كان وجود فرغلي في الكلية يسكب عليه هذا المرتب الضخم ولولا خوفه أن تكشف عمته وزوجها أمره لاستقل بالسكن، ولكنه أراد أن يظل في بيتهم ليستر دخله ومنابعه في وقت معا. فهو لا ينسى دهشتهم كلما اشترى ملبسا جديدا، وهكذا استطاع فرغلي أن يدخر مبلغا من المال لم يتصور أنه سيكون في حيازته في يوم من الأيام.
وحين ظهرت النتيجة وحصل على بكالوريوس كلية التجارة تولاه نوع من القلق؛ فقد كان يخشى أن تستغنى عنه جهة من الجهات الثلاث التي يعمل فيها وهو بعد في أول الطريق، ولهذا لم يكن غريبا أن يفكر في هذا الباشا بجانب قريتهم ليضمن له الوظيفة. وكان يريد أن يوطد علاقته بنديم وإن كانت في غير حاجة إلى توطيد، إلا أنه اليوم أصبح يحس أن أهل نديم سيفتحون له الطريق في أول الأمر على الأقل. وحين فكر أن يعيش مع أبيه كان يريد أن يبالغ في إخفاء ما ادخره من مال. فالأطماع من أبيه متكالبة، فلو علم أن ابنه يملك مالا ما أعتقه أو ينال من هذا المال كل ما يستطيع أن ينال. وكان وصوله إلى القرية قبيل غروب الشمس وكان نديم غائبا عن القاهرة فذهب فرغلي وحده وكان دخوله إلى بيت أبيه محوطا بكثير من الشعور بالغربة فلا البيت بيته ولا سيدة البيت أمه ولا هؤلاء الإخوة إخوته إلا بانتسابهم إلى أبيه، بل إن أباه ليس أباه، فالأبوة ليست مجرد نقطة من دم تصبح إنسانا وإنما هي صلات عميقة تلقي بذرتها إلى قلوب الآباء روح الله ليرعاها الآباء بالعطف والحب والإشفاق الذي لا إشفاق مثله والتفاني الذي يصل إلى منزلة التنازل عن الحياة في سبيل سعادة الأبناء. وتنمو تلك الشجرة المقدسة الوريقة الخضراء في كل الفصول لتصبح الأبوة التي يعرفها من الآباء أغلب الآباء، ويعرفها من الأبناء أغلب الأبناء.
فإذا لم يزرع الأب هذه البذرة الربانية فليس عجيبا ألا تكون هناك أبوة، وليس عجيبا ألا تكون هناك بنوة، بل وليس عجيبا أن يشعر الأب أمام ابنه بالخزي الذي يذكره دائما بهوان عواطفه، ويشعر الابن أمام أبيه بالكره لذلك الكيان البشري، الذي كان يلتمس من قلبه الرحمة فوجد القسوة، وينتظر الحب فوجد الانصراف، ويتوقع العطف كل العطف فلم يجد إلا الجمود كل الجمود.
كان أبوه جالسا بصحن الدار وإلى جانبه زوجته وقد ارتسمت على وجهيهما تلك الملالة التي يعرفها أهل الريف إذا انقطع بهم الليل، ووهنت الأقدام عن السير وشعر الناس كل الناس أنهم لن يجدوا من الحديث جديدا إذا هم تزاوروا. لحظات تهبط فيها الملالة على جو القرية كضباب ينتشر ويتجمد ساعات أو أياما ثم ينقشع ثم يخف الناس إلى بعضهم البعض يسمرون بحديث فارغ أغلب الأمر أو بحديث جاد أحيانا.
كان ذلك اليوم الذي دخل فيه فرغلي إلى البيت من أيام الملالة تلك، وكانت تلك الأيام عجيبة في شأنها؛ فأنت تجد الناس في القرية، كل الناس، وقد اتخذوا قرارا يبدو في ظاهر أمره فرديا وهو في الحقيقة إجماعي أن يصيب الزهق نفوسهم كأنها تصعد في السماء.
وحين دخل فرغلي ابتسم الأب؛ فإن تكن بذرة الأبوة لم ترتو، ولم تصبح شجرة إلا أنها موجودة على رغم أنفه، وإن له إلى ابنه حنينا وإن حاول أن يقمعه، وإن له عندما يلقاه لهفة وإن تكن خجولا. - أهلا.
قالها صادقة صاعدة من أعماقه كأنما كانت مغلقة وانفتحت فجأة، وقامت شهاوي عن مكانها لتلتقي به في منتصف الطريق إلى الكنبة التي كانا يجلسان عليها. - أهلا مرحبا ... اسم النبي حارسك وضامنك ... أهلا ... أهلا بك في بيت أبيك يا فرغلي.
لم تكن المرأة كاذبة في مشاعرها فإن فرغلي لم يكلفها من أمرها عنتا ولا رهقا طول هذه السنوات التي عاشتها مع أبيه، وهي واثقة أنه ما دام لم يكلفهم وهو تلميذ فهو الآن وهو في ريعان شبابه أكثر بعدا عن إرهاقهم. ومشاعر شهاوي مثل أغلب نسوان القرية تتشكل بالمكسب والخسارة، فليس غريبا أن ترحب شهاوي بابن زوجها وأن تفرح بأنه جاء إلى زيارة بيتها.
واستقبل فرغلي الترحيب بابتسامة يكاد يكون قد صنعها بيديه ليضعها على شفتيه. فإنه منذ زمان بعيد قتل في نفسه كل المشاعر الإنسانية التي لا تعود عليه بربح مادي، سواء عليه تمثل هذا الربح في مال يكسبه أو قوة يبطش بها إن استطاع بطشا. وكان يعلم أن رغبته في البطش عارمة وكان يختزنها وينتظرها لتزداد عنفا على الأيام.
قبل أباه، وقبلته شهاوي وزعقت: يا أولاد تعالوا شوفوا أخاكم ... فرغلي جاء يا أولاد.
Неизвестная страница