المقدمة
توطئة
العهد الأول
العهد الثاني
العهد الثالث
العهد الرابع
العهد الخامس
العهد السادس
العهد السابع
العهد الثامن
Неизвестная страница
العهد التاسع
خاتمة
المقدمة
توطئة
العهد الأول
العهد الثاني
العهد الثالث
العهد الرابع
العهد الخامس
العهد السادس
Неизвестная страница
العهد السابع
العهد الثامن
العهد التاسع
خاتمة
جوسلين
جوسلين
تأليف
ألفونس دو لامارتين
ترجمة
إلياس أبو شبكة
Неизвестная страница
المقدمة
نبهني صديقي الفاضل صاحب مكتبة صادر ومطبعتها الذي نتوسم فيه عمدة لنهضة أدبية في البلاد إلى كتابة مقدمة لروايتي المعربة «جوسلين»؛ إذ لا يجمل بالكاتب أن يقدم على طبع كتاب مترجم بدون أن يذكر كلمة عن مؤلفه، فراجعت إذ ذاك المقدمة أو المقدمتين اللتين وضعهما الشاعر لامرتين لروايته، فرأيت فيهما أجمل ما يخطه قلم وما تمليه نفس، فآثرت أن أجتزئ منهما بعض مقاطع تكون مقدمة لهذا التعريب.
قال لامرتين في مقدمة الطبعة الأولى: «سألت نفسي مرارا: ما هو الموضوع الاجتماعي الذي ينطبق على روح العصر وعاداته ويكون عدة يهيئها الشاعر للمستقبل، فوجدت أنه الإنسانية، والحظوظ، والسبل التي يجب على الروح البشرية أن تسير عليها لتصل إلى مقدراتها ومقاصدها.»
ولكن هذا الموضوع الرحب الذي لا يستطيع كل شاعر بل كل عصر أن يكتب منه أكثر من صفحة واحدة يفتقر أولا إلى من يوجد صيغته ومأساته ورموزه الذاتية.
هذا ما حدثت به نفسي
إذا قيض لي الله أن أنجزه، أو إذا قدرت على الأقل أن أرسم قسما كبيرا من أجزائه قبل موتي لكي يظهر الرسم جليا في تلاحم أجزائه وفي أساليبه وتنوعاته، يحكم القارئ إذ ذاك بما إذا كانت تلك الروح تتضمن بذرة من بذور الحياة ويجيء بعض شعراء غيري هم أعظم وأكمل مني يعززونها بعدي ويستثمرونها خصبة نامية.
العمل متشعب الأطراف، بعيد الحدود. لقد أنجزت عددا غير قليل من أجزائه في أوقات مختلفة، بعضها ألقي في النار لعدم نزولي عند صحته والبعض الآخر باق عندي يحتاج إلى أوقات فراغ ورغبة في العمل لكي يبرز وينشأ، فتشتت الأفكار والسياسة والأسفار وضجيج الحوادث الخارجية أقعدتني مرارا عن إتمامه وستقعدني أيضا في مراحل حياتي، فيجب على الإنسان ألا يقوم بهذه الأعمال إلا في ساعاته الحرة بعد أن يكون قد أدى ما عليه من الواجبات لعائلته ووطنه؛ لأنها من ملاذ الروح والمخيلة فلا يجمل بنا أن نتخذها غذاء لحياة الرجل.
ليس الشاعر كل الرجل كما أن المخيلة والحاسة ليستا كل النفس: ما معنى الرجل الذي يصرف شبابه وشيخوخته في التنقل بين أحلامه الشعرية في حين أن أترابه يجاهدون بكل ما أوتوه من القوى في سبيل الوطن والعمران؟ في حين أن الشعب الراقي يتموج حوله في جهاده المقدس الشريف؟ أليس أحرى به أن يكون مهرجا متفرغا لتسلية الرجال الوقراء وأن يرسل مع العدد بين موسيقيي الفرق العسكرية؟
الفكرة والعمل يقدران وحدهما أن يقوما بالواجب المقدس، هنا الرجل.
لقد اخترت، من بين مشاهد مأساتي الشعرية، مشهدا ينطبق على طبائع العصر وآدابه، لكي أعرضه اليوم أمام الشعب وأستشير رأيه في أسلوبي الشعري الجديد.
Неизвестная страница
هذا المشهد يمثل راعي قرية هو كاهن إنجيلي رمز مؤثر لآداب هذا العصر، ما احتجت إلى أكثر من تهيئة توطئة وخاتمة حتى كونت من هذا الحادث قصيدة لها بدايتها وانتهاؤها.
يضل القارئ إذا رأى في هذا الموضوع غير وجهته الشعرية، فليس هنا مقصد خفي، ولا مذهب من المذاهب، ولا مجادلة ضد إيمان ديني أو معه.
ليس موضوعي هذا من المخترعات بل هو حادث حقيقي، قال الشاعر: إن في كل ما يقولون شيئا حقيقيا، أما هنا فكل شيء يكاد يكون حقيقيا، وليس من مختلق إلا اللغة فقط.
إذا صادف مؤلفي هذا استحسانا عند الجمهور، فإني مستعد إلى إصدار مثله من حين إلى حين، أما إذا تركه يقع ويموت فإني أقف عند هذا الحد غير مستمر على إنجاز ذلك التمثال الذي أود أن أتركه بعدي.
وقال المؤلف في مقدمة الطبعة الثانية مخاطبا ملتزم روايته بما يلي: «لماذا تطلب مني مقدمة جديدة «لجوسلين»؟ لم يبق لدي ما أقوله لقراء هذا المؤلف، فالاستحسان والإكرام اللذان صودفا عند الجمهور هما أبعد مما كانت تتصوره آمالي، تراني مديونا بكثير من الشكر لهذا الشعب الراقي وأنت في مقدمته، فالفضل راجع لك ولرجال الفن الأفاضل في إلباس مشاهد هذه الرواية أردية فضفاضة من نسيج الريشة الرسامة، لا أكتمك يا سيدي أن ما تلطف به المصورون هو أجمل انتصار حلمت به في شبابي، أي مجد أسمى وأعظم من أن يرى الشاعر أفكاره المكتوبة على الأوراق منحوتة على الرخام أو مرتسمة على الأقمشة؟ أي فخر أعظم من أن يرى الشاعر بنات مخيلته تتخذ جسدا حيا وتبرز به حتى أمام الذين لا يقرءون؟ أيطمع الشاعر في أبعد من أن يرى روحه تسبح في عالم المحسوسات؟ لا، إن طماعيتي الأدبية لا تذهب إلى أبعد من ذلك، فهنا كل المجد.»
بماذا يطمع الشاعر بعد أن يكون قد أدرك كل ذلك؟ فالكتابة هي إبداع شيء، عندما تتحول المخيلة إلى صورة حية تصبح الفكرة حقيقة، ويكون الكاتب قد أحدث وأبدع واستراح!
لا يبرح عن ذهني أول رسم شعري أثر في مخيلتي الحديثة يوم كنت ولدا، كان ذلك الرسم بولس وفرجني وأتالا ورينه، لم أكن يوم ذاك لأمل النظر إلى ذلك الرسم معلقا على جدار كاهن القرية الشيخ أو في غرف الفنادق، حيث كان بائعو السلع يذيعون في الشعب اسمي برناردين ده سان بيير وشاتوبريان. لا أشك في أن الروح الشاعرة التي دخلت إلى نفسي في ذلك العمر دخلت من تلك الطريق، كنت أصرف ساعات طوالا أمام تلك المشاهد الحبية، مشاهد السكون والعفاف، قائلا في نفسي: «آه! لو يتيح لي يوما من الأيام أن أؤلف كتابا صغيرا يبقى على رفوف مكتبة العائلة، وأن يختار منه بعض الرسامين مشهدا أو مشهدين يعلقان على الجدران أمام أعين الذين لا يقرءون، فأكون قد حييت حياة سعيدة.»
لقد حققت السماء واهتمامك المقدس ذلك الأمل الصبياني يا سيدي العزيز، فسوف يعلقون لورانس بعض الأحيان تخت فرجني، وجوسلين بالقرب من الأب أوبري، فلا أرجو أن أقترب أكثر من ذلك، إن احترامي لهذين النابغتين: برناردين ده سان بيير وشاتو بريان اللذين كانا ولا يزالان أبوين كريمين للأدب الإفرنسي ليفتخر أن أبقى دونهما طيلة حياتي الأدبية، فاعتباري من تلك العائلة الخالدة يكفي نفسي عجبا وفخرا.
جوسلين، هي المؤلف الذي أكسبني أكثر من سواه ثقة كثير من الذين لم يكن لي سابق صلة بهم، فكم من نفوس ما كنت لأحلم بها قد انفتحت لي منذ صدر هذا الكتاب، في رسائل، بعضها ممضي وبعضها لا إمضاء له، تتدفق كل يوم بين يدي!
الشاعر ينشد أغانيه في عالم الذكاء والحب فيجيبه سرب من الأرواح الحساسة وألوف من الأفئدة الرنانة كاشفة أمامه شعورها وتأثراتها.
Неизвестная страница
إن الشاعر لسمير الأرواح مهما تباينت نزعاتها، وهو كذلك بلسم الآلام والمصائب يسكب عليها من أحشاء الوحدة والسكون مراهم التعزية، والمرشد الأمين للأخيلة وللتصورات.
كم أتمنى لو استطعت أن تشهد ولو مرة وصول البريد، وأن تفض الرسائل الواردة إلي من جميع الجهات، فهذه كتلة صفراء تشير إلى أنها قطعت بحارا عديدة حاملة إلي بعض ذكريات عذبة من الشرق المحبوب، لقد كتبت باللغة العربية فيجب أن أرسلها إلى باريس أو مرسيليا لترجمتها، وهذه كتلة تدل أحرفها الرصينة على أنها قادمة من ألمانيا، تلك الأمة المفكرة النشيطة، فأنا أفضلها بهزة وارتياح، وهذه أيضا من رومة ومن نابولي ومن فلورنسا: لقد كتبت بتلك اللغة الموسيقية التي تكسب الأفكار والعاطفة رنين النحاس العميق، وبالإجمال فهي أبيات من الشعر الطلي أفلتت من بعض النفوس الفتية، وهذه قادمة من إنكلترا، فعناوينها المتشابهة الشكل ذات الأحرف المعجلة تشير إلى كثرة العلائق والسياسات والاقتصاد، ولا تدل على شيء من الشعر بتاتا، فهذا الشعب لديه ما يجول بينه وبين الأحلام! وأخيرا هذه كوم قادمة من جميع جهات فرنسا، مختلفة الأشكال، متباينة الأحرف، بعضها يبحث في السياسة والشئون الدولية فيصوب إلي التجاديف واللوم، وبعضها يقول لي: «إلى الأمام، إنا معك قلبا ونفسا»، فأجد في هذه الأصوات عزاء ونشاطا، وتقر عيني، لا سيما عندما أفض بعض الرسائل الواردة إلي من أصدقاء مخلصين ملؤها العطف والذكريات! فهذه الرسائل جديرة بأن أتذوقها وأعيد قراءتها مرارا ثم أضعها على حدة لأنها منفردة بالأفكار والإحساس.»
وأخيرا هذه رسائل من قوم غرباء أجد لذة عظيمة في تلاوتها بعد أن أضع جانبا تلك التي تلح في مطالبتي بوفاء ديون لا أملك منها شيئا، فكم من كنوز مختبئة في تلك الصفحات وكم من عاطفة وإحساس! إن هناك صفحات صبيانية اجتهدت في تنميقها أنامل بعض الأولاد، ولكن هناك صفحات ساحرة جذابة تأخذ بمجامع القلوب، حرية بأن تتلى بإعجاب وفخر!
كم من عاطفة وشعر وفلسفة! كم من أبيات تارة حساسة وطورا بليغة تنطفئ وتموت بين شفاه منشدها وآذان سامعها!
كم من فتيات، كاللواتي أجاد هيغو التغني بهن، يصرفن النهار في التخريم والتطريز ليتعيشن، ويحيين الليل في قراءة الكتب المفيدة وموحيات المخيلة الناضجة، حتى إذا ما انتهين إلى سر الإنشاء يكتبن ما تمليه عليهن نفوسهن الطاهرة.
كم من عملة بؤساء ينزوون الليل في مخادعهم بعد أن يكونوا قد صرفوا النهار بالعمل الشاق فيفكرون ويشعرون بتلك النفس التي نفكر بها نحن ونشعر.
