خيوط السماء
خيوط السماء
خيوط السماء
خيوط السماء
تأليف
ثروت أباظة
خيوط السماء
1
بكالوريوس التجارة! ثم ماذا؟ من أين له بعمل؟ مصر تعاني والحكومة لا تعين أحدا. فإذا فعلت فبمقدار، وهذا المقدار لا يناله إلا من يعرف صاحب نفوذ؛ صاحب نفوذ ...
إن أباه عامل التلغراف بمحطة الديميرية، وأقرب عزبة لمحطة الديميرية هي عزبة الباشا، وليصحب معه صديقه نديم؛ نديم ... لا بد أن نديم يعرف الباشا؛ فنديم من عائلة فيها أغنياء ولاسمها طنين لا تخطئه الأذن؛ نديم الطوبجي! أكان جده طوبجيا في جيش محمد علي؟ لا بد أنهم في العائلة يدعون هذا على الأقل فكل عائلة تحاول أن تجعل بينها وبين عائلة محمد علي صلة؛ أي صلة. حتى الشماشرجي لم تغير عائلته اسمها على ضآلة الوظيفة التي كان يشغلها جدها في عهد محمد علي، لقد كان مجرد خادم في حشم الوالي ومع ذلك يتشرف أحفاده بهذا العمل المهين! وأغلب الظن أن هذا الطوبجي كان خادما لأحد الضباط ورافقه في حرب من حروب إبراهيم، وعاد ليدعي أنه كان طوبجيا. يا عم! وأنا مالي، المهم أن أجد نديم وأجد والده على معرفة بهذا الباشا الذي يعمل أبي بجوار عزبته، إنه يعرفه لا شك، وقد ذكره لي في بعض أحاديثه. وعلى كل حال فإنني حتى إذا لم أسافر لأجعل أبي يتوسط لي عند الباشا فلا بد لي أن أسافر لأخبر أبي أني حصلت على الشهادة، وأحاول أن أقيم هناك بضعة أيام حتى يتأكد أبي أنني مفلس؛ فلو علم أن معي مالا لانقض عليه. هو لا يحب أن أقيم معهم ولا يحب أن يراني، وكذلك أنا، ولكن في هذه المرة لا بد مما ليس منه بد.
Неизвестная страница
معذور أبوه فهو كلما رآه تذكر ما صنعته به أمه ... ويل له من أمه وأبيه معا! ولكن هذه قصة أخرى، فماذا علينا إذا رويناها؟ وهل أمتع من التسلية بأحاديث الناس وأخبارهم وأسرارهم؟
أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه ...
ولكن القرآن ينهى عن كل المتع، والنبي كان يعرف هذا فليس عجيبا أن يقول إن الجنة حفت بالمكاره.
وعلى أية حال أتظنون أنكم ستعرفون عمن أحكي؟ ما هي إلا أسماء سميتها، فإذا أنت عرفتها وفككت عنها طلاسمها وامتد بك عقلك إلى حقيقتها؛ فالذنب عليك يقع فأنا لن أذكر أسماء، ولن أتحمل وزر النميمة. فإذا ساء منك الظن بالناس، ورحت أنت تحمل أسمائي ما لم أصرح به أنا فأنت وحدك المسئول.
وعلى كل حال فأنت تعرف أن هوايتي وحرفتي في الحياة أن أحكي، فإذا لم أحك فماذا أفعل؟ والحكاية في ذاتها لا تعترض عليها الأديان، فكل الكتب السماوية لها قصصها، وكل الكتب السماوية تتخذ من هذه الحكاية وسيلة لتضرب بها الأمثال لعلهم يعقلون.
فأي بأس علي أن أحكي أنا أيضا؟ وإن كان القرآن لا يحكي إلا صدقا فإن الذين مثلي لا يحكون إلا ما تؤلف الحياة.
أحكي إذن لك حكاية أمه ...
من البداية؟
لا بأس من البداية ...
ولكن البداية بعيدة تتحجب بالسنين الطوال وبالأحداث.
Неизвестная страница
وماذا وراءنا؟
على رأيك ... ماذا وراءنا.
كان ذلك في مولد الشيخ السمالوطي بالصعيد، وكان فهيم الحوت حديث التعيين في مصلحة السكة الحديد، وكان يعمل خفير مزلقان يومذاك، فما كاد ينتهي من عمله حتى سارع إلى المولد. كان الترك وهو المسرح الرسمي للمولد واضعا صورة ضخمة فخمة على واجهته، وكانت الصورة تمثل امرأة رآها فهيم جميلة غاية الجمال! وإذا عرفت أن فهيم هذا لم ير في حياته امرأة إلا أمه، وهي امرأة غاية في القبح تزوجها أبوه دون أن يراها، وأختيه وهما أقبح من أمهما؛ لأدركت سبب إعجابه بالصورة وصاحبتها.
وهذه قصة أخرى ولكنها قصيرة ... كان أبوه خفيرا، وكان حريصا على وظيفته كل الحرص؛ فلم يجد وسيلة خيرا من أن يخطب ابنة شيخ الخفراء دون أن يسأل عن شيء من حقائقها؛ فالحقيقة الوحيدة عنده أنها ابنة شيخ الخفراء.
ولم يكن يتصور أنها بهذا القبح كله، حتى لقد كان كثيرا ما يرى أنها أجدر من أبيها بالوظيفة من حيث الرجولية والاخشوشان، ولكنه رضي مرغما بما وقع فيه. وولدت له فهيم أول ما ولدت ثم أتبعته بثلاثة رجال وبنتين جمعوا جميعا أقبح ما في الأم وأقبح ما في الأب.
إذا عرفت هذا جميعه استطعت أن تتصور نوع الجمال الذي يمكن أن يعجب فهيم.
كانت أمه وأختاه عجفاوات كأنهن عصا الخفراء، وكانت الراقصة توحة سمينة مفرطة السمن. كانت أمه وأختاه ذوات أنوف فطساء، وكان أنف توحة واثبا من الصورة كأنه نفير من فم نافخ واستقر عند الأنف، كانت أمه وأختاه - أراني سأطيل المقارنة - كل هذه تفاصيل لا تعنيك ولا تعنيني في شيء، المهم أن فهيم اشترى التذكرة ودفع المليمين ودخل الترك.
وانتهى العرض وخرج فسأل: أهذا آخر عرض؟ - بل أول عرض. - وكم مرة ستعرضون؟ - خمس مرات. - فأعطني لكل عرض تذكرة.
ودفع قرشا صاغا كاملا.
كيف السبيل إلى توحة؟ كان هذا هو السؤال الذي انفجر في كيانه، ولم يكن هذا مجرد سؤال، وإنما خيل إليه في لحظته تلك أن الوصول إلى توحة يمثل له كل الآمال التي يمكن أن يتعلق بها مستقبله.
Неизвестная страница
وبماذا يمكن أن تتعلق آمال مستقبله؟! خفير مزلقان أقصى ما يحلم به علاوات ثم تتوالى الأيام عقيمة مكرورة حاسرة الوجه لا تستطيع أن تحجب في ثنايا خفاياها أي جديد. تجعل من الانتظار متعة، ومن الغد توقعا، ومن السنوات أمنيات. إذا لم يتزوج من توحة فما الحياة! توحة هي الابتسامة المشرقة التي تستطيع أن تجعل في حياته الرتيبة الضجرة شيئا يتوارى خلفه من ملل الأيام. قد تسخر منه القرية أنه تزوج راقصة، ولكن ما القرية وماذا يلقى منها أو من أهلها! ستصبح توحة هي حياته جميعا.
ظل يتردد على الترك كل يوم، وكانت توحة تمر بالجالسين بعد كل رقصة تجمع النقطة. ومن هذه النقطة وجد فهيم وسيلة إليها. كان يشهد كل العروض، وكان الجميع يلقون في منديل توحة قرشا أو نصف قرش، وكان هو يلقي خمسة قروش، وكان حريصا أن يريها القروش الخمسة قبل أن يلقي بها في المنديل، وكان طبيعيا أن تفرج توحة فمها عن ابتسامة من فئة الخمسة قروش. وحين تكرر الذهاب من فهيم أصبحت الابتسامة تزداد؛ حتى كان يوم أحس فهيم من غمزة عين مدربة أنها تدعوه؛ فدعي. وفي كواليس توحة عرض عليها الزواج وقبلت توحة؛ فقد كان مثل هذا الزواج هو المصير الذي تعرف أنه ينتظرها، فسارت إليه مدركة أنه قدرها الطبيعي لا عجب فيه ولا غرابة، ولا يحتاج حتى أي تفكير. عادت توحة إلى اسمها تحية الملواني.
ولم تهتم القرية بالتعليق على هذا الزواج؛ فلم يكن فهيم ذا شأن يحتاج إلى تعليق، وسواء عند القرية أن يتزوج من غزية أو يتزوج من غيرها. كل ما يستطيعون أن يفعلوه هو أن يمنعوا نساءهم عن بيت فهيم، وقد فعلوه وكان فهيم يتوقعه.
وتفرح الأيام وتتألق في عيني فهيم، ثم يخبو الفرح وينطمس التألق شيئا فشيئا، وتعود إلى الحياة ملالاتها، وتروح الأيام تدفع بعضها بعضا في فتور وتكاسل. عادت الأيام تتثاءب وهي تمضي مثقلة بالضيق، ولولا أن اليوم الحالي يدفعه اليوم القادم ما مضى يوم ليحل آخر.
قد يومض يوم أو بعض يوم ثم تسترخي الأيام بعد ذلك؛ فقد أومض مثلا اليوم الذي أتم فيه تعلم الضرب على آلة البرقيات وأصبح عامل تلغراف، وأومض اليوم الذي عرف فيه أن توحة حامل ... ولكن ما هي إلا لمعة برهة ثم تذكر ما سيكلفه الولد من عنت وجهد، فراحت الفرحة تتراجع بين ظهور واستخفاء، فما جاء الليل حتى استقر رأي الفرحة على التواري والاختفاء لتترك وراءها قلقا وخوفا لم يستطيعا حتى أن يبددا الملالة وتحجر اللحظات، وكان هذا الملل أشد وطأة على تحية بعد أن انسلخت من ملابس توحة.
وكانت وهي تعمل في المولد تنظر إلى المستقبل في ذعر يرادفه الأمل، وكان العمل الذي يفرض عليها الفرح يفرض معه نسيان الخوف. وكانت الأيام عندها متجددة؛ سواء عندها إن كان هذا التجديد بخير أو بشر، فهو على كل حال خير من هذه الوقفة الغبية التي تراها من أيام زواجها بخفير المزلقان أو حتى عامل التلغراف. كان التصفيق يوقظ لياليها، وكانت الوجوه المتغيرة ترد عنها الملالة. وكان الصراع بينها وبين أفراد الترك يجعلها مشغولة، وكانت بهذا الشغل تستطيع أن تنسى الذعر من الغد والقلق من المستقبل. وهكذا كانت تستطيع أن تنسى ما شهدته من نهاية الراقصات اللواتي سبقنها في هذه الحلبة، وكيف زحف جليد الشيخوخة على نضارة الشباب فيهن؟ فانطمرت حياتهن وهن ما زلن على قيد الحياة.
