ولكن، أيمكنني أن أرفض رجاء الميت الذي يدعوني إليه في ساعته الأخيرة؟ أأقدر أن أخالف إرادة ذلك الراعي القديس الذي تعهدني في أيام بؤسي، وتقبلني صغيرا بين المبتدئين وحنا علي حنو الأب الكريم، وكان صديقا لنفسي، وسيدا علي! •••
عندما رأى أن سجنه المظلم حل محل قصره، وأن ثوبه الأسقفي جنى عليه وكان حكم الموت، وأن المقصلة تشير إلى القدر المحتم عليه، ولم يبق له إلا شرب الكأس التي أعدوها لعذابه، طلب أن يمثل لديه صديقه الحميم ليؤاسيه قبل أن تفيض روحه بين جلاديه، آه! أأقدر أن أكون رجلا ولا أسرع لاستغاثته؟ لا، لا أطيق على نفسي أن تكون جبانة وجاحدة الجميل! •••
بأي لولب غريب تدير يد الخالق القدير ذلك القدر، حيث العيون البشرية لا ترى إلا صدفا وعجائب! ... •••
صعد أحد الجبليين، وهو خادم في السجن الرهيب الذي يضم بين جدرانه ذلك الأسقف المحكوم عليه بالإعدام، إلى قريته ذات يوم وقال للمعاز الذي يعرف دون سواه مكان إقامتي في تلك الجبال، إن الأسقف وقع في يد الجلادين أسيرا وهو قيد المحاكمة وإنه يطلب قبل موته أن يؤتى إليه بجوسلين الصغير ليسر إليه أمرا مقدسا. •••
عندما سمع المعاز اسمي ظن أن الله يأمره بأن يكشف أمري، وأن واجبا مقدسا يقضي عليه بأن يتسلق الجبال مع ذلك الجبلي ويفضي إلي بمشيئة الأسقف، فانتظرا حتى هبط الليل وصعدا إلى مغارتي متسترين فسمعت وطء أقدامهما المتثاقلة، فاستغربت الأمر بادئ ذي بدء وأطللت من الصخرة المجوفة، وكانت لورانس نائمة في الكهف فلم تسمع شيئا، فبلغاني بكلمتين سبب قدومهما، عند هذا أخذ الحب والغيرة يتنازعان في نفسي، ثم استأذنتهما قليلا ودخلت إلى الكهف ، حيث كتبت ورقة للورانس ضمنتها هذه الكلمات: «ارقد بسلام أيها الحب، فغيابي لا يتجاوز اليوم الواحد!» ووضعت الورقة بالقرب من لورانس بعد أن وقفت دقيقة أتأمل جبينها الجميل، وقد مرت عليه سحابة الأحلام العذبة وبرزت على شفتيها ابتسامة الملائكة، ثم سجدت أمامها وألصقت على قدميها جبهتي وخدي وفمي واستنجدت الله والقديسين لحراستها طيلة غيابي، وخرجت من الكهف بعد أن أبقيت قلبي تحت قدمي لورانس!
نزلت على آثارهما تلك السلالم الحجرية بعد أن استبدلت ثوبي الرث بثوب المعاز، وتنعلت حذاءه المسمر، وكان شعري الطويل، وجبيني المشهب، وأناملي المتفلعة بالبرد تعطيني هيئة جبلي لا يزال شابا، بلغنا المدينة بعد أن اجتزنا تلك المزارع المجهولة ونزلت ضيفا عند الجبلي ابن عم المعاز، وفي هذا النهار يجب علي أن أمتثل بين يدي أسقفي الشهيد في ذلك السجن الهائل!
في مستشفى غرونوبل في 5 آب سنة 1795 في المساء
أين أنا؟ رب اغفر ذنوب تلك النفس التائهة! لا لا، بل اضرب ذلك القلب المتردد الذي ما عرف أن يتبين الجريمة من الفضيلة، والذي لم يعد يعرف إذا كانت السماء تمقته أم تهواه! •••
أجل! إني أضغن على نفسي، فلتحتجب روحي عن روحي! هو ذا الأسقف يباركني! ... أنا قاتل ورسول السلام معا، فلقد خلصت بيد وسفكت بيد أخرى! •••
ولكن أين أنا؟ وإلى أي مكان قادتني المقادير؟ كل يتراءى رهيبا لعيني التائهتين، ما هذه الأسرة القطنية؟ ومن هؤلاء النساء، وهذه الأشباح البيضاء؟ أراها تتمشى صامتة كالقبور بين هذه الأروقة المظلمة، وتنحني فوق الوسائد كالأمهات! أتراها ملائكة الرحمة هبطت من السماء؟ أتراها عرائس ابن الله أمام أسرة الآلام؟ أتراها أمهات لجميع الأبناء، وأخوات لجميع الإخوة؟
Неизвестная страница