الأقدمين، والرأي رأي الأقدمين! نعم، ينبغي أن ننظر في القديم، ولكن ليس إلا لنتخذ منه دعامة للجديد.
Неизвестная страница
فما أحوجنا إلى نهضة تنبهنا من سباتنا العميق، وتغير مجرى حياتنا، وتفتح عيوننا للبحث والنظر، وتطلق الفكر من عنانه، فيبحث ويعتقد ما يراه الحق، وتمدنا بما وصل إليه الغرب فنستأنس ببحثه، ونستعين به على وضع ما يتفق مع بيئتنا وديننا ونظمنا الاجتماعية وحالتنا العقلية.
وقد عثرت على كتاب في «مبادئ الفلسفة» قسمه المؤلف إلى قسمين: أبان في القسم الأول منه موضع الفلسفة وفروعها، وذكر كلمة عن كل فرع، وختمه بفصل في تاريخ الفلسفة؛ مبدأ نشأتها إلى الآن، وذكر في القسم الثاني النظريات الفلسفية المعروضة على بساط البحث، وحكى باختصار المذاهب المختلفة.
والكتاب يقدم للقارئ صورة مصغرة للآراء الفلسفية؛ قديمها والحديث، ويحدد معنى الفلسفة وموضوعها - تلك الكلمة التي يكاد يتخلف الناس عندنا في فهم معانيها بقدر عدد رءوسهم - ولم يأل جهدا في تبسيط الموضوع والتغلب على صعوباته؛ ليكون سهل التناول لجمهور المتعلمين.
رأيت أن أنقله إلى العربية، وأغراني على ذلك صغر حجمه، وطرافة موضوعه عند قراء العربية، وبذل المؤلف جهده لتسهيل الموضوع، حتى إذا بدأت في ترجمته أحسست بصعوبته، وقد لا يعلم قدر ما لاقيت من عناء إلا من حاول ترجمة كتاب كهذا في موضوع دقيق مليء بالاصطلاحات الفنية لا يجد لها مقابلا في العربية.
راعيت الأمانة في النقل المستطاع، فحافظت على ترتيب المؤلف ومعانيه وتسلسلها، ولم أتصرف إلا عند الضرورة القصوى، وقد استعملت في الترجمة الاصطلاحات العربية ما وجدت إلى ذلك سبيلا، فإن لم أعثر بعد البحث على اصطلاح عربي يقابل الاصطلاح الإنجليزي وضعت كلمة من عندي رأيت أنها أقرب للدلالة على المعنى.
ولست أنكر أن في بعض ما ترجمت غموضا - وأرجو ألا يكون كثيرا - وسبب ذلك إما صعوبة الموضوع وغموض الأصل، أو التغالي في المحافظة على معاني المؤلف، أو أن الاصطلاحات التي استعملتها لم تؤلف إلفها في لغة الأصل.
وقد رأيت أن المؤلف لم يذكر كلمة ما عن الفلسفة العربية وتاريخها، فرأيت - إتماما للفائدة - أن أذكر كلمة في ذلك أقرنها بما كتبه المؤلف عن تاريخ الفلسفة، ووضعت على ما كتب المؤلف كلمات في ذيل الصحيفة قد أشرح بها غامضا أو أبين مصطلحا.
وذيلت الكتاب بترجمة صغيرة لأشهر من ورد ذكرهم في الكتاب؛ أبين فيها جنسه وتاريخ حياته، وربما ذكرت بعض مبادئه، وختمت ذلك بقائمة للألفاظ الإنجليزية وما يقابلها من العربية.
وهنا أتقدم بالشكر للجنتنا المباركة «لجنة التأليف والترجمة والنشر» على ما بذلت من المساعدة في إخراج الكتاب، وأخص بالذكر صديقي أمين مرسي قنديل، وعبد الحميد أفندي العبادي، فإليهما يرجع الفضل في مراجعة الكتاب وتنقيحه، وإرشادي إلى ما غمض من معانيه.
وإني أشكر كل من يتنبه لخطأ في الكتاب فيرشدني إليه، والله أسأل أن ينفع به، ويجعله طليعة كتب واسعة تظهر في هذا الموضوع النافع.
Неизвестная страница
أحمد أمين
مايو سنة 1918
مقدمة المؤلف
الغرض من هذا الكتاب أن يكون بين أيدي المبتدئين في الفلسفة شبه دليل مدرسي يقفون منه على مسائل الفلسفة وما وضع لها من حل، وقد كان مجرد عرض المسائل الفلسفية أهم في نظري من مراعاة تاريخها، ولكن لما كان تتابع المذاهب في المسائل متمشيا مع تدرج الفكر في الرقي صار من الطبيعي مراعاة الترتيب الزمني لأقسام الموضوع، وبالضرورة قد اكتفينا في هذا الموجز الذي يستغرق أقل من 128 صفحة بمجرد ذكر كثير من المسائل يمكن أن تبسط في رسائل خاصة، غير أنا نرجو أن نكون قد ذكرنا كل ما هو ضروري في كتاب كهذا يعد «مقدمة للفلسفة» يجمع إلى صغر الحجم ودقة العبارة الوضوح والإلمام بأطراف الموضوع، هذا مع الإخلاص للحق وهو آخر دروس الفلسفة وخيرها.
أ. س. ر.
فبراير سنة 1904
الكتاب الأول
في الفلسفة وفروعها
الفصل الأول
تمهيد في معنى الفلسفة وفروعها
Неизвестная страница
شاع بين الناس أن الفلسفة موضوع لا تتناوله إلا عقول خاصة، وأنها لا تلذ إلا لقوم نظريين لم يروا في الحياة خيرا من أن يجهدوا عقولهم في حل مسائل هي إلى الخيال أقرب منها إلى الحقيقة، وأنها تبحث في خيالات عقيمة لا ينبني عليها في الحياة عمل؛ وإنهم في زعمهم لمخطئون.
لم يرفع الإنسان عن مستوى الحيوان إلا فكره وقوته العاقلة، فالحيوان يرى ويسمع بل ويتذكر، ولكنه لا يستخدم هذه القوى إلا في حاجاته الوقتية؛ أما الإنسان فيرى ظواهر الكون على اختلاف أنواعها فيتصورها ويكون له فيها رأيا، ثم يجتهد في تعرف عللها وعلاقة حقائق الكون بظواهره؛ وهذا طريق فهم الشيء فهما واضحا، فإن فعل هذا قلنا: إنه يتفلسف، ولا نعني بهذه الكلمة إلا أنه يفكر في شيء خاص - ذاتا كان أو معنى - ويحاول الإجابة على هذه الأسئلة: (1)
ما هذا الشيء الذي يبحث فيه عقلنا؟ (2)
ما أصله؟ (3)
ما علاقته بغيره من الذوات أو المعاني؟
وبعبارة أخرى معنى «يتفلسف» أنه يبحث في ماهية الأشياء وأصولها وعلاقة بعضها ببعض، وليس يخلو إنسان من هذا العمل وقتا ما، فساغ لنا أن نقول: إن كل إنسان متوسط الفكر يتفلسف، وإن كل الناس فيلسوف إلى حد ما، مع تفاوت فيما بينهم، إلا من استعبدته شهواته وانغمس في اللذائذ المادية، إلا أن كلمة «فيلسوف» إذا استعملت بدقة لا تطلق على من ينظر إلى الشيء أحيانا فيتأمله ويفحصه أو يشك فيه، ثم يرى فيه رأيا يعتقده ويتمسك به، بل كما أنا لا نسمي زجاجا ولا قفالا من أصلح في بيته لوح زجاج كسر، أو عالج قفلا فسد، إنما الزجاج أو القفال من اتخذ ذلك العمل حرفة في حياته، ولم يقتصر على التعليم الصحيح، بل أكسبته المثابرة على العمل مرانة وبراعة، وعرف كيف يصل إلى نتيجة خير مما يصل إليها غير المتمرن بجهد أقل من جهده، فكذلك لا نسمي فيلسوفا إلا من كان أهم أغراضه في حياته درس طبائع الأشياء وتعقلها، وعدته في ذلك فكره، وكان له بمزاولة ذلك قدرة على إدراك الأشياء بسرعة، وكما أن الصناع على اختلاف أنواعهم يعرفون دقائق عملهم، وإن شئت فقل ينبغي أن يعرفوا ذلك، وأن يكونوا على علم بأحدث ما اخترع مما يتعلق بعملهم، كذلك الفيلسوف المتخصص للفلسفة يجب أن يعرف ما وصل إليه من قبله، وما قالوه في المسائل التي تشغل فكره.