وللنفس أمام الحياة سراديب وطرق خفية تمكنها من قبول هذه الحياة واحتمال لحظاتها البطيئة الثقيلة العاتية والسريعة الرعناء والعابثة في آن. تمر السنوات سريعة وامضة وتمضي الأيام بطيئة وكأنها لا تمضي. وينشغل الإنسان باليوم عن السنة وبالحاضر عن الآتي وتلهيه اللحظة عن الدقيقة، والدقيقة عن الساعة، والساعة عن اليوم، واليوم عن العام. ويمضي العمر وأيامه جامدة كأنها لا تتحرك، وسنواته كأنها خفقة طائر أو طرفة عين أو سراب ما ظهر حتى امحى.
والإنسان في لوثة الحياة ينظر إلى الآخرين وكأنه ليس منهم وكأنهم ليسوا منه فهو دائما يرى نفسه فصيلة غير الفصيلة، وجنسا غير الجنس. فتجارب الآخرين عنده متعة وليست عبرة، وما يحدث للإنسان الذي ليس أنا، لا أتصور أنه سيحدث لي. وهكذا استطاعت الحياة التي يواجهها الإنسان بالسراديب والطرق الخفية أن تحاربه هي أيضا بسراديبها وطرقها الخفية. وإنها لأشد مكرا وأعظم حيلة، فتجاربها معلنة مشهرة يعرفها الناس جميعا، ولكن الحياة تقنعهم بسحر لها عجيب أن هذا الذي يحدث للآخرين لا يمكن أن يحدث إلا لهؤلاء الآخرين. ولهذا لم يكن غريبا أن تضيق تحية بحياتها الجديدة، ولم تعد تفكر في الأخريات من زميلاتها راقصات المولد حين عبرتهن الحياة دون زواج؛ فانتهى بهن الأمر، وقد اجتمع عليهن ذل الحاجة وذل الرفض من المجتمع.
ولم يستغرق انقلابها من قبول الزواج إلى الضيق به غير بضعة أشهر، ولولا أن فاجأها هذا الجنين لربما كان لها تفكير آخر.
ولكن الجنين جثم على إرادتها، ورضخت له وخضعت لسنن الزواج.
Неизвестная страница
ومرت الأيام الثقيلة فولدت، ومرت السنوات الجارية فشب الطفل وبدأ يذهب إلى مدرسة القرية. ويل له من تلك المدرسة؛ إنها اليوم بالنسبة إليه نوع من الماضي عبر به ولا يريد أن يذكره، ولكنه يفرض نفسه عليه فرضا محموما لا نجاة منه؛ طفل هو في السنوات الخضر وفي الأيام البله الساذجة من حياته خرج من حصار البيت إلى سعة المدرسة طفرة واحدة كحيوان حبيس لم ير إلى الحياة ولم يعاشرها وإنما كل دنياه غرفات البيت، وكل مراحه هذه الباحة تشب فيها معه الكتاكيت، تتوالى عليها الألوان حتى إذا استوت فراخا اختفت لتأتي بدلا منها كتاكيت أخرى، وليس يدري من مصير الكتاكيت الذاهبة شيئا، فهو حتى لا يكاد يربط بينها وبين هذه الفرخة التي يظل يأكل جزئيات منها أياما.
ومعه في هذه الباحة جاموسة تبقى أحيانا بالبيت اليوم بأكمله، وفي فترات أخرى تخرج مع أبيه في الصباح الباكر، وتعود معه والشمس تميل نحو المغيب.
وفي صدر هذه الباحة حجرة ليس بها إلا فرن مبني تخبز أمه فيه العيش، وقد يصيب في يوم الخبيز رغيفا عليه بيضتان وقد لا يصيب.
تلك هي دنياه، لا يدري هو أن الأطفال تخرج إلى القرية، وتلعب بها، وتجوب الشوارع والحواري والأزقة، وتقفز على أكياس القطن في موسم القطن، وتركب النورج في موسم القمح أو موسم الأرز. حبيس البيت هو، تمنعه أمه أن يرى إلى الدنيا. وإن خرجت هي لبعض شأنها فهي تصحبه مرتبطا بيدها لا تفلته حتى يتم لها ما تشاء من عمل خارج البيت، وتعود به ويسأل هو أمه ويلحف في السؤال لماذا لا يجري في الطرقات مثل هؤلاء الأطفال الذين يمر بهم، وتروعه أمه بالإجابة القاسية حينا أو تلاينه أحيانا. ولكن الإجابات دائما عمياء لا يبصر منها سببا يقنعه أو سببا يرتاح إليه.
وماذا يمكن أن تقول له أمه؟ إنها أيضا معذورة؛ لقد كانت تجاهد أن تؤجل لقاءه بقدرة قادر ما تتيح لها الحيلة أن تؤجل.
لم يعد يذكر إن كان قد عرف السبب الذي جعل أمه تخفيه عن الحياة في أول يوم ذهب إلى المدرسة أم لم يعرف. ولكن الشيء الذي لم ينسه ويحاول دائما أن ينساه أنه لقي هولا.
أحس في الوهلة الأولى أنه من فصيلة أخرى غير فصيلة هؤلاء التلاميذ، لم تأته الكارثة من أنه لم يكن يعرف أحدا من التلاميذ، فهذه السن عند البشر لا تفصل بين الكائن البشري والكائن البشري الآخر وإنما الأطفال جميعا كتلة واحدة متعارفة، وإن لم يسبق بينهم تعارف، كتلة تحتويها الصداقة، وإن لم يسبقها لقاء كيان بكيان، ومتى يبدأ التعارف تبدأ الصداقة، وإن لم تسبقها البواكير الأولى التي تسبق أنواع الصداقات الأخرى؛ فعدم معرفته بالأطفال الآخرين، وعدم معرفتهم به لم يكن أمرا ذا بال في حد ذاته. فقد كان يمكن أن يكون صديقا لهم جميعا في لحظة اللقاء الأولى. ولكن الكارثة أنه وجد نفسه كيانا مستقلا وهم جميعا كيان مستقل آخر.
ودخل إلى الفصل، وهذا الشعور بأنه منطقة منبوذة من الحياة يملأ نفسه ويهشمها تهشيما. وفي الحصة الأولى بدأ المدرس يقرأ أسماء التلاميذ حتى بلغ اسمه. - فرغلي فهيم الحوت. - نعم. - أنت. - نعم. - تشرفنا.
وانفجر الضحك. - اسمع أنت هنا تنسى البيت تماما. - وماله البيت؟ - لا شأن لنا به المهم أن تنساه تماما. المهم أن تكون تلميذا مضبوطا. - على الواحدة ...
وسارع المدرس يقول للتلميذ الطويل الذي ألقى القنبلة الأخيرة: اخرس يا خليل.
Неизвестная страница
ولكن التلاميذ لا يخرسون وإنما هم يضحكون، لا يريد أن يسكت، وهو واقف مكانه لا يدري ما هذا الذي يحيط به، وينقذه المدرس أخيرا. - اقعد يا فرغلي.
وقعد ... ولكن ما هذا الذي يجري حوله؟! ما هذه الواحدة التي ضحكوا منها؟! ظل ذاهلا طول الدرس وما تلاه من دروس، وفى الفسحة ظل يحاول مرة أخرى أن يكون قطعة من هذا النسيج الذي يكون تلاميذ المدرسة لكنه أحس أنه قطعة مستقلة عن قماش التلاميذ، شيء لا ينسجم معهم ولا ينسجمون معه. انتبذ مكانا قصيا أمن إليه واطمأن أنه مخفيه عن الآخرين، وراح يفكر فيما حدث له في يومه الأول هذا في المدرسة. أي شيء فيه يجعله كيانا لا يلتئم مع كيانات الآخرين! أية عجينة تجعل منه صنفا منفردا غير مقبول من أبناء مدرسته! إنه طفل مثلما هم أطفال، له أب وله أم، ولا شك أن لكل منهم أبا وأما أيضا؛ لا بد من خافية لا يدريها وهم يدرونها.
ما هي؟ لماذا ينقبض عن كل أمثاله ليصبح مادة معزولة غير صالحة أن تذوب في الكل كما يذوب جميع هؤلاء الأفراد في كل واحد.
هو لا يدري. إنما كل الذي يدريه أنه عجينة أخرى أو أنهم جميعا من عجينة مغايرة لطبيعته.
أكمل اليوم وانتهب الطريق إلى أمه وارتمى على ركبتها وبكى كما لم يبك من قبل ورفعت الأم وجهه إليها، ونظرت إلى عينيه. رأت ذلة وانكسارا ودهشة حائرة وألما عاصفا وطوفانا من الأسئلة يتفجر في رأسه وقلبه ومشاعره، ولكنه لا يدري كيف يبدأ وبماذا يبدأ ... ترك الدموع والبكاء العالي الضجيج يتولى عنه السؤال وصمت هو.
وحين التقت عيناه بعيني أمه وجدها قد فهمت عنه ما لم يقله فتخافت صوت البكاء شيئا فشيئا ثم انتحى من البيت جانبا وتكوم فيه وألقى برأسه إلى ركبتيه في ذلة وهوان لا يدري مأتاهما ولكنهما يعصفان به عصفا أخيذا، وينتاشان قلبه في عنف صاخب وبيل.
ما إن دخل فهيم من باب البيت حتى سارعت تحية تقول له في حسم: فهيم، فرغلي من بكرة يروح مدرسة البندر.
كان فهيم يقفل باب البيت حين انفجرت هذه القنبلة، حتى إذا استدار ورأى وجه تحية جال بعينيه في الحجرة، ورأى فرغلي في كومته البشرية، ورآه وهو يرفع إليه في جهد رأسا تجاهد الذل لترتفع، ورأى عينين تجاهدان الهوان يطل إصرار ساطع لا لبس فيه.
ولم يسأل فهيم لماذا؟ فقد كان ينتظر هذا اليوم، ويكاد يوقن أنه ملاق فيه ما يلاقيه في لحظته تلك. ونكس فهيم رأسه: حاضر.
وكان في هذه اللفظة أشياء كثيرة تتعاوج في حروفها القليلة ... كيف استطاعت كلمة واحدة أن تحمل كل هذه المعاني؟! معجزة هذا الإنسان كيف يستطيع في تلوينة صوت أن يجعل كلمة واحدة تحمل كل هذا الألم والشعور بالذنب والخضوع والأسف لابنه، والضيق بزوجته، والهلع لمستقبل ابنه، والامتثال لقدر هو نفسه الذي قدره على نفسه.
