في 6 آب في الصباح
ماذا جرى في العالم فتبدلت هيئة الأمم وساد السلام؟ أرى الكل يعرفونني باسمي الحقيقي! هم يقولون: إن باريس فتكت بالجلاد، وإن فرنسا غسلت الأراجيف، وخنقت أصوات الدم، وإن السجون فرغت من الأبرياء المظلومين، وأعادوا رموز الله إلى المعابد بعد أن حطم الشعب مقاصل الموت! هم يقولون: إن فرنسا بعثت من القبر ونجت من يد الجلادين!
في المساء
كل نائم ... تلك امرأة قديسة لا تزال ساهرة بالقرب من وسادتي ... أشعر بالنعاس يحاول الهرب من أجفاني، فأقدامي تود أن تصعد إلى حيث يقيم قلبي، غير أنها لا تزال رازحة تحت ثقل الضعف الشديد، سأذهب غدا صباحا إلى مكان قلبي! آه إن مشاهد السهر والآلام تتصاعد من خلال تذكارات بعيدة وتنعقد على جبيني كأنها خيوط مقطعة يحاولون أن يجمعوا أطرافها! •••
حكم قاضي الشعب بالموت على الأسقف السجين! سمعت ضربات المطارق تسمر أخشاب المقصلة في هدأة الليل، فدخلت إلى السجن وكنت أخال أقدامي، وهي تنزل الأدراج الرطبة، أنها تلصق بأدراج من الدم. لا أعرف أية رائحة من روائح الدموع كانت تفوح تحت النوافذ، وأي عرق كان يجري من الجدران سيولا سيولا. كنت أسمع الألواح تردد النحيب، كأنما هي مجرمة ترشح نزعها قطرة قطرة، في أسفل ذلك القمع المظلم، كان ينفتح السجن الرهيب القائم على الصخور، ما كدت أدخل حتى رأيت الحاجب، وفي يده مشعل يعطي الظلمة الباردة أشعة صفراء شاحبة، داخلا إلى مأوى المظلوم، ورأيت الشيخ يحدق في تلك العتمة، والشعاع المترامي على خديه كأنما هو يد من نار تشير إليه بين تلك الجدران القاتمة، راسمة فوق رأسه تاجا من الأنوار المقدسة، أجل! أبصرت ذلك الأسقف المسكين وقد رزح تحت ثقل السلاسل الحديدية، فاحدودب ظهره، والتوت قامته الطويلة، وبرزت أضلعه من خلال أثوابه الممزقة، واضطربت أقدامه العارية على الحضيض البارد، وكان فراش القش، ذلك الفراش المبعثر الأطراف لا يزال مستبقيا آثار جسده، ولحيته البيضاء بارزة من خديه المجوفين كأنما هي قطع من الزبد تجمدت على نواتئ صخرة، وعيناه المقعرتان تلمعان كالجمرة في محجريهما المظلمين، وكان بصره الضعيف يبحث عنا ولا يرانا من عمق أحداقه، وقد تراءت الإنسانية المغلوبة، على جبينه الشاحب فخلتني أمام نصير عظيم من نصراء الحقيقة المبتدعة!
وما كدت أتوسط المكان حتى سقطت على الأرض خائر القوى غير متجاسر أن أقترب إليه أو أن أهرب من وجهه، وبعد هنيهة رفع الحاجب نظره إلى الأسقف ، وقال: «هو ذا الشاب يا سيدي، فلقد قمت بواجبي نحوك»، ثم ترك المشعل على أقدامي وخرج من السجن مقفلا وراءه الباب الكبير، «أأنت؟ اقترب لأراك وأضم إلى صدري ابنا وديعا من أبناء الله، أشعر بساعتي الأخيرة تدق في قلبي، غير أني أود أن ينبثق فجري الخالد من نفسك الطاهرة، وأن أغسل روحي بمياه الكاهن أمام خالق الكائنات، جوسلين، أريد أن أضع بين يديك مفاتيح الله وأن أكل إليك أمر قطيعي المقدس، فالسجون والمنفى والسيوف الظالمة لم تبق على أحد من هؤلاء المبتدئين رفاق حداثتك، ولم يبق سواك أيها المبتدئ الوديع»، لبثت واقفا كالصنم لا أجيب، ولا أرفع جبيني الحيي، ولم أعد أسمع إلا دقائق الظلمة تتمشى بين جدران السجن، فاستطرد قائلا: «يجب أن تصير كاهنا يا جوسلين، فالكاهن ضروري لله! إن الحكمة الإلهية توجب عليك أن تنزل عند مشيئتي، وأود أن أنذرك لله على حافة قبري: اخفض رأسك يا ابني لينزل عليه الميرون المقدس! عندما يسيل عليك ذلك الروح الأقدس أريد أن أتقبل منك أنا الخاطئ المشرف على الموت، قربانة الحياة وخمرة الآلام! اقبل من الشهيد ذلك السر الأعظم، ومت لكي يحيا الله ...» قال هذا ورفع يده ليباركني، غير أني كنت قد ابتعدت عنه قدما، وقلت له: «تمهل قليلا يا أبت، قف، قف، فلست قادرا على ذلك، أجل! إن نفسي لخالقها، ودمي لإيماني، غير أن أيامي المدنسة لم تعد ملكي، فالله لا يطلب مني أن أضحي له ميتين في ميت وقلبين في حياة!» عند هذا نظر إلي نظرة رهيبة وقطب حاجبه الكثيف فاستأذنته ساعة سردت فيها على مسامعه حوادث العامين بدون أن أستثني حادثة، وأطلعته على القسم الذي أعطيته لتلك الفتاة رفيقة آلامي ومصائبي، ثم صمت فترة كنت أقرأ فيها أمارات الغضب على جبينه حتى استطرد قائلا: «إن الروح الخداعة تقذف بك إلى فخ مخجل مدنس، فاحمد الصدف أيها الجاهل، إنها لتهبك أسمى هبات الله للإنسان! آه! حطم تلك المكائد الغرارة واخفض جبينك من الخجل، ماذا؟ أتستسلم لتلك الأهواء الخطرة ثمار الكسل ونتائج الانفراد؟ ألأجل ذلك تخون موتي وتدعه بلا غوث، وتترك معبد الله عاريا من الرعاة؟ لم أكن لأعتقد يوم كان المذبح مخضبا بدماء رعاته، يوم كانت أبناء الله تثب من السجون إلى المقاصل، يوم كان العالم ينظر بعجب إلى دماء الشهداء، شهداء الإنسانية والدين، تتفجر من أيدي الجلادين، أجل، لم أكن لأعتقد يوم ذاك أن أحد الجنود، جنود المعبد المقدس، يأبى أن يسرع لنجاة الله فينطرح بين مخالب الأهواء الدنسة رافعا للخالق، على أقدام المقاصل، حيث فاضت أرواح إخوته الشهداء، نساء غريبات يخضبن خدودهن بحمرة الآثام!» - رحمة يا أبت وشفقة! أية كلمة تتلفظ بها شفتاك؟ إن السماء لتعرف ما إذا كنت أضطرب من رؤيتك، هي لا تجهل تعلقي بك وحبي الشديد لك، ولكنك تقيس قلوبنا بقلبك، وتعتقد أن نفسي العاشقة لا تنزع إلا حلما من صدر تلك الفتاة، لا، بل ثق أن حبي لها سوف لا يرفع إلا على أقدام المذابح، أتريد أن يغمى على العاطفة المغروسة في قلبينا، وأن ينطفئ ذلك الحلم الذي فتح براعم نفسينا، ويضمحل ذلك الشعاع الذي أنارنا طيلة سنة؟ قدر حب الرجل والمرأة يا أبت، ذلك الحب الطاهر الذي يربط حياتهما بلحمة واحدة، ويبقى حيا كالحياة وقويا كالموت! - اصمت! يا جوسلين إنك تدنس هذه الساعة، وهذا الموقف المقدس، وهذه السلاسل المثقلة علي، وهذا المكان المطهر بشهادتي، كيف تتجاسر أن تتلفظ بالحب في هذه الظلمة الخرساء؟ انظر أين أنت! حدق في هذا السجن إلى أعضائي البارزة، وإلى ذراعي المرتفعتين إلى الله! بقيود قتالة، انظر جيدا إلى هذا المرقد، حيث الكنيسة تطلق نفسها الأخير شاعرة بقبلة الله في فرند الحسام، إلى هذا الضريح، ضريح الموت الآهل بالحياة الذي لا ينفتح إلا للخلود، أأمام هؤلاء الشهود، شهود الآلام والمصائب، وأمام هذا المحتضر على خشبات التضحية، تتجاسر أن تتلفظ بمثل تلك الأهواء المميتة؟ آه! إن هذه الحسرات لتثقل على موتي! ماذا؟! أخائن أنت؟ ولكن لا، لا يكون ذلك! لا يمكن أن تلطخ حياتك الطاهرة، لا يمكن أن ترمي جبيني بهذه الرذالة! لا يمكنك أن تسقيني السم عوضا عن الماء، سوف لا تدع روح والدك الشيخ تذهب إلى خالقها قبل أن تتزود الغفران وتلقي خطاياها عن كاهلها المثقل! آه! طالما رجوت الله أن يمنحني كاهنا لأنطرح على قدميه عند ساعتي الأخيرة وأسمع من فمه تلك العبارة الإلهية: «إني أحلك من خطاياك!» جوسلين، إني بحاجة إلى هذه العبارة، ألا تهبني إياها؟ باسم هذه الدموع الأخيرة المتساقطة من أجفاني على يديك، باسم هذا الشعر الذي بيضته السجون بظلماتها، باسم هذه الأعضاء المضطربة فريسة المقاصل وضحية الظلم، باسم العناية الحنونة التي تعهدت بها نفسك يوم كنت صغيرا، باسم أمك، باسم تلك المرأة التي لو رأتك عيناها الطاهرتان في هذه الظلمة، لما ترددت بدفعك إلى الواجب المقدس بكل ما أوتي قلبها من الحب، أجل باسم كل ذلك أرجو منك ألا تضن علي بتلك العبارة لأحملها إلى السماء يا ابني.