ولكن ما الحامل على التفلسف؟ وماذا يجني من ورائه؟ يقول أرسططاليس: «إن الدهشة أول باعث على الفلسفة.» برز الإنسان إلى هذا الوجود فرأى نفسه في عالم مختلف في ظواهره، وواجهه الزمان بظروفه فراعه ذلك واستخرج منه العجب، فبدأ يسأل: لماذا؟ ومن أين؟ وإلى أين؟ رأى هذا العالم أمامه لغزا فحاول حله، وتلك المحاولة هي الفلسفة. وقد كان أول حامل له على حله ما يرجوه من المنفعة من وراء ذلك، ولهذا قيل: إن المصريين هم واضعو أساس علم الهندسة لما ألجأتهم الحاجة إلى تحديد ما يمتلكه الأفراد إثر فيضان النيل السنوي، وقبائل البدو من الكلدانيين نظروا في النجوم ليهتدوا بها في السير بقطعانهم. وعلى الجملة فقد حاول الإنسان كشف معميات الحياة ليكون أقدر على تحصيل مصالحه ورعايتها؛ جسمانية كانت أو روحية، وقد ظل العقل الإنساني يتلمس السبيل للوصول إلى فهم العالم والحياة فهما جليا ثابتا صادقا، ويحل ما يعترضه من ألغازهما، وتنوعت أمامه المسائل؛ فمن أرض ذات فجاج إلى سماء ذات أبراج زينت بالنجوم للناظرين، فما أكثر متناول العقل! وما أوسع بيداء الجهل! حيث يجوب العقل البشري فيها يرتاد «واحة» ويجد في البحث لينفذ إلى أسرار الطبيعة ينشرها بين الناس؛ لينتفعوا بها، وبينا هو يتطلب معرفة الأشياء فرارا من الجهل إذ انبعثت فيه رغبة في المعرفة نفسها، وصار يتطلب المعرفة للمعرفة لا قصدا للفائدة العملية. والإنسان مفطور على حب الاستطلاع، وهذه الرغبة المتأصلة في أعماق نفسه لا تستأصل، وهي دافع قوي يقوى بنمو العقل، ويحمل على تطلب معرفة الحقائق الكبرى الأساسية لهذا الوجود وتلك الحياة، وعلى البحث في علل الأشياء وعلاقة بعضها ببعض، وهذا ما دعا الإنسان أن يتفلسف، أحس من نفسه الجهل بالشيء فشك فنظر ففكر؛ فاعتقد الحق فيما رأى، وليس ما يعتقده الإنسان بعد البحث حقا مقصورا على التأمل العقيم، بل غاية هذا التأمل أن يستخدم في الحياة العملية؛ فالفلسفة إذا شوق وجد وراء معرفة الأسباب الخفية للأشياء للتوفيق بين آرائنا وأعمالنا، وهذا هو قصدنا في الحياة، فليس ثمة غرض إلا الفرار من الجهل، والوقوف على الحق، وكشف النقاب عن باطل تقنع بحجاب سخيف يوهم أنه حق.
وأصل كلمة فلسفة وتاريخها يدلان على ما ذكرنا؛ فقد روى المؤرخ اليوناني «هيرودوت» أن «كريسس» قال «لسولون»: «لقد سمعت أنك جبت كثيرا من البلدان متفلسفا.» أي متطلبا للمعرفة، واستعمل «بركليس» كلمة «الفلسفة» يريد بها «الجد وراء التهذب» ومهما يكن من شيء فمنشأ الكلمة يشعر بالاعتراف بالجهل والشوق إلى المعرفة، قال «فيثاغورس» والأصح نسبته إلى سقراط: «الحكمة لله وحده، وإنما للإنسان أن يجد ليعرف، وفي استطاعته أن يكون محبا للحكمة، تواقا إلى المعرفة، باحثا عن الحقيقة.» وهذا ما يدل عليه اشتقاق كلمتي فلسفة وفيلسوف؛ فإنهما مأخوذتان من «فيلوس» ومعناها «محب» و«سوفيا» ومعناها «الحكمة» فمعنى فيلسوف: محب الحكمة، ومعنى «سوفوس»: الحكيم. وقد كانت كلمة «سوفوس» في الأصل تطلق على كل من كمل في شيء - عقليا كان أو ماديا - فأطلقوها على الموسيقي والطاهي والبحار والنجار، ثم قصرت بعد على من منح عقلا راقيا، فلما جاء سقراط سمى نفسه فيلسوفا أي محبا للحكمة؛ تواضعا وتمييزا له عن السوفسطائيين (المتجرين بالحكمة) الذين يطوفون البلاد يعرضون على الناس ما عرفوه بالثمن - كما يفعل بعض الباعة - وما كان المشترون ليشتروها أيضا إلا رغبة في الفائدة العملية.
فالفلسفة إذا تبحث عن كل مسألة يمكن البحث فيها، وإن شئت فقل: عن العالم، ونحن نقسم مسائلها إلى ثلاثة أنواع تبعا لموضوع البحث: (1)
مسألة الوحدة: أعني علة العلل القادرة على كل شيء، الخالقة لكل شيء، مفيضة الحياة على العالم. وهذا القسم يسمى ما بعد الطبيعة أو ما وراء المادة. (2)
Неизвестная страница
مسألة الكثرة: أعني مظاهر هذا العالم المتنوعة. وهذا النوع يسمى «الفلسفة الطبيعية». (3)
مسألة أفراد المخلوقات التي أهمها لنا الإنسان،
1
ويشمل هذا النوع ما يأتي: علم النفس، أي علم الحياة العقلية للإنسان، ويبحث في: (أ)
الطرق التي يتبعها العقل للوصول إلى نتيجة صحيحة. وهذا يسمى المنطق وغايته ترقية فكرة الحق. (ب)
في العاطفة. وهذا هو علم الجمال وغايته ترقية فكرة الجمال. (ج)
في الرغبة أو الميل. وهذا موضوع علم الأخلاق، وهو يدور حول فكرة الخير.
قال الأستاذ سلي: «إن تحليل الإدراك أساس علم المنطق، وهو يقصد إلى وضع قواعد بها نعرف أن نفكر أو نستنتج استنتاجا صحيحا، وتحليل الشعور أساس علم الجمال، وهو علم الغرض منه الاهتداء إلى مقياس صحيح يقاس به الجميل وما يستحق الإعجاب.»
