كذلك محال أن تضج وتفكر في آن معا؛ هلا سألت نفسك يوما: لماذا اختار اليونان لآلهتهم جبل الأولمب، ولم يسكنوهم دارا في ساحة السوق؟ وهل جاءك في الأساطير أن «جوبتر» كان يخلق الكائنات بإيماءة خفيفة دون أن ينطق إلا قليلا، أو يتحرك إلا يسيرا؟
هل سألت نفسك يوما: لماذا يصوم غاندي عن الكلام يوما في كل أسبوع؟ وهل وقفت دقيقة أو دقيقتين كلما قصوا عليك سيرة النبي، فتسأل: لماذا اختار الله لنبيه الصحراء الصامتة منبتا، ولماذا اختار له مغارة معزولة في سكون الجبل مهبطا لوحيه؟
أين يسكن الفيلسوف فيما تظن؟ أيسكن برجا - سواء كان البرج من عاج أو خشب - أم يسكن غرفة تطل بشرفتها ونوافذها على العتبة الخضراء؟
ألست تؤثر للعالم الباحث أن يعتزل في مكان هادئ بين كتبه وأنابيبه، ثم ألست تؤثر للشاعر أن «يجوب وحيدا كالسحابة» - كما يقول «وردزورث» شاعر الإنجليز؟
أيهما أقرب إلى الشعور الديني الصحيح فيما تظن: رجل فتح المذياع على آخره ساعة تلاوة القرآن، فجعل من القراءة ضجة ترج الهواء رجا؛ أم رجل جعل التلاوة همسا في أذنه لا يكاد يسمعه من يجلس إلى جواره؟ أتحسب أنه من قبيل المصادفة العمياء أن تواضع الناس في كل زمان وفي كل مكان وفي جميع الأديان أن تكون بيوت الله - مساجد كانت أو كنائس أو معابد أو ما شئت لها أن تكون - خافتة الضوء خافضة الصوت، إذا أضيئت فبالقنديل الضئيل، أو ما يشبهه، وإذا تكلم فيها متكلم فهمسا، أو مشى على أرضها ماش فعلى أطراف أصابعه؟ ثم هل يخلو من المعنى أن يوعد المؤمنون جنة لا يسمعون فيها لغوا؟
أنت أقرب إلى الله في صمتك منك في صخبك وضجتك، ولهذا اختار المتعبدون صوامع في الجبل، ولم يختاروا الميادين الفخمة في كبريات المدن!
خذها عني نصيحة ناصح: ضع ثقتك فيمن يتلعثم إذا تكلم، أضعاف أضعاف ما تضعها فيمن يكثر من الجدل والنقاش؛ فالأرجح أن ينتج الأول عملا ينفعك وينفعه، والأرجح ألا ينتج الثاني شيئا ذا غناء؛ ولعل «فورد» - صاحب الثراء الضخم وصاحب السيارة المعروفة - لعله لم يكن محسنا فقط حين جعل من مبادئه أن يبدأ في مصانعه باستخدام الأبكم، بل لعله كان في ذلك رجلا من رجال الأعمال الذين حالفهم صواب الرأي؛ فمع البكم إنتاج وعمل، ومع الثرثرة مضيعة للوقت والمجهود؛ ورحم الله مالكا حين قال: «لا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل.» ورحم الله ابن حنبل حين قال: «لا يفلح صاحب كلام أبدا.»
هل تدري ما معنى «تفكير»؟ معناه الدقيق: مناقشة الإنسان لنفسه، يلقي على نفسه سؤالا ويحاول عنه الجواب؛ فإذا قلت «إني أفكر» كان معنى ذلك على وجه الدقة أني سألت نفسي سؤالا أو أسئلة أحاول عنها الجواب؛ ولا يكون ذلك إلا إذا خلوت لنفسك وساد حولك الصمت.
وإنه لمن أعجب العجب أن يشاء الله لأعظم موسيقي أنجبته الدنيا - أعني بيتهوفن - أن يصاب بالصمم، فلا يسمع حتى موسيقاه! ترى هل ساعده العالم الصامت الذي عاش فيه على خلق تغريده وألحانه؟
دارت في رأسي هذه الخواطر، ثم أراد الله أن يزيدني يأسا على يأس، فذكرني بالمكتب والبيت والشارع.
Неизвестная страница