دخلت مكتبا في ديوان حكومي لأقضي بعض شأني، فوجدته يموج بالزائرين الصائحين الصاخبين، فقلت: يستحيل أن ينتج هذا المكان شيئا.
ودخلت داري فوجدتها مفتحة النوافذ ساطعة الضوء كثيرة الصياح، فقلت: يستحيل أن تكون هذه الدار بيئة صالحة لتكوين رجل صامت عامل.
ومشيت في الشارع فسمعت عجيجا وضجيجا وجلبة وصياحا، فقلت: يستحيل أن يكون هذا مكانا من بلد يعرف أهله العمل والإنتاج.
اللهم رحماك! والله لو انفتحت لي أبواب السماء «ليلة القدر»، ما تمنيت لأمتي إلا شيئا واحدا: أن يهبها الله شيئا من حكمة البوم.
قارئ الأفكار
كنت أساكن صديقا بضاحية الزيتون في دار صغيرة جميلة ذات طابقين، وكان هذا الصديق يشاركني ألوان الثقافة والتفكير ومنازع الحياة والسلوك؛ اللهم إلا جانبا واحدا بارزا اختلفت معه فيه، فقد كان يؤمن بما للنفس من قوى؛ يؤمن بإحضار أرواح الموتى، وبانتقال الخوالج النفسية بين الأحياء دون تفاهم واتصال؛ كان يؤمن بهذا وبغيره من قوى النفس المزعومة الموهومة؛ وكنت لا أومن بشيء من هذا قل أو أكثر؛ ولم يكف هذا الصديق أن يأخذ بالرأي في صمت وهدوء، بل تحمس له حماسة يمازجها شيء من الصخب، وساهم في جمعية نفسية تألفت في القاهرة من بعض المشتغلين بهذه الأبحاث، ولم تكن لجماعتهم هذه دار يلتقون فيها، فاتفق الأعضاء على أن تكون الجلسات في ديارهم.
وفي يوم برده زمهرير، دبر صديقي اجتماعا في دارنا، وكان محتوما علي أن أساهم في الحفاوة بالزائرين، أو أغادر الدار؛ وقد آثرت أن أخوض في برد الشتاء، على أن أستمع مرغما إلى ما يديره أولئك الأعضاء من هراء؛ ولكن شاء حظي المنكود أن يفاجأ صديقي بما ألزمه بالسفر في تلك اللية إلزاما لا سبيل إلى الفرار منه، فماذا يصنع والاجتماع بعد ساعتين أو أقصر؟ أمامه مخرج واحد، وذاك أن أظل بالدار لأستقبل الأضياف.
وحدث ما شئت عما أصاب نفسي من حرج وضيق، ولكني جحدت هذا الغم في كبدي، ورسمت ابتسامة على محياي لألقى بها الزائرين؛ وحان الحين ، وأقبل المقبلون، فأخذت أصافح وأسامر في بشر وترحاب، كأني كنت لهذا اللقاء في لوعة المشتاق، وما هو إلا أن فرغنا من العشاء، فانتقل الزائرون إلى غرفة المكتبة، وكنا قد أعددناها للجلوس؛ وهنا أقبل صديقي حسن، وهو يفهم موقفي من هذه الأبحاث النفسية، ويشاركني وجهة النظر، وجلس بعد أن صافح الحاضرين؛ ولم تمض دقيقتان حتى سادنا الصمت، ووقف رئيس الجماعة، وسعل سعلة خفيفة، تمهيدا لكلمة يلقيها في الحضور، ثم قال: «سادتي! إنا لنأسف أسفا شديدا لغياب زميلنا يوسف هذا المساء، ولكن أهي العناية الإلهية دبرت هذا لأكشف لكم في صديقه وصديقنا محمود عن عضو جديد وعضد قوي مستنير؟! لقد رأيتم جميعا كيف استقبلنا بحفاوة الأكرمين، ولكني رأيت فيه جانبا آخر، فقد أخذ يحدثني ونحن جلوس إلى مائدة الطعام حديث المتعمق، الخبير بالنفس البشرية وسرها المكنون، فعجبت لأمره أشد العجب، فقد ذكره لي صديقه وصديقنا يوسف في غضون حديث له معي منذ أيام، فأنبأني عنه أنه واسع الثقافة كثير المطالعة، وأنه كان يصلح لجماعتنا هذه عضوا مفيدا، لولا أنه ينفر نفورا شديدا من أبحاثنا الروحية، ولا يصفها بأكثر مما يوصف به خلط المجانين ...»
فقاطعته قائلا: ليس هذا حقا يا سيدي، لقد ساء فهمه إياي أو أساء الإفهام؛ لأني مشغوف بالروح وما يتصل بها من بحوث، إن أصدقائي جميعا يعلمون عني أني أعيش في كتب الأقدمين أكثر مما أعيش بين الأحياء المعاصرين؛ وأشباه هذه البحوث الروحية كثيرة في تلك الكتب، بل جاءت عصور بأسرها لا تعرف من العلم إلا أشباه هذه البحوث، وليس من المعقول أن أخرج من هذا المحصول الضخم صفر اليدين؛ ولم أقف من الأمر عند المعرفة النظرية، بل طبقتها مرتين حين كنت في مراكز الريف فأفلحت إفلاحا عجيبا؛ ولو شئتم عرضت أمامكم بعض هذه التجارب التي أجريتها في قدرة النفس البشرية على نقل الخواطر من ذهن إلى ذهن بغير ما يعهد الناس من وسائل التعبير.
فحدق صديقي حسن نظراته في وجهي، ولمحت فيه ميلا إلى الضحك، عرفته فيه منذ ائتلف قلبانا في هذه الصداقة القوية؛ ولكنه حين رآني أسترسل جادا في الحديث، أخذ يعلوه العجب، وتبدو في عينه الدهشة مما أقول، كأنه أراد أن يهمس: أأنت مازح أم هذا جانب منك خدعتني فيه؟!
Неизвестная страница