ولما كان سلوك الإنسان قد نظم ببيان ما يجب وما لا يجب قصدا للوصول إلى الخير، وكان بيان هذه الواجبات قد مهد السبيل للقانون، والقانون إما طبيعي وإما وضعي، كان لنا من ذلك فلسفة تسمى «فلسفة القانون»، وهناك مسائل تدور حول البحث في علاقة الأشخاص بعضهم ببعض تكون علما خاصا يسمى «علم الاجتماع» وهذا يشمل أيضا فلسفة التاريخ.
فموضوعات الفلسفة إذا ما يأتي: (1)
Неизвестная страница
ما بعد الطبيعة. (2)
فلسفة الطبيعة. (3)
علم النفس.
2 (4)
المنطق (5)
علم الجمال. (6)
الأخلاق. (7)
فلسفة القانون. (8)
علم الاجتماع وفلسفة التاريخ.
هوامش
Неизвестная страница
الفصل الثاني
ما بعد الطبيعة أو ما وراء المادة
يمكن أن ينظر إلى هذا العالم بكل مظاهره نظرا علميا من جهتين مختلفتين؛ إحداهما: النظر إليه وفحصه من حيث أشكاله التي يتجلى لنا فيها، وعليها تقع حواسنا، مغفلين البحث عن علله المجهولة التي لا يمكن أن تعرف، والجهة الأخرى: النظر في روح هذه الظواهر من غير أن نلحظ تأثيرها في حواسنا؛ فالجهة الأولى موضوع العلوم الوضعية، والأخرى موضوع ما بعد الطبيعة.
لكل علم مدركات كعدة له وآلات لا يبحث هذا العالم في قيمتها، وإنما يجدها مهيأة من قبل فيستخدمها في أغراضه، ويكتفي بها، فهي موجودة وكفى، مثل المكان والزمان والكم والكيف والعلة والمعلول والحركة والقوة والهيولي والصورة
1 - وهي مدركات توصف بها الموجودات - رأت العلوم أن علة الحقيقة ليست إلا حقيقة أخرى، وأن سبب الحركة ليس إلا حركة أخرى، فسبب الصوت مثلا حركة الهواء، وليس ذلك السبب إلا حالة أخرى، جاء العلماء فبحثوا في الظواهر المتنوعة (كل في فرعه الخاص) ونظروا في أشكال المادة وتغيراتها كما يتراءى لهم، ولم ينظروا فيما هي المادة، ولا لم كانت كذلك، وإنما وجهوا كل همتهم نحو معرفة كيفيتها، فكانت دائرة علمهم مقصورة على الأشياء المتناهية، والتي أساسها التجربة والاختبار. لم تقنع بهذا نفس الإنسان - وهي الشغوفة بالبحث والاستقصاء - فرأت أن هذه المظاهر الزائلة للحياة المادية لا تقوم بنفسها، وإنما يجب أن تكون وراءها قوة خفية أزلية أبدية، هي للعالم كإرادتنا فينا، عندما نعمل عملا أو نتحرك بإرادتنا حركة، شيء مطلق لا يحده حد وليست له نهاية، هو علة الموجودات، وهو الذي تسميه لغة الدين «الله» - لهذا كانت الحاجة ماسة إلى علم يبحث عن هذه المدركات المتقدمة التي تنتفع بها العلوم الأخرى، ولا ترى أنها في حاجة إلى الشرح، وهذا العلم هو «ما بعد الطبيعة» وهو لا يبحث عن حقائق العالم المادي كما يتجلى لحواسنا، وإنما يبحث في الحواس من حيث مقدار الثقة بإدراكها كما يبحث عن ماهية الأشياء وعلة العلل، لا يكتفي بالحقائق حسب ما يوضحها الحس المشترك وحده، بل يتطلب الشيء المجهول الذي قامت عليه العلوم الأخرى من غير أن تبحث فيها، فهذا العلم غرضه الوصول إلى ما وراء هذه الظواهر الطبيعية، غير قانع بمعرفة الأشياء التي قد تظهر لنا على غير حقيقتها.
إن شئت فقل: إن هذا العلم يحاول أن يقف على المحرك الخفي لهذا العالم، ويتوق إلى أن يخترق هذا العماء ليحس بنبضه.
وإن هذا الشوق لإدراك هذه القوة الخفية المجهولة الذي أفضى بالسذج إلى الخرافات والأوهام هو الذي حمل الفلاسفة على البحث عما وراء الطبيعة، فعلم ما بعد الطبيعة هو علم «واجب الوجود» علم يبحث عن العلة الأولى للأشياء، وهو فرع من الفلسفة ينظر في أوسع المسائل مجالا للبحث الفلسفي.
وهل علم ما بعد الطبيعة سينال غرضه يوما ما، أو سيظل صاغرا متسولا أمام ساحة تلك القوة الخفية الكبرى لا يستطيع أن يطأ حماها، عاجزا إلا عن تخيل ما فيها، محاربا للصعاب التي تعترضه في سبيل كشف النقاب عن ألغاز هذا العالم الكثيرة؟ وهل يستطيع العقل البشري أن يحل هذه المسائل حلا مرضيا، أو سيظهر له أن البحث فيها بحث في مستحيل؟ كل هذه الأسئلة كانت ولا تزال عبئا ثقيلا على العلم والفلسفة، ولقد قيل: «إن علم ما بعد الطبيعة والشعر الرفيع السامي يلتقيان فيمتزجان، وإن عالم ما بعد الطبيعة عالم درج في غير عشه، ببحثه عن شيء فوق الحقائق، فإذا هو شاعر» وقال فولتير: «إن علم ما بعد الطبيعة بستان يرتاض فيه العقل، وإنه لألذ من علم الهندسة، فلا نعاني فيه ما نعانيه فيها من الحساب والقياس، بل فيه نحلم حلما لذيذا.»
وقال «بكل» في كتابه «المدنية في إنجلترا»: «إن كل باحث في علم ما بعد الطبيعة إنما يبحث أعمال عقله، ولم يكن من وراء ذلك البحث استكشاف في أي فرع من فروع العلم.» وقال «بخنر» مؤلف كتاب «القوة والمادة» في أحد مؤلفاته الأخيرة المسمى «بجانب قرن يحتضر»: «بينا نرى علم النفس والمنطق والجمال والأخلاق وفلسفة القانون وتاريخ الفلسفة تستحق البقاء، وينبغي أن يدرسها العقل البشري؛ إذ نرى ما بعد الطبيعة علما مستحيلا، وراء الطبيعة، وراء حواسنا، فيجب أن يترك بمضيعة ويعد من سقط المتاع.»
وقد كان البحث في قضايا هذا العلم سابقا لاسمه؛ ففي قضاياه بحث الأيونيون،
Неизвестная страница
2
وفيها بحث كذلك أفلاطون، وسمى هذه الأبحاث «الجدليات» أو علم الكلام، واسم العلم يدل على أنه يبحث فيما وراء الطبيعة، وقد جمع أصحاب أرسطو وتلاميذه أبحاثه المتعلقة بأصل الأشياء، والتي تسمى «الفلسفة المبدئية» ووضعوها بعد أبحاثه المتعلقة بالطبيعيات، ومن هذا نشأ اسم ما بعد الطبيعة علما على ذلك العلم - ولم يكن الحد الفاصل بين مسائل الطبيعة وما بعد الطبيعة واضحا جليا في الفلسفة اليونانية؛ فقد أطلق اليونان اسم الطبيعيات على ما نسميه اليوم ما وراء الطبيعة، ومن ذلك العهد إلى الآن سمي هذا العلم بأسماء شتى، فسماه «ولف» الفيلسوف الألماني: أنتولوجيا، أو «علم الموجود حقا» تمييزا له عن الظواهر التي تدرك بالحواس، وبحث «إدور هرتمان» في مسائل هذا العلم وسماها «ما لا يحس»، وكان «كانت» يقول: «إن عقل الإنسان مركب تركيبا يؤسف له، فإنه مع شغفه بالبحث في مسائل لا تدركها حواسنا، لم يستطع أن يكشف معمياتها.» لذلك نصح في كتابه المسمى «نقد العقل المجرد» بنقد عقولنا وقوانا قبل أن ننقد نظريات هذا العلم. أما في إنجلترا أرض الذوق الفطري
3
فلم ينل هذا العلم حظا وافرا، ولم يشتغل به منهم إلا القليل أشهرهم «بركلي».
