بسم الله الرحمن الرحيم
ربّ أعنْ
قال الشيخ الأجل محمد بن هلال بن المحسن بن إبراهيم المعروف بالصابئ: الحمد لله رب العالمين، وصلواته على محمد النبي خاتم المرسلين، الذي انتخبه ربه تعالى للرسالة يؤديها، يوضحها ويبديها، صلاة يزكو لديه عرفها وطيب، ويورق في دوحته عودها الرطيب، كما صدق فيما حكى، وحقق فيما أدى، واحتمل الأذى وأغمض على القذى طاعة منه لمولاه، وصبرًا على ما ابتلاه، وحرصًا على صلاح الأمة، ورضى بما لاقى في ذلك من المذلة، حتى أظهر الدين منشورة بنوده، منصورة جنوده، طالعة سعوده، ساطعة جدوده، ولم يزل معه ربه إلى أنت طبقت الأرض شرقًا وغربًا دعوته، وعمت الخلق عجمًا وعربًا بركته، ضاعف الله تعالى في تلك الدار الخيرات، وأسبغ عليه السعادات، وأجزل قسمه من الزلفات، وحظه من رفيع الدرجات، بمنه ومجده.
وكنتَ جاريتني من الهفوات الجارية على ألسن المتحفظين المتحررين، والسقطات الآتية من الغارين الغافلين وما أشبه ذلك من المقالات وطرف الاتفاقات طرفًا استطرفناه وحديثًا استغربناه، واتفق أن لحقني منه ما صدق العجب والاستطراف، ونالني فيه من الخجل والحياء ما بلغ الإفراط والإسراف، فعلمت على جمع ما ندر من ذلك وإن كان قليلًا معلومًا، وضم ما تفرق منه إن كان علمًا مأمومًا، وأضفت إليه قطعة من أخبار المغفلين المحظوظين والجهال المرزوقين، فإنها جارية في أسلوبه، وشبيهة بمقصوده، إحماضًا لقاريه، وتنبيهًا له على قدر نعمة، اله تعالى عنده وفيه، والله تعالى ولي التوفيق والتسديد.
١ - فأول ما أبدأ به ما خصني منه، وهو أنني كنت جالسًا وإلى جانبي أبو سعد القادسي أحد المتفقهين المتشدقين، وجرى ذكر بعض ثقلاء الزمان المتعسفين فقلت مسرعًا متبرعًا: إنه يشبه ابن القادسي فيما يتعاطاه مما يتجاوز فيه الصواب ويتخطاه! ثم استيقظت من رقدة زلتي، وانتبهت لهفوتي، فالتفت إليه عجلًا وقلت له مسرعًا وكان له أخ بالحمق مشهور وبالهذيان معروف، وهو بذاك عالم، وله دائمًا عليه لائم: اعلم أيها السيد أن أخاك يسمع من الألفاظ الأديبة، ذات المعاني الغريبة ما لا يفهمه، ويجب أن يستعمله، وعنده أن ذلك ورد يرده الواردون من غير تعب، ويورده الموردون من غير أدب، فيصدر عنه الكلام المستعجم، وتصير أغراضه ومعانيه لا تفهم، فنحن نضرب به الأمثال، هذاء يورده بوجه وقاح غير حيي، وخاطر لفاح غير وني فقال لي: والله العظيم إنني لألومه على فعله دائمًا، وأمنعه منه دائبًا، وأعلم أن الأقوال تكثر فيه، وتزري عليه، وهو على ما عمت من الجهل الذي يورده ولا يصدره، ويحسن له ما يقوله ويذكره! فحين شاهدته قد تحقق قولي ورضيه، ولم يخطر بقلبه ما يغضبه ويؤذيه، أتتني فرجة اقتحمتها، ولحقتني فرحة ما احتبستها.
٢ - وحدثني الوزير فخر الدولة أبو نصر محمد بن محمد بن جهير قال: حضر رسل نصير الدولة أبي نصر بن مروان الكردي أمير آمد وميافارقين وأعمالها عند معتمد الدولة أبي المنيع قرواش بن المقلد أمير بني عقيل، يستحلفونه على معاهدة بينت، ومعاقدة قررت، وفيهم المنازي الشاعر فلما حلف معتمد الدولة أنشد المنازي:
كلفوني اليمينَ فارتعتُ منها ... كي غروا بذلك الارتياعِ
ثم أرسلتها كمنحدرِ السَّي ... لِ تهادى من المكانِ اليفاعِ
قال له قرواش: يا ويلك قبحك الله وقبح ابن مروان، ما هذا الكلام! وبدا الشر في وجهه، وكاد يكون ذلك اليوم آخر أيام المنازي من عمره، فبدأ المنازي باليمين الغموس أنه أنشد ما أنشد عن سهوٍ لا عن روية، وباتفاق سوء لا عن قصد ونية، فتحقق ذلك قرواش وصدق قوله، لأنه ممات لا يقدم عليه مثله، فأغضى وعفا، عما غلط فسه وهفا.
٣ - وحدثت عن بعض المغنين قال: حضرت عند شرف الدولة أبي المكارم مسلم بن قريش أمير بني عقيل يومًا أغنية، وجرى حديث عميد الملك أبي نصر الكندري ﵀ وزير طغرل بك، فذكرت من محاسنه وما كان يستعمله معي ومع أمثالي من العطاء الذي مولنا، والإنعام الذي خولنا، طرفًا قويًا أسرفت فيه وزدت قصدًا لتحريك مسلم لمثله، ثم انتهت نوبة الغناء إلى حيث انتهى ذكري لعميد الملك وترحمي عليه، فضربت وغنيت:
قواصد كافورٍ توارك غيره ... ومن قصدَ البحرَ استقلَّ السواقيا
1 / 1
فقال لي مسلم: قبحك لله ما هذه المعاشرة! فاستيقظت لغفلتي وحلفت أنني لم أقل ما قلته عن نية فيه ولا عزمٍ عليه، إلا بحسب ما اتفق لي وعرض على قلبي، وخفت بادرة شره، فكفي الله تعالى وأمسك عني.
٤ - وكان عبد الله بن حسن بن حسن يساير أبا العباس السفاح يومًا بظهر مدينة الأنبار، وهو ينظر إلى مدينته التي بناها هناك، ويريه أبنيته فيها، ويعجبه بها، فأنشد عبد الله:
ألم تر مالكًا أضحى يبني ... بناءً نفعهُ لبني بقيلهْ
يؤمل أن يعمَّر عمرَ نوحٍ ... وأمرُ الله يأتي كلَّ ليلهْ
فتبسم السفاح كالمغضب وقال: لو علمنا لاشترطنا حسن المسايرة، فقال عبد الله: يا أمير المؤمنين، بوادر الخاطر وإغفال المشايخ فقال: صدقت، خذني في غير هذا، وأنشد السفاح:
أريدُ حياته ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مرادِ
٥ - وذكروا المدائني أن عيسى بن موسى بيننا هو يساير أبا مسلم يوم إدخاله على المنصور ووقوع الفتك به فيه إذا أنشد عيسى ابن موسى:
سيأتيك ما أفنى القرونَ التي مضتْ ... وما حلَّ في أكبادِ عادٍ وجرهم
من كان آبى منكَ عزًَّا ومفخرًا ... وأنهدَ للجيشِ اللهام العرمرم
فقال أبو مسلم: هذا مع الأمان الذي أعطيت، فقال عيسى: أعتقت ما أملك إن كان هذا الشيء من أمرك أضمرته، أو في الفك أجلته، بل خاطر أبداه لساني قال له: بئس الخاطر واله أبدى! ودخل على المنصور فأتاه ما أتى.
٦ - وحكى إبراهيم بن المهدي قال: لما اشتد حصار طاهرين الحسين للأمين أبي عبد الله خرج ذات ليلة من قصر الذهب إلى قصر القرا بقرب الصراة ووجه إلي فجئته فقال (لي): أما ترى طيب هذه لليل وحسن القمر وضوءه في دجلة والصراة؟ فقلت: إن الموضع لحسن فاشرب، فشرب رطلًا وسقاني رطلًا، وابتدأتن فغنيت بما يشتهيه علي، فقال لي: هل لك فيمن يضرب عليك؟ فقلت: ما أستغني عن ذلك؟ فدعا بجارية متقدمة عنده يقال لها ضعف، فتطيرت من اسمها، وقال لها: غني، فغنت بشعر النابغة:
كليبٌ لعمري كان أكثر ناصرًا ... وأيسر جرمًا منكَ ضرِّجَ بالدمِ
فاشتد ذلك عليه وعلي، ثم قال لها: غني غير هذا! فغنت:
أبكى فراقهم عيني وأرقها ... إن التفرُّق للأحبابِ بكاءُ
ما زال يعدو عليهم ريبُ دهرهمُ ... حتى تفانوا وريبُ الدهرِ عدَّاِءِ
فقال لها: لعنك الله، أما تعرفين غير هذا؟ فقالت: ما تغنيت إلا بما كنت تقترحه علي وتستدعي مني ثم غنت:
أما وربَّ سكونِ والحركِ ... إنَّ المنايا كثيرةُ الشركِ
ما اختلف الليلُ والنهارُ ولا ... دارتْ نجومُ السماءِ في الفلك
إلاَّ لنقل السلطانِ من ملك ... عانٍ بحبِّ الدنيا إلى ملك
وملكُ ذي العرش دائمٌ أبدًا ... ليس بفانٍ ولا بمشركِ
فقال لها قومي غضب الله عليك ولعنك! فنهضت وعثرت بقدح بلور حسن الصنعة فكسرته، فقال لي أما ترى! أظن أمري قد قرب، فقلت: بل يبقيك الله تعالى طويلًا، فسمعنا قائلًا يقول: "قضي الأمر الذي فيه تستفتيان" فقال لي: أما سمعت يا إبراهيم؟ فقلت: ما سمعت شيئًا وكنت قد سمعت، فلما كان بعد أيام (قلائل) قتل!.