وكم من نساء منفيات في أقاليم بعيدة، في أعماق بعض القصور أو في زوايا بعض الأكواخ الحقيرة، يتركن أصواتهن الملائكية تفلت من صدورهن الكئيبة الحساسة كأنها أصدية السماء ترددها ملائكة الأرض، وأخيرا كم من مرضى، وكم من بؤساء أعدمتهم الحياة نعمة الإثراء لا يجدون العزاء إلا في أفواه الشعراء، وكم من كهنة لا يزالون فتيانا قضي عليهم أن يسجنوا كجوسلين على بعض الأطلال البالية أو في بعض الجبال البعيدة، وقد وقع كتابي هذا بين يديهم فمزجوا نفوسهم الباكية بنفس ذلك الكاهن الشاب الذي ألقى في قلوبهم بعض التعزية والسلوان. «هؤلاء هم قراء كتابي وأصدقائي والمراسلون الأصفياء! آه! إن من كان مثلي متمتعا بثقة تلك النفوس الفتية، لا يعدم نشاطا ولا ييأس!»
إلياس أبي شبكة
توطئة
كنت صديقه الوحيد على هذه الأرض، وكنت أتردد إلى مقره مجتازا تلك الطريق الضيقة على قدمي، وتحت ذراعي بندقية أعددتها للصيد وأمامي كلبان أمينان، كنت أصعد بهما تلك الجبال الناتئة متلهيا بوثباتهما الخفيفة عن التعب الذي كان يثقل ركبتي، فما أكاد أتوسط الطريق الوعرة وأطل على ذلك المقر القائم بين الصخور الرمادية والأشجار الباسقة الغضة حتى تتوارد إلى مخيلتي مشاهد جميلة بارزة خلال ذلك المكان المنفرد من الطبيعة.
Неизвестная страница
وتمر على حافة قلبي أسراب الغبطة والفرح لما سألاقيه في المساء من حسن الضيافة والجلوس معه أمام الجدول الرقراق في الحديقة العطرة بين الأغصان المتدلية والأزهار الرقاصة على ممر النسيم، ويخيل إلي وأنا أجتاز تلك المسافة أني أسمع نبرات صوته العذب وأشعر بقلبه المحب يخاطبني بتلك العاطفة وذلك الشعور اللذين طالما رأيتهما يضطربان من خلال عينيه؛ ففي أحد الأيام، عندما بلغت قمة الجبل وسمح الأفق المطلق لمقلتي المغلفتين بالأثير العطري أن تريا مقدم مقره، وضعت بندقيتي على أحد الصخور ومسحت جبيني بعد أن كان النسيم البليل قد نشفه بأطراف ردائه الأثيري، ثم جعلت أحدق في البعيد باحثا عن ثوبه الأسود بين تلك الأشجار المدلة بالثمر والحديقة المغروسة فيها أنواع الخضر، وما زالت أجيل نظراتي حتى تراءى لي مصراع نافذته موصدا، فحولتها إلى مدخن الموقد فلم أر الدخان صاعدا من فوهته، فاستغربت الأمر ومرت رعشة عنيفة وخيال رهيب على نبضات قلبي، وبدون أن أعرف سبب اضطرابي أخذت بندقيتي وأسرعت بالمسير.
كنت أفتش بعيني عن أحد أسأله، غير أنه لم يكن في ذلك الحقل المقفر لا قطيع ولا راع سوى محراث مضطجع بين الأتلام ودابة ترعى الأعشاب النابتة على أقدام الصخور، ولم يكن يسمع في تلك الساعة إلا صراخ الصرصر بدلا من نغمات العنيز.
بلغت المنزل وعبثا طرقت الباب: حتى إن كلبه الأمين لم يسمع دقاتي فيعلنها بنباحه، وأخيرا دخلت إلى الساحة فوجدتها خرساء فارغة. فارغة؟ يا للأسف! لا، لا، شاهدت وجها مبدل القسمات متكئا على يد نحيلة كأنه بائس مسكين على عتبة كنيسة القرية، أجل! رأيت امرأة ساكنة لا تبدي حراكا وقد غشت الدموع عينيها وأحرقت الزفرات ما بقي على وجنتيها من نضارة الحياة، فأدركت حينئذ هول الموقف وشعرت بالموت ناسجا أكفانه السوداء في ذلك المقر المقدس، حيث كان صديقي المخلص يردد صلاته عند آخر شعاع من أشعة المغيب. أجل! أبصرت الخادمة الأمينة تبكي سيدها المحب وقد تاهت نظراتها في مذاهب الفضاء! أحقيقة يا مرتا أنه مات؟ قلت لها ذلك وقد اغرورقت عيناي بالعبرات وأطلقت زفرة من صدري أفاقت عندها ذكريات قريبة العهد، فنهضت تلك الخادمة وأمرت أناملها على عينيها ثم حدقت إلي، وقالت: «أجل! مات! ولكنه لا يزال في غرفته، فاصعد إليه وزود نفسك منه آخر نظرة قبل أن يواريه التراب، فسوف لا يدفن قبل فجر غد، لقد كان اسمك آخر كلمة قالها عند موته»، فصعدت أدراج الغرفة حتى دخلت إليه فوجدت المكان قفرا مظلما لا يضيء فيه غير شمعتين ترسلان إلى جبينه بعض أشعة مأتمية كأنها الأمل الخالد وظلمات الحياة يتنازعان في الساعة الأخيرة من ساعات السكرة الرهيبة! بقيت هنيهة متأملا ملامحه العذبة، وقد مرت عليها أجنحة السماء تاركة على بسماتها مثل ما تترك الفراشة على براعم الأزهار، وكان ثوبه الأسود ملقى على فراش الموت، وصليبه العاجي راقدا على صدره الساكن كأنه صديق مخلص راقد على قلب صديقه، وكان كلبه الأبيض جالسا على أقدام السرير يلتفت تارة إليه، مستغربا رقاده الطويل، وقد مضى على حراسته برهة من الوقت لم يستفق في خلالها، وطورا ينبح نباحا شديدا ثم يصغي إصغاء تاما عله يسمع لهاثه أو يرى عينيه، وكان بالقرب من وسادة الميت، حسب الرتب المقدسة، غصن من البقس اليابس مبلل بالماء المقدس، فأخذته بيدي بخشوع واحترام ورسمت به على جسده شارة الصليب، ثم قبلت يديه وقدميه، وكانت صورة الخلود مرتسمة على جملة وجهه، فلم تر عيناي إلا قديسا من أصفياء الله مضطجعا بجلال بين جدران تلك الغرفة المظلمة، فجلست على كرسي أمام الميت وجعلت أبكي وأصلي حتى إذا ما جاء الصباح بعد أن أحرقت الليل بزفراتي، غيبنا الجثة في ضريح قائم على مقربة من باب الكنيسة ورمى كل من القرويين قليلا من التراب المقدس على التابوت علامة الحداد، ثم جعلت أنظر إلى ذلك التابوت يتوارى شيئا فشيئا تحت الرماد، وكلما ألقى الحفار حفنة من رفشه
1
أسمع زفرة من أفواه القرويين! «أيها الصديق القديس! قلت له عندما احتجبت آخر خشبة من خشبات الكفن، نم، فليس قلبي هو الذي أسف عليك بل عيني! إني لعالم أن صديقي لم يبق في هذا الوجود بل ذهب إلى حيث أشعلت فضيلته مصابيحها المنيرة، وتقدمت زفراته جلال نفسه الطاهرة!»
في ذلك المساء سمع الجرس ينوح عليه في ذرات الأثير فيمتزج نواحه الرهيب بنباح الكلب الأبيض، ذلك الحارس الأمين الذي لم يكن ليفهم معنى غياب سيده فيناديه في الليل ولا يسمع جوابا لندائه سوى حفيف الشجر في وسط ذلك السكون!
قضيت ذلك الحين مع مرتا، صارفا الساعات بالتنقل من الحديقة إلى الساحة، ومن الساحة إلى الحديقة، باحثا عن آثاره في كل موضع، مناجيا طيفه اللطيف وروحه الشريفة، قارئا بعض فصول من كتاب مقدس، وماسحا بأناملي دموع عيني، «ألم يكن يكتب في خلوته؟» - «أحيانا، أجاب مرتا، ولكنه كان لا يكاد يملي في ليلة واحدة ما يخطر له حتى يرمي بالورقة في سلة قديمة، وعند الفجر كنت أكنس تلك الورقة وأتركها مع باقي الأوراق تحت النافذة، فإذا شئت أن تطلع عليها فاجمع ما أبقته الفئران منها»، جمعت تلك الأوراق الصفراء، حيث مرت أنامله مرور أنامل كاتب خيالي، بعد أن عبث بها الشتاء ولاعبت بها أيدي النسمات ثم جعلت أقرأ أسطرها البالية بجهد عظيم، حتى تمكنت من إحياء ماضيه بين تلك الآثار المهدمة، كما تمتد الماء تحت الأكمات وتتوارى بين الأدغال المضطربة لدى خطرات النسيم، ثم تبرز نقية كالفضة في وسط مرجة خضراء، ثم تتكسر على بعض الصخور الرمادية وتعود تتجمع في غدير عذب بين الأزهار والرياحين، هكذا تجمعت تلك الصور القديمة من ذلك الدفتر اليومي بعد أن كاد البلى يمحو آثارها من الوجود.
العهد الأول
في 1 أيار سنة 1786
مضى النهار كما تذوب الثمرة اللذيذة في الفم تاركة بعدها الطعم والعطور، إن الأرض لملأى بالأفراح! شكرا لك يا الله على تلك النعم، نحن اليوم في أول أيار، على عتبة قصر الزهور، ففي الصباح وضعت والدتي طفلا ذكرا وبلغت أنا السادسة عشرة من عمري، كان النهار جميلا والوادي الصغير زاهيا زاهرا كأنه قطعة من الجنة! وكان كل مصراع من مصاريع النوافذ بمثابة صديق حميم يستقبل أول بسمة من بسمات الفجر، كنت أشاهد الدخان صاعدا من فوهة الموقد كأنه أعمدة من الأثير مرتفعة في مذاهب الفضاء، وكأن أسراب الدقات الخفيفة أجنحة هائمة من أجنحة الملائكة الأتقياء كانت تتصاعد من حناجر الأجراس وتقفز كالطيور على صخور الوادي! وكانت فتيات القرية يفتحن نوافذ منازلهن لدى تلك الأنغام ويتبادلن التحيات والبسمات، ثم يضفرن شعورهن متكئات على شرفاتهن، ويسرعن بعد ذلك إلى الحدائق عاريات الأرجل، حيث يجمعن باقات من الأزهار لا يزال ندى الصباح مضطربا على براعمها، ويعلقنها على صدورهن كأقراط من اللؤلؤ أو كعقود من المرجان، وكنت أرى على مقاعد الكنيسة بعض العذارى الجميلات ساجدات بخشوع أمام القربان المقدس كأنهن قد جئن يرفعن إلى الخالق المبدع أزهار نفوسهن وقد قطفنها من حدائق التقوى ومروج الفضيلة.
Неизвестная страница
وفي المساء، كان الرقص على أعشاب المروج يعطي المشهد جمالا فيغار منه شعاع الشمس المائت، وكانت الأغصان تذيب على أوراقها الخضراء موسيقى الحفيف فتمتزج نغماتها بنغمات الناي من فم المعاز السكران وتتآلف بسرعة في أفئدة بعض العاشقين هامسة في آذان الحب أسرار الحياة! وعندما بدأ المزمار يشعر بتعب من تتابع النغمات، وبدأ العرق يتصبب من جبين الراقصات وينعقد على شعورهن، كنت جالسا على صخرة منفردة أتتبع بنظراتي وبقلبي هؤلاء العذارى وقد انعقد التعب على عيونهن، مفكرا بتلك العاطفة الجميلة العذبة متأملا أثوابهن الحريرية المخرمة، مصغيا إلى ذلك الحفيف المتصاعد من تلك الأردية الفضفاضة، ناظرا إليهن يبتعدن شيئا فشيئا ثم يتوارين عن عيني، حتى إذا ما برز البدر على قمة الجبل رأيت بعض العاشقين، وقد تغافلوا عن الذهاب، يتأبطون أذرع بعضهم ويتوارون في الظلام!