وسنتعرض في فصل تال لذكر مسائل هذا العلم والمذاهب التي قامت حولها.
هوامش
الفصل الثالث
الفلسفة الطبيعية
إن موضوع بحث الإنسان إما أن يكون هو الطبيعة بأضيق معانيها، ونعني بها مجموعة الأشياء المرئية المدلول عليها بكلمة «العالم»، وإما «العقل» ونعني به القوة التي بها ندرك ونعلم ونتأمل ذلك العالم، وقد شوهد أن ما تقع عليه حواسنا أكثر استرعاء لنظرنا من المدركات العقلية المجردة؛ فإن الأخيرة نتيجة تأمل ناضج لا يكون إلا متى كان للعقل قدرة على التأمل في نفسه، فالطفل أول ما يتذكر إنما يتذكر أسماء الأشياء التي تتميز بلونها أو ثقلها أو صوتها أو نحو ذلك؛ وعلى الجملة فهو إنما يتذكر ما يسترعي حواسه، وما أشبه الأمم في أول حالتها العقلية بالطفل، فإنه يتدرج فكرها في الرقي كما يتدرج فكر الفرد في النمو، ودليلنا على ذلك اللغة، فاللغة تضع أسماء وحدودا لما تدركه حواسنا، وما تدركه قوانا العاقلة، وقد أثبت علم اللغة أن أسماء الجوامد التي تدرك بالحواس أسبق في الوجود من الألفاظ الدالة على عمل الحواس نفسها من نظر وسمع ونحوهما، لهذا كانت المباحث الفلسفية الأولى تدور حول المرئيات؛ أعني مجموعة الأشياء التي نسميها «العالم»، فكانت أهم مسائلهم البحث عن كل المظاهر التي تقع عليها حواسنا، والتي يطرأ عليها التغير الكثير، وعن العنصر أو مادة الشيء التي تبقى مع ما يطرأ عليها من التغيرات، تلك المسائل هي موضوع ما يسمى «فلسفة الطبيعة» ويقابلها «فلسفة العقل».
وقد دون أفلاطون آراءه في هذا الموضوع في رسالة سميت «تيمايس»، وأوضح الفرق بين الطبيعيات وما وراء الطبيعة بأن الطبيعة «معرض التغير»، وأما ما وراءها «فمعرض الثبات»، وجمع أرسططاليس آراءه في الطبيعة وفلسفته فيها في كتابه «علم الطبيعة». وفي العصور الحديثة سمي هذا الجزء من الفلسفة قسمولوجيا - علم الكون - وجعل علم الطبيعة فرعا منها، وقد وجه العقل البشري نظره في طور نشوئه الأول - أي قبل أن يفكر في نفسه - نحو العالم الخارجي؛ أعني نحو الطبيعة ودراستها، والطبيعة وحدة تتجلى في أشكال متعددة. وقد ظل الإنسان من أيام نشأته يجد في البحث وراء معرفة القانون الثابت للتغير المستمر، ويريد أن يعرف ذلك العنصر الذي تنتابه التغيرات وتجري عليه الظواهر المتنوعة، وذلك ما ترمي إليه فلسفة الطبيعة، وكان ممن بحث في هذا الموضوع فلاسفة اليونان الأولون مثل «طاليس» و«أنكسيمندر» و«انسكيمينيز»، وقد ذهب بعضهم إلى أن ذلك العنصر الأساسي الذي تجري عليه التغيرات هو الماء، وآخرون أنه الهواء، ومن أجل هذا سمي فلاسفة اليونان الأولون «الفلاسفة الطبيعيين»، أي الذين بحثوا في المادة - ما ظهر منها للحواس وما خفي - وهم أول من تكبدوا مشاق السير للوصول إلى الحقيقة، وقد كان سيرهم بالطبع بطيئا يصحبه التردد والحيرة، وحاولوا إيضاح الظواهر المتعددة ليدركوا منها وحدة العالم، وليشرفوا على ما شاع من غلط الحواس. وقد نشأ علم ما بعد الطبيعة عند الفلاسفة الأيونيين من الطبيعيات كما نشأ هو (علم ما بعد الطبيعة) عند الفيثاغوريين من العلوم الرياضية؛ فالأولون كان يهمهم البحث في الهيولي (المادة) وحركتها الأبدية، والآخرون (الفيثاغوريون) في النظام الذي يسود العالم - في الوحدة والنسبة، وتوافق المتضادات، والعلاقات الرياضية الكامنة في كل الأشياء - ذاهبين إلى أن كل شيء في علم الهندسة والهيئة والموسيقى مآله العدد، وأن العدد أساس العالم وروحه، وأن الأشياء ليست إلا أعدادا محسوسة، وكما أن العدد روح الأشياء فالوحدة روح العدد.
Неизвестная страница
1
وقد أهمل البحث في الطبيعة في العصور الوسطى، تلك العصور التي سادت فيها الكثلكة، وغلب على الناس التدين الأعمى والخضوع المطلق، فلم يفكروا إلا في أنفسهم وعلاقتها بالله، بل كانوا يستخفون بهذه المباحث، فقل النظر فيها حتى جاءت البروتستانتية فحررت العقول من أغلالها، فهبت من رقدتها للبحث، وساعد على نهضتها استكشاف ممالك لم تكن تعرف، فانبعثت الفلسفة القديمة، ووجه الفلاسفة مثال «جاليليو» و«كبلر» و«برنو» وغيرهم أنظارهم نحو العالم والكون، فأداهم النظر إلى استكشافات كبرى (وتبين أن ذلك الكوكب الذي نعيش فيه ليس إلا هنة تدور حول شمس من شموس عديدة انتثرت في الفضاء نثر الرمال في الصحراء)، ولم يكن العلم الطبيعي (الفلسفة الطبيعية) متميزا عن فلسفة الطبيعة حتى في أيام الفلاسفة «ديكارت» و«ولف» و«نيوتن» إلى أن ظهر سنة 1770م الكتاب المشهور المسمى «نظام الطبيعة» لمؤلفه «بارون هلباخ» وإن كان الكتاب ظهر باسم «ميرابو»، وجاء «كانت» و«شلنج» فأوضحا الفرق بين فلسفة الطبيعة والفلسفة الطبيعية، ومن ثم سارت العلوم الطبيعية شوطا بعيدا، وقد حصرت فلسفة الطبيعة في مسائل (ما وراء المادة) أو ما بعد الطبيعة، وفي البحث في أشياء كانت سببا في استكشاف العلوم الطبيعية، فيبحث في: القوة والهيولي والحركة والحياة ونحوها مما هو موضوع العلوم الطبيعية.