٧ - وحكى الصولي قال: أمر الأمين أن يفرش له بساط على دكان في الخلد أيام الفتنة، فبسط وطرح عليه نمارق، وملئ من آنية الذهب المرصعة بالجوهر ومشام، المسك والعنبر بما ملأه، وبين يديه عشر مغنيات، فابتدأت واحدة منهن فغنت بشعر الوليد بن عقبة في عثمان ﵀:
همُ قتلوه كي يكونوا مكانهُ ... كما غدرتْ يومًا بكسرى مرازبهُ
فإلا يكونوا قاتليه فإنه ... سواءٌ علينا ممسكاه وضاربه
فتأفف ولعنها، وقال الأخرى: غني، فغنت:
من كان مسرورًا بمقتل مالكٍ ... فليأت نسوتنا بوجهِ نهارِ
يجدِ النساءَ حواسرًا يندبنُ ... بالليلِ قبلَ تبلجَ الأسحارِ
فزاد ضجره، ولعنها، وقل الأخرى: غني، فغنت:
كليبٌ لعمري كان أكثر ناصرًا ... وأيسرُ جرمًا منكَ ضرج بالدمِ
فنهض، وأمر بنقض الدكان تطيرًا بما جرى.
1 / 2
٨ - وعزم المأمون عند دخوله إلى بغداد على العبور إلى زبيدة والدة الأمين، ليعزيها به، فقدم إليها، من أعلمها ذلك، وعبر إليها فعزاها وأكثر البكاء معها، فقالت له: يا أمير المؤمنين إن دوائي وباب تسليتي في غدائك اليوم عندي، فأقام وتغدى، وأخرجت إليه من جواري الأمين من يغنيه، وسألته أن يأخذ منهن من يرتضيه، فأومى إلى واحدة إلى لتغني، فغنت وضرب الباقيات عليها:
همُ قتلوه كي يكونوا مكانهَ ... كما فعلت يومًا بكسرى مرازبهْ
فإلاَّ يكونوا قاتليه فإنّه ... سواءٌ عينا ممسكاهُ وضاربهْ
فوثب المأمون مغضبًا، فقالت له زبيدة: يا أمير المؤمنين حرمني الله أجره إن كنت علمتها أو دسست إليها به، فصدقها وعجب من ذلك.
٩ - وحدثني الرئيس الأجل أبو الحسين والدي قال: حدثني أبو إسحق إبراهيم بن هلال جدي قال: كنت بحضرة الملك عضد الدولة بن بويه بعد قتله عز الدولة أبا منصور بختيار ابن عمه، في مجلس أنس، وكانت مشعلة الثقيلة وظلوم الشهرامية قد حضرتاه، فابتدأت مشغلة، وكانت المقدمة عليها عنده فغنت:
أيا عمرو ولم أصبرْ ولي فيكَ حيلةٌ ... ولكن دعاني اليأسُ منكَ إلى الصبرِ
سأصبرُ محزونًا وإني لموجعٌ ... كما صبر العطشانُ في البلد القفرِ
فظن أنها عرضت بعز الدولة بختيار، فأعرض عنها، وغاظه ذاك منها، وأقل الحفلَ بغنائها مع أنها واحدةُ زمانها، وأخذتُ أطريها فلا يرعيني سمعًا فيها، ثم غنت ظلومُ بعدها:
سيسليك عما فات مقبلٍ ... أوائلهُ محمودةٌ أواخره
ثنى الله عطفيه وألف شخصه ... على الجود مذ شدت عليه مآزره
فتهلل وجهه، وطرب وشرب واستعاد الصوت، وقال لي: يا أبا إسحق، هذا الغناء، ولم يكن بين المرأتين تقارب، قال أبو إسحق: فما أدري كيف اتفق ذلك على مشغلة وأن غنت ظلوم بعدها ما غنت، فإن كان عن نية من ظلوم وعمدٍ فما قصرت، أو اتفاق فقد وفقت!
١٠ - وكان العلاء بن الفيروزان يومًا على طعامه، ومعه بعض الرؤساء، فقدم جدي، فأنشد العلاء:
من كان يعجب الجداءُ الرضعُ ... من غير حاصله فلم لا يصفعُ
فرفع الرجل يده ونهض، وقال: أما أنا فما يعجبني! فاعتذر العلاء إليه، وحلف أنه لم يقصد ما أنشد، وإما جرى لسانه بما لم يعلم، فتمم الرجل نهوضه ولم يعد، والحق العلاء من الخجل ما ترك الأكل معه ونهض.
١١ - وروي شقير الخادم أنه كان مع المأمون في بلاد الروم، قال: فصاح بي ليلة وقال لي: ويلك من هوذا يغني؟ فقلت: ما يغني يا مولاي أحدٌ، قال: امض وتحسس، فمضيت إلى دار الحرم، وتحسست فلم أسمع شيئًا، فعدت إليه فأعلمته، فقال لي: ويلك! بلى والله إنه ليغني بشيء قد حفظته وهو:
ألم تعجب لمنزلةٍ ودورِ ... خلتْ بين المشقر والحرور
كأنَّ بقيةَ الآثار فيها ... بقايا الخط! ِ من قلمٍ من قلم الزبور
واعتلَّ في اليوم الثالث من هذا ومات.
١٢ - وقال إبراهيم بن المهدي: رأيت في منامي كأن قليب جارية الرشيد على منبر رسول الله ﷺ وفي يدها عود وهي تغني:
سوف يأتي الرسولُ من بعد شهرٍ ... بنعي الخليفةٍ المأمونِ
فجاء نعيه بعد شهر!
١٣ - وحدث محمد بن العباس اليزيدي قال: حدثني عمي عن أخيه أحمد بن محمد قال: لما فرغ المعتصم من بناء قصره بالميادين الذي كان للعباسية، جلس فيه وجمع أه بيته وقومه وأصحابه ومواليه، وأمر الناس أن يلبسوا الديباج ويدخلوا عليه، وجعل سريره في أفيوان المنقوس بالفسافا الذي كان في صده العنقاء، فجلس على سرير مرصع بأنواه الجوهر، ووضع على رأسه التاج الذي فيه الدرة اليتيمة، وفي الديوان الأسرة عن يمينه وشماله من حد السرير إلى باب الإيوان فكلما دخل رجل رتبه وهو بنفسه في الموضع الذي يراه، فما رأى الناس أحسن من ذلك اليوم، فاستأذنه إسحق بن إبراهيم في النشيد فأذن له، فأنشد شعرًا ما سمع الناس أحن منه وفي صفته وصفة المجلس، إلا وأن أوله تشيب بالدار المتقدمة ونعته إياها، فكان البيت الأول منه:
يا دار غيرك البلى فمحاكِ ... يا ليتَ شعري ما الذي أبلاكِ
1 / 3
فتطير المعتصم، وتغامر الناسُ على إسحق، وتعجبوا كيف ذهب مثل هذا عليه مع فهمه وعلمه وطول خدمته للملوك! قال: فأقمنا يومنا وانصرفنا، وما عاد منا اثنان إلى ذلك المجلس، وخرج المعتصم إلى سر من رأى، وخرب القصر.
١٤ - وحدث حمدون بن إسماعيل قال: ما كان الخلفاء أحلم من الواثق ولا أصبر على أذى وخلاف، وكان يعجبه غناء أبي حشيشة الطنبوري، فوجد المعروف بالمسدود المغني من ذلك حسدًا، وهجا الواثق بيتين، وكانا معه في رقعة، واتفق يومًا أن كتب رقعة إلى الواثق في حاجة له، وأراد تسليمها إليه، فغلط منها إلى الرقعة التي تتضمن الهجاء، فسلمها إلى الواثق فقرأها، وفيها:
من المسدودِ في الأنفِ ... إلى المسدودِ في العينِ
أنا طيلٌ له شقٌّ ... فيا طبلًا بشقينِ
وكان الواثق على إحدى عينيه فص وإلى ذاك نحا المسدود، فلما قرأها علم أنها فيه، فقال له للمسدود: قد غلطت من رقعة الحاجة التي سألتها إلى هذه الرقعة، فاحترس من مثل هذا! وردها إليه، فو الله العظيم ما زاده على هذا القول شيئًا، ولا تغير له عما كان عليه، وكان يحب أن يتشبه بالمأمون في أفعاله.
