وكان هذا المصدر على قدر كبير من الذكاء.
كان فرغلي جالسا في المكتبة، وكان الشيخ سمهان جالسا معه ينظر إلى ساعته المرة تلو الأخرى يريد ألا تفوته صلاة المغرب جماعة. ولم يكن اليوم من الأيام التي تعود أمين أن يأتي فيه إلى المكتبة، ولم يكن أيضا هناك موعد بين أمين أو فتحي مع فرغلي. فكان فرغلي متوقعا أن تنفرد به المكتبة حين يذهب الشيخ سمهان إلى الصلاة.
ويقوم الشيخ سمهان: سأظل في الجامع حتى أصلي العشاء فلا تترك المكتبة. - وكيف أتركها وأنت لست هنا. - سلام عليكم. - مع السلامة.
ولم تمر لحظات على ذهاب الشيخ سمهان حتى دخل المكتبة شاب متوسط القامة ممتلئ الجسم في غير ترهل، يبدو من وجهه الشاب أنه لا يتجاوز الثلاثين ولكن في عينيه نفاذا حادا يحاول هو بإغضائة يتقنها أن يكسر الشعاع المتدفق منهما في قوة عاتية، في وجهه جرأة يسترها بابتسامة خجلى فلا تنستر. قال في صوت خفيض قوي: السلام عليكم.
كان فرغلي جالسا وظهره إلى المكتبة وعيناه إلى الطريق، ولم ير الشاب وهو يدلف إلى المكتبة، حين انقض عليه الصوت خيل إليه أنه ينبعث من فضاء. وانتتر في حركة تلقائية وهو يصيح في صوت مخضوض: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
ووضع الشاب يده على كتفه وقد أحس خوفه. - ياه! كنت أظنك شجاعا. - أهلا وسهلا. - أقعد؟ - تفضل. - طبعا ما دمت سأقعد فأنا لن أشتري كتبا. - لا تريد كتبا؟ - أنا أقرأ الناس ولا أقرأ الكتب. - أهلا. - ما كل هذا الفزع؟! خيبت ظني. - أي ظن؟ - ظني فيك. - أتعرفني؟ - كما لا تعرف نفسك. - وهل يعرف أحد نفسه؟ - جواب ذكي. فأنا أعرفك كما لا يعرفك أبوك فهيم. - أبي! إنه لا يعرف عني شيئا. - أعرف ذلك. وأعرفك كما لا تعرفك أمك تحية أو توحة. - من أنت ... كيف؟ - اقعد واهدأ واسمع ولا يعلو صوتك. - أهو أمر؟ - نعم. - ممن؟ - من هذا.
وقرأ البطاقة المجلدة، وخفق قلبه كما لم يخفق أبدا حتى ولا يوم أحاط به التلاميذ في فناء المدرسة الابتدائية، وجف حلقه وراح يجمع الكلمات. - أهناك شيء؟ - هناك أشياء. - أنا تحت أمرك. - غصبا عنك. - ومن غير غصب. - في هذه الحالة سنصبح أصدقاء؛ صداقة لم تعرفها في حياتك. - أوامرك. - هناك طريقتان، الأمر واحدة منهما. - والأخرى؟ - الاتفاق.
بدأ فرغلي يسترد شيئا من كيانه المحترق وأحس الجفاف وقد أصبح رطبا بعض الشيء، واسترد أنفاسه المتلاحقة. - من المؤكد أنك لا تعرفني كما تظن. - هل أنت سريع الأحكام دائما هكذا؟ - لو كنت تعرفني لعرفت أنني لا أمانع في الاتفاق أبدا. - ولكنك إن تمكنت قتلت. - هذه صفة جديدة في نفسي. - والأحذية التي مزقتها في المدرسة. - مجرد أحذية. - الآن يمكن أن تستبدلها بأرواح. - أعوذ بالله. - هذا صوت أمين الشبراوي. - أتعرفه؟ - إن لم أكن أعرفه ما قلت إنك لا تمانع في تمزيق الأرواح. - أنت تعرف الكثير. - وأعرف الذين تعرفهم عن طريق فتحي. - أيضا؟! - هؤلاء يمزقون الحياة كلها. - ولكنك تعرف ... - أعرف أنك مع هؤلاء ومع هؤلاء وأنك في نفسك لست مع أحد إلا نفسك . - أنت تعرفني إذن. - ونفسك هذه أشد خبثا وجبروتا من هؤلاء وهؤلاء جميعا. - لا أعرف هذا في نفسي. - ألم تقل إن أحدا لا يعرف نفسه. - فكيف عرفت أنت هذا عني؟ - هذا عملي. - أوامرك. - تعمل معنا. - وما له؟ - نحن يمكننا أن نقتل إذا غشنا من يعمل معنا. - والجماعتان اللتان أعمل معهما يقتلان أيضا. - القتل عندهما جريمة نتولى نحن ضبطها ويعدم الفاعل. أما نحن فنقتل قتلا شرعيا. - شرعيا؟! - هو قتل قانوني على الأقل. - أي قانوني هذا؟ - إذن فقل هو قتل رسمي لا عقاب عليه. - هذه هي الكلمة السليمة. - ماذا قلت؟ - أنت تعرف ما أريد أن أقول. - ستأخذ منا قدر ما تأخذ من الجماعتين. - وأين يكون اللقاء. - لا شأن لك بهذا. - والمرتب؟ - من المؤكد أنك ستجده في جيبك كل شهر.
9
عود على بدء
Неизвестная страница