هوامش
الفصل الرابع
علم النفس (سيكولوجيا)
كان مما لفت نظر الإنسان وأيقظ رأيه واسترعى بحثه ومرن فكره - كما ذكرنا - هذا العالم الذي تنوعت أشكاله وتغيرت ظواهره، الحافل بمناظره، المحير بألغازه ، الذي بهر العقول بجماله وروائه، وقد كان أول باعث على أن يفكر فيه تفكيرا فلسفيا رغبته في فهمه وإخضاعه لأمره، وما اعتراه من الدهشة التي أخذت بحواسه، لذلك بدأ الإنسان بالفلسفة الطبيعية التي تميل بالمرء إلى حل معميات هذا العالم، وتلا النظر في العالم المادي ما هو أهم للإنسان؛ وهو النظر في نفسه.
أثبت العلم أن الأرض ليست إلا كوكبا صغيرا سيارا يدور في فضاء غير متناه، ومع هذا فالإنسان من قديم الزمان إلى الآن لا يزال يرى نفسه خير موجود في الدنيا، ومهما اقتنع بأن القبة الزرقاء التي تتلألأ بالنجوم لم تخلق من أجله، وأن السيارات غير الأرض مسكونة كأرضه، فلن يعدل على أن يعتقد في نفسه أنه أرقى مخلوق، والسبب في هذا أن ارتقاء عقله جعله يشعر تدريجيا بوجوده وبعلمه - أو بحاجته إلى العلم - وبشعوره ورغباته وأفكاره، وبأن له قدرة على أن يبدي أفكاره، وأن يفضي بها إلى غيره، وعلى الجملة جعله يدرك أنه وحده عالم في عالم.
دعته دواع لأن يعرف فاجتهد في تعرف ما حير عقله، وكانت تلوح منه التفاتة نحو نفسه فيأخذه العجب من تلك القوة التي فيه، بها يتحرك وينطق، بها يريد ويرغب، بها يشعر ويشتهي. قيل: إن سقراط استنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض، أي إلى الإنسان،
1
ونعني بذلك أن هذا الفيلسوف اليوناني العظيم أول من بدأ بالتفكير في الإنسان وما يتعلق به، وفضل ذلك على النظر فيما يحيط به من العالم المادي، وقد نسب إليه أنه أول من قال: «اعرف نفسك»، ولكن الحقيقة أن «طاليس» قالها من قبله، ومن ذلك الوقت والإنسان حيران في تلك الأسئلة التي وردت على لسان الشاب الحزين في شعر «هيني»، سألها نفسه في جنح من الليل وقد هدأت الأصوات وهو واقف أمام البحر المحيط الموحش: «ما الإنسان؟ من أين أتى؟ وإلى أين يذهب؟» تلك أسئلة تركت المفكرين في كل العصور حيارى، أيام كان النوع الإنساني في همجيته، وأيام أن ابتدأ يرقى عقله، وأيام أن بلغ في المدنية والنمو العقلي شأوا بعيدا، قال «سوفوكليز» الروائي اليوناني: «ما أكثر العجائب! وأعجبها الإنسان.» إن هذه الأسئلة: «ما الإنسان؟ وما منزلته في العالم؟ وما علاقته بالأشياء التي تحيط به؟» هي التي قال فيها هكسلي: «إنها أساس كل ما عداها من الأسئلة، وإنها أحب للإنسان مما سواها.» هي التي شغلت الرءوس على اختلاف أنواعها: من ذوات القلانس من قدماء المصريين، إلى حملة العمائم، إلى لابسي القبعات السود، إلى أرباب الضفائر، إلى ألوف من رءوس تصببت عرقا من البحث، كل سأل هذه الأسئلة، وكل أجاب واختلفت إجابتهم باختلاف روح العصر الذي كانوا فيه.
Неизвестная страница
وتسمى المباحث التي تتعلق بالنفس أو العقل: علم النفس أو سيكولوجيا؛ من «سيكي» نفس و«لوجوس» علم، وهو يبحث في الإنسان من الجهة الخلقية والعقلية لا من الجهة الجسمية.
ولسنا نتعرض هنا للبحث فيما إذا كان العقل أو النفس شيئا غير الجسم مستقلا عنه، أو كانت قوة التفكير التي ميزت الإنسان عن غيره من الحيوان، والتي أخذت في النمو شيئا فشيئا برقي النوع الإنساني من حالة البداوة إلى حالة المدنية، تابعة لحالات الإنسان الجسمية؛ فإن رسالة تؤلف سواد الناس لا يتسع المجال فيها لهذا البحث؛ ويكفينا هنا أن نذكر أن العلاقة بين العقل والبدن، وإن شئت فقل بين أعضاء البدن الظاهرة والأخرى التي يظهر أنها خفية، كانت موضع اهتمام عظيم في العصور الحديثة أدى إلى كثير من النتائج العلمية الهامة، ومن أشهر رجال هذا العلم «هكسلي» و«بخنر» وغيرهما.
إن هذه الرسالة التي لم يكن من غرضها إلا النظر في الفلسفة من جهة تاريخية وعرض مسائلها تتجنب البحث فيما إذا كان النظام العقلي والبدني شيئا واحدا أو شيئين، وفيما إذا كان العقل قوة غريزية أو مكتسبة، بل ولا تتعرض لما «إذا كان الرقي العقلي للإنسان - كما يقول هكسلي - يشبه السرفة
2
في تحولها، تنزع عنها جلدها وتتحول إلى فراشة، وأن العقل الإنساني في أكبر مظاهره ثمرة القوى الطبيعية، وأنه مركب من مواد كما تتركب الشمس والسيارات، أو أن الفكر منبعث عن النفس التي هي شرارة إلهية» كلا، بل ولا تخوض فيما إذا كامن الروح عندما يلفظ النفس الأخير يرد إلى عالم الأرواح غير المعروف كما يقول رجال الدين، فيرجع الجسم إلى الأرض ويلحق الروح بالله، أو أنه يفنى فناء الجسم ويشتركان في الفناء كما اشتركا في البقاء ويختفي الإنسان كما يختفي النبات؛ تلك كلها مسائل نذكرها ولا نناقشها.
من المحتمل أن يكون الفكر شيئا روحانيا، وأن يكون مجرد قوة بدنية هي وظيفة المخ المنظم عند الإنسان أكثر منه عند الحيوانات اللبونة،
3
والذي يهمنا هنا هو أن نذكر أن المخ - على أي حال كان - هو عضو التفكير، وهو يفنى مع مادة الجسم، ويصبح الرأس بعد الموت وقد زال عنه كل ما كان له من حيل ودهاء ومغالطة وسفسطة.
وما دامت العلاقة بين الفكر والبدن قائمة، وما دام المخ يؤدي وظائفه، فإننا نعرف، ونفكر، ونريد، ونرغب، ونحس، ونشعر بصدور هذا عنا.
وعلم النفس ينظر في الأعمال التي نعملها والطريق التي نتبعها للوصول إلى ذلك الشعور، ويبحث في حقيقة القوى التي تفعل ذلك؛ أعني قوة المعرفة، وقوة الشعور، وحدود الفكر، ومقدار الثقة بصحة التفكر، ووظائف العقل المختلفة التي بها ندرك ونحكم ونتخيل.
Неизвестная страница
فعلم النفس إذا يبحث في عمل العقل.