١٥ - وذكر أحمد بن يحيى البلاذري قال: أقبل المتوكل يومًا فقام الناس إليه من بعيد، ولم يقم المنتصر ابنه حتى قرب منه، فاغتاظ المتوكل وجرى على لسانه:
همُ سمنوا كلبًا ليأكلَ بعضهمْ ... ولو علموا بالحزمِ ما سمَّنوا الكلبا
فلم يبعد أن قتله المنتصر بعد ذلك.
١٦ - وانحدر المستعين من سر من رأى إلى بغداد أيام الفتنة مع الأتراك التي آلت إلى إمامة المعتز وخلع المستعين وقتله، واستصحب معه محمد بن الواثق، وأغفل أن يأخذ المعتز والمؤيد معه، فلما نزل المستعين ببغداد على محمد بن عبد الله بن طاهر قال له محمد: يا أمير المؤمنين أين المعتز والمؤيد؟ فقال له: بسر من رأى، قال محمد فجرى على لساني أن قلت شعر زهير:
أضاعت فلم تغفر لها غفلاتُها ... فلاقتْ بيانًا عند آخر معهدِ
دمًا حول شلوٍ تحجل لطَّير حولهُ ... ويضعٍ لحامٍ في إهابٍ مقدَّد
فعلمت أن أمر الرجل مدبرٌ بتركه هذين الرجلين بسر من رأى، وبما جرى على لساني من التمثيل.
١٧ - وكان بالبصرة مغنية تسمى فضلة، وتقلب خيط البرادة، وجذرها خمسة دنانير في كل ليلة، وكانت مفرطة في الجمال وطيب الغناء، وتقلب القاف كافًا في كلامها، فحكت أنه دعيت لأمير من أمراء البصرة، فلما حصلت عنده ابتدأت فغنت:
وما لي لا أبكي وأندبُ ناقتي ...
فجاء بكلامها: "أبكي وأندب ناكتي"، فتطير الأمير من قولها وقال: قدر وزنًا لك خمسة دنانير وأحضرناك لما يحضر مثلك له، فإذا كنت تبكين، وتندبين ناكتك فما نريد مقامك عندنا، وصرفها! قالت: فخجلت أتمَّ خجل واستحييت أعظم حياء، وانصرفت خزيانة.
١٨ - وحكت أنها ابتيعت للمتوكل، وحملت من البصرة إلى سر من رأى، قالت: فكنت أعلم آداب خدمة الخلفاء طول طريق، لأجل جهلي ونشوئي في خدمة العوام والسفهاء، فلما عدت إلى دار المتوكل وقع علي من التهيب والخوف ما أنساني جميع ما علمت ولقنت، وخلعت مداسي في بعض الحجر، وحملت إلى طرز عظيم، في صدره دست مضروب، فحين رأيت الدست صعدت على ما جرت العادة لي به في الختانات والأعراس، فقعدت إلى جانب الدست ساعة، ثم خرج غلام أسمر مليح الوجه، عليه قميص قصب مذهب وعمامة خفيفة مذهبة، وبين يديه خادم، فلما قرب قمت ولا أعفه، لكنني أظنه بعض أصحاب المتوكل، فقال: اقعدي، وجلس في عتبة الطرز، وجيء بمخدة، فجعلها خلفه، ثم دخل غلام شاب أملح منه، فقبل الأرض وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، ورحمه الله وبركاته، فعلمت حينئذٍ أنه المتوكل، فقمت هاربة من مكاني، فردني وأمرني بالجلوس حيث كنت أولًا جالسة ففعلت، وأجلس ذلك الرجل وهو الفتح بن خاقان مقابلي من الطرز، ثم قال: ما اسمك؟ قلت: فضلة، قال: ما لقبك، وقلت: خيط البرادة، فضحك ثم قال: بم تغنين؟ قلت: بالعود، فأمر بإحضار عود، فأحضر الخادم خريطة ديباج فيها عود، من عود فسلمه إلي فأصلحته وغنيت:
ما نقموا منْ بني أميَّةَ إل ... لا أنهم يحلمون إنْ غضبوا
وأنهم سادةُ الملوكِ فما ... تصلحُ إلاَّ عليهمُ العربُ
فتغير لونه وقال: غني غير هذا، لعنك لله؟ وأنا لا أعلم ما في ذاك، فاندفعت فغنيت:
1 / 4
أعني ابن ليلى عبد العزيز بيا ... بليون تغدو جفانه رذما
الواهب البختَ والولايدَ كال ... غزلانِ والخيلَ تعلكُ اللجما
طرب له طربًا شديدًا، واستعادة مرارًا، ثم التفت إلى الفتح ابن خاقان لمن هذا الشعر وفيمن قيل؟ فقال: هذا لكثير عزة في عبد العزيز بن مروان أخي عبد لملك بن مروان، فغضب أشد من الغضب الأول، وقال: يا خدم خذها فعلقها في خيط البرادة مشدودة بالشادوفة، ثم دخل غلام شاب ظريف، في يده عود، فجلس بين يديه وغنى:
أقبلي فالخيرُ مقبلْ ... ودعي قولَ المعلَّلْ
وثقي بالنجحِ إذْ أب ... صرتِ وجهَ المتوكلْ
ملك ينصفُ ياظا ... لمتي منكِ ويعدلْ
فهو الغايةُ وألمأُ ... مولُ يرجوهُ المرملِّ
فرفع المتوكل رأسه إلي وقال لي: كذا ويغني الناس! والله العظيم لا نزلت من مكانك حتى تحفظيه وتأخذيه عنه وتغنيه فما زال الغلام يردده حتى كحفظته ولقنته، وحططت فغنيته.
١٩ - وذكر أن مغنية كانت تغني بين يدي المهدي، فغنت:
ما نقموا من بني أمية إل ... لا أنهم يسفهون إنْ غضبوا
فقيل ها: غلطت في شيء تخلص له! فقالت: لا والله ما غلطت، وإنما بدأت بالبيت وعرفت غلطي بغنائي فيه، فاستدركته وأصلحته بما سمعتهم، ولم أرجع عنه ولم أورده على وجهه فيثقل على المهدي سماعه.
٢٠ - وحكى الربيع أن المنصور أحضر أحد بني أمية يومًا إلى حضرته، فوبخه على فعلهم، وعدد ما حضره ما مساويهم وقبيحهم توبيخًا لم يشك الرجل أن السيف بعده، فامتقع لونه وكان أن يقتله خوفه، ثم أن المنصور رجع عن ذلك القول إلى الصفح عنه وإيمانه، فقلت له قليلًا قليلًا: قد وهبك أمير المؤمنين فأشكره وأدع له! فقال الرجل بإنذعاره وانزعاجه:
فما بقيا عليَّ تركتماني ... ولكن خفتما صرد النِّبالِ
واتفق لسعادته أن لم يسمع المنصور قوله، ورد عليَّ ما حيرني وأدهشني، فأما الرجل فلم يدر ما قاله لسانه لزوال عقله عنه ومفارقة لبه له، فقال لي المنصور: ما قال فقلت: قال:
العبدُ عبدكمُ والأمرُ أمركم ... فعل عذابكَ عنّي اليومَ مصروفُ
فقال: لعل في أذنه ثقلًا، ولم يسمع ما قلناه في العفو عنه وهبة دمه، فلأعلمه ذلك واصرفه، فلت له (في) ذلك واجب، مما سمعه المنصور، صرفته، ثم حدثه من بعد بما كان منه فانذعر له، وحلف أنه لا يدري ما قاله، وقال: قد حقنت دمي بحسن تلطفك بعد أن أراد أن يطيح بسوء الاتفاق ويكون لساني القاتل لي!
٢١ - وحكي أن امرأة وقفت للمأمون على الطريق وقد تحفظت كلامًا، سجعته ورتبه لتدعو له وبه وتستميحه فيه، فانقلب لسانها بالدعاء عليه على السجع الذي رتبته وهيأته، فعلم المأمون أنها غالطة، فقال: الله يفعل بنا ما نويته لا ما أبديته، اقضوا حاجتها.
