وحدث أني كنت أقرأ كتابا منذ أمد قريب، وكانت البومة على غلافه شعارا للناشر، فسألت نفسي: ليت شعري لماذا اتخذ هذا الطائر المشئوم رمزا للحكمة؟ أيكون ذلك لهاتين العينين المفتوحتين اللتين لا ينسدل عليهما الجفنان في ظلمة المساء، كما تنسدل الأجفان عند عباد الله من إنس وجان؟ أتكون هاتان العينان المفتوحتان قد أغرتا الرامزين أن يتخذوا من دوام الإبصار دليلا على سداد البصيرة وبعد النظر؟
أم يكون ذلك لما تعانيه البومة في الليل من سهر ورعاية للنجوم بما فيهما من هم وتسهيد، حين يكون الخليون في مخادعهم نوما غافلين عن الطبيعة بكل ما فيها أثناء الليل من جلال وجمال؟
أم تكون هذه الجلسة الساكنة الهادئة الرزينة الرصينة، التي لا تكاد تعرف الحركة، هي التي أغرت الرامزين أن يشيروا بها إلى التأمل العميق والتفكير الدقيق، فاتخذوا البومة شعارا لهذا كله؟
ذلك ما حدثت به نفسي حين نظرت إلى صورة مرسومة على غلاف الكتاب؛ لكن فكرة جديدة أوحي بها إلي فأشرقت علي بالأمس القريب، إذ كنت أسير في الطريق مفكرا فيما أنا فيه مما تضطرب له النفس عند أشد الناس ضبطا لنفسه وإمساكا بزمام أعصابه؛ فقد تعذرت علي متابعة فكري لكثرة ما في الطريق من أصوات؛ وعندئذ حلا لي - وقد تعطل الفكر - أن أعد هذه الأصوات، وآخذ في تبويبها وترتيبها، فإذا بي أبلغ في عدها المئات!
وبغتة قفزت قفزة خفيفة لو رآها الناس لقالوا مسه الجنون، وصحت لنفسي - كما فعل أرشميدس في زمانه - صحت قائلا: وجدتها وجدتها! وجدت العلة في اتخاذ البومة شعارا للحكمة ورمزا لبعد النظر؛ العلة هي الصمت؛ بل وجدت العلة، لماذا أقفرت بلادنا وأصابها العقم آلاف السنين، لا تنجب المصلحين العاملين؛ العلة هي هذا العجيج والضجيج، هي هذه الجلبة وهذا الصياح!
إي والله، لقد صدق من قال إنه إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب؛ وأنا أريد هنا بالكلام والسكوت أوسع ما يفهم من هاتين اللفظتين من معنى؛ فإذا فهمت من اللفظتين معناهما الواسع، أدركت ما أريد أن أسوقه إليك حين أنبئك أن الصمت هو السر في حكمة البوم، وأن الجلبة هي التي أعقمت بلادنا عن إنجاب المصلحين العاملين.
فمن باب الصمت أن تختار لجلوسك مكانا مستورا تخلو فيه إلى نفسك، أو إلى من تتحدث إليه من الأصدقاء فيكون لك بهذا التخفي وجود واضح بارز؛ ومن باب الجلبة والصياح أن تجلس مكشوفا على طوار الشارع في المقهى، حيث تصبح جزءا من بضائع الدكاكين وحركة المرور!
ومن الصمت أن تختار لملابسك وأثاث منزلك ألوانا خافتة هادئة يرتاح إليها البصر، كما أن من الجلبة والصياح أن تختار هذه الأشياء من ذوات الألوان الصارخة الزاعقة التي تلفت الأنظار رغم الأنوف.
ومن الصمت أن تعلن عن عيادتك إن كنت طبيبا، أو مكتبك إن كنت محاميا، أو دكانك إن كنت تاجرا؛ بلافتة صغيرة متواضعة، كما أن من الجلبة والصياح أن تعلن عن نفسك بلافتة طويلة عريضة تسد على الناس مسالك الطريق، واذكر دائما أن ارتفاع الصوت قد يدل على تفاهة الصائت؛ فالكلب الذي ينبح لا يعض - كما يقول الإنجليز - وكلما ازدادت الشاة صياحا، قل على ظهرها الصوف - كما يقول الإنجليز كذلك - والضفدعة الهزيلة الضئيلة تملأ الآفاق ضجة ونقيقا.
يستحيل أن تكون من الصاخبين ومن العاملين في وقت واحد؛ ويستحيل أن تكون من الصائحين ومن المفكرين في وقت واحد؛ فقد يتعذر أن يجتمع الكلام والعمل، لأن الفكرة إذا طافت برأسك فصحت بها كلاما، انتهى بذلك أمرها؛ أما إذا حبستها في نفسك، وأغلقت دونها صدرك بمغاليق الصمت، فقد تتفجر في صورة عمل عاجلا أو آجلا.
Неизвестная страница