قال الأستاذ «سلي» في كتابه (العقل البشري): «إن أهم ما يقصده هذا العلم أن يشرح ظواهر الشعور الراقي في الإنسان، وهذا الشرح العلمي يقتضي ترتيبا وتبويبا للعوامل المختلفة في الحياة العقلية، وشرحا لمنشئها وارتقائها، فليس الغرض من هذا العلم أن يصف الظواهر العقلية فقط، بل وأن يتتبع أصلها وتاريخها.»
علم النفس يبحث في قوى الالتفات، والإحساس، والإدراك، وقوة الحافظة، والذاكرة، والإرادة وحريتها، والخيال، والوهم، وفي الشعور والعواطف، وفي اللذة والألم، وفي الشم والذوق.
فهو يبحث في أعمال العقل ليستكشف قوانينه وطرقه التي عنها تصدر الظواهر المتقدمة، كما أنه يبحث في طبيعة العقل وحقيقته وجريه على سنن واحد، وروحانيته، وعلاقته بأعضاء الجسم واعتماده عليها، وتبادل الفعل والانفعال بينه وبينها.
قال الأستاذ «هكسلي»: «إن مثل الباحث في النفس «السيكولوجي» مثل المشرح، فكما أن المشرح يفصل الأعضاء إلى أنسجة، والأنسجة إلى خلايا، فكذلك السيكولوجي يرجع الظواهر العقلية إلى حالات الشعور الأولية.» فالعالم في وظائف الأعضاء يبحث في الطرق التي بها يؤدي البدن وظائفه، وعالم النفس يبحث في قوى العقل، وكما أن العلوم الطبيعية تبحث في العالم المادي الخارجي بواسطة الحواس، كذلك علم النفس يلاحظ ويبحث بواسطة قوة خاصة تسمى «الحس الباطني».
وعلى الجملة فعلم النفس يبحث الحياة العقلية، قابلة أو فاعلة، وفي الشعور بكل مظاهره، وما يبحث عنه علم النفس من ظواهر وحقائق مستمد إما من الشعور وإما من الإدراك بالحس.
إن فكرنا ومعرفتنا وإحساسنا إما نتيجة قوة إدراك باطنية، وإما نتيجة انعكاس ما ندركه من الخارج بواسطة الحواس؛ فنحن تارة نوجه نظرنا إلى عمل ذهننا عندما نعمل أو نفكر أو نحس، وتارة نبحث الظواهر العقلية في غيرنا، فندرس نظراتهم وإشاراتهم وأعمالهم وأقوالهم، ونستنتج ما تدل عليه تلك المظاهر من الفكر والحس قياسا على ما يبدو علينا عندما نفكر مثلهم أو نحس كإحساسهم.
قال الأستاذ سلي: «إن لدرس ظواهر العقل طريقتين؛ إحداهما: توجيه عنايتنا إلى الأعمال العقلية عند حدوثها في ذهننا، أو عقب ذلك مباشرة، كما ألاحظ نفسي عند الغضب مثلا فأرى تسلسل الأفكار وتلونها بألوان خاصة، وما ينشأ عن الغضب من تحيز وميل عن الحق، وتسمى هذه الطريقة «ملاحظة الباطن»، والطريقة الأخرى: أن ندرس أعمال العقل في غيرنا بما يظهر عليهم، فنلحظ الارتباط بين أفكارهم مما نسمع من كلامهم، ونعرف الباعث على أعمالهم، وتسمى هذه الطريقة «ملاحظة الظاهر»؛ لأننا نتوصل إلى معرفة الحقائق العقلية بواسطة الظواهر الخارجية التي تدرك بالحواس من مثل: كلمة تقال، أو صرخة تسمع، أو حركة ترى، أو لون يتغير.»
والبحث في علم النفس (سيكولوجيا) سابق على وضع اسم له؛ فإن هذا الاسم لم يستعمل إلا في آخر القرن السادس عشر للميلاد، مع أنا ذكرنا فيما قبل أن «سقراط» أو «طاليس» قال: «اعرف نفسك»، وألف «أرسطو» كتابا يحتوي ثلاث مقالات عنوانه (في النفس)، بحث فيه في القوى العقلية للإنسان وعدها عين النفس والحياة.
ثم جاء الفيلسوف الفرنسي رنيه ديكارت 1596-1650 فوجه هذا العلم وجهة جديدة، ومما يؤثر عنه أنه أجاب من سأل: «كيف أعرف أني موجود؟» بقوله المشهور: «إني أعرف أني أفكر، وأشعر بتفكيري، فأنا أعرف أني موجود.»
Неизвестная страница
والمنابع التي يستقى منها هذا العلم اثنان كما أسلفنا؛ وهي: ملاحظة أعمال عقله، وما يجرى من التجارب على غيره. وجاء الفيلسوف الإنجليزي جون لوك 1632-1704م فألف رسالة في العقل البشري بحث فيها في الإدراك الغريزي بالحس - باطنا كان أو ظاهرا - وذهب إلى أن العقل البشري صحيفة بيضاء تدخل إليها التجارب من أبواب الحواس فتترك فيها نقوشا وأثرا، فنحن نحصل معارفنا إما بواسطة الحواس وإما بواسطة التأمل.
4
وفي القرن الماضي بدأ الناس - بعدما استكشف من الحقائق اليقينية - يميلون إلى فصل علم النفس عن الفلسفة وجعله علما مستقلا كعلم وظائف الأعضاء - الفسيولوجيا - إذ كان لا علاقة بينه وبين نظريات ما بعد الطبيعة.
ولما كان علم النفس يبحث في أعمال العقل بحثا عاما اجتهد في تعرف القوانين والقواعد التي تهدي الفكر وتعصمه من الخطأ، وأخذ يبحث في النظام الذي يسير عليه الفكر ليصل إلى نتيجة صحيحة؛ فنشأ من ذلك فرع من علم النفس انفصل عنه وسمي بعلم المنطق.
هوامش
الفصل الخامس
علم المنطق
جاء في إحدى روايات «موليير» أن أحد أغنياء التجار رأى أن ينزع عن جهله ويعود إلى التعلم، فما كان أعجبه حين علمه معلم اللغة أن الكلام إما نظم أو نثر، وأن كل ما ليس بشعر نثر، ودعاه العجب أن يسأل: فمن أي نوع أنا أتكلم؟ قال: إنك تتكلم نثرا، قال: فأنا أتكلم نثرا طول حياتي ولا أعرف! ثم ذهب إلى أهله وجمع عشيرته ليخبرهم بالاستكشاف الجديد. كذلك كثير من الناس يرعبون إذا ذكر اسم المنطق أو اقترح عليهم أن يقرءوا كتابا في المنطق، ولو علموا أنهم في محادثتهم اليومية وما يدور بينهم من مناقشة وما يشرحون من معتقدات ومسائل دينية وسياسية يسيرون على مقتضى المنطق لاعتراهم من الدهش ما اعترى ذلك التاجر.
إذا شرحت نظرية أو قيل قول أو ذكر رأي؛ فإنا نصغي إليه ونفهمه، ولكنه لا ينطبع في عقولنا حتى يبرهن عليه؛ فإن نحن حللناه وامتحناه وتبينت لنا صحته انطبعت في عقولنا نتائج لا نشك في صحتها، وإننا إن سرنا على هذه الطريقة قيل: إننا نفكر تفكيرا منطقيا أو تفكيرا صحيحا؛ فالمنطق إذا علم التفكير الصحيح، وهو يبحث في القوانين والشروط الضرورية للوصول إلى حكم صحيح يقبله كل مفكر عادي.