أنا في مخدعي الآن بين جدران خرساء مبطنة بالظلمة، الجميع راقدون في مضاجعهم، ولا أسمع إلا حفيف الورق تحت النافذة، فلأنم! ولكني لا أقدر أن أغمض جفني! فلأصل! - ولكن أفكاري المشتتة لا تسمع صلاتي! فأذني لا تزال ملأى بنغمات الرقص! عبثا أحاول الرقاد، فتلك الحفلة لا تزال ماثلة أمامي، والأحلام الرقاصة تستفيق في مخيلتي، وأخيلة الراقصات تتنفل بين أهدابي! يخيل لي أني أرى عينا تشع في الظلمة، وأشعر بأيد عذبة تجس يدي المضطربة، ويخال لي أيضا أن ضفائر ذهبية تلامس جسدي المختلج، وأن باقات من الأزهار الذابلة تلقى علي من جبين بعض الفتيات الجميلات، وأن شفاها عذبة تتلفظ باسمي في هذا السكون الرهيب! لوسيا! أينا! بلانش! ماذا تطلبن مني؟ أية قوة هو الحب؟ فإني ألامس عذوبة إلهية من خلال أحلامه! ولكن هذا الحب لم يتفتح بعد في حياتي، إنه لكوكب ناري وما هذه الساعة إلا فجره الأول. آه! ما كان أسعدني لو ألقت السماء بين ذراعي حلما من تلك الأحلام الحية، وما كان أهناني لو أتيت بعذراء طاهرة إلى هذا المكان، تكون أول شعاع من أشعة الحياة، فأحيا عشرة أجيال في يوم واحد: إني لأشعر بالحب هذا المساء، وما نفسي إلا الحب ولذاته! لا: فلأطرد من قلبي تلك الصور الذابلة ولأعد إلى كتبي القديمة أطالع في صفحاتها سير القديسين، تلك هي الكتب على منضدتي، ولكن عيني عبثا تطفوان على سطورها السوداء، فالذي يقرأ الآن إنما هو مقلتي لا أفكاري! •••
لماذا كانت شقيقتي تبكي عند دخولها إلى المنزل بعد أن كانت أكثر الفتيات جمالا وزهوا في تلك الحفلة الراقصة؟
في 6 أيار سنة 1786
عرفت سبب بكاء شقيقتي، أأقدر أن أشتري سعادتها بتضحيتي؟ منذ هنيهة كنت أهيم في الحديقة مفكرا، فسمعت تمتمة من غرفة والدتي تتصاعد على درجات الأثير ثم تتقطع رويدا رويدا وتختنق في الظلمة، فاقتربت من النافذة السفلى ورفعت عرائش الكرمة عن المصراع ثم أصغيت إصغاء تاما ونظرت إلى داخل الغرفة فأبصرت والدتي جالسة على حافة السرير تقرأ في صفحة ملأى بالأسطر السوداء، وكان خيال شعرها الأسود يحجب عني وجهها اللطيف، فسمعت نقطا متتابعة تسقط على تلك الورقة ورأيت شقيقتي جالسة بالقرب منها ويدها اليمنى حول عنق أمي وجبينها مستلقى على كتفها بحزن أليم وشعورها المبللة بالدموع ملصقة على خديها - «أحقيقة يا جوليا أنه يحبك وأنك تحبينه؟ - أكثر مما أحب نفسي! أجابت شقيقتي وقد احمر خدها من الحياء - واأسفاه! إني لأفقه جيدا معنى هذا الإقرار المحزن الرءوف أجابت أمي، فلا أسعد لدي من أن أراك متحدة يوما من الأيام، ولكن الله لضنين علينا بمثل هذه السعادة، فهو لا يكاد يجمعك بيد حتى يفرقك بيد أخرى، إن الحب لا يؤيد وحده دعائم الاتحاد، فالمال يا ابنتي هو الدعامة الكبرى لتأييده، المال! ... آه! لو كانت الدموع تستطيع أن تتحول إلى ذهب لكنت ترين كنوزا في عيون الأمهات! إن الخالق ليعرف ذلك! كم أتمنى لو تمكنت من شراء الزوج لك بمدامعي والزوجة لشقيقك العزيز، غير أن الله لم يهبني من متاع هذه الدنيا إلا الحقل الضيق الذي سوف يقسم بينك وبين شقيقك، فاجتهدي يا ابنتي أن تتناسي! - أتناسى؟ أجابت شقيقتي، فالموت أفضل عندي من ذلك، ثم إني لم أعد بعد ذلك إلا مزيجا من التأوهات والدموع، وكأن ملاكا من السماء همس في أذني بعض كلمات فتباعدت باكيا وهمت على نفسي بين أشجار الحديقة!»
في 17 أيار سنة 1786
قضيت النهار بالتفكرات ونزعت من صدري ذلك النزع الأليم بشجاعة وإقدام!
في 18 أيار سنة 1786
قلت لأمي هذا الصباح ما يأتي: «أشعر بأن الله يناديني إليه، فالتقوى الشريفة والإيمان الحي اللذان سقيتني إياهما يحملان الآن ثمرات ربما كانت مرة عندك وعند شبابي ولكنها حلوة وعذبة عند نفسي، إلى المبدع الخالق يا أمي! إن أشباح القديسين تدعوني إليها، فأود أن أرفع إلى الله أيامي الفانية كما يرفعون إلى المذابح آنية من البخور طاهرة! ما من شيء يجذبني على هذه الأرض، فلا أريد أن أدنس أقدامي على هذه الطرقات، حيث يمر قطيع الإنسانية على مستنقعات الخبث والرذيلة.
إني لأؤثر أن أتبع منذ الصباح طريقي الساكنة، وأن ألجأ إلى موئل الله، حيث السلام والهدوء والراحة! وإذا اقتضى أن أحمل حساما للقتال في هذه الحياة فإني لأختار واحدا يختلف عن غيره، وأموت رافع الرأس على حضيض المعمعة! ثم إن الحياة ثقيلة متعبة، فالأولى بي أن أحملها وحدها وأطرح ذلك الثقل الحديدي عن قلبي! ثقل الطمع والرغبات والمآرب! آه! لا تقاومي مشيئتي يا أمي وانزلي عند هذا الرجاء المفرح! لا، لا تقاومي، فسوف تكونين فخورة بهذه الكلمة التي تكاد أن تكون وداعا مرا، أي شيء أكثر وداعة من اسم الكاهن؟ آه! لا تخجلي من ذلك، فليس أشرف وأنبل من هذه الغاية يا أمي! إن الله الذي قسم الإنسانية أعطى لكل واحد قسمته، فمنهم: من أعطاه الأرض ليحرثها، ومنهم من أعطاه امرأة يحبها ويثمر منها أولادا، ومنهم من قال له: اجعل دويا في العالم، ولكنه التفت إلى القلوب الملأى بالمحبة والإيمان، قائلا لها: «أما أنتم فلا تحملوا شيئا من متاع العالم فستجدون كل شيء بين ذراعي»، إن الكاهن يا أمي لقارورة طاهرة، معلقة على قبة المذبح، حيث أشذاء الفجر والأعشاب العطرة تستحيل إلى بخار مقدس وتتصاعد إلى الملأ الأعلى! إن الكاهن لأرغن السماء يذيب نغماته على الأرض غير أن صوته لا يمتزج بدوي العالم ولا يتجاوز عتبة الهيكل، بل إنه يرفع إلى الله من ظلمات المعبد أنغامه المقدسة حاملة إلى الألوهية ألحان الطبيعة والإنسانية، ولكن ربما قلت يا أمي: «إنه يحيا معتزلا، ونفسه التي لا يذوب عليها شعاع المرأة تستحيل إلى خشونة وصلابة بين ظلمات الوحدة وجدران السكون»، لا يا أمي، فالمسيح يضع في قلبه عظمة المحبة واللين، فلا تخشي أن تفقد من نفسي عاطفة جعلتها وقفا لمحبتك! آه! إن الله الذي يناديني إليه ليس بإله حسود، بل هو الرحيم الشفيق الذي لا يطلب شيئا من نفوس الأبناء إلا ليضعه طاهرا في نفوس الآباء! سأكون رسولا لهذا الإله المحب وسأرفع نفسك الطاهرة إلى أعالي السماء بزفراتي ودموعي! لا تغمضي جفنيك يا أمي ولا تنظري إلي بهذا الحزن العميق بل قولي لي كما قالت سارة: «ليكن ما أراد المبدع الخالق!» وباركيني بيدك الطاهرة!»
Неизвестная страница
في 26 أيار سنة 1786
بقيت أمي تبكي ستة أيام! كما طلبت ابنة يافث من الله الغضوب بعض ليال تبكي خلالها الربيع والشباب، ثم إنها تقدمت بنفسها ودفعت عنقها إلى التضحية، هكذا بكت أمي وقالت: «نعم، رضيت!»
في 10 حزيران سنة 1786
لقد كافأني الله: فأمس كان زفاف شقيقتي إلى إرنست، أرى البيت يستعيد حياة سعيدة، ومصاريع النوافذ، تتفتح من تلقاء نفسها كأنها أجفان الصباح أو براعم الزهور، بعد أن كانت موصدة منذ ذلك اليوم الذي ذهب فيه والدي إلى عالم غير هذا! أجل! أراها مفتوحة كأنها تستقبل أسراب السعادة بعد غياب طويل! وأرى الأهل والأنسباء يفدون زوجين زوجين وفي أيديهم هدايا العرس وعلى شفاههم دعاء سعيد، تلك عذراء باسمة لشقيقتي، وتلك عذراء أخرى تتأمل عقدا من اللؤلؤ يلمع على ضياء الشمس، وتلك ثالثة تنظر بدهشة إلى جواهر العروس وقد استهواها البريق، أجل! كل ما في البيت يدعو إلى الغبطة والفرح، وفي السماء تدور حلقات الرقص على الأعشاب، فيتأبط العاشقون أذرع بعضهم ثم يتيهون بين الأشجار والرياحين هامسين في مسامع بعضهم عبارات الحب! أما أنا فسأبقى وحدي مسترسلا لأحلامي وخيالاتي ناظرا إليهم بدون أن أدع لهم سبيلا يرونني فيه، أذوق من سعادة الحب صورها ومن لباب القلوب قشورها، قائلا في نفسي: «هذه السعادة ملكي لأني اشتريتها بشعاع عيني!»
في 13 حزيران سنة 1786
أمس، بينما كان الأهل والأصدقاء يحيون حفلة راقصة على الأعشاب، كانت جماعة من الفتيات يشرن إلي بأناملهن، وكانت إحداهن وهي أجملهن تختلس مني النظرات وعلى شفتيها بسمة السخرية، قائلة لأترابها: «أيمكن أن يؤثر على جمالنا ذلك الثوب الأسود وهو الشباب الزاهر والجمال الخلاب؟ أيخيفه العالم يا ترى؟!» ربي! إنك أدرى من الناس بسرائر قلبي!
في 16 حزيران سنة 1786
كان النهار الماضي ذلك النهار المحزن المظلم الذي تجلبب بخيال آلامي، وكانت السماء سوداء، والهواء النائح الباكي يحني الأوراق على السهول، وكانت الجداول العذبة راقدة بهدوء تحت الروابي المرتفعة وقد أمسكت خريرها عن الأسماع، وكان المنزل أيضا خاليا من الحس، ونوافذه موصدة أمام نواظر الأغصان والزهور، كأنها أهداب مثقلة لا تجسر أن تنظر إلى ذلك الوجه الحبيب لئلا تفيق الحسرات بين ذلك السكون الرهيب! وكانت أمي وشقيقتي تختليان حينا وتذرفان الدموع السخينة وكأن كلا منهما كانت تضمر في نفسها لوعة لا لوعة بعدها، وعندما كانتا تجلسان إلى المائدة كانت الدموع تتناثر من مقلتيهما وتتساقط على قطع الخبز والطعام!
مضى النهار على هذه الحالة، وعندما جاء الليل، ذلك الشبح الأسود الذي سوف يفرق بين المحبين فراقا لا لقاء بعده، قلت لأمي: «اذهبي وخذي لنفسك بعض الراحة، وسكني قلبك من الزفرات والدموع، فسوف أمسح دموعك بصلواتي وابتهالاتي وأدعو ملاك الرب ليحرسك ويكون لك غوثا وملجأ في مراحل حياتك، سترينني داخلا إلى هيكل نفسي برأس مرتفع وقلب كبير، ويجب أن تعرفي أن الذي يرفعونه إلى الله الخالق لهو أسمى ما في الصدور وأقدس ما في الأنفس، أجل يجب أن يرفع ذلك الشيء في مباخر الغبطة والسرور، اذهبي إلى فراشك يا أمي، فستجدينني قبل الفجر جالسا بالقرب منك»، ما كدت أنتهي من كلماتي هذه حتى ترامت علي وجعلت تقبلني، فلم أسمع ما كانت تتمتم شفتاها في تلك الساعة ولم أر إلا العبرات تتناثر من جفنيها الذابلين.