٢٢ - وكان شاعر يعرف بالدلو يخدم بني عبد الرحيم في سني نيف وعشرين وأربعمائة، وهم وزراء لوقت، وله فيهم مدائح، ولهم إليه إياد ومنائح، وهو بهم مختص، ومعهم منتصر، فاتفق أن صعد يومًا من سفينة وهو سكران، وأبو سعد بن عبد الرحيم الوزير الأكبر منه قد لبس خفًا وإزارًا إلى دجلة هاربًا من العسكر، فقال الدلو بسكره، غير عالم ولا عامد، بل بخاطر عن له عابث، شعرًا هو:
سري يخبط الظلماء والليلُ عاكفُ ... وزيرٌ بأوقاتِ التسلل عارفُ
وقصده بيده فيما أبداه، فلم يشك أبو سعد بن عبد الرحيم أنه عرفه وعناه، نزل إلى سميرة، انحدر فيها إلى حريم دار الخلافة، ثم عاود العبور والنظر بعد أيام، وجاءه الدلو بقصيدة يمدحه فيها، فمنعه من إنشادها واستخف به، وقال له: ويلك قد عاملناك بالجميل الذي لا تجحده، واستخلصناك لأنفسنا الاستخلاص الذي لا تنكره، فلم تصلح لنا ساعة من نهار وقفت لنا فيها على سر من الأسرار! لا فائدة لنا في الإقبال عليك والالتفاف إليك، وانصرف عنا معدًا، فقال له: ما معنى هذا القول أيها الوزير، وأي سر عندي لك، ومتى كتبت بهذه المنزلة منك! فقال له: ويلك أما رأتني في اليوم الفلاني على الصورة الفلانية فقلت كذا وكذا؟
1 / 5
فقال: والله العظيم الرحمن الرحيم ما أدري ما يقو الوزير ولا أفهمه ولا عندي علم منه، فلا تجعل لي ذنبًا تبعدني به! فقال: يلك أحقًا تقول؟ فحلف بالله تعالى وبالطلاق على صحة قوله وبطلان ما ظن فيه، فاستطرف أبو سعد لك استطرافًا شديدًا، واستغربه كثيرًا، وكان يحدث به دائمًا.
٢٣ - ولما قصد المتنبي عضد الدولة أبا شجع بن بويه بفارس ممتدحًا له جلس له ووصله، فأول ما بدأ بإنشاده:
أوه بديلٌ من قولتي وسها ... لمنْ نأتْ والبديلُ ذكراها
فقال عضد الدولة أوه! وطعنه وتطير من ابتدأئه.
٢٤ - وحكى الصاحب أبو القاسم إسماعيل بن عبد قال: ذكر يومًا أبو الفضل محمد بن الحسين بن العميد الشعر فقال يحتاج الشاعر إلى حسن المطالع ورونق المقاطع، فإن فلانًا أنشدني في يوم نوروز قصيدة من كلامه أولها: "بقبر وما .. " فتطيرت من افتتاحه بذكر القبر، فتنغصت باليوم والشعر، فقلت له: كذا وكانت حالة أبي مقاتل مع الداعي لما امتدحه بقوله:
لا تقل بشرى ولكنْ بشريان ... غرَّة الداعي ويوم المهرجان
فإنه نفر من قوله "لا تقل بشرى" أشد نفار، وقال: أعمى ويبتدئ بهذا القول في مثل هذا اليوم!
٢٥ - وأنشد الصاحب أبو القاسم إسماعيل بن عباد عضد الدولة رقصيدة مدحه بها، فلما انتهى إلى قوله:
ضممتَ على أبناء تغلب تاءها ... وتغلب ما كرَّ الجديدان تغلبُ
فتطير عضد الدولة من قوله (تغلب) وقال: نعوذ بالله وتيقظ الصاحب لهفوته فامتقع لونه، ولم يظهر تهيأ لما كان معه.
٢٦ - وأضاف تغلبي طائيًا، فلما قدم إليه طعامه أنشد الطائي بيت جرير في الأخطل:
والتغلبي إذا تنحنحَ للقِرى ... حكَّ أستهُ وتمثَّلَ الأمثالا
واسترجع الطائي وعلم أنه على طعام، وفي ضيافة تغلبي، فرجع عن الطعام، فقال له التغلبي: عاود كعامك فإنما قلت ما قيل! قال: لا والله فإني استحيي أن أضع طعامك بحيث سمعتَ منه ما كرهتَ! ورحل عنه خجلًا عجلًا!.
٢٧ - ونزل أبو عبد الله بن الجصاص الجوهري يومًا مع الخاقاني الوزير في زبزبه، وفي يده بطيخة (فيها) كافور، فأراد أن يعطيها الوزير يبصق في دجلة، فبصق في وجه الوزير ورمى بالبطيخة في دجلة، فارتاع الوزير واشتغل بغسل وجهه مما أصابه، وانزعج ابن الجصاص وتحير لما شاهده من سوء فعلة وشدة تخلفه، فقال: والله العظيم أيها الوزير لقد أخطأت وغلطت، أردت أن أبصق في وجهك وأرمي بالبطيخة في دجلة! فقال: له الوزير: كذاك فعلت يا جاهل! فغلط في الفعل وأخطأ في الاعتذار.
٢٨ - ودخل الأخطل على عبد الملك بن مروان فاستنشده، فقال: قد يبس حلقي فمر من يسقيني فقال: اسقوه ماء، فقال: شراب الحمار، وهو عنده كثير! قال: أسقوه لبنًا، قال: عن اللبن فطمت! قال: فأسقوه عسلًا، قال: شراب المريض! قال: فتريد ماذا؟ قال: أريد خمرًا يا أمير المؤمنين، قال: ويلك أعهدتني أسقي الخمر لا أم لك، لولا حرمتك بنا لفعلت بك وعلت، فخرج فلقي فراشًا لعبد الملك، فقال له: ويلك إن أمير المؤمنين استنشدني، وقد صحل صوتي، فاسقني شربة خمر، فسقاه رطلًا، فقال: أعد لي آخر، فسقاه آخر، فقال له: تركتهما يعتركان في بطني، اسقني ثالثًا فسقاه ثالثًا، فقال: تركتني أمشي على واحدة أعدل ميلي برابع، فسقاه رابعًا، ودخل على عبد الملك فقال:
خف القطين فراحوا منك أو بكروا
فقال له عبد الملك: لا بل منك، فتطير من قوله، وعلم الأخطل خطأه فراجع وأنشد:
خفَّ القطينُ فراحوا اليومَ أو بكروا
ومر في القصيدة فلما بلغ إلى قوله:
شمسُ العداوةِ حتَّى يستقاد لهمْ ... وأعظمُ الناسِ أحلامًا إذا قدروا
فقال عبد الملك: يا غلام خذ بيده فأخرجه ثم ألق عليه من الخلع ما تغمره به، ففعل.
٢٩ - وذكر إسحق بن إبراهيم الموصلي قال: دخلت يومًا على الواثق وهو مصطبح فقال: غني يا إسحق صوتًا غريبًا لم أسمعه منك حتى أكون عليه بقية يومي مسرورًا، فكأن الله أنساني الغناء كله إلا هذا الصوت:
يا دارُ إن كان البلى قد محاكْ ... فإنَّه يعجبني أنْ أراكْ
أبكي الذي قدْ كان لي مألفًا ... فيكَ فآتي الدارَ من أجلِ ذاكْ
قال: فتبينت الكراهة في وجهه، وندمت على ما فرط مني، وتجلدت، وشرب رطلًا كان في يده، وعدلت عن الصوت إلى غيره، وكان والله ذلك اليوم آخر جلوسي معه.
1 / 6
٣٠ - وروى أنا أبا النجم العجلي ورد على هشام بن عبد الملك في الشعراء فقال له هشام: صفوا إبلًا فقبطوها، وأصدروها حتى كأني أنظر إليها، فأنشدوه، وأنشد أبو النجم العجلي قصيدته:
الحمدُ لله الوهوب المجزل ... أعطى فلم يبخل ولم يبخلِ
حتى بلغ إلى ذكر الشمس فقال:
وهي على الأفقِ كعينِ الأحولِ
ولم يقل (الأحول) وقطع البيت، وأرتج عليه، فقال له هشام: أتمم ويلك! فقال: (عين الأحول) وأتم القصيدة، فأمر هشام بوجء عنقه وإخراجه من الرصافة، وقال لصاحب شرطه: يا ربيع إياك وأن أرى هذا! فكلم وجوه الناس الربيع في أمره وأن يقره، ففعل، وكان أبو النجم متخفيًا، يأوي (إلى) المساجد، ويصيب من فضول أطعمة الناس على المزابل، فاهتم هشام ليلة، وأراد محدثًا يحدثه، فقال الخادم له: أبغني محدثًا أعرابيًا شاعرًا يروي الشعر، فخرج إلى المسجد فإذا هو يأبى النجم، فضربه برجله وقال: قم وأجب أمير المؤمنين! قال: إني رجلٌ أعرابي غريب، قال: إياك أبغي، هل تروي الشعر؟ قال: نعم وأقوله، فأقبل به حتى أدخله القصر، وأغلق الباب! قال: فأيقنت بالشر، ثم مضى به وأدخله على هشام وهو في بيت صغير، بينه وبين نسائه ستر رقيق، والشمع يزهر بين يديه، فلما دخل قال له هشام: أأبو النجم: قال: نعم يا أمير المؤمنين طريدك، قال: اجلس، وسأله فقال: لمن كنت تأوي وأين منزلك؟ فأخبره، قال: ومالك من الولد؟ قال: ثلاث بنات وبني اسمه شيبان، وقال: وكيف اجتمعوا لك، وهل زوجت منهن أحدًا؟ قال: نعم زوجت اثنتين وبقيت واحدة تجمز في أبياتنا كأنها نعامة، وقل: وما وصيت به الأولى؟ وكانت تسمى برة فقال:
أوصيتُ منْ برةَ قلبًا حرًا ... بالكلب خيرًا والحماةِ شرًا
لا تسأمي شربًا لها وجرًا ... حتَّى ترى حلوَ الحياة مرًا
وإن كستكِ ذهبًا ودرًا ... والحيَّ عميهم بشرِّ طرًا
فضحك هشام وقال: ما الذي قلت للأخرى، قال: قلت:
سبِّي الحماةَ وابهتي عليها ... وإنْ دنتْ فازدلفي إليها
وأوجعي بالفهرِ ركبيتها ... ومرفقيها واضربي جنبيها
قال: فضحك حتى بدت نواجذه وسقط على قفاه، وقال: ويحك ما هذه وصية يعقوب لولده، فقال: ولا أنا كيعقوب، قال: ما الذي قد قلت: في وصيتك للثالثة؟ قال: قلت:
أوصيكِ يا بنتي فإني ذاهبُ ... أوصيكَ أن تحمدكَ القرائبُ
والجارُ والضيفُ الكريم السَّاغبُ ... لا يرجع المسكينُ وهو خائبُ
ولا تني أظفاركِ السَّلاهبُ ... في الزوجِ إنَّ الزوجِ بئس الصاحبُ
قال: وما قلت ف تأخير تزويجها؟ قال: قلت واسمها ظلامة:
كأنَّ ظلامةَ أختَ شيبانْ ... يتيمةٌ ووالدها حيَّانْ
الرأسُ قملٌ كله وصئبانْ ... وليس في السَّاقين إلاَّ خيطان
تلك التي يفزع منها الشيطانْ.
