قال: فو الله ما فرغ من إنشاده حتى ظنت أن العمر قد أدركني، وحججت في سنة إحدى وأربعين ومائة، وأنا خليفة، فنزلت عن الجيزة أمشي في جبلي زرود لنذر كان علي، فإذا أنا بالضرير، فأومأت إلى من معي أن تأخروا، وتقدمت إليه فسلمت عليه، وأخذت بيده، فقال: من أنت جعلني الله فداك، قلت: رفيقك إلى الشام وأنت تريد مروان بن ممد، فسلم علي وأنشأ قول:
آمتْ نساءُ بني أميَّةَ بعدهم ... وبناتهم بمضيعةٍ أيتامُ
نامتْ جدودهمُ وأسقطَ نجمهم ... والنَّجمُ يسقطُ والجدودُ تنامُ
خلتِ المنابرُ والأسرَّة منهمُ ... فعليهم حتَّى المماتِ سلامُ
قلت له: كم كان مروان أعطاك؟ قال: أغناني فلا اسأل أحدًا بعده، أعطاني أربعة آلاف دينار، وملكني الجواري والغلمان، قلت: وأين ذاك؟ قال: بالبصرة، قال المنصور: فهممت به ثم ذكرت حرمة الصحبة، فقلت له: أتعرفني؟ قال: ما أثبتك من معرفة ولا أنكرك من سوء، قلت: أنا المنصور أمير المؤمنين، فوقع عليه الرعدة ثم قال: يا أمير المؤمنين أقلني عثرتي فإن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها، وبغضِ من أساء إليها! فانصرفت عنه، فلما نزلت المنزل بدا لي في مسامرة الضرير، فتقدمت بطلبه فلم يُر.
١٢٤ - وقيل إن رجلًا وقف على شيرويه بن أبرويز، وقد رجع من المياد، فأراد مدحه والدعاء له والتقرب إليه فقال: الحمد لله الذي قتل أبرويز على يدك، وملكك ما كنت أحق به منه وأراح آل سلسان من جبريته وعتوه وبخله وكبره، فإنه كان يأخذ الأجنة، ويقتل بالظن ويخيف البريء ويعمل بالهوى! فقال شيرويه لبعض حجابه: احمله إلي، فحمله، فقال: كم كان رزقك في حياة أبرويز؟ قال: رزقي الآن لم يزد ولم بنقص، قال: فهل ترك أبرويز فانتصرت منه بما سمعت من كلامك الآن، قال: لا والله، قال: فما دعاك إلى الوقوع فيه ولم يكن له إليك ما يقتضيه؟ قال: أردت أيها الملك شكرك والثناء عليك، فأخذني لساني بما سمعت وجذبني إلى ما رأيت! فقال: انزعوا لسانه من قفاه، ففعل به ذاك، وقال شيرويه: لحق ما يقال: إن الخرس خير من البيان بما لا يجب!.
١٢٥ - وحدثني الوزير فخر الدولة أبو نصر بن جهير قال: قصدت ملك الروم، في رسالة زعيم الدولة أبي كامل بركة بن المقلد أمير بني عقيل، فرأيت ابن بطلان الطبيب هناك، فأنس بي وخدمني وأكرمني فقلت، له يومًا: اجتزت بطرسوس فرأيت قبر المأمون شعثًا دراسًا، فغمني ذاك، فلو أمر الملك فيه بالعمارة لكان له فيه الجمال وحسن الأحدوثة! فقال لي: أحدثك بشيء ط ريف، رأيت القبر عند قصدي لهذا الملك وأردت أن أحثه على هذه المكرمة، واعتزمت يومًا على ذاك، وابتدأت لأذكر محاسن المأمون وآثاره الجميلة التي تحث مثل هذا الملك على ما رمته منه في معنى قبره، فلم تق خطيئة أو غلطة أو نادرة، من قبيح المأمون إلا أوردتها، وهو يضحك ويستهزئ، فتعذر علي ما أردته من قصدي، وأمسكت على ذاك، ولم يبق لي سبيل إلى ما أردته فيه، ورأيت في منامي في تلك الليلة كان المأمون يقول لي: لا أحسن الله جزاك عني، محاسني وأفعالي الجميلة قد طبقت الأرض فما ظفرت منها بحكاية ولا خبر ولا حديث قبحك الله! فانتبهت منزعجًا، وبقيت مما اتفق لي متعجبًا!.
1 / 27