خرجت من غرفتها هائما على نفسي بين جلباب الظلام، وكان نسيم الجبال العليل يهب هبوبا خفيفا فتتلاشى لدى خطراته غيوم السماء، كانت الليلة من تلك الليالي العذاب حيث الهدوء والسكينة يهمسان في النفوس أسرار الحب والخلود، وحيث القمر المستدير، الجالس على عرش الأثير، يذيب على الأحراج والمروج أشعته المترددة المضطربة، كأنه، وهو يرسم البقع الصفراء الشاحبة، ذكرى خرساء من ذكريات الحياة والأيام، كنت أتوغل في الظلام ناثرا دموعي على أزهار الحديقة، مخاطبا كل شجرة يقع عليها نظري، منتقلا من جدول، ضاما إلى صدري كل غرس من الأغراس، نافثا في الأغصان روحا من روحي المعذبة، شاعرا بقلب رءوف يخفق تحت كل قشرة من قشور النبات، تارة أجلس على ذلك المقعد الخشبي، حيث كانت تجلس أمي وطورا أتحول إلى الخيمة فأنبه ماضي الراقد تحت أخشابها لأبكيه! أجل، كنت أزور كل جامد من تلك الحديقة وأزوده وداعا مرا، جامعا على الأرض ما يسقطه السنونو من القش اليابس، ثم إني بعد أن قمت بواجبي نحو تلك الجوامد الناطقة انحدرت إلى طرف الحديقة، وهناك تحت أقدام النافذة، نافذة غرفة أمي التي ربما كانت لا تزال ساهرة بين جدرانها، وبالقرب من ذلك الغدير الرقراق، جلست أصغي إلى زفرات المياه مقبلا ذلك التراب الذي سأتركه في الغد، مازجا عبراتي بالأوراق الصفراء المتساقطة من أغصان الشجر، لم أدر كم من ساعة قضيتها في تلك الحديقة، غير أن الفجر الأول كان قد لون خطوطه على حافة السماء، فأردت أن أقول لأمي كلمة قبل رحيلي فتقدمت مضطرب الركبتين إلى عتبة غرفتها وبدون أن أدخل تركت شفتي تتلفظان بهذه الكلمة الأليمة: «الوداع!» ثم حولت عيني الباكيتين وأسرعت بالخروج كرجل خائف من ضميره الملوث.
Неизвестная страница
كنت أسير في حقول لا طرقات فيها مخافة أن ألتقي بإنسان أو أسمع صوتا حتى بلغت قمة جرداء ينحدر جبلها إلى واد رهيب فأبصرت صخرة رمادية عليها صليب من الصوان فجلست على أقدام ذلك الصليب وسرحت طرفي في الجهات الأربع فوقع نظري على مشاهد جميلة تتبسط أمامي، ورأيت البساتين الخضراء تحت جدران القرى، والحمائم البيضاء على سطوح المنازل، والدخان المتصاعد من فوهات المواقد كأعمدة من الرخام الرمادي تنتصب في مذاهب الفضاء، فسجدت على أقدامي، وكأن زفرة حرى حملت نفسي إلى تلك الأماكن العذبة، فصرخت: «اللهم أنت الذي أخذت الولد فابق مع الأم، ولتكن ساعة الرحيل خفيفة الوطء على قلبها! أنا لم أترك إقامتي بين أهلي وأنسلخ عن قلب والدتي إلا لأدع لهم الهناء وأورثهم روحك الإلهية وقلبك الحنون، اجعل اللهم الحب والسلام ينوبان عني بين جدران هذا المقر، واجعل تضحيتي سعادة ورغدا في حنايا صدورهم، اسهر يا إلهي على ساكني تلك الديار وبارك أوقاتهم ليلا ونهارا، وكن أيها المبدع العظيم ابنا لأمي وأخا لشقيقتي، اغمرهما بهباتك وقدهما بيدك في طريق عذبة وفي حياة طويلة»، قلت ذلك وقد توارت إلى الأبد آخر خشبة من مقر أهلي!
العهد الثاني
عن مدرسة ... في 1 كانون الثاني سنة 1793
قطعت ستة أعوام من أيام حداثتي، كانت لياليها ونهاراتها متشابهة متقاربة، أشعر بدعائم الدير السوداء تخيفني في ظلماتها، وبالجدران القاتمة تذيب على جبيني الصمت الرهيب! فالنوافذ المرتفعة لا تدع ذكريات الماضي، تلك الذكريات المضمخة بأريج الحب، تدخل إلي في السكون وهذه الوحدة، كل يرسم أمامي مشاهد الإيمان، فيد الله لم تخط على أوراقي البيضاء حادثا من حوادث الحياة! آه! أيمكن أن أبقى صحيفة لا مداد عليها طيلة هذا العمر؟!
في شباط سنة 1793
عندما ينسل الظلام بين أعمدة الدير ويجلس المبتدئون كل على مقعده يتحدث إلى رفيقه ويسامره، أسرع إلى باب الهيكل السري وأسكب نفسي على أقدام الإله العظيم! ذكريات بعيدة تتراءى لي شاحبة الوجه من خلال الأحلام، وتغسلني في بحيرات هادئة ساكنة، فتستفيق في نفسي تلك الساعات الحلوة اللذيذة أيام كنت أسمع لهاث الشمأل في الضباب الرمادي، وأرى أعمدة الحور والصفصاف تضطرب كالقصبة وتهز الثلج المتراكم عليها، فيتساقط كالمندوف الأبيض ويذوب على الصخور أو على التراب! أجل! أيام كانت الدموع تتفجر من ينبوع إلهي في صدري، وتمر أخيلة سوداء في مذاهب الجو فأخالني سأقبض بكلتا يدي على سبح الله بين تلك الغيوم المتلبدة!
تلك أويقات تمر على الإنسان في مطارح أيامه فتمزج حياته بالخلود، وتبقى مرتسمة في نفسه إلى ما شاء الله! وعندما دخلت عتبة المعبد المظلم ودفنتني لياليه في ضمير الله، عندما رأيت هذه الجدران المبطنة بالأجيال تقوم حاجزا بيني وبين العالم، عندما همت بأقدام خرساء في وسط هذا المأوى الرهيب، حيث الأسرار والخلود، عندما أبصرت أشعة المغيب تنطفئ على زجاج النوافذ، وشعرت بأن أذنا تصغي إلي في هذا الفضاء، وصديقا غير منظور يدفعني إليه ويخاطبني بلغة أعرف قواعدها وأدرك جوهرها، أجل، عندما كان ذلك لجأت إلى حضن السيد العظيم وعلى عيني أشعة من أشعة الإيمان وفي قلبي مسامع وديعة لنغمات الحب الخالد!
عن مدرسة ... في 15 شباط سنة 1793
بينما نحن نقيم في زوايا عالم غير ذاك العالم، تحت أعين الله وبين أحضان السلام، نشعر بأن دنيا بعيدة قريبة، وقد نفخت فيها حياة غير حياتنا، تزأر حولنا زئيرا رهيبا وتتكسر أمواجها المصطخبة على قلوب أبناء الله! آه! لماذا يا ترى وجدت بين هذه العواصف، حيث لا يجد الإنسان مكانا أمينا يلقي على أعشابه رأسه المثقل بالآلام، وحيث أفكار الإنسانية تظل باحثة وهي تجس الطرقات العديدة برءوس عصيها، غير قادرة أن تجلس تحت ماض متهدم ولا أن ترمي المستقبل رمية واحدة على رحاه؟ لماذا خلقت بين هذه المدمرات، التي تقتلع الأجيال من الأرض محرقة كل يد تلامس براكينها؟
في 25 شباط سنة 1793
Неизвестная страница
إيه أيام الأوجاع، أيام السكون والاضطرابات! لقد شربت المملكة دماء الملك، وقام الشعب على الشعب قيامة سالت الأنفس تحت عجيجها، فكل إنسان يحمل شرفا أو فضيلة، أو قلبا ونبوغا، لا بد أن يتحطم على خشبات الإثم! إن إصبع الوشاة تشير إلى الجلادين بالقطع، وشريعة الشعب الوحيدة تقضي بالموت على أولي الجدارة، والفأس الظالمة تحب الرجل العادل ولكنها تختار لشفرتها ذلك البريء المسكين! أيها الشعب السكران بكئوس الدم، إنك لتهدم بيديك ما بناه أبناؤك البسل، وتعطي مثلا ظالما لجلاديك!
في 28 شباط سنة 1793
لا يبرح خيال الثورة منتصبا في مخيلتي، حافرا هوة الدم بين أعمدة أفكاري! مبرزا جسد المجتمع الإنساني يئن على أسرة الآلام! الثورة! لا يستطيع أحد أن يدين مضرمها، فلبانتها مختبئة تحت تراب المآرب! من يستطيع أن يحكم على إرادة الله! أليس عند الله حكمة خفية في سير المجتمع الإنساني؟ ماذا تعلن الطبيعة في طرقاتها الخالدة؟ أين يقف تيارها الجارف ويستريح، أي شعاع من تلك الكواكب العديدة المضطربة تحب أعين المبدع القدير يرقد رقاده الطويل بين اعوجاج سائر الكواكب المضطرمة؟ أية قطرة من مياه البحر تنام نومها الهادئ على فراش الأمواج؟ وأي محيط، راقد على الشاطئ اللانهائي، يقف عن افتراس الحصى المتجمع على ضفافه؟ أي نهار يعمل عمل الأمس؟ وأي أمس كان حكمه كحكم الغد؟ إن الوقت مشتق من الوقت، والأشياء من الأشياء! لا تبلى صورة من صور هذا الوجود إلا لتتجدد صورة أخرى على منبسطه، وأخيرا إن الآلام تعمل وتبني لتصل إلى الموت! عبثا يهرب الرجل الفخور ببنائه مذاهب هذا العدم من شرائع العالم وقوانينه! أيها الإنسان، ذلك الإله لن يكون إلا إلهك وتلك الشرائع لن تكون إلا شرائعك، وكلما لفظ الخالق عبارة من فمه الرهيب تتساقط لديها قوى الإنسان، ويكون ذلك السقوط جوابا! ليست الممالك والآلهة والمعابد والدساتير، أجل ليست هذه الملاجئ الضعيفة إلا ترابا سيجرفه العدم إلى مآتي المستقبل الذي سوف يحتقره ولا يلتقط ذراته عن الحضيض!
كم تناثرت على هذه الأرض عقائد وشرائع وآلهة مختلفة كل الاختلاف عن عقائد وشرائع وآلهة قبلها وبعدها ثم ذبلت ذبول أوراق الخريف واستحالت بعد ذلك إلى تراب لا يزال بآثاره ماثلا أمامنا إلى اليوم؟ كم من غضن وشجرة وأوراق غذت الأرض وأنمتها، وكم من جدول وساقية ونهر سقى البحر بقطراته، ذلك البحر اللانهائي؟ أجل، إن دماغ الخالق يشتغل دائما في أدمغة الإنسانية البائدة، تلك الآلات العمياء والأيدي المضطربة، لقد أعطى أفكار الإنسان ذلك المد والجزر اللذين يدفعانه تارة ويجذبانه أخرى، حتى إذا ما وقفا عن الدوران حول ذلك المحيط الإلهي يبلغ العالم ذلك المنتهى الرهيب! ولكن إذا كانت أفكار الله تقود الإنسانية إلى الانقلابات، فكيف يا ترى ترسم الثورات بدماء التضحيات الطاهرة! أليست الثورة انقلاب الجرائم وميولها وشهواتها؟ كيف يا ترى تعمل الروح السامية، روح الحب، والعدل، والسلام، لخدمة البغضاء والفواحش والطغيان؟ آه! ذلك لأن يد الله تعمل مع يد الرجل، حتى إذا أدركت الفضائل تلك الروح السامية لا يلبث الإثم أن يحرقها ببراكينه! أجل، إن العامل لإلهي ولكن الأداة لبائدة، فالأول يحاول أن يبني العدل على الحرية والثانية تحاول أن تهدم الهيكل على جميع الحقوق، ولا يزال الطرفان يتنازعان بين جلابيب الليل الخطر، حيث الروح المندحرة لا تعود تتبين الفضيلة من الجريمة حتى يأخذ كل منهما وجهة الثأر الرهيب!