فضحك هشام حتى ضحك النساء لضحكه وقال للخادم: كم بقي معك من نفقتك؟ قال: ثلاثمائة دينار، فقال: أعطه إياها فيجعلها في رجل ظلامه مكان الخيطين! وكان أبو النجم أسرع الشعراء بديهةً.
٣١ - وحكى عبد الله بن طاهر قال: حدثني من شهد لمأمون مع جماعة يتراءون هلال شهر رمضان، وأبو عيسى أخوه معه، وهو مستلقٍ على قفاه، فرأوا، وجعلوا يدعون للمأمون، فقال أبو عيسى قولًا أنكره عليه المأمون في التسخط لورود شهر رمضان، فما صام بعده، وقيل إنه قال:
دهاني شهرُ الصَّومِ لا كان من شهرِ ... ولا صمتُ شهرًا بعدهُ آخرِ الدهرِ
فلو كانَ يغنيني الإمامُ بقدرةٍ ... على الشَّهرِ لاستعديتُ جهدي على الشهرِ
ومات قبل ورود السنة الثانية.
٣٢ - وروي أن المأمون امتنع من النوم عند وفاة أبي عيسى أخيه، فدخل عليه أبو العتاهية فقال له المأمون: حدثني بحديث بعض الملوك ممن كان في حالنا، يا أمير المؤمنين لبس سليمان بن عبد الملك بن مروان أفخر ثيابه، ومس أطيب طيبه، وركب أفره دوابه، وتقدم إلى جميع من معه بأن يركب في زيه وسلاحه، ونظر في مرآته فأعجبه هيئته وحسنه، فقال: أن الملك الشاب! ثم قال لجارية له: كيف ترينني؟ فقالت:
أنتَ نعمَ المتاعُ لو كنتَ تبقى ... غيرَ أن لا بقاءَ للإنسانِ
أنت خلوٌ من العيوبِ ومما ... يكرهُ الناسُ غيرَ أنك فانِ
1 / 7
فقال له: ويلك ما أنشدت؟ فقالت: والله ما أعلم، غير أن لساني نطق بما سمعت، فأعراض بوجهه وتطير من قولها، وعلمت الجارية بزلتها فاستطار عقلها، ولم تدر عليه الجمعة حتى حط ف قبره، فبكى الناس والمأمون، فما رئي أكثر باكيًا من ذلك اليوم، وهذان البيتان لموسى شهوات.
٣٣ - وحدث أبو نواس قال: جاء شاعر غث إلى زبيدة فامتدحها بقصيدة قل فيها:
أزبيدةُ ابنةَ جعفرٍ ... طوبى لزائركِ المثابِ
غطين منْ رجليكِ ما ... تغطى الأكفُ من الرِّغابِ
فهم الخدم به، فمنعتهم وقالت: إنما أراد الخير فأخطأ، ومن أراد الخير فأخطأ حب إلي ممن أراد الشر فأصاب، أعطوه ما أمل وتعرفوه ما جهل! قال أبو نواس: إنما أراد الشاعر أن يزيد على قول الآخر: "شمالك خيرٌ من يمين غيرك" فظن أنه إذا ذكر الرجلين كان أبلغ في المديح.
٣٤ - وقال دعبل بن علي: اجتمعنا ثلاثة من الشعراء في قرية تسمى (طهياثا) فشربنا يومنا ثم قلنا: ليقل كل واحدٍ منا بيتًا من الشعر في وصف يومنا، فقلت:
نلنا لذيذَ العيشِ في طهياثا
فقال الثاني:
لمّت حثثنا القدحَ استحثاثًا
فارتج على الثالث، وأعجلناه، فجاء على لسانه أن قال:
وامرأتي طالقةٌ ثلاثا!
ثم قعد يبكي وينتحب على تطلقه لزوجته، وقعدنا نضحك منه ونتعجب مما اتفق له.
٣٥ - ودخل أرطأة بن سهية المزني علي عبد الملك بن مروان، وكان قد أدرك الجاهلية، فرآه عبد الملك شيخًا كبيرًا، فاستنشده ما قاله في طول عمره:
رأيتُ المرءَ تأكلهُ الليالي ... كأكلِ الأرضِ ساقطةَ الحديدِ
وما تبغي المنيَّةُ حين تأتي ... على نفسِ ابن آدم منْ مزيدِ
واعلمُ أنَّها سكرُ حتَّى ... توفَّى نذرها بأبي الوليدِ
فارتاع عبد الملك، وظنَّ أنه عناه، وعلم ارطأة بسهوة وزلته فقال: يا أمير المؤمنين إني أكني بأبي الوليد، وصدقه الحاضرون، فسري عن عبد الملك قليلًا.
٣٦ - ومن طريف الاتفاق أنَّ سليمان بن عبد الملك كان من أشدِّ الناس غيرةً وكانت له جارية تسمى بعوان يجد فيها، وهي برسم سفره لشدة محبته لها، واتفق أن خرج في بعض السنين غازيًا، فنزل بدير البلقاء وأقام هو وحرمه فيه، ترك العسكر وحواليه، وكان معه فارس يعرف بسنان الكلبي، أحسن الناس وجهًا وغناءً وشعرًا، فزار قومٌ من بني عمه فأطعمهم وسقاهم، فقالوا: يا سنان ما أتمت ضيافتك! فقال: وكيف؟ قالوا: لأنك لم تغننا فتطربنا، فغناهم:
محجوبةٌ سمعتْ صوتي فارقها ... من خر الليل لمّا طلَّها السَّحر
تثني على جيدها ثنتي معصفرةٍ ... والحلي منها على لبّاتها حصرُ
في ليلة البدرِ ما يدري مضاجعها ... أوجها عنده أضوا أم القمرُ
لم يحجب الصَّوت أحراسٌ ولا غلقٌ ... فدمعها لطروق الصوتِ منحدرُ
لو خليتْ لمشتْ نحوي على قدمٍ ... تكادُ من رقةٍ للمشي تنفطرُ
فتفهم سليمان الصوت وقام مرعوبًا نحو عوان، فلما أحسست به وقد كانت سمعت الشعر أنشأت تقول خوفًا من سليمان:
ألا ربَّ صوتٍ جائني من مشوهٍ ... قبيحِ المحيَّا ناقصِ الأبِ والجدِّ
قصير نجادِ السَّيفِ جعدٍ بنانه ... إلى أمةٍ يدعى معًا وإلى عبدٍ
فلما دخل عليها وجدها نائمة في القمر، قد انحسر إزار أحمر كان عليها عن صدرها، وحليها يلمع في القمر على صدرها ونحرها، فلما رآها على الحال التي وصفها الشاعر تغير وارتعد، وقال لها، يا عوان والله لكأنه يراك وينعتك في شعره! والله لأقطعنه قطعًا، كانًا من كان، وخرج وكان على رأسها خصي فقالت له: إن لحقت سنانًا وحذرته وأنجبته فلك رقبتك وديته! فمضي الخضي وقد سبقت رسل سليمان إلى سنان وأحضرته بين يديه مكتوفًا، فقال له: من أنت ويلك؟ قال: سان الكلبي فارسك يا أمير المؤمنين، فأنشأ سليمان يقول:
تثكُ في الثكلى سنانًا أمهُ ... كانَ لها ريحانةً تشمَّه
وخاله يثكله وعمه ... ذو سفيةٍ حياتهُ تغمهُ
فقال سنان:
استبقي إلى الصَّباح أعتذر ... إنَّ لساني بالشرابِ منكسرْ
فارسك الكلبيُّ في يومٍ يكرْ ... فإنْ يكنْ أذنبَ ذنبًا أو عثرْ
فالسيد العافي أحقُّ من غفرْ
1 / 8
فقال: أما أني لا أقتلك، ولكن سأنكلك نكالًا يؤنثك من تفحلك، وأمر به فخصي، ومر بأن يخصى المخثنون في كل بلد، فسمي الدير دير الخصيان، فلا يعرف إلا به!.
