في 25 تموز سنة 1794
كنت في الماضي أقضي الساعات الطوال في الحديقة أو في بعض المروج الخضراء وفي يدي كتاب وبالقرب مني كلبي الأبيض، تارة أقرأ بعض القصائد وطورا أتلهى بقشر الأغصان أو بنثر الأزهار على مياه الجداول، تابعا بنظري مجاري المياه تلمع على ضياء الشمس كقطع من اللؤلؤ الأبيض، مصغيا إلى خريرها المسكر يتقطع على الحصى بين الأدغال الكثيفة، أو مضطجعا على الأعشاب، حيث الأزهار الفياحة تغرقني في فراش من الأحلام اللذيذة أو من الأسرار المبهمة وتلقي علي ستائر من أخيلتها، فأسترسل إلى عواطف مرة، وتتراءى لي صور الحياة ملأى بالأشباح الهائمة، أشباح الحب الإلهي، ثم تتوارى تلك المشاهد عن عيني وتتلاشى كضباب بعد عاصفة، وتجف الدموع على حافة أجفاني، لم يبق لي من تلك الرسوم القديمة إلا غيوم ملونة من الذكريات تمر في فضاء قلبي! فلورانس يشغل اليوم فراغ نفسي، فأية قصيدة من الشعر تضارع جماله العذب، وأي صفاء يضاهي صفاوة حياته عند ما تمر حمرة الخجل على محياه ويلقي جبينه البض على صدري المضطرب؟ فكم من آلهة تضيء على وجهه النير، وكم من شعاع يلمع بين عينيه بحقائق أسمى من حقائق البشر!
في 15 تشرين الأول سنة 1794
هذا المساء، هب هواء فاتر فكنس ما كان على قمم الجبال، إن التنهدات الأليمة التي تطلقها النسمات وترسلها إلينا لهي قبلات الوداع لفصل الصيف المائت، كانت السماء صافية الأديم، عميقة كالبحر، وفي ذلك العمق كنا نرى موقد الشمس ذات الأشعة الفضية يخفق ويضطرب كشهب من نار، أو كشعلة من قش أضرمها الفلاح على قمة جبل، وكان القمر يلمع كقطعة من الجليد ويركض على مياه البحيرة برعشة بيضاء، والشجر العارية من أوراقها تنتصب بأغصانها كأنها هياكل أجساد عراها البلى! والحطب المائت، الساقط على الأرض، كأنه عظام رماها الحفار على جانب التربة، فاقتربنا بقلب منقبض إلى الصخرة المجوفة، حيث ينام والد لورانس نومه الأبدي، ولا أدري أية فكرة صعدت من تلك الحفرة ومرت في ذاكرتي، فقلت في نفسي: «مسكين لورانس!» ثم نظرت إليه قائلا: «عندما استرجع التراب والدك يا لورانس وهبك الله أبا وأما من قلبي ونفسي وأوحى إلي تلك العاطفة وذلك الحنين اللذين كانا ينسكبان عليك من مقلتي أمك وأبيك، ولكن، إذا نزع الخالق صديقك وأعاده إلى أحضان أمه الأولى، فماذا يحل بك يا لورانس؟» - ماذا يحل بي؟
أجاب لورانس، أتتجاسر أن تسألني عن ذلك؟
ثم قادني إلى قبر والده، ووقف كالتمثال أمام تلك الحجرة الرهيبة، ورفع نظره إلي، قائلا: «لقد ألقاني بين ذراعيك أمانة مقدسة فيجب عليك أن تعيد إليه تلك الأمانة كما ألقاها بين ذراعيك، عفوا يا صديقي، أليس الموت غيابا لا نهاية له؟ لا تعد على مسمعي هذه العبارة الأليمة.»
قال هذا، ووثب إلى صخرة مرتفعة ووقف على شفيرها كأنه يود أن يلقي بنفسه من ذلك العلو الشاهق، فاضطربت اضطرابا شديدا وخفت أن يذهب ضحية غفلته، فانتبه إلى اضطرابي، فقال لي: «لا بأس ، إنك حدثتني عن الموت وأنا أنتقم لذلك!» فحاولت أن أردعه ولكنه أسرع بالهرب وتوارى عن نظري.
في 6 تشرين الثاني سنة 1794
سقط الشتاء على هذه الأصقاع فالتفت من حولنا هضبات الثلوج، ولم نعد نتبين الأودية الصغيرة من القمم، والسيول المتدفقة من شواطئها، ورعن الجبل من هوته، فالطوفان غمر المرتفعات بمحيط من الجليد، والهواء العاصف يبدل في كل ليلة مواضع الهضبات! •••
خرجت هذا الصباح من المغارة وكانت الجبال تلمع بالثلوج البيضاء، فجعلت أتجول بين الأشجار المتثاقلة بالجليد إلى أن بلغت مسافة بعيدة بعد أن قضيت أكثر من ثلاث ساعات هائما على نفسي في مذاهب الطبيعة، فوقفت على مرتفع تتهاوى الثلوج على أقدامه وتتدفق السيول على جنباته وأخذت أسرح الطرف ناظرا إلى جهة الكهف مفكرا بلورانس، وقد تركته نائما بالقرب من وعلته الوديعة فمرت في صدري رعشة شديدة؛ إذ سمعت اسم جوسلين يتقطع بالشهيق ويموت بين تلك الأعاصير، لبثت فترة، مترددا على تلك الصخرة، وقد مرت في مخيلتي فكرة رهيبة: «أتراه خشي علي من الخطر فرمت به عاطفته في لجة من تلك اللجج العميقة؟» ثم أسرعت بالرجوع مناديا لورانس فيرجع الصدى ذلك الاسم اللطيف، إذا بي أرى الوعلة تقترب مني وتقفز أمامي ثم تحاول أن تهديني إلى مكان قريب، فحدثتني نفسي بأن هناك مصيبة أليمة فمشيت ومشت إلى أن بلغنا هوة عميقة فتقدمت الوعلة وأزاحت بمخطمها بعض الثلوج المتراكمة على مقدم الهوة فتراءى لي جسد لورانس ممددا على الجليد والدم الغزير يتدفق من جرح بليغ في رأسه وشعوره الذهبية ملطخة بالدم، فارتميت عليه وحملته بين ذراعي وصعدت به إلى خارج الهوة ثم أسرعت إلى الكهف، حيث مددته على فراشه وأشعلت النار لأدفئه، فنبع دم غزير من صدره، فلم أتردد بأن مزقت ثوبه بأسناني، ويا للعجب عند ما رأيت ثديي امرأة يندلقان من ذلك الصدر المغمى عليه! فتراجعت مذعورا وقد جمد الدم في عروقي وجحظت عيناي، غير أني تجلدت أمامها وجعلت أدب الحرارة في جسدها المدمي حتى استفاقت ... أجل، استفاقت وأجالت بنظرها إلى ما حولها، وقد احمرت وجنتاها من الخجل فأغمضت عينيها بسكرة الألم ثم جعلت تعض يدي تارة وتقبلها أخرى ورقدت رقادا طويلا!
Неизвестная страница