ليست الثورة إلا ساحات الحرب، حيث يتلاحم حقان مهضومان ويعثران بالوقت والزمان، ويعتقد كل حق منهما أنه يثأر للسماء بدفاعه عن الغرور، غير مبصر في الأسباب إلا أشباح الانتقام وأخيلة الذنوب، ثم يتسلح بحق ملطخ بالدم ويأخذ بالتدمير وإضرام النار! ما العمل؟ والإرادة لا تؤثر إلا الجرائم؟ أمن الواجب أن يندحر السلام ويفسح مجالا للشرور؟ أمن الواجب أن تطارد الفحشاء بسلاح الفحش؟
المدرسة الإكليريكية في 2 آذار سنة 1793
يا للأسف! ماذا حل بأمي وشقيقتي؟ ماذا جرى لهما بين تلك العواصف المنقضة؟ ماذا حدث لذلك المقر العذب، مقر السلام، والصلوات، والإيمان؟ هل أحرقته الأراجيف، وطاردت فيه العناية الإلهية والسكون اللطيف؟ فهربت والدتي وشقيقتي وهامتا على نفسهما في مجاهل الغابات والأحراج! آه! إني لأشعر أمام تلك المشاهد المخيفة بأن المبدع الخالق يستطيع وحده أن يعطي الغفران لذنوب الإنسانية، وإذا لم أحطم قلبي بين أيدي الله لدافع يدفعني إلى الانتقام المقدس، سأقف نفسي لمعاقبة هؤلاء الجلادين، وأحمل في كلتا يدي خنجرين أذهب بهما إلى مقر حداثتي حيث أثأر لكل ذرة من ذراته!
المدرسة الإكليريكية، في 6 آذار سنة 1793
عفوا يا إلهي وغفرا، لا يقدر على الانتقام إلا جلالك العظيم! آه! إني لألقي سلاحي على قدميك، فلتقع تلك الذنوب والجرائم على هامة الوقت وليس على رءوسهم.
المدرسة الإكليريكية، في 8 آذار سنة 1793
Неизвестная страница
استلمت هذا المساء كتابا من أمي، فقرأت عباراته العذبة بفم يضطرب وعين ملأى بالدموع، مقبلا تلك الكلمات التي تكاد تكون حياة لولا أنها خرساء لا صوت لها، وأخذت أربعة عشر ذهبا هي آخر ما كان في كيس أمي!
المدرسة الإكليريكية، في 9 آذار سنة 1793
هو ذا أنا وحيد في هذا العالم، يتيم بين جدرانه! «اذهب يا ولدي، قالت أمي في ساعة الوداع، وليباركك الله بيده الرءوفة، اذهب وعد إلى ذراعي بعد حين»، آه! إن عطفك يا أمي ليرميك في هوة من الضلال، ما أنا في هذا الدير إلا قلب يضم في حناياه نارا مقدسة، ولم أوجد بين هذه الجدران إلا لأبقى إلى الأبد مرتديا ثوب مبتدئ أو ثوب شهيد! أجل سأبقى ...
عن مغارة النسور في أعالي جبال الألب في الدوفينه، في 15 نيسان سنة 1793
فلأدون حوادث هذين الشهرين لتبقى أثرا هائلا من آثار الثورة الرهيبة!
نهض الشعب نهضة الذئب ووثب على أبواب الكنائس والمعابد يطارد أبناء الله ويسفك دماءهم الطاهرة على أقدام المذابح! هذه يده وقد سكبت النبيذ في كئوس القربان ترتفع إلى شفاهه المرتجفة بسكرة الدم! وهذه أقدامه تطوف الهياكل مدمرة ما يقع عليه النظر الغضوب، وهذه مطامعه تختلس الآنية وتمزق الرسوم! وهناك، كهنة المعابد يرفعون إلى الله صلواتهم من أعمق أعماق أفئدتهم، وقد أمسك بهم الشعب الدنس وطرحهم على الأوحال، حيث تمرغت شعورهم البيضاء وسالت دماؤهم من الدموع! وقد نجا البعض بشبابه أمام دوي البنادق وصليل السيوف، منتشرا هنا وهناك، باحثا عن موئل يلجأ إليه أو عن عذاب يذيب نفسه بين شفراته! هذه امرأة تأخذني بيدي في وسط الظلام وتقودني إلى خارج الجدران مشيرة إلي بالهرب إلى أعالي هذه الجبال، قائلة: «انج بنفسك يا ابني وخذ هذه القطع من الخبز تحتاج إليها في مجاهل الطرقات»، بقيت ستة أيام وست ليال هائما على نفسي في مفاوز الأكمات، متوسدا نواتئ الصخور، ملتحفا دجنة الظلام حتى بلغت أقدام الجبال مجتازا تلك السيول المتحدرة من مذاهب القمم، وإذا بصياد يكتشف مقري بنباح كلبه فخلع علي ثيابه رأفة وشفقة وأخذ ثيابي، بدأت أتسلق مراقي التلال، تلك الأعمدة غير المتناهية التي تكاد ترزح تحت أثقال القلل وتحجب البحيرات العميقة والأودية السوداء بين الصخور المتهيرة والأطواد المدلة بارتفاعها، أجل، لبثت أصعد تلك الشواهق مضطربا تحت مواكب «الشلالات» وكانت أشجار الصنوبر تبرز لعيني أخيلتها الرهيبة، حتى وصلت إلى مروج خضراء تنبسط كالنجاد على أقدام الذرى، فأبصرت معازا مسنا يتطلع إلى السماء وبين أنامله سبحة من الخشب، فارتاحت نفسي إلى ذلك الشيخ، وقد وثقت من صديق لا ريب فيه، فتقدمت إليه باسم الله فذعر بادئ ذي بدء لرؤيتي في هذا المكان المنفرد من الطبيعة غير أني سكنت روعه بسرد قصتي له فأصغى باكيا إلى روايتي المحزنة وقسم بيني وبينه ما كان معه من الخبز والحليب، وعند الصباح رفع نظره إلي، وقال: «كن مطمئن البال يا بني فسوف لا تجد إلا السلام عندي، فالبقر قد أكلت جميع ما في المرج من العشب، وغدا أبحث عن مرج آخر بين جبال غير هذه الجبال، ولكن عندما ينتهي فصل الشتاء ونرحل عن هذه الأكمات نزود خبزا لأيام الصيف وسيكون لك هذا الخبز؛ لأنك شاطرتني إياه، غير أنه لا يمكنك أن تتبعني إلى حيث يأوى الرعاة مخافة أن يتساءلوا عن أمرك، فشعرك الأشقر لم يتصلب بين العواصف ويداك البضتان تفشيان سرك أمام هؤلاء، ولا يمكنك أيضا أن تبقى بين هذه الأكواخ مخافة أن يكتشف مكانك بعض الجنود، فهذه الأنحاء معروفة لدى عساكر الجلادين، أما إذا شئت فتعال معي فأهديك إلى مغارة عميقة لا يدري مكانها سواي، فما من أحد يمكنه أن يبلغها إلا البروق والأرواح وبعض النسور المنشرة في هذه الأصقاع! تعال معي، فيد الله قادتني إلى ذلك الكهف لأقودك إليه فيما بعد، فهناك تحيا حياة تقشف وزهد ولكنك تبقى أمينا على نفسك، وعندما تحدثني نفسي باحتياجك إلى الطعام أصعد إليك خفية وأضع بين يديك ما يقوم بأودك إلى أن يفرج الله ويفسح لك مجال الحرية، انتبه جيدا إلى فوهة هذا الصخر، وتعال من وقت إلى آخر تحت جلباب الضباب تجد فيها ما تحتاج إليه؛ لأني لن أجسر أن أذهب إليك حذرا من أن يراني أحد فيترصدني وينتهي إلى معرفة كل شيء!»
عندما انتهي المعاز من كلامه أخذنا نمشي في طرقات وعرة، ونضع أقدامنا بجسارة غريبة، حيث صياد الجبال نفسه لا يجسر على وضع أبصاره، وكانت الصخور تتهاوى تحت أرجلنا إلى أن تتوارى عن الأبصار في مجاهل تلك العقبات، والهواء العاصف يتلاطم على جبهتينا كأنه صقالة السيف، وكانت أعمدة الزبد تتساقط من أعالي الجبال ثم تتصاعد رضابا أبيض وتعود تهوي إلى الأسفل خرقا خضراء فتملأ ذلك الفضاء بالضجيج الرهيب، فنظرت إلى الدليل فأبصرته يرسم إشارة الصليب على صدره، وقد جس بقدم مرتابة تلك الحواجز المتقلقلة ووثب إلى الأمام فتبعته، وكنا نرى زوابع المياه تمر على مسافة بضعة أقدام منا حتى بلغنا واد من الأعشاب والزهر يرويه الزبد بزلاله العذب، فتراءى لنا أفق جديد خلال تلك الصخور الجرداء والمروج الزاهرة، فنزلنا من رابية إلى رابية ومن منحدر إلى منحدر حتى وقف بي المعاز أمام كهف رهيب تنساب الينابيع على جنباته، وهنا أشار إلى ذلك المأوى، حيث الحكمة الإلهية بنت للإنسان ملجأ يهرب إليه من الإنسان، وأخذ يعلمني كيف أصنع من لباب الأشجار قارورة أضع فيها الماء، وكيف أعمل من القش فراشا، وأخرج من البحيرات سمكا، ثم إنه أوصى العناية الإلهية بحياتي، تلك العناية التي تقوت الإنسان دون أن يكسب ذلك القوت بالعمل والتي تحرس عليه بلا رشد وتدبير، وقال لي: «صل يا بني إلى ربك بحرارة وإيمان فهذا المكان ممتلئ بروحه»، فسجدت وسجد، ثم عانقته وتوارى عن نظري!
مغارة النسور في 17 نيسان سنة 1793 في الليل
يا جلال الليل! أنت عرش الله العظيم حيث الكواكب النارية تحمل بين أشعتها اسم المبدع القدير وتنير به شفق الوجود! أنت يد الله وطيفه وفكرته! وأنت أيها القمر النير الشفاف، حيث يخال لي أني أرى هذه الجبال تنعكس على مرآة صقيلة، وأنت أيها الهواء الخافق طيلة الليالي فوق تلك الأصقاع المرتفعة، وأنت يا ضجيج السيول، ويا أيتها الغيوم الشاحبة، التي تمر على هذه الأماكن المنيرة كما تمر أخيلة الأهواء على القلوب الطاهرة، أنت كلك أسرار الليل التي لا يدرك أعماقها إلا الخالق العظيم! ولكن، هذه القمم الشاهقة قربتني إليك، فأنا ساجد أمامك كما يسجدون أمام مشهد إلهي!
إن عيني لتغطسان كالشعاع في هذا الجو الصافي! يا لله من هذه الزرقة اللدنة وهذا اللمعان! يظن الناظر إليهما أن مياه البحر، عندما تلامسها نسمة لطيفة فتحرك جواهر الشمس المتناثرة على صفائها، تنعكس على تلك الزرقة وذلك اللمعان! هو ذا كوكب ينحدر إلى الشفق! أرى أشباح الحور والصفصاف تحجب الهلال عن نظري، ويخال لي أن لونها الأبيض المضطرب ثلوج تتساقط وتذوب على الأوراق، أسمع زفرات الهواء تتصاعد من أفواه الجبال، وتتعالى حينا وتنخفض حينا ثم تموت! تلك هي النسمات تنوح بعاطفة وحنان، أليست تأوهات بعض الأحباب ترتفع ارتفاعا خفيفا من هذه النغمات العذبة، وتعطي الهواء أصواتا كأصوات النساء ثم تعطف علينا فتشاطر نفوسنا البكاء والدموع؟ أيتها الأشجار الموسيقية، أنت قيثارة الغابات، تضرب الأرواح على أوتارك ألحان السماء، أنت آلة يبكي عليها كل شيء ويشدو، أيتها الأشجار المقدسة، أنت تعرفين ما يرسل الخالق إلينا، فانشدي، وابكي، وخذي بين أوراقك آلامي أو أفراحي! أجل! لا يعرف سوى الله إن كنت تبكين علينا بنغماتك المطربة أو تنشدين!