٣٧ - وصف ذو الرمة وهو غلام بالبادية لعبد الملك بن مروان، وذكر له جودة شعره فأحب أن يراه، فتقد بإحضاره وأنفذ وراءه من استحضره، فلما دخل عليه قال له: ما اسمك؟ قال: غيلان، قال: ابن من؟ قال: ابن عقبة، ونسبه فانتسب إلى مضر، واستنشده فأنشد قصيدة أولها:
ما بالُ عينيكَ منها الماءُ ينسكبُ ... كأنَّه من كلىً مفرية سربُ
واتفق أن كانت عينا عبد الملك تسيلان دائمًا فظن أنه عرض له، فغضب وقطع إنشاده وأمر بإخراجه، فسأل من بعد عن السبب فيما فعل به فأعلم ذاك وانزعج منه، استطرف سوء الاتفاق له، أقام حتى أذن للشعراء فدخل معهم، وأعاد القصيدة، وقد غير الموضع منها وقال:
لمياءُ في شفتيها حوَّةٌ لعسٌ ... وفي اللثاتِ وفي أنيابها شنبُ
كحلاءُ في برجٍ صفراءُ في دعجٍ ... كأنها فضةٌ قد مسَّها ذهبُ
فأجازه وأكرمه، وقال: لو أنها قيلت في الجاهلية لسجدت العرب لها!.
٣٨ - وكان طاهر بن عبد الله بن طاهر قد ولي خراسان بعد موت أبيه عبد لله بن طاهر، وكان أديبًا فاضلًا، قليل الرغبة في سماع الغناء، فحضره يمًا مغن عراقي موصوف بالحذق (والذكاء) فابتدأ يغني وجماعة جلساء طاهر وخواصه حضور:
شبَّ بالإثلِ من عزيزة نارُ ... أوقدتها وأينَ منكَ المزارُ
وكان اسم والدة طاهر عزيزة، فتغامز الحضور به، وأعلموه بهفوته، فانقطع وأمسك، فقال طاهر: ما له؟ فسكتوا، فقال: قد علمت سبب انقطاعه ليس يغني اليوم في مجلسنا إلا بهذا الصوت! فغني فيه يومه أجمع، وخلع عليه وأجازه.
٣٩ - وذكر عبد الصمد بن المعذل قال: كان خليلان الأموي يتغنى، ويرى ذلك زائدًا في مروءته وفتوته مع شرفه في قومه وسعة نعمته، فحضر يومًا عند عقبة بن سلم الهنائي الأزدي، وهو يومئذٍ أمير البصرة من قبل المنصور، وكان جبارًا عاتيًا، فلما طعما وخليًا، انظر خليلان إلى عودٍ موضوع في جانب البيت، فعلم أنه عرض له به، فأخذه وتغنى:
يا بنة الأزدي قلبي كئيبُ ... مستهامُ عندكم ما يؤوب
ولقد لاموا فقلت دعوني ... إن منْ تلحون فيهِ حبيبُ
فجعل وجه عقبة يتغير، وخليلانُ في غفة مما فيه عقبة، يرى أنه محسنٌ، ثم فطن لتغير وجهه، وعلم أنه قد غلط فيما تغنى به وذكر الأزدية فيهن فقطع الصوت وغنى مكانه:
ألا هزلت بنا قرشي ... ية يهتز موكبُها
فسري عن عقبة، فلم فرغ من الصوت وضع العود، وحلف إيمانًا أكدها على نفسه أنه لا يتغنى عند من يجوز عليه أمره.
٤٠ - وذكر أن بعض المغنين غنى عند الرشيد بشعر مدح به أخوه علي بن المهدي المعروف بابن ريطة، وهي بنت السفاح، وغناه المغني وهو لا يعرف قائله ولا من قيل فيه، وهو:
قل لعلي أيا فتى العرب ... وخيرَ نامٍ وخيرَ منتسب
أعلاك جداكَ يا عليُّ إذا ... قصر جدٌ في ذروة النَّسبِ
فتغير الرشيد تغيرًا شديدًا، واستفهم المغنى عن الشعر وقائله ومن قيل فيه، فوجده لا علم من ذلك شيئًا، فبحث عن أول من غنى فيه مكان عبد الرحيم الرقاص، فأمر به فضرب أربعمائة سوطٍ.
1 / 9
٤١ - وحدث القاضي أبو الحسن بن السيني قال: حضرت يومًا مجلسًا فيعه أبو يعلى ين كيكس كاتب منيع بن حسان الخفاجي ووزيره في سنة اثنتين وعرشني وأربعمائة بالجامعتين، وقد حضر هناك رؤساء لبلاد من سقي الفرات للسلام على منيع بن حسن وأبي يعلى بن كيكس، وكانا وردا من الشام، وحضر في جملة الأشراف الطالبين من الكوفة الزكي أبو علي عمر بن محمد بن السابسي، والزكي الآمر الناهي في الإقامات وترتيب الأمور، وبين يديه غلام يدعى بأبي يعلى بن عرس، فأخذ الزكي يقول له: ويلك يا أبا يعلى افعل كذا وامض في كذا، وينتهره ويستخف به استعجالًا له وحثًا فيما يستنهضه فيه ويستبطئه، ويقول: يا أبا يعلى يا فاعل يا صانع! فلما طال ذاك على أبا علي بن كيكس، لأجل موافقة كنيته لكنيته، قال له: أيها الشريف سأستخدم ليوم غلامًا كنيته أبو علي، واستخف به بحضرتك، مجازاة لك عن هذا الفعل منك! فاسترجع الزكي واستيقظ وقال: الله الله يا سيدنا، فو الله ما كان عن قصد مني بل بنسية، حضرتني! فضحكت الجماعة منه، ثم قال أبو يعلى: كان بخوزستان مير من أمراء الديلم بخصب لحيته، فحضر في مجلس فيه رجل من أكابر أصحاب الملك (أبي) كاليجار، ولذلك غلام خضيب، وكان يأمره وينهاه ويقول له: يا خر منحنى يا فاعل ويا صانع، ويا حر منحى، ومدبر منحوس، وما يشبه هذا القول، فنهض الديلمي مغضبًا وقال هذا تعريض بي قصد لي، وصار ذلك سبب عداوة تأكدت بينهما واستحكمت معهما.
٤٢ - وكان بالأهواز شيخ جلل ومتقدم كبير وذو نعمة ظاهرةٍ وحال زائدة يعرف بأبي إسحق بن هرون، فحدثني أبو سعد ابن سعدان العطار عنه قال: نفق له حمار مصري من مراكبه، وحضر عنده جماعة توجعوا له، وعزوه به، فتبرمك هم وبما واصلوه في ذاك قولهم، فقال لهم: أما مات حمار قبلي قط حتى انقلبت بي! أراد: ما مات لأحد حمار قبلي، فضحكوا وأمسكوا.
٤٣ - وحدثني أبو سعدٍ قال: رأى أبو إسحق يومًا خادمًا راكبًا، وبعده صبي أسود راكب يتبعه، فالتفت إلي وقال لي: هذا الصبي ولده، فقلت: يا سيدنا خادم لا يكون له ولد، فقال: صدقت، وأنت بغدادي والبغداديون أذكياء، فضحكت من قوه الثاني.
٤٤ - قال: وشكا علي يومًا قيامه للبول في الليل ووجدانه لبرد، فقلت: أنفذ إلى البصرة تستعمل لك مبولة زجاج تغنيك عن القيام في الليل، فقال: افعل، وأنفذ بمن استعملها وأحضرها فلما كان من الغد قال لي: أيها الشيخ ما نفعتنا تلك المبولة، ونحن في وجدان البرد على حالنا الأولى، فقلت: كيف ذاك؟ قال: قد جعلتها الفراش في طست على البالوعة، وأحتاج إلى أن أقوم إليها كما كنت أقوم! فضحكت وقلت: إذا كان الأمر على هذا فبل في البالوعة وأرح المبولة! ثم قلت: هذه تترك بقرب الفراش وبحيث تنالها اليد، فإذا أردت البول مددت يدك وأخذتها إلى الفراش وبلت فيها وأخرجتها وامتسحت بخرقة تكون معدة معها، وأنت في فراشك لم تبرح! قال نجرب هذا الليلة، وجئته من غد فقال: سبحان الله فما أحذقكم وأحصفكم وأعقلكم يا بغداديون جرى الأمر على ما ذكرته من غير زيادة ولا نقصان، فقلت: الحمد لله!.