Неизвестная страница
2
مدرسة جديدة
كان وجود فهيم بالسكة الحديد يجعل ذهاب فرغلي إلى مدرسة البندر أمرا ميسورا؛ فقد كان الكمسارية جميعا يعرفونه، وكان من الطبيعي أن يركب فرغلي القطار مجانا، فكان أبوه يصحبه في باكر الصباح إلى القطار الأول، وكان ينتظره حتى يعود في قطار الخامسة من بعد الظهر.
وكان القطار في ذاته مصدر متعة لفرغلي، والعجيب أنها متعة لم تنل منها الأيام أو ينقصها التكرار.
وفي الأيام الأولى استطاع فرغلي أن يصادق التلاميذ وصادقوه، وفرحوا بهذه السذاجة التي طالعتهم منه؛ فقد تكشف لهم عن إنسان لا يعرف شيئا من المعلومات التي يعرفها الأطفال في هذه السن الباكرة. إنها تلك المعلومات التي جعلت أحد الفلاسفة الكبار يقول لست صغيرا لدرجة أنني أعرف كل شيء.
كان الأطفال يعرفون كل شيء أو خيل لهم ذلك على الأقل، في حين لا يعرف فرغلي شيئا على الإطلاق، وكما ينبت الخير من الشر في كثير من الأحيان أصبح هذا الجهل من فرغلي هو أهم العناصر التي تجعل صداقته محببة لزملائه.
وأن يجد التلاميذ فرصة مثل هذه الفرصة التي يهيئها لهم جهل فرغلي. لقد أصبحوا جميعا له أساتذة في علم الحياة؛ فعرف منهم خفايا الجنس واللفظ الجارح قبل أن يعرف منهم لعب الكرة أو لعب البلي.
وأصبحت المدرسة عند فرغلي متعة بعد أن كانت وبالا عليه. وأصبح التلاميذ يقبلون عليه في لهفة يضحكون من سذاجته ثم يمارسون عليه أستاذية لا يتيحها لهم تلميذ آخر. ولكن أتترك الأيام فرغلي ينعم بهذا الاقبال؟ ولماذا وماذا يكون هو حتى لا يواجه من الحياة ما يواجهه أمثاله؟ وكيف يمكن أن ينشغل عنه مجتمعه ولا يصيب منه ما يصيبه من الآخرين ألما وعنتا؟
حين انقضت الشهور الأولى لأيامه في المدرسة بدأت تتضح أشياء لم يكن من الممكن أن تتضح إلا إذا مر بها الوقت. فالملابس التي دخل بها الطلبة إلى المدرسة كانت جديدة في بدء العام الدراسي، ولا بد لكل جديد أن يصيبه القدم .
والملابس بالذات تتأثر بالاستعمال أكثر مما تتأثر بالزمن.
Неизвестная страница
وضحت الفوارق بين التلاميذ وعرف الأغنياء بعضهم بعضا. وعرف الأغنياء الفقراء والفقراء الأغنياء.
وفي هذه السن لا ينظر التلاميذ إلى هذه الفوارق؛ حتى إذا عرفوها فإنها لا تعني شيئا بالنسبة إليهم؛ فعلاقاتهم بعضهم ببعض في هذه السن النضرة النقية الشفيفة لا تعترف بالفقر والغنى، وحين استبانت حقائق كل تلميذ لم يكن لهذه الحقائق أي أثر عند الأغلبية الكاثرة منهم، ولكن فرغلي بالذات كان من هذه القلة الضئيلة التي عرفت ما معنى أن يكون الإنسان غنيا وما معنى أن يكون الإنسان فقيرا، وما معنى أن يملك التلميذ أكثر من بدلة يأتي بها إلى المدرسة، وما معنى ألا يملك إلا بدلة واحدة ما تلبث أن يحيط بها القدم فتتمزق وترتق أو يزداد بها القدم فتظل رائحة جائية من الرفا إلى البيت ومن البيت إلى الرفا.
أدرك هذا جميعه وأحس في نفسه لذعة ألم ونار غيظ، وبدأت براءته التي أتى بها إلى المدرسة ساذجة نقية تنتابها القتامة شيئا فشيئا، ووجد نفسه ينأى بعيدا عن مواطن التجمع من التلاميذ التي تسبكهم جميعا في كل واحد لا يعرف الفقر ولا يعرف الغنى ولا يعنى بأمره.
في هذه المرة فرض هو الوحدة على نفسه. وكلما سعى إليه زملاؤه يلتمسون منه هذه السذاجة التي عرفوها فيه وأحبوها منه أجابهم تلك الإجابات التي تغلق عليهم مسالك الحديث وتقفل دونهم دروب المسامرة.
وقد كان فرغلي في وحدته هذه أشبه بنواة خلية. وكما تنقسم الخلية في نظام رباني فريد لا يدرك سره إلا خالق النفوس كذلك تتكون خلايا متقاربة متشابهة متماثلة بطبيعة الأخلاق التي جلبت عليها الطبائع.
وبسر هذه الجاذبية الخفية تكون حول فرغلي أربعة طلاب. لم يكونوا أصدقاء في بداية دخوله المدرسة، وهم بطبيعة الحال ليسوا من قريته، فالمدرسة ليس بها أحد من قريته وإلا لذاع السر الذي لا يعرفه هو، والذي يعرفه أهل القرية جميعا، والذي من أجله ترك مدرسة القرية إلى مدرسة المدينة.
وهم أيضا يضحكون من سذاجته، فهم أنفسهم كانوا قريبين من هذه السذاجة حين جاءوا إلى المدرسة أول ما جاءوا. فقد كان آباؤهم أو كانت أمهاتهم يمنعونهم أن يختلطوا بأبناء القرية وما يرد على ذلك المنع استثناء.
تكون هؤلاء الأربعة حول فرغلي وأصبحوا وحدهم فريقا في المدرسة.
ما الذي جمعهم حوله؟ ولماذا لم يكن هو واحدا من الأربعة ليجتمع هو معهم حول آخر؟ لماذا كان هو النواة وليس جزئية من الجزئيات التي تتجمع ولا تجمع؟
كان فرغلي جامد الوجه صموتا قاسي القسمات لم تعرف عضلات وجهه استرخاء الطفل وليانه وطراوته؛ لقد كان ذلك من مكوثه في البيت لا تطالع عيناه إلا وجه أمه. وقد فرضت ولادته على أمه أن تمكث في البيت لا تبارحه إلى ما كانت تهفو إليه نفسها من مرح الموالد وانطلاقة الغوازي؛ فإذا قسماتها تتطلب وتتشنج لهذا الذي فرض عليها، فإذا بهذا التشنج يلتصق بوجهها، وإذا ابنها ينمسخ وجهه على نمط وجهها، وإذا هو يفقد ما يكسب الطفل جمال الطفولة. وكانت عينا أمه بعد ولادته قد انقلبتا إلى كراهية فيهما عينان يحقدان على ميلاده الذي حرمها من تحقيق ما أرادت أن ترجع إليه من حياة. فلم ير في عيني أمه ما يراه الأطفال الآخرون من حب أو إشفاق أو وداعة أو هناء أو رضى.
Неизвестная страница
لم يكن يرى إلا عينين تقدحان شررا لا يعرف لغته، أهو شرر الحقد أم شرر الغيظ أم شرر السخط؟ لم يكن يعرف، وكذلك لم تعرف عيناه إلا هذه النظرات التي تجمدت على شعاعها ألوان شتى من الكراهية والحقد والغيظ والسخط لا تتيح فسحة من مكان لبصيص عطف أو رضى.
وكانت أمه لا تثرثر بالحديث مع أبيه أو معه، فهي لا تتكلم إلا لتقول شيئا يحتاج إلى كلام. لم يسمعها في حياتها تتكلم لمجرد الكلام لمجرد هذه الثرثرة الفارغة التي يستمتع بها النساء وكثيرا ما يستمتع بها الرجال أيضا.
كانت أمه في عيشتها التي أجبرها ميلاده عليها ترى نفسها سجينة في سجن منفرد لا يدرك أحد مقدار الغضب الذي يغتلي في نفسها. ولا سبيل للغاضب أن يثرثر، وغضبها هذا من نوع خاص؛ فهي لا تستطيع أن تبين عنه أو تكشف خوافيه، بل هي تخشى أن يطلع عليه أحد، ولهذا لم يكن عجيبا أن تزم شفتيها كضلفتي باب لسجن تغتلي بين جنباته ألوان من عذاب.
وهكذا انغلقت شفتاه مشدودتين كأوتار من آلة من آلات التعذيب تأبى أن ترن بغير أصوات الحقد والكراهية والألم والهوان.
هذا التركيب الذي صنعته طبيعة الحياة التي يحياها فرغلي جعلت منه تلك النواة التي اجتمع عليها عمران الفوال وشلبي المبوع وعطية سيد أحمد وفرحات عبد الباسط. ودون أن يتم بينهم اتفاق ودون تعاقد تكشف عنه الألفاظ ثم التعاهد، لقد تقاربت أرواحهم وتمازجت، وأحسوا أنهم يستطيعون هم الأربعة أن يكونوا نسيجا متميزا عن هذا النسيج الضخم الذي نسجت خيوطه من كل التلاميذ الآخرين.
إنهم يكرهون هذا النسيج الآخر في تكوينه الكامل وفي خيوطه التي صنعته. إنهم يكرهون التلاميذ الآخرين جماعة وأفرادا، ويشعرون أنهم هم، وهم فقط في خمستهم، الجديرين بالحياة حين ينبغي أن يحرق جميع هؤلاء التلاميذ. فهؤلاء التلاميذ ما هم إلا أبناء الأغنياء الذين يستطيعون أن يلبسوا أكثر من حلة وأكثر من حذاء، وما الآخرون الذين يصادفونهم إلا الأغبياء الذين يسمحون لهم بهذا الغنى ولا يحاربونه، كما يجب أن يحارب كل شيء لا يملكونه.
وما هي إلا أيام حتى راح هؤلاء النفر الأربعة بزعامة خامسهم فرغلي يصنعون ما يعتقدون أنه الواجب الأول لمن كان في مثل حالهم.
ودهش ناظر المدرسة والمدرسون والفراشون والتلاميذ حين جاءت فسحة الغداء فإذا هم يجدون صنابير الشرب جميعها مكسورة، والماء يتدفق في شكل سيل ويأمر الناظر فتقفل محابس المياه ويبحثون عن الفاعل ولكن هيهات. ولا تمر أيام كثيرة حتى تتواتر الشكاوى إلى الناظر من طلبة بعينهم أنهم حين قاموا عن مقاعد أدراجهم كانت بنطلوناتهم مليئة بالحبر الذي كان ملقى على المقاعد بشكل خفي لا يلحظ، ولو كان عند الناظر أية فكرة عن عصبة فرغلي لاستبان أن هذا لم يحدث إلا في الفصول التي كان هؤلاء الخمسة من بين تلاميذها. ولعل أسوأ ما صنعته العصابة هو ذاك الذي تولاه فرغلي شخصيا بمساعدة شلبي المبوع فقط؛ لأن الفرصة لاحت حين كانا هما فقط أمامهما ولم يتسع لهما أن يستدعيا الآخرين.
