رفعت رأسها وشخصت طويلا إلى القمر كمن ينظر إلى صورة مؤلمة، ثم أطلقت زفرة من أعماق صدرها وألقت ذراعيها بوهن، قائلة: «واحسرتاه!» وبعد هنيهة سمعتها تردد لحنا جميلا كنا ننشده معا في تلك الجبال وما كادت تصل إلى آخره حتى تحول اللحن إلى شهيق وتقطع في الظلام، فأغلقت النافذة وتوارت عن نظري!
آه! إذن كنت تفكرين بي يا لورانس، ولم يكن بيني وبين سمائي إلا خطوتان اثنتان! لم يكن بيني وبينك إلا موجة من الهواء، أو نفس أطلقه من فمي، أو اسم أناديك به! إن نغماتك العذبة قد ملأت فضاء قلبي، فالهواء الذي كنت تستنشقينه قد حمل إليك لهاثي المضطرب وصراخ نفسي الخافت! رب هل انتصرت على ضعفي؟ إن سكوتي ليضع اللانهائية بيننا! فأنا أبتعد من هذا المكان مضطرب القلب، واهي القوى، تاركا نفسي ونفسها على أقدام رحمتك!
العهد التاسع
فلنيج، 12 تشرين الأول سنة 1820
لقد عدت إلى سجني الأبدي كما يعود الطائر الكسير الجناح إلى ثقب في الحائط، حيث يهن ويموت!
في المساء، أرى الفلاحين يحيونني من بعيد وهم منتشرون أفواجا أفواجا بين كوم السنابل، وعندما أدخل إلى باحة مأواي تنهض مرتا وفي يدها مغزل وتفتح باب غرفتي بدون أن تتلفظ بكلمة، فيثب كلبي الأبيض على ثوبي ويجعل يعض حذائي أو يلجذ يدي. أيها الكلب الأمين، أية رحمة وضع الله في صدرك لتحب الذين لم يعد يحبهم أحد؟ يشهد الله أني ما رفستك مرة برجلي ولا قلت لك كلمة تؤلم حنوك بل إني أحترم دائما رفقك الجميل ورقة قلبك كما يجب على كل إنسان أن يحترم أية مخلوقة كانت من خلائق الله، آه يا صديقي «فيدو» يا أخي المسكين! إن السكوت ليفهم علاقتنا الخرساء عندما تنظر إلي تلك النظرات اللطيفة، فنفس من أنفاسي يكفي أن يوقظك وأنت منطرح على حافة سريري، حتى إذا قرأت حزني في عيني لا تلبث أن تبحث عن سببه بين طيات جبيني وتعض يدي بشفقة وحب لكي تلهيني عن أفكاري السوداء وتسكن ما يجيش في صدري من الألم! أجل، إن الحب يفوق الذكاء، فاقترب أيها الصديق، يا آخر أمل يضيء في سراج الصداقة، اقترب مني ولا تخف أن أخجل بك أمام عيون الله، تعال والجذ بلسانك عيوني الدامعة وضع قلبك بالقرب من قلبي، وليحب بعضنا بعضا أيها الكلب الأمين!
8 تشرين الثاني سنة 1800
مات بائع السلع المسكين ليلة أمس، فلم يشأ أحد من الفلاحين أن يعطي خشبا لتابوته حتى إن الحداد نفسه أبى أن يبيع مساميره قائلا: «هذا إسرائيلي جاء من حيث لا ندري، فلنرمه في هوة بين الصخور كما نرمي كلابنا عندما تموت لئلا يدنس مقابرنا المقدسة بجسده»، وكانت امرأته وأولاده يستعطفون المارة بدون جدوى، فأشعرت صدفة بهذا العار الإنساني والشكوك الفضاحة فأسرعت حالا وأخذت أوبخ هؤلاء المعارضين المسيحيين على قساوة نفوسهم، وقلت لهم: «اذهبوا وانزعوا أخشاب سريري واصنعوا منها تابوتا للميت»، ولكي أعطيهم أمثولة في التساهل وأشرح لهم كيف أن الله قد أوجد الشمس ليستنير بها كل إنسان من أي مذهب كان، وكيف أن النعم قد أسبغت علينا جميعا بدون تفاوت سردت على مسامعهم هذه القصة الوجيزة، قائلا: «بينما كان البشر يبحثون عن مقر لهم في العهد القديم كانت جماعة من الرجال قد هيأت مكانا لها على ضفاف النيل، وعندما طابت لهم الإقامة أمام الماء العذب قالوا لبعضهم: «إن هذا النهر لإلهنا الوحيد؛ فهو يهب الحياة للذين يردونه ولا يحق لأحد سوانا أن يتمتع بمياهه.»
وفي ذات يوم وصلت قافلة إلى ذلك النهر بعد أن تاهت زمنا في الصحاري الواسعة وأرادت أن تملأ قربها من الماء، فما تردد هؤلاء الرجال أن طردوها قائلين: «ماء السماء لنا وحدنا فلا يحق لأحد أن يشرب منه ويحيا فعودوا من حيث أتيتم لأنكم لستم بشرا.» وكأن ملاك الرب سمع خطبتهم، فقال في نفسه: «أف لعقول هؤلاء الرجال كم أنها ضيقة!» ولكي يعلمهم أن ماء السماء ملك لجميع الناس، نادى شعبا كان متخذا وجهته النيل ليستقي من مائه وفتح له حياض السماء فهطلت المياه بغزارة حتى ارتوى ذلك الشعب التائه في مجاهل الدنيا وملأ قربه من البحيرات العديدة، إذ ذاك رفع الملاك صوته وقال لعباد النيل: «أيها الشعب الأحمق، إن الغيوم تسقي في الأماكن البعيدة ذلك الشعب الذي ترفضه أنت، وينبوعها أرفع وأعظم من ينبوعك، اذهب وجل في العالم تجد أن لكل ذرية نهرا يتحدر من غاباته، وأن جميع تلك السيول تولد من مكان واحد، فالله يسكبها ساعة يشاء ويحولها إلى أنهر وجداول، إياك أن تمنع ماءك عن الذين بحاجة إليه أيها الشعب الجاهل، واعرف أن لك إخوة على الأرض وأن الذين لا يملكون ما تملك عندهم الأمطار في الشتاء والندى في الصيف، وأن الله لا يفرق بين شعب وآخر فكل شعب هو شعبه وكل ماء ماؤه.»
أتعتقدون أن الأشعة الإلهية هي ملك لكم دون سواكم؟ أتعتقدون أن ليس وراء قممكم هذه إلا الظلمات؟ وأن الذين لا يستنيرون بمذاهبكم وأديانكم يسيرون عميا في طرقات الموت؟ لا! بل تيقنوا أن الله ينبوع النور يسكب ضياءه في جميع النفوس وفي كل الأجفان، وأن لكل رجل يومه ولكل عمر أشعته، فاحذروا أن تقيموا بين الله وبين إخوتكم خيال كبريائكم ويد غضبكم!»
Неизвестная страница