٤٥ - وحدثني أبو طاهر بن أبي قيراط العلوي قال: كان عندي جماعة من الرؤساء والأماثل وفيهم أبو الغنائم بن جمهور الكاتب، وكانت له أخت فاسدة، فدخل علينا وقال: كنت الساعة في مشرعة الروايا مجتازًا فرأيت جمعًا وضجيجًا وصياحًا، فسألت عن الحال فقيل لي: حصلت بنت ابن جمهور عند ابن المطبخي القاص على فساد، فكبسا وهربا، وظفر بسراويلهما ومداسها وشيء من آلاف الفساد الذي اجتمعا فيه، فحين فرغ من كلامه طأطأنا رؤوسنا حياء من أخيها، وندم الرجل على ما تسرع فيه واتفق له، والحق ابن جمهور أمر عظيم، ونهض على أقبح وجه وانصرف، فلمنا الرجل فقال: غلطة جرت وهنة طرت.
٤٦ - وغنت جارية للمنصور قول عبيدة الله بن قيس بن الرقيات في عبد الملك بن مروان:
ما نقموا من بني أميَّةَ إل ... لا أنَّهم يحملون إنْ غضبوا
وأنهم معدونُ الملوكِ فما ... تصلحُ إلاَّ عليهمُ العربُ
فاستعادها الصوت وقد تكره، وعلمت غلطها فغيرته في الحال وغنت:
ما نقموا من بني أميةَ إل ... لا أنَّهم يسفهون إنْ غضبوا
وأنَّهم معدنُ النِّفاقِ فما ... تفسدُ إلاَّ عليهمُ العربُ
1 / 10
فقال لها: أحسنت يا جارية فمن أين لك هذا؟ قال: والله ما قصدت الغناء بهذا الشعر، فلما ابتليت به وعلمت بزلتي فيه غيرته على ما قلت.
٤٧ - وحكي أن المعتمد اصطبح يومًا واقتراح أن يغني بشعر أبي نواس:
يا كثيرَ النَّوحِ في الدمنِ ... لا عليها بلْ على السَّكنِ
سنَّة العشَّاقِ واحدةٌ ... فإذا أحببتَ فاستكنِ
فلم يزل يغني به يومه، ثم اشتكى جوفه ومات في ليلته.
٤٨ - وحدثني أبو لفتح منصور بن محمد بن المقدم الأصفهاني قال: كان أبو الفتح، ابن ابن العميد يشرب على مجلس قد أعجب به، وأغاني قد اجتمعت، وسر سرورًا كثيرًا، طرب طربًا زائدًا، وجرى على لسانه عمل أبيات:
دعوتُ المنى ودعوتُ العلا ... فلّما أجابا دعوتُ القدحْ
وقلتُ لأيامِ شرحٍ الشبابِ ... إليَّ فهذا أوان المرحْ
إذا بلغَ المرءُ غاياته ... فليس له بعدها مقترحْ
وتقدم إلى المغنين بتلحينه وألا يغني بقية ليلته إلا به، ففعل ذاك! قال الحاكي: فتطير جماعة الحاضرين عليه ما جرى على لسانه، ونهض من المجلس، وأم أن يغطى ولا يشوش، ليركب إلى دار فخر الدولة ويعود إلى حاله، وتقدم إلينا بانتظاره، وركب فقبض عليه فخر الدولة، وهربنا من داره، وكان ذاك آخر العهد به.
٤٩ - وحكى الأصمعي قال: دخلت على الرشيد يومًا وهو ينظر في كتاب ودموعه تسيل على خده، فلما بصر بي قال: أرأيت ما كان مني؟ قلت: نعم، قال: أما إنه ليس لأمر الدنيا، ثم رمى إلي بالكتاب، فإذا فيه أبيات لأبي العتاهية إسماعيل بن أبي القاسم وهي:
هلْ أنتَ معتبرٌ بمنْ خربتْ ... منهُ غداةَ مضى دساكرهُ
ويمنْ أذلَّ الدَّهر مصرعه ... فتبرأتْ منهُ عساكرهُ
ويمنْ خلتْ منه أسرَّته ... وبمن وهتْ منه منابرهُ
ابن الملوكُ وأين عزُّهم ... صاروا مصيرًا أنتَ صائرهُ
يا مؤثرَ الدَّنيا للذتهِ ... والمستعدَّ لمنْ يفاخرهُ
نلْ ما بدا لك أن ْ تناوله ... يومًا فإنَّ الموتَ آخرهُ
فلما قرأتها قال: والله يا أصمعي لكأني أخاطب بهذا الشعر وحدي دون الخلق! فقلت: دع هذا يا أمير المؤمنين فإنه استشعار لا يقطع به ولا يعول عليه، فو الله ما لبث بعد ذلك إلا شهرًا (واحدًا) ثم مات.
٥٠ - وحدث يقطين قال: إني لواقف على رأس المهدي إذا أغفى، فانتبه فزعًا وقال: علي بالشيخ! فقلت: أعيذك بالله اأمير المؤمنين، فقال: وقف علي الساعة وأنا نائم شيخ فقال:
كأنَّي بهذا القصر قد بادَ أهلهُ ... وأقفرَ منه أنسه وشواكله
وصار عميدَ القومِ من بعدِ نعمةٍ ... إلى جدثٍ تحثى عليه جنادلهْ
ولم يبقَ إلاَّ ذكرهُ وحديثهُ ... تنادي عيهِ بالعويلِ حلائلهْ
قال: فما مضى عليه إلا أيام حتى مات.
٥١ - وروي عن عبد الرحمن بن عفيف المروزي قال: حدثني أبي قال: وجدنا على باب علي بن عيسى بن ماهان، وهو الذي سعى بالبرامكة مع من سعى حتى هلكوا بيتين من الشعر لا يعلم من كتبهما:
إنَّ المساكين بني برمكٍ ... صبتْ عليهم غيرُ الدَّهرِ
إنَّ لنا في أمرهم عبرةً ... فليعتبر صاحبُ ذا القصرِ
فلم تبعد نبكته، وكانت قريبة من نكبة البرامكة.
٥٢ - وحدث سليمان بن أبي شيخ قال: بلغني أن جعفر بن يحيى البرمكي في آخر أيامهم أراد الركوب إلى دار الرشيد يومًا فدعا باصطرلاب ليختار وقتًا يركب فه، وكان جالسًا إلى دجلة، فمر رجل في سميرية وهو لا يرى جعفرًا ولا يعرفهن ولا يدري ما يصنع، فأنشد:
يدبرُ بالنجومِ وليسَ دري ... وربَّ النجمِ يفعلُ ما يريدُ
فضرب جعفر بالاصطرلاب الأرض، وركب وقيذًا.
٥٣ - وحكي أن أبا عبد الله بن الجصاص كان جالسًا يحادث المقتدر بالله، فنام، فقال له المقتدر هوذا تنام يا أبا عبد الله! فقال: تحت داري كلاب ما يدعوني أنام الليل، فقال له: تقدم إلى الغلمان بطردهم فقال: يا أمير المؤمنين هم شيء يطاقون، والله إن كل كلب مثلي ومثلك كرتين، فضحك المقتدر وقال: بل مثلك وحدك! واستيقظ ابن الجصاص فخجل واعتذر!.
1 / 11
٥٤ - وكأن رجل يؤاكل صديقًا له، فدق إنسان الباب، فقال صاحب الطعام، من ذا الكشخان، الآخر؟ فنهض صديقه وقال: والله لا آكلتك أبدًا، فخجل وحلف "أن لساني هفا وأنك أولى من عفا"، فلم يرجع عن أنه له عني وعنه كنى، وانصرف.
٥٥ - وكان جماعة يأكلون سمكة مشوية، ففرغوا من جنبها وقبولها إلى الجنب الآخر، فسأل سائل على الباب، فأراد صاحب السمكة أن يرد عليه فقال: قد أقلبوها، فرفعت الجماعة أيديها، ونهضت، وخجل الرجل وحلف لهم أنه ما عنى ما وقع لهم وعرض بخاطرهم، بل سهو بدر به لسانه، فلم يقيموا ولا تمموا أكلهم، وخرجوا يبخلونه واستحيا منهم كل وقت يلقونه!.