كانا يمران أمام مصلى المدرسة وفجأة استرعت نظرهما كمية الأحذية المرصوفة أمام الجامع. - معك مطواة. - معي.
وفي لحظات سريعة حاسمة شقا فردة واحدة لكل زوج من الأحذية، والفكرة بقدر جرأتها تدل على عمق التجربة في الإيذاء؛ فإن شق فردة واحدة يستغرق نصف الوقت، وهو مع ذلك يقضي على الأحذية جميعا قضاء مبرما.
Неизвестная страница
وبقدر الذكاء الذي تنكشف عنه هذه التجربة نلمح الغباء في ثناياها. خرج التلاميذ من الجامع وجابهتهم الجريمة فاغرة الأفواه بشعة تدعو إلى الحيرة والغيظ في وقت معا. وكان ناظر المدرسة بين المصلين. ترك حذاءه الذبيح وذهب إلى غرفته وأعلن الأحكام العرفية. كلف المدرسين أن يفتشوا جميع التلاميذ بحثا عن موس أو مطواة.
وشاع الخبر، وبدأت فرق التفتيش عملها. - وفجأة أدرك فرغلي أنه وقع على فرصة لا تعوضها الأيام كثيرا تسلل من الفصل في هرج تناقل الأخبار والتعليق عليها وقصد إلى غرفة الناظر. - أنا أعرف ذابح الأحذية. - من؟ - شلبي المبوع. - كيف عرفت؟ - أراني مطواته في الصباح وقال إنه سيصنع بها انقلابا في المدرسة. - ولماذا لم تأت قبل الآن. - كنت متعبا ولم أترك الفصل في فسحة الظهر، وحين عرفت الخبر سارعت أقول لحضرتك.
وجاء شلبي المبوع واعترف ولكنه وقد وجد الاتهام موجها إليه من فرغلي أفشى الأسرار كلها والكلمات التي تبادلاها وهما يقومان بمهمتهما، واتضحت الحقيقة أمام الجميع حتى أصبحت لا تحتاج إلى شك.
وفصل شلبي وفرغلي من المدرسة.
كان فرغلي في السنة النهائية من المدرسة الإلزامية وكان الدخول إلى المدرسة الابتدائية لا يحتاج إلى شهادة تدل على بقاء التلميذ بالمدارس الإلزامية فترة معينة لأن دخول المدرسة الابتدائية كان لا يتم إلا بامتحان، فلم يكن لهذا الفصل الذي وقع على فرغلي أي أثر عدا أنه ذهب مرة أخرى إلى منعزله ببيت أمه، ولكنه طمأن نفسه أنه كان على أية حال عائدا إلى هذا المنعزل فقد كانت السنة الدراسية موشكة على الانتهاء، وكان قد أعد لإجازة الصيف عدة. - أمه ... لماذا لا أخرج إلى القرية. - وما الداعي؟ - أنا الوحيد من أبناء القرية الذي لا ألعب مع الأطفال. - البيت بعيد عن القرية. - وهل هذا ذنبي؟ - لقد بنى أبوك بيته بجانب عمله. - وما ذنبي أنا؟ - لو لم تعمل عملتك المهببة لكنت الآن في المدرسة. - المدرسة لم يبق على إجازتها إلا بضعة أيام. - أحسن من قعدتك في البيت. - ولو كنت مثل كل الأمهات ما كنت أنا في البيت.
وأحست تحية كأن طعنة خنجر حاد الشفرتين قد أصابتها من لسان ابنها، واختلطت في نفسها حميا الألم مع رعب القلق ... أيكون قد عرف أنها ليست مثل الأمهات؟! - وله ... أنت شايفني اختلفت عن كل الأمهات. - طبعا. - فيم أختلف عنهن. - أولادهن جميعا في الطرقات يلاعب بعضهم بعضا إلا أنت ... فهل مثلهن أنت؟
وانهدمت جالسة.
تبدد ألمها، وزال قلقها إلى اطمئنان، واستطاعت بلسان جاف أن تقول: من خوفي عليك. - وهن ألا يخفن على أبنائهن؟ - كل شيخ وله طريقة. - إلا شيخك فطريقته عجيبة!
وكأن ريقها أصبح دمعا وهي تقول: ولكنك لا تعرف شيئا يا فرغلي. - بالتأكيد هناك شيء لا أعرفه. - بل أنت لا تعرف شيئا على الإطلاق. - أنا على وش الدخول إلى المدرسة الابتدائية، وأعرف القراءة والكتابة والحساب. - ومع ذلك لا تعرف شيئا. - عرفيني. - ستعرف. - قولي. - ستعرف ... من المؤكد أنك ستعرف. - وما دمت سأعرف فلماذا لا تقولين أنت. - سيأتي الوقت. - وإلى أن يأتي الوقت الذي أعرف فيه سأبقى محبوسا هكذا في البيت. - ليس الأمر بيدي. - فالأمر إذن بيدي أنا.
ودقت صدرها في عجب. - كسر يدك! أتريد أن تخالف أمري يا وله؟ - من غير مخالفة. - ماذا تريد أن تفعل؟ - رأيت من في سني يعملون في المركز. - ماذا يعملون؟ - أعمالا كثيرة. - مثل ماذا؟ - صبي في قهوة، مساعد بقال، أي شيء. - (ونظرت إليه مليا) ألست صغيرا على هذه الأعمال. - رأيت زملاء لي كثيرين يقومون بهذه الأعمال. - إذن فأنت تستطيع أن تعمل. - ما دمت لا أستطيع أن ألعب مثل العيال فلماذا لا أعمل مثل الكبار. - الحكاية هذه لا بأس بها ولكن. - لا تكملي ... أعمل وأساعد أبي على المعيشة.
Неизвестная страница
وأطرقت تحية وصمت فرغلي وتوهجت حكمة الله العلي القدير في صمتهما؛ فقد شاء سبحانه أن تلتقي العيون وتتقارب الأرحام، ولكن أحدا لا يستطيع أن يكشف ما يفكر فيه الآخر.
فلو أن فرغلي رأى ما يدور برأس أمه لرأى عجبا، ولما صدق ما تهمس به نفسها إلى نفسها. ولو أنها هي رأت ما يدور بعقل ابنها لهالها أن يجتمع كل هذا الجشع في كيان هذا الطفل الصغير. •••
استطاع زملاء فهيم أن يجدوا لفرغلي عملا بسهولة. فهم منتشرون ولهم أصدقاء كثيرون وميسور عليهم أن يجدوا لابن زميلهم عملا هزيلا، وقد شاءت الصدفة أن يكون عمل فرغلي في مقهى الحرية بميدان الساعة. وقد كان موقع المقهى عظيما وكان زبائنها يملئونها أغلب ساعات النهار.
ونشط فرغلي في عمله الجديد وكان البقشيش الذي يناله أعظم من مرتبه بكثير. فقد حدد له صاحب المقهى ستين قرشا مرتبا شهريا ولكنه يحصل على ضعفي هذا المبلغ من الزبائن، والعرف في المقاهي أن يضع العاملون في المقهى كل ما جمعوه من بقشيش في وعاء خاص ثم يقسم بينهم. وقد اضطر فرغلي أن ينفذ هذه القاعدة في الأيام الأولى من عمله بالمقهى، فقد كان كبيرهم يفتشهم جميعا عند فتح المقهى في الصباح ويستولي على ما معهم من نقود لتكون أمانة في ظرف خاص يحمل اسم كل منهم على حدة، حتى إذا انتهى العمل في المقهى فتشهم جميعا وتقاسموا البقشيش. وكان مسموحا لفرغلي أن ينهي عمله مبكرا بعض الشيء لصغر سنه، وليتمكن من اللحاق بآخر قطار يعود به إلى القرية. فالقطار وحده هو الذي يستطيع أن يركبه مجانا بوصفه واحدا من أسرة المصلحة.
بعد أيام من العمل بالمقهى وجد فرغلي أنه ينال الكثير، ولكنه لا يحصل بهذه القسمة إلا على القليل.
ذهب إلى صانع أحذية واشترى منه إبرة أحذية وخيطا وكان يفتق الحذائين في الصباح وهو ذاهب بالقطار، وكان يضع بهذا الجيب السري العجيب الكثير من القروش التي يحصل عليها، وفي المساء كان يخيط الحذاء سرا ويعود بجزء كبير من البقشيش. وهكذا استطاع أن يخفي القروش على كبير القهوة حسنين، ولم يكن حسنين يتصور أن هذا الطفل الذي لا ينفتق وجهه عن ابتسامة يستطيع أن يفتق حذاء عن جيبين.
ولم يكن أبوه يسأله عما أصاب من مال مكتفيا بأنه هو الذي يقبض مرتبه جميعا آخر الشهر.
أما أمه فكانت منذ عمل فرغلي مشغولة بأشياء ألهتها تماما أن تسأله عما يربح.
الشيء الذي لا يعرفه فرغلي ولا يملك أن يعرفه أن هذا الذي يناله سواء بالتهرب أو بالحق أقل كثيرا مما كان يستطيع أن يحصل عليه لو أنه عرف فقط كيف يضع على محياه ابتسامة تكسب وجهه براءة الطفولة وجمالها. ولكن هذه الابتسامة كانت بعيدة عن تفكيره كل البعد. ومن أين يأتي بها وقد عاش عمره مع أب يأتي إلى البيت وقد طحنه العمل وأم لم تر في ميلاده إلا حبالا قاسية تكبل آمالها، حتى إذا ذهب إلى مدرسة القرية واجهته السخرية والضحك في يومه الأول والأخير بها فجعلته هذه السخرية السريعة يكره الضحك لأنه لم يصدر عنه أبدا وإنما صدر عليه ودون أن يعرف السبب.
وحين ذهب إلى مدرسة المركز لفت به الأيام لفة كان فيها مصدرا يضحك الآخرين، ثم كان زعيما لحزب الحاقدين والحقد للضحك فزع، وهيهات لمن عرفت نفسه الحقد أن يعرف وجهه أو قلبه الضحك أو حتى الابتسام.
Неизвестная страница
مسكين فرغلي لقد حرمته الحياة الضياء الوحيد الذي يستطيع به الإنسان أن يشق طريقه في ظلام الأيام، ولكن الحياة العظيمة التي تستطيع دائما إذا منعت أن تهب، والتي إذا حرمت إنسانا نعمة من أنعمها أمدته في خفية وفي كرم بما يغنيه من هذه النعمة. هذه الحياة الرءوف الرءوم حرمته متعة الإشراق أو الضحك أو الابتسام، وفي نفس الوقت وهبت له نعمة الجهل بأنه فاقد لأجمل مقومات الدنيا وأحلى ما فيها والشيء الذي يجعل من الدنيا في كثير من الأحيان عليا قريبة من مسابح السماء.
