وقد ذكر في الأساس أن الخلاف في هذه المسألة أعني سميعا بصيرا بين جمهور أئمتنا والبغداذية وبين بعض أئمتنا وشيعتهم والبصرية، فالأولون ذهبوا إلى أنهما بمعنى عالم وأنه لا فرق بين قولنا عالم وبين قولنا سميع بصير وسامع مبصر ومدرك بل الكل راجع إلى العلم، والآخرون ذهبوا إلى أنهما بمعنى حي لا آفة به يوصف بهما الباري في الأزل وفرقوا بينهما وبين سامع مبصر وجعلوهما صفة مدرك والباري لا يوصف بهما في الأزل بل تجددت له بعد وجود المدرك والمصرح به في أقوالهم أن المراد بذلك المرجع بهما إلى ما ذكرنا لأن ذلك على سبيل الماهية فإنهم عند التحديد لهما لم يخلوهما من معنى الإدراك ولهذا قال في الخلاصة حقيقة السميع البصير هو المختص بصفة لكونه عليها يصح أن يدرك المسموع والمبصر إذا وجد، وقوله إذا وجدا يحترز من لزوم أحد محذورين، أما القول بأنه غير سميع بصير فيما لم يزل وهو خلاف ما عليه المسلمون، أو القول بأن معنى سميع بصير يصح أن يسمع ويبصر في الأزل وهذه الصفة واجبة له تعالى والصفة الواجبة متى صحت وجبت فيجب أن يسمع ويبصر في الأزل وأن يكون هناك مسموع ومبصر وفي ذلك قدم العالم وهو غير صحيح كما تقدم، هذا ما قيل في توجيه كلامه. إذا عرفت ذلك، فاعلم أنه ينبغي الاشتغال بكلام الكتاب أولا ثم نذكر النزاع في صفة الإدراك وبيان المختار من الأقوال وإقامة البرهان عليه. فنقول: القول بأن الله سميع بصير هو مذهب جميع المقرين بالصانع المختار إلا أنه يلزم المطرفية ألا يصفوه بذلك والخلاف في ذلك مع الباطنية كما مر. والدليل على ذلك المذهب الصحيح أنه تعالى حي لا آفة به. هذه المقدمة الأولى وقد ينازع بأن مصنف الكتاب ممن يقول المرجع بسميع بصير إلى كونه حيا لا آفة به فيكون ذلك استدلالا بالشيء على نفسه، وقد يجاب بأنه لم يذكر ذلك على سبيل الاستدلال على معنى السميع البصير وإنما أورده استدلالا على الوصف له تعالى بكونه سميعا بصيرا وكل من كان حيا لا آفة به فهو سميع بصير. فهذان أصلان لابد من إقامة البرهان على كل منهما، أما أنه تعالى حي فقد تقدم في مسألة حي، وأما أنه (تعالى) لا آفة به فلأن معنى الآفات فساد الآلات وهذا هو المعقول من إطلاق اسم الآفة في الشاهد، والآلات لا تجوز إلا على الأجسام والله سبحانه ليس بجسم ولا عرض، فإذا كان الله تعالى ليس بجسم ولا عرض استحال أن تكون له آلة تنطرق إليها الآفة، وقلنا أنه ليس بجسم لأن الأجسام محدثة كما مر والله تعالى قديم على ما يجيء بيانه إنشاء الله تعالى. قال الدواري: الأولى في الاستدلال أن يقال أنه تعالى حي والآفة مستحيلة عليه فيجب أن يكون سميعا بصيرا دليله الشاهد فإن الواحد منا إذا كان حيا لا آفة به كان سميعا بصيرا وإن كانت الآفة جائزة عليه ففي حق الباري أولى لأن الآفة مستحيلة عليه واستحالتها أقوى في زوالها من عدمها مع جوازها، فثبت بذلك الدليل القطعي أن الله سميع بصير، ويجب على المكلف اعتقاد أن الباري (تعالى) كذلك فيما لم يزل وفيما لا يزال، وأنه لا يجوز خروجه من هذه الصفة بحال من الأحوال.
تنبيه:
كونه تعالى مدركا للمدركات يرجع إلى كونه عالما بالمعلومات فهو يدرك المدركات
على حقيقتها بعلمه أي ذاته لأن علمه ذاته على ما سنقرره إنشاء الله تعالى.
Страница 65