Неизвестная страница
مغارة النسور في 18 نيسان سنة 1793
شعرت بالنعاس يثقل جفني تحت القبة السوداء، فرقدت رقادا هنيئا إلى أن استفقت على زقزقة الشحرور، هذه مملكتي تبرز بحلة من الزهور في هذا الربيع الجميل! كم هي خضراء! لمن يا ترى أوجد الخالق هذا الوادي الصغير بين هذه اللجج المرتفعة؟ وشيد بيديه تلك الحواجز المثلثة التي تحول دون نواظر الإنسان؟ هنا الهوة القاصفة حيث يذوب الجليد ويقوم جسر الصخور خلال الموت! هنا النواتئ المجلدة التي لن تذوب، هنا أحلام الشعراء تتراءى كالنسور بين المرتفعات، هنا الشعاع الذهبي يضطرب على الأعشاب لدى خطرات الأرواح، هنا المروج الزاهرة تخفق على ذهبها المتناثر أجنحة الفراش، هنا المياه العذبة تنام على أحداق الأوراق وتملأ أكواب الصوان حتى تكاد تفيض وتتدفق، هنا زبد الجداول يسيل كالحليب على المروج الخضراء، هنا البحيرات الصافية كأنها قطع سقطت من هذا الأثير ونامت نومها الهادئ بين الصخور والأزهار، هنا الخلجان الضيقة تختبئ بين طيات الوادي، هنا المشاهد غير المحدودة تتجلى بوضوح، هنا القمم الشاهقة تنطح الأثير بسهامها البيضاء، هنا الأشباح الرهيبة تعطي الجبال مشاهد سوداء، هنا الهواء المنعش الفاتر يسيل بين مراشف العطشان روحا جديدة، هنا السكون الجميل حيث تنام الروح وتسمع نغمات الأحلام، هنا الحشرات الذهبية تحصد البروق بأجنحتها الخافقة!
في المساء
لكن رائعة هذه المشاهد الجميلة هي هذا الكهف المهيب الذي لم يكتشف ثنياته إلا النسر، في الجانب الشرقي من البحيرة جبل صغير سقط من أعالي الجبال وتحطم قطعا قطعا على هذه الوهاد، فبقيت صخوره المجزأة مرتفعة على بعضها كأنها حواجز عظيمة قامت كالمردة في هذا المكان المنفرد عن الطبيعة، وفي الجانب الآخر، خمس دوحات مسنة تضلع أجزاعها المجوفة في جميع الجهات، وهناك بعض السنديانات المترامية الأطراف تكتف أغصانها كالجبال على أحجار الصوان وتتدلى كالأفاعي السوداء على الأرض ثم تمد بعض أذرعها الرحبة إلى شعاع النهار فتخفي بعض ذراته عن العيون! أما الكهف فقد قامت حواليه صخور جرداء تحجبه عن نواظر الشمس، غير أن مخرجا سريا من جهة البحيرة يجدد الهواء في ذلك الكهف ويترك شعاع الظهيرة ينفذ إليه من فرجة بين صخرين، لا يمكن لأحد أن يرى من الخارج هذه المغارة السرية، فالصخور والجلبلاب ترتفع كالجدران فوق فوهتها الكبيرة، نسمات لطيفة كأنها لهاث المياه تستولي على هذا المكان، بينما الأرواح والأعاصير تزأر زئير الهول بين الصخور والأدواح، لا يسمع من هذا المأوى، مأوى نفسي الساكنة، إلا زقزقة السنونو، وصرير الحشرات ذات الأجنحة غير المنظورة، وخرير المياه العذبة في البحيرات ذات الشفار الأثيرية، ناسخة على رءوس الصخور أكاليل من الزبد!
في 29 أيار سنة 1793
لقد رفعت فراشا من القش على الجانب الأيمن من الكهف، وعلقت عصاي وساعتي على الحائط، وجمعت بعض الأخشاب اليابسة لأشعلها في أيام القر وأصطلي على لظاها، أو أشوي عليها بعض الأسماك!
العهد الثالث
في مغارة النسور في 3 تموز سنة 1793
عندما الشمس، موقد الحياة الخافق، تضطرني إلى خفض جفني أمام أشعتها المغشية، وتمر خلال أهدابي بأسلاك من الذهب، وعندما تتحطم على الثلوج الخالدة وتتدفق سنابل من الشرر تعطي هذه القمم وهذا الفضاء الأزرق لونا كلون البحر، لا أرى في هذه السماء الصافية، التي تظهر كبحيرات لا شواطئ لها سوى الأثير الجميل، حيث لا يسبح إلا النسر الأسود، كأنه نقطة حالكة تظل مسمرة على الجلد الثابت، عندما الأشجار أو الصخور تلقي على الأرض جزرا من الظلال، حيث أثقال الزهور تحني الأعشاب بعذوبة ودلال، تغمرني بين طيات الأحلام وترفع نفسي إلى مذاهب الملأ الأعلى! وعندما أسمع دمدمة الهواء الفاتر ويمتزج لهاثي بنسيم السماء العذري أشعر بلذة حية فأسلو الدقائق الشاردة المنسلخة عن نفسي، كما تسلو الإوزة التعبة أثقال أجنحتها عندما تستريح من الطيران، كم أحب أن أبقى بين هذا السكون وألا أشعر بالتفكرات والذكريات، معتقدا أن روحي قد تركت إلى الأبد ذلك الغلاف البائد، وسبحت في سماء من الأنوار الخالدة! غير أن إحساسي المستفيق لدى خطرات الأرواح يحملني دائما إلى عالم من اللذات المرة فأشعر بنفسي هابطة من السماء حيث الخالق يصغي إلي ولا يجيب! آه! لو وهبني الحظ قلبا ثانيا، قلبا فارغا أخرس حيث الحب والحياة يتفتحان دائما، لسكبت فيه ما فاض من قلبي الأول، وتمكنت من رمي الأحزان ومضاعفة الحب، وإيجاد روح من روح وعاطفة من عاطفة!
إن هذه القبة الزرقاء لتابوت جميل، ها أنذا أبسط ذراعي طالبا نفسا تشاطرني وحدتي وقلبا يشعر بما يشعر به قلبي، ولكن الصحراء منفردة تكتنفني بالسكون الرهيب، أذهب من بحيرة إلى بحيرة ومن صخرة إلى صخرة ثم أعود على أقدامي وأختلي بين جدران الكهف المظلم، أشعر بفراغ في كياني لا يملؤه إلا كيان آخر، فصوتي لا صدى له في هذه الأصقاع البعيدة، ويخيل لي أن سعادتي تتبدل في هذا المكان وتلبس ثوبا من الملل.
Неизвестная страница
في مغارة النسور في 6 حزيران سنة 1793
قطعت هذا الصباح حواجز مملكتي، عاري القدم، مخافة أن يسمعني أحد، وتبعت مجاري المياه نازلا تلك المنحدرات حتى بلغت إلى مكان كنت أسمع منه عجيج البقر صاعدا إلي مع الهواء العاصف، فأبصرت الذي كانت تتوق نفسي إلى رؤيته: مشاهد الحقول الخضراء وصور الماضي البعيد التي لم يبق من آثارها إلا التذكارات، وقع نظري على النعاج ترعى الأعشاب على حافة التلال الصغيرة، وعلى بعض الرعاة يلعبون بعصيهم مع النسمات اللطيفة، وأبصرت جبليا لا يزال فتى جالسا على صخرة بالقرب من جبلية جميلة لا رقيب عليهما سوى الزرقاء والأشجار المدلة بارتفاعها، أجل، أبصرت ذلك الجبلي وقد خفض رأسه إلى الأرض مفكرا ثم رفع عينيه الكبيرتين إلى الفتاة فظهرت على شفتيه بسمة لطيفة هي خيال فكرته العذبة.
لبثت محدقا إليهما، مختلسا من الفتاة نظرات ملؤها اللذة والمرارة، ناظرا إلى قدميها العاريتين، وقد ألقيتا على الأعشاب الخضراء كأنهما قدمان من الرخام الأبيض أوجدتهما الطبيعة بين تلك الخرائب، مضت ساعة أو ساعتان وأنا على هذه الحالة، محدقا بسكرة أليمة إلى هذين الجبليين شاعرا بأن قلبي يزداد فراغا أمام قلبيهما الطافحين بالحب، سامعا من حين إلى آخر بعض كلمات مبهمة تتخلل ذلك السكون اللطيف وهي ذائبة من شفتيهما كما تذوب المياه من غدير شفاف وتتقطر قطرة قطرة على الأعشاب، وعندما استوت الشمس في كبد السماء رأيت الجبلي الشاب يستلقي على جنبي حبيبته الهادئة ويستسلم لرقاد عذب، بينما هي تلاعب أناملها العاجية بشعوره المتفرقة!
لم تكد الشمس تتوارى خلف الجبال حتى تركت ذلك المشهد حاملا بين جفني خطوط هذه الصور الملونة، صور السعادة والأفراح!
في مغارة النسور في 24 آب سنة 1793
لقد نام، فلأكتب! بأية كارثة اشتريت هذا الولد، رفيق مصائبي وآلامي! كان النهار قد أوشك أن يغيب عندما كنت أتجول من مكان إلى مكان تائها بين الصخور الجرداء والأشجار المسنة، وكانت نفسي تتدفق خيالات وتضيع بين أعمال الخالق، إذا بي أسمع طلقا ناريا فذعرت ونهضت مستفيقا من أحلامي فأبصرت جنديين يجدان في إثر محكومين من الأشراف، ثم سمعت طلقا آخر ورأيت المحكومين قد بلغا حواجز السيول فوقفا مترددين ثم أخذا يعانقان بعضهما فأومأت إليهما فأبصراني وأشرت بيدي إلى طريق وعرة فلم يتردد أحدهما أن أخذ بيد الآخر وهو حديث السن وصعد به المراقي المنحرفة، فأسرعت بنفسي لمساعدتهما على أمرهما حتى إذا ما بلغت أسفل الجسر رأيت الرجل يدلي إلي الولد المضطرب فأخذته بين ذراعي، وسمعت الرجل يقول لي: «انج، انج أيها الغريب الكريم بهذا الولد فسأبقى فترة في هذا المكان لعل موتي يدع لكما دقيقة سانحة تهربان بها عن أعين الجنود!» إذ ذاك كان الجنديان قد أوشكا أن يصلا إلى مقربة من ذلك المسكين، فصوبا عليه بندقيتهما وأطلقا عليه عيارين ناريين، وكان هو قد أعد بندقيته أيضا وأطلق منها رصاصتين معا، فسقط الجنديان في هوة من المياه، ثم رأيت الرجل، وقد جس صدره بألم شديد، يترامى على الأعشاب متأوها فأسرعت إليه وكشفت عن صدره فأبصرت جرحين يقطران دما، فجعلت أضمدهما وأغسل الدماء عن فوهتيهما ولم تمض بعض دقائق حتى أغمي عليه بين يدي ابنه، فوضعناه في المغارة على فراش من الأعشاب.
في 25 آب سنة 1793
كان رأس الجريح ملقى بوهن بين ذراعي ولده، وجسده ممتدا على فراش مخضب بالدم، وكان الولد يبكي بكاء أليما ويرفع جبينه إلى سماء الكهف مصليا، ثم يكب على والده كأنه يود أن يحول بينه وبين الموت، وكان شعره الأشقر يمتزج بذلك الشعر الأبيض فيخفي وجهيهما عن نظري، حتى لا أعود أسمع إلا الزفرات تتقطع بين مراشفه وتختنق في صدره.
كنت واقفا إذ ذاك في زاوية من زوايا المغارة مخافة أن أدنس الألم بنظرة، وفي يدي مشعل يصعد تارة ضياءه الأحمر ودخانه المأتمي في تلك الظلمة الكالحة وطورا يغمى عليه فأشعله، حتى إذا انتصف الليل أبصرت الجريح، وقد حدق إلي بعين مائتة، قائلا: «لقد دنت ساعتي الأخيرة، فحافظ على هذا الولد وكن له عونا ومغيثا، كن به أبا وأخا، الوداع!» كانت الكلمات تتقطع بين شفتيه، وكان ينظر إلى ولده فيناديه بيا ابنتي، حتى انطفأ الشعاع الأخير من أشعة عينيه فوضع إصبعه على فمه ولفظ نفسه الأخير مع اسم لورانس!