ما الشروط التي تجعل الحكم صحيحا؟ كيف نمتحن الحكم ونتأكد من صحته؟ هذه مسائل يبحث عنها علم المنطق، وهو لا يعلمنا كيف نفكر أو ماذا يعمل عقلنا عند التفكير فحسب، بل يعلمنا أيضا كيف ينبغي أن نفكر، فهو يحلل التفكير الصحيح، وما نعمله لنصل إلى نتيجة صحيحة، ويرينا خطأ الفكر عندما ينحرف عن القواعد. هذا وكثير من الناس يستخفون بالمنطق ويستهزئون به وما دروا أنهم مناطقة إلى درجة ما، تتبع عقولهم ما يرسمه المنطق وإن لم يعلموا، ويلاحظون قوانين التفكير الصحيح على غير علم منهم بها حتى ولا بوجودها.
Неизвестная страница
إذا نحن امتحنا التفكير وجدناه يتركب من ثلاثة أعمال يعملها العقل: إحساس بالشيء أو المعنى، وتأثر العقل بهذا الشيء أو المعنى وإدراكه، وهذا هو الفهم في أبسط أحواله، بعد ذلك نبتدئ نؤلف بين فكرتين؛ فإما أن نقرن بعضهما ببعض، أو نفرق بينهما، أي إما أن نثبت وإما أن ننفي، وبذلك يتكون الحكم على الأشياء، وهذه الأحكام يظهر لنا بعضها صحيحا والبعض الآخر خطأ، وإذ كنا نحاول دائما الوصول إلى أحكام مقبولة عند غيرنا كما هي مقبولة عندنا، حاولنا أن نستكشف عللا وأسبابا تتبين منها وجوه خطأ الحكم وصحته، فقارنا الأحكام بعضها ببعض، ونظرنا في العلاقات التي بينها، وبحثنا فيما يقال مبتدئين من الجمل الأولى التي تسمى «المقدمات»، ومنتهين بما يسمى «بالنتيجة».
ولا حاجة بنا هنا إلى البحث فيما إذا كان الإدراك يمكن أن يقوم بنفسه من غير ألفاظ أو لا، وإذا كان فإلى أي حد يكون ذلك ؟ فإن هذه المسألة كانت ولا تزال موضع بحث علماء النفس والمناطقة، فمنهم من يؤيد القول بأنه من الممكن التفكير بدون الاستعانة باللغة، ومنهم من يذهب إلى أن ذلك غير ممكن، وأن التفكير من غير ألفاظ ضرب من الوهم الكاذب، وقد قرر «مكس ملر» مرارا أن الفكر واللغة حقيقة واحدة.
شبه ذلك بالنقد
1
فقال: «ليس ما نسميه بالفكر إلا وجها من وجهي النقد، والوجه الآخر هو الصوت المسموع، والنقد شيء واحد لا يقسم، فليس ثم فكر ولا صوت، ولكن كلمات.» وقد نوقشت نظرياته وعورضت. ومهما يكن فإن من المسلم به أننا عندما نتعقل شيئا أو نستنتجه نستعمل الألفاظ في الدلالة على عمليات العقل، ومن المتفق عليه أننا نشرح أفكارنا بالألفاظ والكلمات الخارجية؛ فقد وضعنا للشيء الذي في عقلنا اسما، ودللنا عليه بكلمة خاصة سميناها «اللفظ»، وبانضمام لفظين أو أكثر مع رابطة نستطيع أن نشرح رأيا أو حكما، وهذا هو ما يسمى «القضية»؛ ولأجل أن نبرر أقوالنا ونبرهن على صحتها ونوضح وجه قبول قول أو رفضه نضع القضايا ونستنتج منها نتائج، وهذه الأدلة المكونة من القضايا تسمى «الأقيسة»، فالمنطق - وهو علم التفكير الصحيح - يبحث في الألفاظ والقضايا والأقيسة.
هذا ولا يخفى ما في تحديد معاني الألفاظ من الفائدة، فكثيرا ما يثور الخلاف بيننا في مسألة ويشتد الجدال في موضوع، ويظهر أن المتجادلين على خلاف فيما بينهم، وهم في الواقع على اتفاق، ولو حددت ألفاظهم لتجلى لهم أنهم على رأي واحد، وليس منشأ الخطأ في الفهم إلا الغلط في تحديد الألفاظ أو غموضها وتعقيدها والتباسها؛ لذلك كان «فولتير» يبدأ المناقشة دائما بقوله: «حدد ألفاظك»؛ فالعلم بمعاني الألفاظ علما صحيحا لا يستغنى عنه للتفكير الصحيح ولا للحكم الصحيح.
وعندما نستخلص حقيقة من حقيقة أخرى نسمي ذلك «استنتاجا»، وليكون الاستنتاج صحيحا يجب أن نسير على مقتضى قوانين تعصمنا من الخطأ، وتمنعنا من الوصول إلى نتيجة باطلة.
والقوانين الأولية للفكر ثلاثة؛ وهي: (1)
قانون الذاتية: وهو أن كل شيء هو هو، وبعبارة أخرى: كل شيء هو نفسه . (2)
قانون التناقض : وهو أن لا شيء يمكن أن يكون هو وليس هو. (3)
Неизвестная страница
قانون الامتناع: وهو أن الشيء إما أن يكون أو لا يكون، أو: الشيء إما أن يكون كذا أو غيره، وبعبارة أخرى: الشيء إما أن يجاب عنه بنعم أو بلا.
وإذا نحن أهملنا قوانين الفكر الصحيح فلا بد من الوقوع في الخطأ مع عجزنا عن معرفة موقعه، ولا بد لنا غالبا من الرجوع إلى القول من مبدئه لاستكشاف الموضع الذي انحرفنا فيه عن الصواب، والذي بسببه نصل إلى غير ما قصدنا، وتسمى هذه الأغلاط «بالمغالطات».
ونحن في بحثنا لا نقصد الوصول إلى نتيجة صحيحة فحسب، وإنما نقصد الوصول إليها من أقرب طرقها، وللوصول إلى ذلك نستعمل نظما متنوعة يظهر لنا أنها أنسب لغرضنا، وتسمى هذه النظم «بالطرق». ويستخدم المنطق في كل العلوم على اختلاف أنواعها.
وهذه الطرق متنوعة؛ فمنها: (1)
طريقة الاستقراء: وهي فحص أمثلة ومعلومات ثم محاولة الوصول منها إلى قاعدة عامة، وتسمى هذه الطريقة طريقة «التحليل» لأنها تحلل الكل إلى أجزاء. (2)
طريقة الاستنتاج: وهي على العكس من الأولى، ففيها يبتدأ بذكر قضايا عامة، ووضع بعضها بجانب بعض، واستنتاج النتائج منها، وتسمى «طريقة التركيب» لأن بها تركب من الأجزاء قضايا عامة.
ففي الطريقة الأولى - وقد تسمى أيضا «الطريقة العكسية» - نبتدئ من الجزئيات ونستقريها، ثم نستنتج منها قضية عامة، وفي الثانية - وتسمى «الطريقة الطردية» - نبتدئ من القاعدة العامة ثم نطبقها على الجزئيات التي نعرفها من قبل بالاختبار.
2
هوامش
الفصل السادس
Неизвестная страница
علم الجمال
هناك فرع آخر من فروع علم النفس يبحث في الشعور الذي ينبعث عن الشيء الجميل، والذي يستحق الإعجاب، أو عكسهما؛ أعني القبيح والمزدرى.