3
نقلة
انتهت إجازة الصيف، وفي اليوم الأول من المرحلة الابتدائية كان فرغلي قد لبس حلة جديدة اشتراها له أبوه، وأكمل الحلة بكل ما يحتاج إليه صاحبها من رباط عنق وقميص وحذاء. ونظر فرغلي في المرآة التي لا يوجد غيرها في البيت، والتي تكاد تنطبع عليها صورة أمه من كثرة ما تقف أمامها. رأى في الملابس الجديدة إنسانا غريبا عليه بل رأى في المرآة وجها أوشك ألا يتعرف عليه فلم يكن هو أو أبوه يقفان أمام المرآة إلا لمناسبة، وما أقل هذه المناسبات في حياته أو في حياة أبيه!
أحس فرغلي وهو واقف أمام المرآة ينعم النظر أنه لأول مرة يجد في نفسه إنسانا ينبغي أن يحترمه الآخرون، أو على الأقل أحس أنه ليس عجيبا أن يحترمه الآخرون. فقد كانت ملابسه تشعره دائما أنها من أهم الأسباب التي تدعو الآخرين إلى احتقاره، وأحس فرغلي أنه يجب أن يكون كذلك دائما. وحينئذ خيل إليه أن صورته في المرآة تزداد تقطيبا ترادفه دهشة موصولة باليأس، وتنتهي به هذه المشاعر إلى نوع من الإصرار لا يدري من أين هبت عليه رياحه بل هو حتى لا يدري ما الذي يهدف إليه إصراره هذا. إنه مصر ولكنه لا يعلم على ماذا يصر، وتوهجت عيناه فيهما شرر وبريق شرس، وصرفت أسنانه يضغط بعضها على بعض، وفي حركة مفاجئة عنيفة لوى وجهه عن المرآة وذهب إلى السرير حيث كانت تنتظره الحقيبة الجديدة، وأمسك بها وتهيأ للخروج مع والده ليركب القطار إلى المدرسة الابتدائية. والمدرسة الابتدائية في البندر بطبيعة الحال، ففي ذلك الحين لم يكن في القرية أو في أية قرية مدرسة ابتدائية.
حين بلغ القطار أركبه أبوه وتركه وحده يسير إلى مصيره الجديد. ألم يكن من المناسب أن يركب معي ويذهب بي إلى المدرسة الابتدائية؟ إنها مرحلة جديدة من حياتي ولا شك أنني سأحس بعض الرهبة وأنا أخطو هذه العتبة لأول مرة، ويلي! ما هذا؟! إن تلاميذ كثيرين من البلدة يركبون القطار. أنا بينهم الوحيد الذي لا يرافقه أبوه.
والتقت العيون وتعرف أبناء القرية على فرغلي بل وتعرف عليه أيضا آباؤهم، ماذا أصابهم؟ لماذا صرفوا عنه عيونهم لينظر بعضهم إلى بعضهم؟ وما هذه الابتسامة الصارخة بالتهديد التي ترتسم على أفواههم؟ وما هذا التجاهل الذي يلقي به عليه آباء التلاميذ؟ أي شيء عجيب فيه يعرفه أبناء القرية ولا يعرفه الآخرون؟!
لم يلتق بهذه المشاعر في مدرسة البندر الإلزامية ولا التقى بها في رواد المقهى أو من زملائه بها أو من صاحب المقهى. ربما التقى بالظلم أو بالضرب من صاحب المقهى أو بالسخرية المعلنة من خطأ ارتكبه أو ملبس متهرئ يرتديه. ولكن هذا النوع العجيب من التفاهم الصامت على الهزء به لم يعرفه إلا من أبناء قريته هؤلاء.
وصل القطار ونزل متباعدا عن تلاميذ القرية، ولم يكن محتاجا إلى دليل ليعرف الطريق إلى المدرسة الابتدائية فقد عاش شهور الإجازة بالبندر، ومن الطبيعي أن يعرف المدرسة الابتدائية التي سيتعلم بها ...
ودخل المدرسة، وفي لحظات وجد التلاميذ قد أصبحوا جماعات متفرقة، ووجد أبناء قريته جماعة وحدهم، وما لبث أن وجد الكثيرين من أبناء مدرسته الأولى، ولم يفكر أن ينضم إلى أية جماعة وإنما بقي وحده منفردا لا يجد أحدا يأنس إليه. فهو غريب عن أبناء قريته غربته عن أبناء مدرسته السابقة.
Неизвестная страница
كانت في مدارس ذلك الحين مقاعد طويلة أشبه بمقاعد البوابين متناثرة في فناء المدرسة. اختار مقعدا مواجها للباب يرقب منه التلاميذ الداخلين.
كان شلبي المبوع أول من دخل من جماعته القديمة. نظر إليه مليا ولم يره شلبي، وإن كان فرغلي ظن أن شلبي رآه وصرف عنه عينيه، ولم يعجب فرغلي من هذا التصرف بل إن ما فعله بشلبي في معركة الأحذية هو الذي موه عليه صدق النظرة، وجعله يظن هذا الظن. أسقط شلبي من تفكيره وظل محملقا للباب ينتظر أن يرى عمران الفوال أو عطية سيد أحمد أو فرحات عبد الباسط جماعته القديمة.
وقبل أن يأتي أحد منهم أحس يدا تربت على كتفه، والتفت ولم يصدق هنيهة ثم مد يده لشلبي الذي رآه فجأة يحييه. لم يكن فرغلي يدرك بعد أن السفلة يغفرون لبعضهم البعض التصرفات السافلة عن طبيعة مواتية وغريزة لا تدبير فيها ولا منطق لها ... أو هم على الأقل لا يحاولون البحث عن هذا المنطق، فالحقيقة أنهم يلعبون في أرض واحدة ينعدم فيها الخلق وينمحي ما تعارف الناس عليه من أخلاق أو مثل. وأسلحتهم التي يتعاملون بها واحدة لا يختلف سلاح أحدهم عن سلاح الآخر، وفي هذه الظلال من انعدام الخلق الذي اتفقوا عليه دون عقد شفهي أو تحريري كل شيء مباح. فشلبي لم يغفر لفرغلي لأنه طفل طيب يعرف معنى الصفح عن خطأ الصديق، وإنما غفر له لأنه لو كان في مكانه لصنع نفس الصنيع.
وجلس التلميذان متجاورين، وما لبث أن جاء فرحات عبد الباسط، وأعقبه عطية سيد أحمد، وجلس أربعتهم على الدكة.
وبدأ بينهم الحديث عما صنعه كل منهم في الإجازة، ولكن قليلا ما دار الحديث بينهم، فقد فوجئوا جميعا بحركة غير عادية في الفناء. انفرطت الجماعة التي كانت تضم أبناء القرية وتفرقوا في أنحاء شتى يقف كل واحد منهم مع جماعة، ثم ما تلبث عيون هذه الجماعة أن تلتفت إلى حيث يجلس الأربعة ثم يضحكون، ونظر الأربعة بعضهم لبعض لا يدري أحد ما وراء هذه التحركات إلا فرغلي. فقد أيقن في رهبة زلزلت كيانه أن السر الذي لا يعرفه والذي لوى حياته كلها عن طريقها الطبيعي هو الذي ينثر الآن على هذه الجماعات. هو يعرف أن الأمر متعلق به ولكنه لا يعرف ما هو. كانت لحظات ربما اكتملت دقيقة أو دقيقتين لم يدر وإنما كانت اللحظة عمرا مديدا كريها متراخيا متهرئا مقيتا كان يعرف أن شرا يلقي عليه شباكه، ولكن لم يكن يدري أي نوع من الشر ذاك الذي يكيدونه له، لا يدري مداه ولا عمقه ولا لونه ولا مدى الدمار الذي يتغشاه.
أصبح القدماء جميعا عيونا تحيط به من كل متجه، ويسفلها ابتسامة فيها سخرية، وفيها احتقار. وكانت الوجوه المتجهة إليه تحمل سمات الوحش، وقد وجد فريسة هو واثق من افتراسها، فهو يسعى إليها في غير جهد فيضيف إلى لذة الافتراس لذة التمتع بذعر فريسته.
وراحت الجماعات تسعى إلى حيث يجلس وكأنها على التباعد بينها قد تواعدت على اللحظة التي تتحرك فيها في نظام عفوي منسق، وكأنه مرتب في دقة ومهارة.
حتى إذا أحاط تلاميذ المدرسة بالدكة ومن عليها خلع أحد التلاميذ رباط عنقه، وربطه حول وسطه وصاح: على وحدة ونص يا واد.
وسحب لفظة الواد هذه في ميوعة فاجرة، فإذا التلاميذ جميعا وفي لحظة واحدة يصفقون تصفيق المتفرجين على الرقص، وإذ تلميذ آخر يتحزم برباط عنقه، ويدخل إلى الحلبة مع التلميذ الأول.
وينظر أربعة الدكة بعضهم إلى بعض، ويدرك فرغلي أنه المقصود، ولكن لا يدري ما تحمله هذه الرقصات وهذا التصفيق. ويقوم شلبي المبوع ويتبعه عطية ثم فرحات ويبقى فرغلي وحده، وقد انهدم كيانه فالرقص مستمر الآن له وحده، وهو لا يدري ماذا يعنيه هذا الرقص.
Неизвестная страница
لم يجد شيئا يفعله إلا أنه يتابع أصدقائه الثلاثة، وقد اندس كل منهم في ناحية من نواحي التجمع، وراح يرى على وجه كل منهم معالم دهشة ثم سخرية لم يختلف واحد منهم عن الآخر في هذين الانفعالين. ولم يعد أحد منهم إلى مكانه من الدكة، ولكن لم يشترك أحد من الثلاثة في التصفيق إلا شلبي المبوع، وقد انفرجت شفتاه عن ضحكة عريضة فيها كل الشماتة والسخرية، ولم يكن غريبا ألا يشعر نحو شلبي بشعور يختلف عما يحس به نحو التلاميذ جميعا، ولم يحاول طبعا أن يعجب من نفسه أنها أخذت في موقف شلبي مأخذا طبيعيا وكأنها لا تنتظر غيره.
وضرب جرس البدء لليوم الدراسي، وصاح التلاميذ مرة واحدة في اتفاق وعلى غير اتفاق: هييييه.
وأخيرا تمكن فرغلي أن يخلو إلى فرحات: ماذا يقصدون؟ - ألا تعرف؟ - أبدا. - كيف؟ - لا أعرف. لقد حصل مثل هذا تقريبا حين ذهبت إلى مدرسة القرية ولهذا جئت إليكم في المدرسة الإلزامية. - تريد أن تقول إنك لا تعرف. - مطلقا! - لا تعرف ماذا تعمل أمك؟ - أعرف. - ماذا؟ - تعمل أمي وزوجة أبي أحيانا. - لا ... لا ... قبل أن تكون أمك، وقبل أن تكون زوجة أبيك. - كانت بنتا مثل كل البنات. - فأنت إذن لا تعرف شيئا عن أمك. - كيف؟ - البلد كلها عندكم تعرف. - كانت تمنعني أن ألعب مع أحد. - معذورة. - لماذا؟ - حتى لا تعرف الحقيقة. - وما هي الحقيقة؟ - أمك كانت غزية يا أستاذ. - ماذا؟ - كانت راقصة في الموالد.