في 26 آب سنة 1793
Неизвестная страница
قضيت النهار كله بين جدران ضريح من الأحزان، وكان الميت ملتحفا بردائه المدمى وبالقرب منه ولده المسكين موسدا جبينه بين طيات كفن والده كأنه يتسمع إلى غطيط الموت في تلك الساعة الرهيبة!
بينما كان الولد مستسلما لرقاد طويل نزعت ذراعيه عن جسد والده البارد، وحملت الميت إلى خارج الكهف وأرجعته للتراب! ...
على جانب من البحيرة بقعة خصبة نسجت فيها الطبيعة حلة خضراء من الأعشاب والزهور، هنالك، حفرت قبرا وضعت فيه الميت بعد أن زودته الدموع والزفرات، ثم أتيت بخمسة حجارة ورميتها على الضريح! سوف يزهر المنثور والأصف الأخضر على جوانب التربة وتجيء الطيور الداجنة لتنثر ريشها على تلك الحجارة وتستبدله بريش جديد!
في مغارة النسور في 28 آب سنة 1793
قال لي رفيقي الفتى: إنه ابن شريف محكوم عليه بالإعدام وإن اسمه لورانس، ماتت أمه وهو لا يزال في المهد فخلفته وحيدا بين ذراعي والده، وهو الآن في السادسة عشرة من عمره، وقد قضى معظم حياته القصيرة في مزرعة قائمة على ضفاف بحر بريتانيا إلى أن نشبت الثورة وزفرت دماء الأشراف على أسنة الشعب، فهرب مع والده متسترا تحت اسم غير اسمه الحقيقي، إلى أن بلغا هذه الأصقاع فأبصرا جنديين من الجنود القتلة يطاردانهما ... وهنا أجهش بالبكاء فعرفت الباقي من حديثه!
عن المغارة في 16 أيلول سنة 1793
كل نفس هي أخت لنفس أخرى، هذا ما قاله لي قلبي مرارا! لم أعد أشعر بثقل الزمان، فالساعات تلامس أجفاني بأجنحتها المتشابهة، أجل، كل دقيقة، وكل موضع، وكل فصل، تبدو هنيئة وعذبة عند قلبين متآلفين، فماذا يهم النفوس المتحدة إذا تقلبت حواليها الأشياء وتبدل الزمن؟ ألا تقدر أن تسن لبعضها شرائع وأزمانا، وتبني عالما تعيش فيه، وتأخذ من صفائها سماء زرقاء لا تمر في فضائها غيوم سوداء، وترى أفقا جديدا ينفتح أمامها، وتخترع لغات أسمى من لغات البشر تتفاهم بها؟
عن المغارة في 25 أيلول سنة 1773
عندما أعود من الصيد حاملا على ظهري وعلا أو أيلا، وأرى بحيرتي الزرقاء، من على رأس قمة، تضطرب لدى مرور النسمات، والأكاليل الخضراء تكتنف كواكب الصوان، ورءوس الأدواح قد بدأت تنبت أوراقا، ودخان الموقد يتصاعد من الكهف في الفضاء البعيد، تأخذ مجاري الأفكار العذبة بمجاميع قلبي: «فأعرف أن هناك، في تلك المغارة روحا لطيفة تنتظرني، وأن عينا جميلة تبحث عني، وقلبا ينبض لذكري، وصديقا وهبتني السماء عطفه ومحبته، فكنت له وطنا، وأهلا، وأما وأبا وشقيقا وشقيقة، وأنه عندما يبصرني قادما يسرع لملاقاتي ويأخذ من يدي الوعل أو الأرنب ثم يتقدمني إلى الكهف واثبا على الصخور كالأيل المطمئن»، وأحيانا عندما أصل إلى الكهف أجد لورانس جالسا ينتظرني فأقص عليه حكاية رحلتي ويقص علي حكايته ويريني الأسماك الصغيرة التي اصطادها بشباكه، والقش اليابس الذي جمعه لسقف الجهة الغربية من المغارة قبل مجيء الشتاء، ثم يجيئني بالأثمار التي قطفها من الغاب، فنجلس إلى الطعام ونأخذ بأطراف الحديث إلى أن يهبط الليل فنرى النجوم النيرة تنعكس على مياه البحيرة كما تنعكس الوجوه على المرآة الصقيلة، وأحيانا أرى بعض الدموع تتناثر على خده وهو محدق إلى قبر والده، ثم يتجه كل منا إلى فراشه وينام حتى يستفيق على أنغام الطيور!
عن المغارة في 23 تشرين الأول سنة 1793
Неизвестная страница
منذ أخمدت الأيام أوجاع لورانس وتذكاراته أخذ ينشط وينمو ويزداد جمالا، ففي هذا المساء، نظرت إلى جبينه على ضياء الموقد فرأيته أبهى من الجمال نفسه، فاستفاق في مخيلتي طيف أختي، وخيل إلي أني أسمع صوتها صاعدا من فمه في تلك العذوبة وذلك النغم اللذين كانا موسيقى نفسي في ساعات حداثتي الأولى، فلم أتمكن من إمساك دموعي لدى هذه التذكارات، فاقترب لورانس وجلس على ركبتي صامتا، ناظرا إلي بدهشة وانذهال ثم سألني عن سبب بكائي وعما إذا كنت أفكر بأحد، فأجبته ساردا على مسامعه قصتي الأليمة فبكى لآلامي، قائلا: «إني أحبك كحبهم، ألست أخا لك، أشاطرك ما تتوجع له وأمزج دموعي بدموعك؟ ألم تكن أبا أشعر قربه بما كنت أشعر به قرب والدي؟» قال ذلك وألقى جبينه على حجر أملس فألقيت جبيني بالقرب منه ثم أخذنا نبكي صامتين!
عندما استفقت من أحلامي المرة ومسحت مدامعي بأطراف كمي، رأيت لورانس يستفيق أيضا ويمسح دموعه ثم يضيء كمرآة حية فيضطرب خيال وجهي على ذلك الشعاع الإنساني، وعندما فكرت أن لا ملجأ لهذا اليتيم إلا حناني وعطفي، وأن ذراعي وذراعه، وحياتي وحياته أصبحت ذراعا واحدة وحياة واحدة، نضبت مدامعي واستعاد قلبي ما فقده من الغبطة والسعادة!
عن المغارة في 29 تشرين الأول سنة 1793
أيها الجمال، يا سر الخلود، يا شعاع الأزل، يا رمز الألوهية العظيم، من يدرك في أي مكان ولدت، ومن أي مرتفع هبطت؟ ومن يعلم لماذا يحبك البشر، ولماذا تتبعك الأعين، ويعلق بطيفك القلب المحب، فإذا ما اقترب إليك يحترق ويضطرم، وإذا ما انفصل عنك ينزع ويموت؟ لقد طبعت ختمك على الطبيعة المنتعشة، وأعطيت الأسد رهبة النظرات، والجواد تموجات شعوره المتشعثة، والنسر جلال أجنحته، وأرسلت إلى أوجه البشر أشعة شفافة هي مرآة عظمتك، ونسجت أكاليل الكياسة والبهاء على رأس المرأة والرجل، ما من أحد يدرك أسرارك أيها الجمال وترى الجميع ينزلون عند رغباتك ويخضعون لدى شرائعك، من يدري إذا لم تكن صورة من صور الخالق الذي يتراءى من خلال هذه الغيوم؟ من يدري إذا لم تكن النفس المغلفة بذلك الجسد الجميل قد أبدعت على المثال الإلهي واقتدت بالجمال الأسمى؟ سنعرف كل ذلك فيما بعد، ولكن، فليضئ الجمال في مذاهب الطبيعة، وليسطع على كل عشبة من الأعشاب، وبين كل زهرة من الأزهار، فقلبي لم يولد إلا للحب، ونظراتي لم تتفتح إلا أمام هيكله السامي، ونفسي المشتعلة ترمي عليه من حين إلى آخر ذرة أو ذرتين من موقدها الخافق!
كم مرة ناجيت الله بهذه الكلمات: «رب! أتستنكر هذه العاطفة وتعتبرها تدنيسا للقلب؟ لا، إن العيون لتتحول رغما عنها إلى المصباح الإلهي الذي لن يزال يضيء في الوجود ... أية جريمة يقترفها البشر بحبهم ذلك الجمال وتعلقهم بتلك النجمة الإلهية؟»
عن المغارة في 11 تشرين سنة 1796
إن يد المبدع القدير لم ترسم على جبين لم يتجاوز السادسة عشرة مثل تلك الملامح الخلابة التي رسمتها على جبين لورانس، فالذي يحدق إلى هذا الشاب لا يشك في أنه ملاك هبط من الجنة على الأرض، فكل ما في الصباح من الصفاوة والطهر، وكل ما في العيون من العذوبة، وما في الفجر من الحياة الساحرة قد تجمعت بين تلك الخطوط الباسمة التي تلمع على جملة وجهه، وكونت شعاعا كوردة الطهر وذوبته دموعا شفافة بين محجريه، حيث تراءت الأحلام سابحة كالضباب في سماء من الأنوار البهية الساطعة! تلك الأشعة الإلهية لا تبرح تنطوي بين حاجبيه وتبرز على حافة أهدابه، ثم تبدو على شفتيه بسامة، كأنها ضياء داخلي يلمع في نفسه ويخرج إلى ظاهر وجهه! فمرارا، عندما يكون النهار قد أوشك أن يضمحل وتلبس المغارة حلتها القاتمة، أرى ضياء كضياء الصباح لا يزال ينبثق من ملامحه، ويرسل سنابل من النور إلى أعمق الظلمات، فأخفض ناظري أمام ناظريه، ويخيل إلي أن ذلك الشعاع لإكليل نفسه الطاهرة، فطالما بحثت في ذاكرتي عن جمال يشابه جماله، وعن صوت عذب كنغمات صوته، فلم أكن لأجد بين هؤلاء المبتدئين رفاق حداثتي، من له تلك السمات الطاهرة، وذلك الجبين البض، وتلك النغمات الساحرة، وتلك البشرة النقية، وذلك النظر الجاذب كأنه الفضاء القاتم، وذلك الشعر الحريري كأنه تموجات البحيرة! وعندما أشاهد قدميه العاريتين تتسلقان هذه المرتفعات، وأرى جبينه مبللا بالعرق كزهرة بيضاء تضطرب على برعمها قطرات الندى، أخاله رجلا خياليا أوجدته الطبيعة في هذه الأنحاء المنفردة، فأكاد أعبده لولا أني أعود فأرجع إلى نفسي وأتبين صوته وحركاته فأعرف فيها ذاك الولد الجميل والصديق المخلص المسكين!
عن المغارة في 1 كانون الأول سنة 1793
مرت أشهر النور ولمت السنة أشعتها عن تلك القمم لتنثرها بعد ستة أشهر، فغرقت الشمس في بحر الغيوم وترامت الثلوج بدلا من الزبد على تلك المرتفعات، فلم يبق للنهار إلا شعاع ضئيل تحطمه العواصف، وقد كنست الأخيلة الهائمة ما بقي من الأوراق الصفراء على أقدام الشجر، يخال لي أن الله قد ترك هذه القمم فريسة للظلمات، وأن عجيجا خافتا يدور في الفضاء دورته ويخرج من عظام الجبال، كأنه الهواء يقتتل في مذاهب السماء، والثلوج تتلاطم على نواتئ الصخور، تلك هي طقطقة الأغصان الذابلة ترزن تحت أثقال الجليد وتتكسر غصنا غصنا وترتمي على الأرض، تلك هي وثبات الثلوج المتثاقلة تتدحرج من أعالي القمم وتستحيل إلى تراب أبيض على ممر الهواء، لم تعد السماء لتحيي حفلاتها على المرتفعات الملثمة، ولم يعد الفجر يبرز بحلته المنيرة، والليالي بكواكبها المشعة، فالحمامة التائهة أصبحت تتبع مواكبها السوداء، وأكاليل الزهر أصبحت أكاليل من الجليد حول كهفنا المظلم، أما النهار فلم يعد ليدخل إلينا إلا من خلال الثلوج، وأما نحن فقد جلسنا أمام الموقد نصطلي ونتحدث، تارة نقرأ بعض الكتب وطورا نلتقط الطيور من أعشاشها وقد أويت قريبا من الكهف، غير مكترثين للأعاصير الزائرة، والليالي المدلهمة تحت سماء تكاد تهبط من أثقال غيومها، حتى إذا ما نفذت إلينا بعض أشعة من شمس الشتاء، وثبنا حالا إلى خارج المغارة وملأنا نواظرنا من الجليد الذي يكون قد صنع قصورا شفافة من زجاجه الأثيري، أو جسورا من الياقوت الأزرق، أو مغاور من المياه الخضراء!