إن في حواسنا - ولا سيما حاستي السمع والبصر - أليافا بها نشعر باللذة إذا سمعنا بعض الأوصاف أو رأينا بعض المناظر، وإن المناظر الطبيعية العديدة في بهائها وجمالها وعظمها، وتوقيع الموسيقيين في تناسقه، وصور المصورين وتماثيلهم،
1
وقراءة الشعر الجميل وسماعه؛ ليحدث في نفوسنا أريحية ويبعث في قلوبنا هزة طرب؛ فطورا نلفظ بما يدل على شعورنا فنهتف : «ما أجمله وما أبدعه! إنه لمنسق وإنه لرشيق.» وطورا نتدرع بالصمت إذ لم نجد قولا يعبر عن شعورنا، وإنا لنسر برؤية الشيء ونعجب به ولو كنا لا نملكه، بل قد:
يزيدك وجهه حسنا
إذا ما زدته نظرا
إن الجميل ترتاح له النفس، وينشرح له الصدر، أما القبيح فينشأ عنه شعور بألم أو نفور، قال «نيتشه»: «كل ما كان قبيحا يضعف الإنسان ويقبض صدره؛ إذ يذكره بالانحطاط والخطر والوهن.»
فإحساس الإنسان بشيء من الضيق يؤذن بحدوث شيء «قبيح»، وقد ذكرنا أن الجميل ترتاح له النفس، ولكن ليس كل ما ترتاح له النفس جميلا؛ ذلك لأن اللذة التي تحدث من الجمال نتيجة تأثير في العقل بواسطة الحواس، ولست أعني كل الحواس، وإنما أعني الحواس الراقية، وهي حاستا السمع والبصر، فليس كل ما يلذ لحاستي اللمس والشم دائما جميلا، فلا شيء من الجمال في فاكهة لذيذة عند أكلها، ولا في مطعوم عندما نطعمه؛ إذ لا يوصف ذوق تفاحة ولا شم مشموم بأنه جميل، وإنما يقال: طعام مستطاب، ورائحة طيبة.
والجميل أيضا يغاير النافع؛ فإن الشيء الجميل حقا الذي يمنحك لذة لا تكافئها لذة بالتأمل في محاسنه، أو بالإصغاء إلى تناسق نغماته، ليس بنافع عادة - أعني أنه ليس بنافع ماديا وإن كان من المحتمل أن يكون نافعا من الوجهة الأدبية - وما يحدث من اللذة والسرور عند التأمل في الجمال مقصود لذاته لا لشيء آخر وراءه يرغب فيه، وقد كان الفيلسوف الألماني «كانت» أول من أبان أنه مقصد لا وسيلة لغيره.
Неизвестная страница
والسمع والبصر اللذان يعدان أعظم الطرق في العقل هما العضوان اللذان يوصلان إلى المخ أو إلى المركز العصبي كل التأثرات التي تحدث من التأمل في اللون والشكل والهيئة والحركة، أو من سماع أصوات خاصة، وهذه التأثرات تكون مصحوبة عادة بشعور بلذة أو ألم، وتسمى اللذة التي تحدث من التأمل في الجمال «لذة الجمال»؛ وهي أثر الجمال يخاطب عواطفنا وعقولنا وخيالنا بواسطة الحواس، فيذكي نفوسنا ويرقيها ويزكيها، ومن مميزات هذه اللذة خلوها من رغبة في الملك تسبب إحساسا بالألم لا محالة؛ ففرع الفلسفة أو علم النفس الذي يبحث في هذه العواطف وتلك اللذائذ هو «علم الجمال». والإنسان كثيرا ما يحس بسرور ولكنه لا يعرف علته، وقلما يبحث في السبب ويحلله، والغرض الفلسفي من علم الجمال أن يبحث وينقب ويحدد ذلك. نعم، إن الفيلسوف والعامي يشتركان في أن كلا يشعر، ولكن الثاني لا يستطيع أن يوضح شعوره بقول أو فعل كما يستطيع الفيلسوف والفنان؛
2
فالعامي يشعر فقط، والفيلسوف يشعر ويتأمل. في العامي غريزة ساذجة وعاطفة وإلهام يشاركه فيها الحيوان إلى حد ما، وفي الفيلسوف تبصر وإمعان وفكر.
علم الجمال - وإن شئت فقل: «علم الجميل» - هو علم يبحث في الشعور والإحساس واللذائذ التي تبعثها مناظر الأشياء الجميلة. وهذا التعريف لا يسلم من النقد إن لم يكن خطأ محضا؛ فإن هذا العلم لا يبحث في الجميل فقط، بل يبحث في القبيح أيضا، كما أنا إذا تكلمنا عن «علم الحروب» فلسنا نعني علم النصر، وإنما نعني علم الحركات الحربية التي ينبغي أن تؤدي إلى النصر، وربما أدت إلى الهزيمة.
الجميل يبعث في النفس الشعور بالحب والجاذبية واللذة والسرور، والقبيح يبعث الشعور بالكراهية والنفور، ولكن نرى جمال الطبيعة الرائع، والنجوم التي لا عداد لها سابحة في الفضاء منثورة نثر الرمال في الصحراء، والجبال الشامخة، والبحار الشاسعة، وشروق الشمس وغروبها فنطلق عليها اسم «الجميل»، وهي مع ذلك تحدث في النفوس حزنا عند التأمل فيها، وتبعث نوعا من الكآبة - أو الوجد - يصح لنا أن نسميه ألما لذيذا، وسبب هذا أننا نراع أمام هذه الأشياء باللانهاية، ويعلونا الشعور بأنا لم نعد في حضرة «جميل»، بل في حضرة «جليل»، وهذا يحدث في النفس أولا شعورا بالضعة، ثم يتلوه شعور بالرفعة.
ويقابل الجليل «الفكه»،
3
وهو ينشأ من تضاد أو عدم ملاءمة أو ظهور الشيء بغير مظهره، كالوقار المصطنع والصلاح المفتعل، قال الأستاذ «سلي» في آخر كتاب له واسمه (رسالة في الضحك): «إن لفظي المضحك والفكه يمكن استعمال أحدهما مكان الآخر إلى حد ما مع أمن اللبس، ومع ذلك فيحسن أن يلاحظ أن اللفظ الثاني يستعمل عادة في معنى أدق من الأول؛ إذ الظاهر أن لفظ (الفكه) لا يدل على ما يضحك منه فحسب، بل يدل أيضا على ذلك النوع من المجون العقلي الذي يتضمن ملاحظة ما بين الأشياء من الروابط والنسب ملاحظة واضحة، ويتصل تمام الاتصال بما ذكرنا من دلالة كلمة (الفكه) على الجانب العقلي أنه يلاحظ فيها أيضا الدلالة على المثل الأعلى لما يستحق أن يضحك منه، وفيها - كما في كل ما يثير عاطفة الجمال - إشارة شبه خفية إلى قواعد الفن المنظمة للعمل.»
والمناظر المحزنة تبعث في النفس لذة مشوبة برحمة، لذة يخالطها شيء يشبه الألم، وسبب هذه اللذة أن للعواطف الأخلاقية عملا في هذه الأشياء، وعلم الجمال يبحث في كل هذه الإحساسات، فهو علم الشعور والعواطف والانفعالات.
علم الجمال يحد الجميل والقبيح والجليل والهزلي والفكه، ويبحث في السبب الذي من أجله يظهر الشيء جميلا أو قبيحا، يبحث في الجمال المطبوع كما يبحث في الجمال المصنوع؛ أعني أنه يبحث في الفنون
Неизвестная страница