وتجمد فرغلي يعجز كيانه عن التحرك. لقد جاءت إليه الحقيقة التي تفسر سنوات عمره الماضي جميعا ... كان يمكن أن تكون الحقيقة أي شيء إلا هذا ... وصاح به فرحات: هيا.
ولم يلتفت إلى نداء فرحات. وعاد فرحات يصيح: ألم تكن تعرف، أم لم تكن تريدنا أن نعرف؟
وفى وجوم شبه أبله هز فرغلي رأسه يمنة ويسرة ولم ينطق. - لا يهم.
ونظر إليه فرغلي في دهشة ولم يقل شيئا. - لا يهم فكل حقيقة ستعرف في يوم من الأيام، لا يغير من الأمر شيئا أنك كنت تعرف أو لم تكن تعرف المهم أنك عرفت، وعليك أن تدبر مستقبلك على أنك تعرف، وعلى أن كثيرا من الناس سيعرفون صدفة أو يبحثون حتى يعرفوا. وجذبه فتحرك معه لأنه لم يكن يملك أن يقود نفسه أو يتحكم في تصرفاته.
سار ذاهلا ولم يسمع شيئا من الأسماء التي يلقيها المدرس ليحدد لكل تلميذ الفصل الذي سيكون فيه، وحتى حين سمع اسمه لم يعن بأن يعرف فصله، وجره فرحات وذهب به إلى الفصل فهو زميله فيه، واختار فرحات المكتب وجلس إليه وأجلسه معه. وأحس فرغلي أخيرا أنه يستطيع أن يخلو إلى نفسه وأن يفكر.
إن الأم والأب من الأمور التي لا يختارها الأبناء؛ ما ذنبه؟ بل وما ذنب أمه؟! الذنب كله ذنب أبيه. ولكن أكان يتصور هذا الذي يحدث لفرغلي الآن؟
كل هذا لا يهم، لا يهم الآن إلا شيء واحد؛ كيف سأظل في هذه المدرسة أربع سنوات؟ كيف سأواجه الطلبة؟ وكيف أعيش بينهم؟ غزية ... راقصة موالد !
Неизвестная страница
وطبعا المدرسون سيعرفون، وطبعا سيحاول بعضهم أن يسخر مني، وأين يجد فرصة كهذه حتى يظهر خفة دم أمه؟ وسيحاول بعضهم أن يجعل منه مشكلة اجتماعية، وويل لفرغلي من هذا الذي سيحاول أن يساعده على حل عقدته فإن فرغلي لا يدري، إن هؤلاء في أغلب الأمر يضيفون إلى العقدة الواحدة عدة عقد، لا سبيل إلى حل واحدة منها. وسيحاول بعضهم أن يشفق عليه ويرد عنه الطلبة، وهذه الشفقة هي شر ما تلاقيه نفس فيها ما في نفس فرغلي من الحقد؛ ستكون وبالا عليه أي وبال، وسيحاول بعضهم ممن يدعي الترفع والكبرياء أن يتجاهل الأمر وكأنه لا يعرفه، وربما كان هذا أخفهم وطأة. طبعا لم يفكر فرغلي في هذه الأشكال من المدرسين ولم يصنعها، ولكنه كان يفكر في الكارثة ككل؛ في الكارثة برمتها بكل ما تحويه من خزى وذلة وامتهان وألم دون أن يكون له يد في ذلك جميعا.
كان المدرس يشرح الدرس، وبين كل حصة وحصة لم يخل الأمر من غمزة أو نكتة من طالب أو أكثر. وفي فسحة الظهر لهى عنه التلاميذ كجماعات، ولكنه لم يفقد بعضا قليلا منهم يمر عليه فيلقيه بكلمة أو هزة وسط أو تصفيقة.
وتحسس أصدقاؤه الثلاثة الموقف فحين وجدوا تحمس الصباح قد خف؛ عادوا يلتفون حوله. والعجيب أنه أحس أنه لم يفقد بين هؤلاء الثلاثة مكانته وكأنهم ينتظرون أن يكون زعيمهم مختلفا عن الآخرين حتى ولو كان هذا الاختلاف متمثلا في رقص أمه.
وحين انتهى اليوم الدراسي أحس فرغلي إحساس الذي كان ينتظر نتيجة امتحان وتكشفت عن سقوطه؛ فمشاعره مزيج من الشعور بالاطمئنان إلى اليأس، والراحة من القلق وشعور بالمهانة، والخجل أنه صنف آخر غير أصناف التلاميذ أجمعين. كانت نهاية اليوم الدراسي أخف وطأة من بدايته، وأصبح هو يتحرى أن يبتعد ما وسعه الجهد عن تجمعات التلاميذ فيما عدا أصدقاءه الثلاثة. وعند الانصراف ذهب إلى المحطة، ورأى من بعد العربة التي يركب فيها تلاميذ القرية؛ فاختار أبعد عربة عنها وانزوى فيها صامتا مطرقا. وقد عاوده إصرار الصباح الذي اجتاحه، والذي لم يستطع أن يتبين منه الأمر الذي ينبغي أن يصر عليه. هو إصرار على مجهول، ولكنه يحس به الآن يزداد عنفا وضراوة. ومع هذا كان كيانه منسحقا لا يدري لنفسه ذنبا في هذا الهول الذي يلاقيه، ولا يدري أيضا أي إنسان يستحق أن يوجه إليه اللوم فيما يصرخ في جنباته من أنين محموم مجنون يتفجر به الجنون ويكتمه لا يظهر ولا يبين ولا يعرفه أحد. فكفاه خزيا أن يكون ابن راقصة ولا داعي بعد ذلك أن يكون مجنونا أيضا! أو لا داعي على الأقل أن تظهر عليه أعراض الجنون.
ألم يكن أبوه يقدر هذا حين تزوج أمه؟ وإذا كان قد أساء الاختيار وتزوجها أكان لا بد لها أيضا أن تلد؟ ماذا ينتظر هذان الأحمقان لابنهما أن يكون؟ باشا؟! ألم يعرفا مصير أبناء الغوازي بين أبناء النسوة الأخريات؟ قد يكون شأن هؤلاء النسوة شرا من شأن أمه، وربما كانت الغالبية العظمى فيهن غير شريفات، ولكنهن لم يعرضن أنفسهم في الموالد ولم يصمهن قدرهن بأنهن غواز؛ تلك الوصمة التي لا تترك المرأة حياتها جميعا بل وتلاحقها أيضا في أبنائها وإن كان الأبناء أبرياء؛ نعم وإن كان الأبناء أبرياء.
وصل القطار إلى القرية، وتسلل فرغلي من طريق بعيد عن طريق التلاميذ وبلغ البيت. كانت أمه وأبوه ومعهما عمته تفيدة في مدخل البيت. حاول أن يدخل إلى حجرته مباشرة ولكن كيف؟ سلم على عمته وقبلته ثم أمسكت كتفيه ومدت بهما ذراعيها إلى أقصى ما يمتدان ونظرت إليه مليا: وله ... مالك؟
وأطرق ولم ينطق. - هل زعلك أحد؟
وهز رأسه نفيا. - لم أستطع أن أشتري لك شكولاتة فقد تركت مصر في عجلة خذ نصف الريال هذا واشتر أنت ما يحلو لك.
واختطف نصف الريال الورقي وجرى إلى حجرته.
والتفتت تفيدة إلى أمه. - ماله الولد يا تحية؟ - لا أعرف ... ساعات كثيرة أجده كشر هكذا بلا مناسبة. - كان بودي أن أشتري له الحلويات التي يحبها، ولكن عمك حسين لم يعرف أنه مسافر للتفتيش إلا قبل السفر بساعة؛ فاقترح أن أجيء معه لأراكم وأنتظره في محطتكم وهو عائد. يا ترى هل فرغلي زعلان لأني دخلت بيدي فاضية؟
Неизвестная страница
وقال فهيم الحوت: يا أختي تفيدة لا تشغلي بالك، ماذا يمكن أن يزعل منه عيل إلا شغل عيال مثله؟ ولا يهمك.
ولكن زوجته تحية بخبرتها وأمومتها معا أدركت أن الأمر ليس بهذه الضآلة، وإنما جارت زوجها في الحديث. - على رأيك. إذن فلن تبيتي معنا الليلة.
يا ريت ... كان مناي. ولكن عمك حسين من يخدمه. لقد كبر الأولاد كما تعرفين وأصبحت أنا وهو وحدنا في البيت فإذا عاد من العمل لم يجد غيري، وأظل أخدمه حتى يخرج ليقعد على المقهى، وهذه الفترة هي التي أستطيع فيها أن أزور صديقاتي أو أولادي. لكن حتما أكون في البيت قبل رجوعه فإن عاد ولم يجدني غضب كأنه عيل صغير. - ربنا يخليك له. - ويخليك ياختي، العقبي لك حين تفرحين بفرغلي وتزورينه في بيت عدله إن شاء الله. - سلمت يا حبيبتي.
وانبعث صوت من حجرة فرغلي كأنه أنين. - أمه.
وحاولت تحية أن تتجاهله ولكن تفيدة قالت لها: قومي يا حبيبتي شوفي ابنك ... يمكن أن يكون جائعا. - سأعد له الأكل حالا. أنا أريد أن أجلس معك، لي زمان لم أرك. - يا اختي ربنا يجبر بخاطرك، أنا ميعادي قرب.
وقالت تحية لتغير الحديث: وعم حسين أفندي مرتاح في الشغل؟ - له أربعون سنة فيه، ليس في مصر من يعرف الأرشيف مثل عمك حسين وهو اسم النبي حارسه ذكي وشاطر.
وقال فهيم: أتراه متضايقا لقرب خروجه على المعاش. - يا أخي يا فهيم أنت تعرف حسين يرضى بكل شيء، وهو عامل حسابه على يوم المعاش ومبسوط في أمان الله. كل الذي سيتغير أنه سيجلس على المقهى في الصباح والمساء بدل أن يجلس عليه في المساء فقط، والماهية تقريبا لن ينقص منها شيء. - على رأيك.
وجاء الصوت المطحون مرة أخرى. - أمه. - قومي يا حبيبتي شوفي فرغلي. وأنا فتك بعافية. تعالى معي يا فهيم وصلني المحطة؛ تركبني القطار وتسلم على حسين أفندي. - أي والله لي زمان لم أره ... هيا بنا.