عن المغارة في 16 كانون الأول 1793
Неизвестная страница
عندما أستفيق أحيانا في منتصف الليل وأرى الظلمة تكتنفني من كل الجهات، أسترسل لذكريات بعيدة، غير منتبه للورانس راقدا بالقرب مني، ذاهبا في مذاهب الفكر إلى أويقات عذبة وقد طواها الزمان ومرت عليها الحوادث بأثقالها، ثم أستفيق من ذكرياتي فأسمع أنفاس رفيقي تتصاعد من صدره كنسمات متعادلة، تلك الأنفاس الموسيقية الخارجة من ولد نائم، فأنهض نصف نهضة وأسجد أمامه كما تسجد الأم أمام وسادة ابنها، وأجعل أصلي إلى الله شاكرا إياه على ما أسداه إلي من النعم بإرساله هذا الملاك لحراسة قلبي، وأشعر بأن روحي تتنفس وتحيا بقلبين ولهاثين، فأقول في نفسي: «أية موسيقى في هذا العالم تعزف بمثل هذه الأنغام؟» ثم أعود إلى فراشي وأنام!
في 6 كانون الثاني سنة 1794
بينما العالم يتمرغ في أوحال الأراجيف، والأيام تذيب في الأيام جوامد الدموع والدماء، تسود السكينة في هذه الأنحاء، ويهبط عليها السلام من يد الخالق، والمحبة العذبة التي تمقت المجتمعات تصنع لنا وجودا هادئا من الوحدة والانفراد!
من يستطيع أن يفرق بين نفسينا وقد جمعتهما السماء والأرض بخيوط متينة من الحب؟ ونشأتا مع الأيام تحت جزع واحد ودوحة واحدة؟ ولكن المشابهة غير كاملة! فأنا أتذكر أن صديقي في أيام حداثتي كان كلبا أبيض ذا مخطم كمخطم الغزال، وعنق كعنق الحجل، وشعور جعدية كالحرير المتموج، ومقلة عميقة وعذبة كمقلة الإنسان، أجل، كان صديقي كلبا وديعا لا يأكل إلا من يدي، ولا يجيب إلا لندائي، ولا يتبع إلا آثاري، ينام على أقدامي، ويشتم رائحة مكاني، كان يثب على زجاج النافذة ويبقى برهة ملصقا يديه على لوحها البارد، ناظرا إلى جميع الجهات حتى يراني قادما فيسرع لملاقاتي، أو يطوف في غرفتي فيقف طورا أمام ثيابي المعلقة على الجدار وتارة أمام كتابي أو دواتي، حتى يسمع وطء أقدامي على السلم الخارجية فيقفز إلي ويترامى على أقدامي، ثم يجعل يدور حولي ملاعبا ذنبه الأبيض في الهواء، وإذا جلست إلى كتابي لأطالع بعض سطوره يجلس أمامي على الأرض ويأخذ بالنظر إلي منتبها لكل حركة من حركاتي، مصغيا إلى تمتمة شفتي، رافعا رأسه لدى اضطراب الأوراق بين أناملي، وحين مات كانت عيناه محدقتين إلى عيني، كم بكيت ذلك الصديق الأمين! ولكن، تلك الذكريات البعيدة لا تلبث أن تتجسم في قلبي عندما أفكر بلورانس، فهذا الصديق المسكين يحبني حبا لا حد له، حتى إنه لا يستطيع البقاء دقيقة واحدة بعيدا عني، يمشي حين أمشي ويفكر حين أفكر، ويتبعني بنظراته أين اتجهت وكيف تحولت، ولكن هذا الولد، ربيب الأحراج والغابات، سيصير وحشيا فيما بعد!
يا إلهي! إن هباتك لتفوق وعودك دائما! لم أكن أفكر، حتى في الحلم أن عاطفتك وحنانك سيعيدان إلي نصف كياني بين هذه القمم المنفردة والصخور الجرداء!
العهد الرابع
عن مغارة النسور في 15 نيسان 1794
هذا الصباح، وجدت في جوف الصخرة بعض الخبز الذي يجيء به الراعي كل شهر متسترا تحت جلباب الظلام، ورأيت ورقة مع الزاد مكتوبا عليها هذه الكلمات: «كن حذرا، فالويل لمن ينزل إلى مدينتنا الخالية من وجود الله؛ لأن مقصلة الشهداء لا تزال ظمأى إلى الدم!»
رب! حطم سيوف الغضب والحقد، واختصر أيام اليأس والاضطرابات التي تحجب اسمك العظيم عن أعين الأمم، وأنزل ملاك السلام على الأرض، أما أنا فلا يسعني إلا شكرك على نعم أسديتها إلي!
عن المغارة في 6 أيار 1794
Неизвестная страница
إن من الأيام الزاهية والفصول الجميلة ما تكون ملأى بأزهار الحياة الناضجة، تلك الأزهار الملونة، المبللة بالأنداد والمضخمة بالعطر، والتي يذوقونها فترة ويستنشقونها مدة فجر واحد، ثم يتساءلون عما إذا كانت تلك البراعم هي التي تحمل بين أوراقها ذلك الشذى الطيب والعطر الفواح!
هذا النهار كان زاهيا زاهرا، فاستفقنا على زقزقة الشحرور التي تشابه أنغام الشاعر برقتها، وعلى خرير البحيرات المضطربة لدى خطرات الهواء، فرأينا الطبيعة تبسم عن أبدع ما وهبها الله من الجمال، وشاهدنا الربيع رقاصا طربا، يشدو على قيثار الأغصان ألحان الطبيعة السكرى، وأبصرنا الثلوج ذائبة لدى الأشعة الوردية قبل أن تعطي التلال ذلك اللون الأبيض، وكانت كل قطرة متسقطة من الفضاء تبرز بشكل يقرب إلى كريات النور كأنها نحلة ذهبية تنثر الجواهر اللماعة من أجنحتها التائهة في مذاهب الجو، ثم تتوارى عن الأعين وترتمي على فراش الأعشاب في مطارح الوادي، حيث تنحني الأزهار تحت ثقلها اللطيف مستبقية على براعمها نثارا من الزبد اللؤلؤي ثم تأتي النسمات فتمسح ذلك الزبد بأطراف ردائها الشفاف، وكان الهواء الفاتر العليل يزحف مع الشعاع السماوي كأنه الهواء العذري يذيب الأنهر الراقدة في أوائل الشتاء، ويطلق زفرات لطيفة تهتز لديها الثلوج المتجمعة على رءوس التلال، كأنما تلك الزفرات أغاني العاشقين تردد صداها الأرض والمياه والسماء والأثير! كل شيء كان يستفيق لدى مرور الهواء، فأوراق الصباح كانت تأخذ حجما كبيرا، وأعشاب الوادي تمتد بساطا أخضر، فتخرج تارة من بين الصخور، وتلتفت طورا على جذوع الأشجار، مالئة نواظرنا بأمواج من الألوان الجميلة المسكرة، وكأن الماء يتدفق من قشور الأغصان ويجري صموغا من الذهب فتزعج أجنحة الشحرور وهو خارج من بين الأوراق أو مختبئ تحت طياتها، وكانت الأوراق تضطرب لدى النسمات فتظهر كأنها بحيرة ذات أمواج خضراء توحي أسرار الحب إلى القلوب العاشقة، وكانت العصافير والحشرات والفراش تتصاعد أعمدة في الفضاء، ثم تنقلب على الماء أو على الأعشاب كأنها غبار ينتشر في الطرقات فيتصاعد تارة ويقع طورا، من يا ترى سكب تلك الخمرة المسكرة على أجنحة الهواء والنهار والفراشة؟ من دفأ لهاث الهواء فأذاب الثلوج وأمطر الشتاء؟ من حرك الشباب في أفئدة الفتيان فكادت تجري الحياة في صدورهم وتتدفق من أعينهم؟
كنا نركض على الأعشاب ونتسلق الصخور الضخمة ويختفي كل منا عن عيني الآخر، ثم يظهر فجأة على مرتفع تلة أو وراء شجرة، وكنا تارة نضحك ونغني ونتسابق بالركض، وطورا نجلس إلى أحلامنا محدقين إلى الجبل العالي وإلى غيوم الصيف راكضة كالمجنونة على قمته الشاهقة، تلك الغيوم لم تكن إلا زغبا حاميا تنزعه الأشعة المتوقدة من الجليد وتندفه رضابا أبيض، وكانت أخيلة الأشجار المترامية على الخضرة تتقطع قطعا قطعا على الأعشاب وتسكب في بعض الأوداء الصغيرة التي تبرز كأنها أسرة لا تزال مضطجعة أسرارا تحمل في طياتها نغمات عذبة من نغمات الجمال، وأخيرا عندما تعبنا من اللهو والغبطة استرحنا على حضيض منبسط كأنه جزيرة من الأزهار داخلة في بحيرة عميقة ذات أمواج من الظلال، وفي قلبينا صمت ممزوج بسكرة لا حد لها، فجعل كل منا ينثر على المياه أوراقا خضراء، ناظرا إلى كل موجة يلاعبها النسيم ويدغدغها بأنامله الأثيرية، كأنه يبحث عن نفسه الضائعة بين تلك التموجات اللطيفة، وعندما رفعت صدفة نظري إلى لورانس رأيت جبينه يستعيد لونا أحمر وشفتيه تضطربان وشاهدت دمعتين تترددان بين أهدابه كأنهما من دموع الليل التي يلونها الشعاع النقي ويجففها الهواء الفاتر. - ماذا يجري في نفسك يا لورانس؟ أفي قلبك ثقل يضغط على عواطفك كما في قلبي؟ - آه! إني أشعر، أجابني، بأن فؤادي يذوب في صدري، فنفسي تبحث بلا جدوى عن كلمات تطلقها وتود أن تخلق لغة نارية تحمد بها الله والطبيعة. - قل لي يا صديقي، أجبته، أية قوة تدفع نفسي إلى التفكر بمثل الذي تفتكر به أنت، كنت أشعر بنزوات الشوق وإيثاق الحب، فتثب عاطفتي إلى شكر الخالق، غير أن لساني المثلج يقف متلجلجا في فمي، فالطبيعة هي أنشودة غير كاملة، والمبدع القدير لا يتقبل التسابيح التي تروق له؛ لأن الإنسان الذي خلقه الله ليرى مثاله في صورته لا يرفع إليه صوته الحقيقي، أجل، إن الطبيعة لمشهد ونفسنا صوته، فلنجتهد يا صديقي، كما يصنع الطائر أو نسيم الأشجار، أن نلقي على قدمي ذلك الإله حملنا الثقيل ونشدو ألحاننا أمام جلاله، ولنكن كاهني هذه الأصقاع باسم الحب الذي يربطنا.
لورانس :
أيتها النسمات الطاهرة،
الملأى بالحياة والأشذاء الفواحة،
أين كنت؟ ومن أين أنت قادمة؟
أيتها النسمات الخفاقة،
خفاقة كقلبينا في هذه الأصقاع،
لما أنت تتدفقين أوراقا خضراء وأزهارا طاهرة،
Неизвестная страница
كذرات من النور؟
أين ضمخت تلك الأجنحة الذهبية؟ •••
أراك تغتسلين بالعطر،
بين هذه الجبال، والأوداء، والمروج،
حيث الأشهر تكتسي وشاح الربيع،
طيلة أيام السنة!
يا لهاث الفجر الجميل،
خذ أنفاسنا واحملها مع عطور الزهر،
احملها إلى سماء الخلود، لتصلي أمام أنفاس الخالق،
فالصلاة هي عطر القلوب!
Неизвестная страница
أنا :
ألا ترى قوس قزح،
يضطرب لدى مرور الشعاع،
كأنه الأفعى على مضجعها،
كأنه أفعى السماء ذات الألوان البرتقالية،
انظر إليه رافعا عنقه بين الضباب،
كأنه السيف المجوهر،
كأنه جسر الفضاء،
جسر الفضاء العظيم. •••
هل هو جسر لمرور ملائكتك،
Неизвестная страница