ما أوشك أن ينتهي من كلامه حتى كان العرق قد بلل ثيابي، فبقيت واقفا كالتمثال، صامتا كالموت، محدقا في الظلمة كجان ينتظر الحكم عليه، ثم حولت نظري إلى الأسقف فأبصرت عينيه تتألقان بغضب فوق غضب الإنسان، وانتصبت قامته، كأنما فكرته قد رفعته عن الأرض، وبسط ذراعه المثقلة بالسلاسل فوق رأسي، فخيل إلي أن صاعقة من صواعق الانتقام تقذف نارها من جبينه وتتلوى كالأفعى بين جدران السجن القاتمة، وسمعت صوته الغضوب يرمي علي قنابل اللعنات، قائلا: «إذن! فبما أنك تبقى عديم الإحساس لدى مدامعي وتوسلاتي، وبما أن الرحمة لا تستطيع أن تنير في نفسك مشعلها المنطفئ، وبما أن روحك تتردد بين السلام الذي أرجوه منك وبين حبك المرذول الدنس، ألعنك بين المسيحيين لعنة تتبعك إلى القبر: اخرج من أمامي فلم أعد أعرفك! اخرج من جبل الجلجلة، حيث يموت سيدك فما أنت إلا جلاد أفظع من جلاديه، ما أنت إلا شاهد جبان لا تستحق أن ترى كيف يموت المسيحي فداء واجبه، أجل! اخرج من هذه الظلمة المقدسة، اخرج بصورة غير الصورة التي دخلت فيها، واحمل على جبينك ذلك الغضب الإلهي ولتشاطرك إياه ...» وقبل أن ينتهي من كلامه أوقفته قائلا: «قف يا أبت لا تكمل! لا تلعن أحدا بل صوب لعنتك علي وحدي!» وكأنه شعر بخوفي يضطرب لدى قوته ويتساقط على أقدامه كما تتساقط الشجرة لدى فأس الحطاب، فقال لي بصوت جهوري، كأنه يخاطب إنسانا من وراء حجب الموت: «أصغ إلي يا جوسلين، إنك لتسمع صوت الله من شفاه الموتى، فالله يأمرني أن أنزع بيد إلهية قلبك التائه من ذلك الفخ الذي يقودك إليه العالم الشرير، إنه يعير صوتي ذلك الحكم المحتم، ذلك الحكم الذي يوجب عليك أن ترضخ لي وتأتمر بأوامري!» عند هذا شعرت بيده المغللة بالحديد تلامس جبيني، وخيل إلي أن يد الله تمر على رأسي، فسقطت ساجدا على قدمي الأسقف لا أفوه بكلمة ولا أحرك ساكنا، ولم يمض بعض ثوان حتى شعرت بأن تغييرا مدهشا قد طرأ على كياني، وعندما رفعني من الأرض كنت كاهنا! ... •••
ترامى الشيخ بدوره على أقدامي واعترف بخطاياه للإله المصغي إليه، ثم حولت قطعة سوداء من الخبز إلى جسد الله وباركت كأسا من الخمر وغمست القربانة فيها، ثم رددت العبارة التي أملاها علي وكان المشعل يلقي في الغرفة أشعته المأتمية! كنت أخال أن الله يهبط من عليائه ويتحول إلى جسد ودم في تلك الخبزة وتلك الكأس، وبعد برهة قصيرة انطفأ المشعل في الظلمة وزحف النهار! ...
فتح الباب الرهيب ودخل الحاجب فنزع السلاسل عن الأسقف وقاده إلى خارج السجن، حيث تنتظره المقصلة المخيفة، فاقتربت منه وتركته يتكئ على كتفي ليتمكن من قطع تلك المسافة المأتمية، وكان يمشي إلى الاستشهاد كمن يمشي إلى الانتصار مباركا جلاديه تارة بأنامله وطورا ببسماته، حتى بلغ المكان المعد له فأعنته على صعود السلم الرهيبة، وتبعته حتى المقصلة نفسها، وكان الشعب الشرس يعج في الساحة ويهتف هتافا مزعجا فلم يصغ الأسقف إلى تلك التجاديف واللعنات بل كان يبحث في عيني عن الوداع الأخير، وعندما ألقى جبينه على الخشبة الشؤمى تراءى لي الموت زافرا في السكين زفرة المتظلم، فلم أقدر على التجلد لدى هذا المشهد المؤلم فسقطت ملطخا بدم الشهيد، وشعرت أن صورة لورانس قد امحت من قلبي! ... •••
آه! إني أتنفس الصعداء! إيه حكمة الله، أأنت في كل مكان ساهرة مصغية؟ أطلعت شقيقة الأسقف وهي راهبة قديسة على سري العظيم، فقالت لي: إنها تود أن تذهب بنفسها إلى الكهف وتأتي بالفتاة إلى منزلها، حيث تتعهدها بعنايتها الرءوفة وتحبها وتعطف عليها عطف الأم الحنون إلى أن يتبلغ أهلها خبر أمرها فيعيدوا إليها ما حجزته الحكومة من أرزاقها في الأيام العصيبة.
Неизвестная страница