حين دخلت تحية إلى فرغلي وجدته جالسا على حرف السرير ينظر إلى فراغ ... باهت العينين جامد الوجه، وحين توسطت الحجرة نظر إليها طويلا وفهمت هي كل شيء، وكأن شيئا يتكلم في داخلها؛ شيئا غير إنساني ينطق عن حطام مدمر كل التدمير. - أصحيح يا أمه ...
ولم يكمل. - أمك أشرف واحدة في هذه الدنيا كلها. - إذن فهو صحيح. - وماذا في الأمر إن كان صحيحا. - لو لم يكن فيه شيء لتركتني ألعب مع عيال البلد، ولتركتني أروح المدرسة في البلد. - خفت عليك. - والآن. - ماله الآن؟ - ماذا أفعل؟ - ضع إصبعك في عين أعظم عظيم فيهم! الفقر ليس عيبا، وأنا كنت آكل لقمتي بعرق جبيني، ولو لم أكن شريفة ما أبقاني أبوك في بيته كل هذه السنوات. - لا فائدة من كل هذا. - إذا كنت تريد أن تغيظ من يسيئون إليك ذاكر وانجح واطلع الأول عليهم. - أتظنين هذا ينفع. - لا ينفع غيره. - أمه ... أنا اتبهدلت قوي يا أمه. اتبهدلت قوي يا أمه ...
Неизвестная страница
والعجيب أنها وجدت نفسها تلقفه في حضنها مع أحزانه، وكلاهما لا يدري ماذا يقول للآخر. •••
لم يكن أمام فرغلي شيء يعمله في البيت إلا أن يذاكر، أما في المدرسة فقد أصبحت عصابته المكونة منه ومن الثلاثة الآخرين هي مصدر تحطيم كل شيء جميل يملكه الآخرون؛ إن كان قلما سرقوه، أو كان حلة حرصوا على أن يلطخوها بالحبر. وكان من الطبيعي أن يبيعوا ما يسرقونه ويتقاسموه، ولكن فرحهم بالتخريب كان أعظم.
ولم يكن عجيبا أن يكون أربعتهم من الذين ينجحون في امتحانات الفترة وامتحانات آخر العام، ولم يكن عجيبا أيضا أن يكون فرغلي من المتقدمين لأن الثلاثة الآخرين يستطيعون طبعا أن يلعبوا مع أصدقاء. ولو لم يكن فرغلي قد حثهم على المذاكرة حتى لا يفقدوا عطف المدرسين لما أصابوا هذا النجاح الذي يصيبونه دائما.
ووصل فرغلي إلى السنة الثالثة الابتدائية، ولم تكن سنه متناسبة مع سنته الدراسية فقد بدأ التعليم متأخرا، ولكن السن لم تكن ذات شأن في هذه الأيام من حياة التعليم في مصر. كان فرغلي حينذاك يقترب من الرابعة عشرة.
4
انطلاق ... أم قيود؟
كان فرغلي في الأيام الأولى من السنة التي سيحصل فيها على الابتدائية، والابتدائية في هذه الفترة من الزمان معناها أن يذهب التلميذ حين ينالها إلى المرحلة الثانوية.
وكان فرغلي قد انفصل تماما عن منزله. وقد استطاع أن يكتفي بصداقة الثلاثة الذين قبلوه على ما به من هذه الأمومة التي أثارت عليه سخرية التلاميذ، وكان حريصا دائما ألا يتعرض للعب أو مناقشة مع تلاميذ آخرين. وأصبحت حكاية أمه الراقصة حقيقة لا تثير الحماس في المدرسة، ولكنه مع ذلك كان دائما يشعر بالقوة التي تهدده من الطلبة، وكأنما تحذره هذه العيون ألا يتعدى المكان الذي وضعته فيه أمومته.
والعجيب أن التلاميذ لا يعرفون ولا يهمهم أن يعرفوا شيئا عن مهن الآباء، ولا يتناقل الطلبة شيئا عن هؤلاء الآباء إلا إذا كان الأب ذا وظيفة ملحوظة في المديرية كالمدير أو وكيل المديرية أو رئيس في مصلحة. أو إذا كان الأب صاحب سوابق من خريجي السجون أو من المقيمين به ولم يكن في المدرسة أحد من هؤلاء. أما الأمهات فطبيعة الأمر تقضي أن يكن جميعهن غير عاملات، والفلاحات على ما يبذلن من جهد وجهاد في الحياة لا يعتبرن في نظر التلاميذ عاملات.
وهكذا شاءت الأقدار أن ينفرد فرغلي باهتمام التلاميذ بعمل أمه الذي تركته والذي لا يريد أن يتركها، وعلى كل حال فقد ساد التلاميذ ركود من الاهتمام بفرغلي أو أم فرغلي وساعد هو على أن ينسى التلاميذ أو يسكتوا على الأقل عن ذكر أمه أو تذكيره بها.
Неизвестная страница
وفي بداية الربيع كان في منطقة قريبة من قرية الديميرية مولد. وأحب الأب والأم أن يصحبا ابنهما إلى هذا المولد فرفض رفضا مطلقا، ولم يناقشه أحد منهما فقد كان كلاهما يعرف تماما الأسباب التي تجعله يصر على هذا الرفض.
وذهب فهيم مع تحية ودخلا الترك مسرح المولد.
ما هذا الشعور الذي تولى تحية.
إني أعيش ... هذا هو مكاني. كأني كنت في قبر وعدت إلى الحياة، بل كأني كنت في بلد غريب وعدت إلى حيث يجب أن أكون، أو حيث أحب أن أكون.
وجدت تحية الكثيرين والكثيرات من الزملاء وأحست من تحيتهم أن مكانتها عندهم لم تزل كما هي وتحسرت؛ فقد أصبح من الصعب عليها أن تترك ابنها اليوم، فإذا كان ماضيها قد جعل منه هذا الفتى التعيس فكيف إذا انضم الحاضر والمستقبل إلى هذا الماضي؟! لا، لا سبيل ... وداعا أيها المسرح! وداعا يا ليالي السعادة أيام كنا نمرح في شقائنا ونستلذه وتخفق القلوب منا بهذا التصفيق، وذلك الصفير، وتلك القروش المعدنية أو الفضية أو الورقية وهي تلقى إلى مناديلنا. كنا في هذه الأيام نحس أننا في قلب الحياة وفي شرايينها نصنعها كما تصنعنا ونطحنها كما تطحن كياننا ونفوسنا وكرامتنا.
أحس اليوم أنني واقفة على جسر الحياة وهي تمر لا تشعر بي وأشعر أنا بريحها الخاطفة تعصف بلحظات حياتي وتحيلها إلى غضون على وجهي وشعرات بيض في رأسي وملالة تملأ كل أيامي ونفسي. ولكن هيهات لا مكان لي اليوم إلا هذا الجسر.
كان فهيم جالسا إلى جوارها في كواليس المسرح ينظران إلى الراقصة التي حلت مكانها. وأحست تحية أن الرؤية إلى المسرح ليست جديرة بها. فما هذا مكانها؟ إنها لا تستطيع أن تكون متفرجة في الحياة ومتفرجة في المسرح أيضا. أحست شيئا خفيا يشدها أن تقف وأن تذهب حيث يتجمع زملاؤها وزميلاتها، وقالوا ولكن هي لم تقل شيئا فجميعهم يعرف أنها أصبحت أم فرغلي فأي جديد أو جديدة يمكن أن ترويه لهم بعد ذلك؟! إنهم هم وحدهم وهن وحدهن الذين يملكون أن يقولوا ويحكوا؛ فهم يرون في كل ليلة ما يصلح أن يكون موضوع رواية وحكاية.
اقترب منها الحاج وهدان أبو نار. - توحة.
وتخلجت لحظة ثم أفاقت؛ إنها هي التي يقصدها. - يوه يا حاج فكرتني بالذي مضى. - تعالي. - عيني. - لماذا لا نعيد الذي مضى؟ - وزوجي وابني. - الولد كبر وهذا الزوج يستطيع أن يجد غيرك ولكن مكانك هنا ... - وكيف يا حاج؟! - من غير كثرة كلام ... نحن قدامنا أسبوع. فكري وطبعا لن تنضمي إلينا إلا ونحن مسافرون حتى لا يحاول زوجك أن يجدك ويضايقك ويضايقنا. - يا ليت يا حاج ... كان من عيني. - فكري يا ستي وهل سآخذك الآن؟ قدامك أسبوع فكري. - لا أظن ... - أنا منتظر على كل حال. - ربنا يخليك ... يعني ما زلت أنفع؟ - وهل شفتني أرمي فلوسي. - فشر! أنت سيد من يعرف أين يحط قرشه. - ناصحة ... فكري وأنا منتظر ... مع السلامة.
أسبوع ... عادت إلى البيت وخلا بها الصباح، فهيم في المحطة وفرغلي في المدرسة، وهي وحيدة. ولا عمل؛ لا تنظيف للبيت إلا أن يكنس ويعاد إلى السريرين ما أشاعه فيهما النوم من اضطراب، ثم لا حاجة إلى طبخ الطعام؛ فالطبخ لا يكون إلا في أيام قلائل من أيام الأسبوع، وإطعام الطيور لا يحتاج إلى وقت كثير فما هي إلا الساعة أو بعض الساعة ثم يصبح اليوم كله خاليا بلا عمل. الملالة تملأ وقتها جميعا. ولو كان زوجها يعوضها عن هذه الملالة إشراقا أو حديثا يجعل حياتها سائغة بعض الشيء لكان من الممكن أن تتحمل هذا الفراغ القاتل.
Неизвестная страница
إن فراغ الوقت وحش يكشر لها عن أنيابه في كل أيامها. وهو على قسوته رحيم إذا هي قارنته بالفراغ الذي مزق ما بينها وبين ابنها. إنه يحاول كل جهده ألا يكلمها، يحاول أن ينسى أنها موجودة في البيت في اللحظات القليلة التي يقضيها قبل النوم، فهو لا يأتي من المركز إلا قبيل موعد نومه بساعة أو ساعتين على الأكثر. فقد أصر أن يعمل بالمقهى بعد خروجه من المدرسة وحين جادلته أمه ازداد إصرارا، وحين قالت له: ألا تخشى أن يعيرك زملاؤك بأنك تعمل في المقهى.
أطرق وقد عض طرفه في غيظ كظيم: هذا أبسط كثيرا مما يعيرونني به.
ولم تكمل الحوار وعمل بالمقهى.
ما بقاؤها إذن؟
فهيم؛ لم يكن بالنسبة إليها إلا زوجا تزوجته لأنها تصورت يومذاك أن كل أنثى لا بد لها أن تتزوج وإن كان هو أحبها فهذا شأنه . إن كان هناك تردد فلا أثر لفهيم فيه. إنما هي تخشى على ابنها ولكنها وهي تعمل الفكر يزداد اليقين في نفسها أن بقاءها شر لابنها من ذهابها؛ فهي في بقائها تذكره دائما بأنها راقصة وتذكر زملاءه بنفسها وتلح في تذكيرهم بصورة لا تسمح لهم بنسيان هذا الأمر أو التغاضي عنه أو غفرانه. أما إن ذهبت فلا بد أن ينسوا أمرها بعد حين. قد يكون في ذهابها فضيحة ولكنها فضيحة موقتة ما تلبث أن تبتلعها الأيام الطوال، أما بقاؤها ففضيحة مستمرة. ومن وجهة نظر أخرى أي فضيحة في أن تعود راقصة سابقة إلى الرقص مرة أخرى، أي جديد في هذا؟! إنها تكون فضيحة حقا لو كانت ستا محجبة في بيتها وخرجت إلى الرقص، أما الراقصة تعود إلى الرقص فأمر لا غرابة فيه. وما دام لا غرابة فلا فضيحة. •••
حين تركت تحية البيت وهربت، أو ذهبت، اختر أيهما شئت، مع مسرح المولد فجع فهيم؛ فقد كان بسذاجة فائقة يظن أنه أنقذها من التشتت والضياع وتيه الليل وتناثر الحياة ومذلة اليد الممدودة والوسط المتلوي ليوفر لها حياة البيت والزوجية والأمومة، ولم يفكر مطلقا أن مجتمع القرية رفضها أو هو أبى أن يفكر هذا التفكير، مع أنه حين باع نصف الفدان الذي كان يملكه وبنى بيته منعزلا عن القرية هذا الانعزال كان يفعل ذلك بعد أن أيقن أن مجتمع القرية يرفض زوجته، ولم يشأ أن يجعلها تواجه هذا الرفض في بيته الذي كان داخل القرية مع سائر بيوتها. كان يدرك تماما أن انعزال بيته إنما هو في الحقيقة انعزال زوجته عن القرية جميعا، وقد أبقى على بيته في القرية حتى لا يقال إنه باع البيت الذي تركه أبوه، فنصف الفدان قد يهون ولكن البيت لا يهون. ترى أكان هذا هو السبب؟ أم أنه كان في دخيلة نفسه يخشى ألا يدوم زواجه؟
ولكن اليوم وبعد هذه السنوات الطوال وقد دام الزواج فعلا، كان قد نسى في زحام الأيام بعضها ببعض هذه الأفكار، ولم يعد يتصور أنه يمكن أن يعيش بغير تحية. وحين فكر قليلا وجد أنه مطعون ولكن في شيء آخر غير الحب فنوع الحب الذي أحبه لتحية كان من شأنه أن ينتهي في الأيام الأولى من الزواج. وقد كان يحس دائما أنها بعيدة عنه وأنه بعيد عنها، فانفرادهما بالحياة جعل كلا منهما يحس العزلة عن الآخر، فإن الألفة لا تتواصل إلا في مناخ المجتمع العام الذي يشيع الدفء في النفوس، ويجعل الزوجين يحسان إنهما جزء من هذا المجتمع مستقل ومتصل، مؤتلف كل منهما مع الآخر ومؤتلفان كلاهما مع المجتمع حولهما.
يحسان بأنهما يعيشان الحياة في تحية صباح من جار، في طلب أداة من صديق، في مشاجرة يشتركان فيها، في حديث يدور عنهما ويبلغهما به مستمع، أو في حدث يدور بينهما وينتقل عنهما إلى أصحابه، في اشتباك الحياة وفروعها بالفرع الذي يمثلانه منها. أغلب الأمر أن آدم وحواء دبرا قصة التفاحة ليبحثا عن مجتمع يعيشان فيه، وليكن مجتمعا الشر فيه غالب على الخير، وليكن مجتمعا القبح فيه أكثر من الجمال، ولكنه وهو هكذا وبحالته تلك أحب إلى نفس الزوجين من الوحدة والانفراد والعزلة. فهنا في ظل هذا البعد تصبح الحياة جميعها جليدا هيهات فيه لألفة أن تنشأ أو تتواصل. هو طعين لا من حب تحطم، ولا من ألفة تبددت وإنما من شعوره أنه لا يساوي شيئا. حتى الراقصة التي جعل منها ست بيت تركته وذهبت ولم تحفظ جميله، ولم يمنعها الوفاء بل ولم تمنعها الأمومة بل ولم يمنعها الستر أن تظل في بيتها ست بيتها.
إنه طعين، وحائر، ومنهار.
أما فرغلي فكان أمره عجبا، وكان أمر زملائه أعجب.
Неизвестная страница
قد أحس أن شيئا كان يدهمه ويضع أنفه في الرغام، ويضغط عليه في قسوة شرسة قد رفع عنه، وأن رأسه يستطيع الآن أن يشعر بالحرية، وإن كان لا يستطيع أن يشعر بالكرامة. لم يخش أن يعيره أحد أن أمه تركت البيت لتعود راقصة مرة أخرى فما داموا قد عرفوا أنها راقصة فكل شيء هين بعد ذلك، فليس هناك أي بأس أن تتكسر النصال على النصال، وقد عرف المهانة في أبشع صورها ولم تعد مهانة تخيفه بعد ذلك.
عجيبة هذه الحياة لقد خيل لفرغلي يوم أعلن عليه أمر أمه في المدرسة أن أعمدة الحياة قد تهاوت، وأن الحياة لا تستحق أن يحيياها، بل طالما تمنى أن تنخسف به الأرض فلا يبقى منه في الوجود شيء، ولا حتى ذكرى في قلب أبيه أو في نبض أمه، بل إنه كان يتمنى أن ينمحي هذان الاثنان بالذات. وكراهيته لأبيه كانت أشد من كراهيته لأمه، فهو لا يعلم لماذا أصبحت أمه راقصة ويقدر أنها ربما فرض عليها هذا الطريق فرضا ولم تختره، أما أبوه فهو وحده الذي اختار أمه تلك من بين نساء العالمين وجعل منها أما له. ولكنه مع الأيام تعود المهانة ثم هو بقدرة إلهية عجيبة استشعر من هذه المهانة قوة فلم يعد يخشى شيئا مما يخشاه التلاميذ. إنه ينجح في المدرسة لا لينال الشرف فهو يعلم أنه لا سبيل له إلى هذا الشرف أبدا، ثم هو ينجح لأنه لا يجد سببا يسقط من أجله وإنما كان يقول لنفسه إنه يكفيه سقوط أهله فلا داعي لأن يسقط هو نفسه أيضا. أصبحت هذه المهانة مصلا في دمائه يحميه من الشعور بمهانة أخرى. لا بأس عليه أن يشتم المدرسون والتلاميذ أمه وأباه، طظ، وماذا في هذا؟ إنه هو نفسه يتمنى أن يشتم أمه وأباه. لا بأس أن يحتقروه بل لا بأس أن يحتقره الفراشون، لا بأس لا بأس، لا بأس بأي شيء، فكل شيء مقبول ومحتمل والإنسان أقوى ما يكون إذا وطن نفسه على قبول كل إهانة، وليس يهم من قريب أو بعيد أن يكتسب هذه القوة من العزة والكبرياء أم من الذلة والمهانة ما دام الطريق من أعلى الجبل والطريق من سفحه يلتقيان عند مكان واحد من الجبل حصين.
وهكذا وجد في ترك أمه للبيت خيرا، وإن كان هو سيقوم بغسل الهدمات القليلة فلا ضير في ذلك عليه، فقد تعود أن يغسل كل شيء في المقهى. أما الطعام فقد كان يأكله خارج البيت أغلب الأمر، فهو يشتري نصف رغيف أو رغيفا في الصباح ليكون فطوره، وكان يتناول غداءه في المدرسة، فقد كانت المدارس في هذه الأيام تقدم طعام الغداء، وكان يتعشى بالمقهى، وعلى أبيه أن يبحث عن وسيلة لإطعام نفسه فإن هذا أمر لا يعنيه في شيء.
لأمه أن تذهب من هذه الدنيا حينما تريد، وكلما ابتعدت عنه ازداد هو شعورا بالأمان. أمر واحد كان يشغله ولكن ما أقل ما كان يشغله لقد خشي أن يجدد هرب أمه زياط التلاميذ حوله ويذكرهم بما نسوه من أمره، فهرب أمه عرف في القرية جميعها في ساعات معدودات وللقرية في المدرسة تلاميذ، والتلاميذ شأنهم شأن قريتهم بل شأن الناس أجمعين يحبون أن يلقوا الأنباء إلى من لا يعرفها أو حتى لمن يعرفها ليروا هذه الدهشة التي قد لا تبقى على الوجوه أكثر من هنيهة، ولكن هكذا الناس يحبون أن يروا هذه الهنيهة وإن كان الخبر يحطم قوما آخرين ويدمرهم ويجعلهم جذاذا ورمادا منسحقا وهباء وعدما. لا يهم ... المهم هو هذه الهنيهة البلهاء وهذا الإدهاش ثم التعليق.
كان هذا ما يخشاه فرغلي، ولكن أمر الناس عجيب، لقد انتقل الخبر إلى المدرسة وذاع بين أرجائها وشاع ولكن التلاميذ الذين داسوه كحشرة يوم عرفوا أن أمه كانت راقصة؛ التفوا حوله هذه المرة يواسونه في عطف وحب واشفاق بل في حساسية رقيقة عجيب أن تصدر ممن هم في مثل أعمارهم. لم يذكروا عن هرب أمه شيئا وإنما كل ما فعلوه أن جماعاتهم كانت تناديه ليشاركهم اللعب أو يشاركهم الحديث.
والعجيب الأعجب أن أبناء قريته أصبحوا يزورونه دائما في المقهى بعد الفراغ من المدرسة، ويصرون أن يذاكر معهم إذا عاد إلى القرية ويلازمونه أو يرغمونه على أن يلازمهم في أيام الجمع والإجازات.
من يستطيع أن يحلل هذا المجتمع؟ كيف يرفض ابنا لراقصة سابقة؟ ويقبل هذا الابن نفسه حين تصبح أمه راقصة عاملة؟ ترى هل بعدها عن البيت هو الذي صنع هذا التناقض؟ أم شعورهم بأن الابن أصبح من غير أم؟ أم هو مجتمع هوائي يميل حين يميل ويشيح حين يشيح بغير منطق في الميل أو الإشاحة؟ كابن عمار الذي يذكره البيت الشهير يعطي ويمنع بخطرات من هواجسه لا عن بخل ولا عن كرم.
عجب فرغلي واستقبل حياته هذه الجديدة وسرعان ما نعم بها ولكنه مع ذلك مطلقا لم ينس أنه يتلقى الصداقة عن شفقة لا عن حب، وأنها تكال له بمكيال المهانة لا بمكيال المساواة. لم تكن نفسه من هذه النفوس التي تنسى فهو يستقبل هذه المشاعر الجديدة في استسلام لها، ولكنه في العميق العميق من دخائله لا يكن لكل هؤلاء الأصدقاء الجدد إلا الكراهية والحقد الدفين المستعر.
5
البحث عن كرامة
Неизвестная страница