٥٦ - وذكر حماد بن إسحق عن أبي بكر بن عياش قال: كان بالكوفة امرأة لا زوج د عسر عله المعاش، فقالت له: لو خرجت فضربت في البلاد وطلبت من فضل الله تعالى رجوت أن ترزق شيئًا، فخرج إلى الشام فكسب ثلاثمائة درهم فاشترى بها ناقة فارهةً وركبها قاصدًا إلى الكوفة، وكانت زعرة فأضجرته واغتاظ منها ومن زوجته وإخراجه وتقطيعه بأسفاره، فبدر لسانه فيها بأن حلف بطلاق امرأته أنه يبيعها يوم يدخل الكوفة بدرهم! وسكن من حوده فندم أشد ندامة واغتم أعزم غم، وقدم الكوفة فقالت له زوجته: أي شيء جئت به معك؟ ورأته مغتمًا، قال: لا شيء، فقالت له: فهذه الناقة لمن؟ قال: لا أدري لمن تحصل له، وحدثها بحديثه وما جنى عليه حرده وجره لسانه، فقالت له: أنا أحتال لك حتى لا تخنث ولا تخيب، وعمدت إلى سنور فأخذتها وعلقتها في عنق الناقة وقالت: أدخلها السوق وناد عليها: من يشتري هذه السنور بثلاثمائة درهم والناقة بدرهم واحد، ولا أفرق بينهما؟ فدخل السوق وفعل ذلك، فجاء إعرابي يجور حول الناقة وجعل يقول: ما اسمك ما أفرهك ما أحسنك ما أرخصك، لولا هذا المشارك الذي في عنقك.
٥٧ - حدثني أبو سعد محمد بن علي ن الحسن المعروف بابن المانداي قل: حدثني الجهرمي الشاعر قال: كان السقطي الصوف من أهل المروءات، وقد آلى على نفسه أنه لا يأكل طعامًا عند أحدٍ، فخلوت به يومًا وسألته عن العلة في ذاك فقال: بكرت إلى صديق لي في حاجة وعدن بها، ودخلت إليه وبين يديه غداؤه، فمددت يدي وأكلت، ووقف على الباب سائل، وأراد أن يقول له: لطف الله بك، فقال: قد كسر آخر فقلتُ: بعد ما مسه فخجل واستحيا وقال: ما قصدت ما وقع لك، فقلت: خذ في غير هذان ولم آكل معه، ونهض عن طعامه حياءً مما بدر من كلامه، وجعلت في نفسي ألا أكل طعام أحد بعدها.
٥٨ - وحدثني الوزير فخر الدولة أبو نصر بن جهير قال: كان سليمان ابن فهد كاب قرواش بن المقلد بالموصل حديدًا سوداويًا على الفضل الذي كان فيه، واتفق أن كان جالسًا وإلى جانبه أبو طاهر النصراني الكاتب ابن كعب، وله المنزلة الكبيرة وفي وقته المكانة الجليلة في بلده، وقد خدم شرف الدولة باب الفوراس ابن الملك عضد الدولة بن بويه والمسيب جد قرواش، فقال له سليمان مقبلًا على الحاضين على طريق الانبساط والاسترسال، وهذه أخت ابن كعب قحبة مشهورة كما تعلمون، وابن عرقل ممن تحبه ويفعل بها كل يوم، ولا يغبها ولا تغبه، وغيره وغيره، فإذا راسلتها واستدعيتها تمنعن وتحكمت وتبطأت وتأخرت! ثم التفت فرأى ابن كعب إلى جانبه، فاستحيا ونهض، وقال: هذا هو الجنون الذي لا دواء له! ودخل إلى بعض حجره، وانصرف الحاضرون خجلين ن ابن كعب وسماع ذلك، وبقي كعب جالسًا حائرًا لا تساعده رجله على النهوض والانصراف، وشاهد حاجب سليمان حاله، فجاءه وأخذ بيده وقال: ينهض سيدنا إلى جاره، فقد جرى ما فيه الثواب، وإن كأن من محن الدهر الصعاب، فقام يجر نفسه وانصرف.
٥٩ - وحدثني أيضًا قال: كان البرقعيدي يومًا جالسًا عند بعض أصدقائه بالموصل، فأنشد بعض الحاضرين:
وليلٍ كوجه البرقعيدي ظلمةً ... وبردِ أغانيه وطولِ قرونهِ
فقال له: هأنا قاعدا يا سخي العين! فاستحيا المنشد وضحك الحاضرون.
٦٠ - وحدثني الرئيس أبو الحسين والدي قال: كان النابغ والهائم بحضرة عضد الدولة يومًا يلعبان بالشطرنج، فغاصا في الفكر لدستهما، فأنشد أحدهما:
وأبو القاسمِ يروي شعرنا ... حسنٌّ ذاكَ ويأتي بالخبرْ
1 / 12
والشعر لعضد الدولة أبي شجاع بن بويه، فقال له الآخر: أف منك ومن هذا الشعر! فإعادة ذاك إنشاد البيت على مذهب الشطرنجيين في مغايظة ملاعبيهم وتكرار ما يثقل عليهم، فال له: هذه شعرة لا شعر! فردده وكرر ذلك كالسب للشعر وقائله، وعضد الدولة يسمعهما، إلى أ، فرغا من دستهما، ونهض واستدعى أبا علي بن محمد أستاذ الدار، وتقدم إليه بضربهما مائتي سوط، وأن يأمرهما بألا يتكلما بعد يومهما على الشطرنج بشيء، فعل ذاك، وعرفا ما كان منهما، وأنه السبب فيما جرى عليهما.
٦١ - وبالضد من هذه الحكاية أن عضد الدولة وصف له ابن الصقر يلعب الشطرنج والتقدم فيه، وكان من العمال المتقدمين، وإليه عمالة البلاد العليا، فتقدم بإحضاره، وأجلس معه من يلاعبه ممن يجري في طبقته، فأجاد ابن الصقر، وغلب محاذيه دستًا، واستحسن عضد الدولة لعبه، ولعب الدست الثاني وفكر وفي نفسه وقال: متى واصلت غلب هذا المحاذي استحسن عضد الدولة لعبي ونقلني من الرئاسة والعمالة، وهي المنزلة الزرية والرتبة الدنية، وليس لي غير ما أقصر في لعبي وأتغالب لتزول هذه السمة عني! ولاح له في الدست أن يلعب بفرسه ضبة يغلب محاذيه بها، وفراغ عنها ولعب بغيرها، فقال له عضد الدولة: العب بفرسك، فإني أردك إلى عملك! فقبل الأرض ولعب بفرسه، وغلب الدست، ورده إلى العمل وأعفاه من اللعب.
٦٢ - ودخل الزكي أبو علي العلوي يومًا على بعض الرؤساء فجالسه وحادثه فهما في ذلك إذ حضر صاحب ذلك الرئيس فقال: يا سيدنا أي الخيل نسرج اليوم؟ فقال اسرجوا العلوي: سمةٌ لفرس له يعرف بذلك، فقال الزكي: أحسن اللفظ يا سيدنا فاستحيا الرجل وقال: غفلة لا يؤاخذ عليها.
٦٣ - وحضر يومًا بعض المغنين مجلس الملك جلال الدولة بن طاهر ابن بويه فغناه:
وبتنا جميعًا لو تراقُ زجاجةٌ ... منَ الخمرِ فيما بيننا لم تسرَّبِ
فقال جلالُ الدولة: صدقت! أقيموه، فأقيم وصرِف
٦٤ - وحدثني أبو سعد محمد بن علي المانداي قال اجتاز المرتضى أبو القاسم نقيب العلويين، يوم جمعة على باب جامع المنصور، وبحيث يباع الغنم، فسمع المنادي عليها يقول: نبيع هذا التيس العلوي بدينار! فظن أنه قصده بذاك، وعاد إلى داره، وتألم إلى الزير مما فعل به، وكشف عن الحال فوجد أن التيس إذا كان في رقبته حلمتان (متدليتان) سمي علويًا، تشبيهًا بشعرتي العلوي المسبلتين على رقبته.
٦٥ - واجتاز أبو الفرج بن الأقساسي العلوي الكوفة، كان أعرج أحول فسمع مناديًا ينادي على تيس ويقول: بكم علكم هذا التيس العلوي الأحول الأعرج، فلم يشك أنه عناه، فراغ عليه صفعًا وضربًا إلى أ، تبن أن التيس أحول أعرج، فخلاه، وضحك الحاضرون مما اتفق في معناه.
٦٦ - وحدثني المانداي وقال: كنت يومًا ند أبي البركات العلوي المدائني وهناك ابن عبد السميع الهاشمي وجماعة حضور، فانجر الحديث إلى أن حكين له حكاية كانت (مع رجل) في جوارنا بنهر طابق يقال له ابن نفاط، وقلت: إنه استدعى خياطًا فصل له ثيابًا وأقعده بخيطها بين يديه، وجاء الليل وأحضرت الشمعة، فقال للخياط: حدثني بشيء من سير الفرس وأخبارهم، فلم يفهم عنه ما قاله، فضلًا عن أن يحدثه بما التمسه، وقال: يا سيدنا ما أعرف شيئًا من ذاك ومن هؤلاء الفرس ومتى كانوا وأين كانوا!! فقال إنا الله، فهات شيئًا من سيرة النبي ﵇ وأخباره وفتوحه وأفعاله وما جرى له من قريش! فقال يا سيدنا ما اعرف إلا أنه رسول اله تعالى، فأما تفصيل ذلك فعند غيري، وعل من تشاغل به، ولم ينكمش على مثل صنعتي، فأنشد قائلا:
غفلٌ من النَّاسِ ليسَ فيهِ ... موضعُ هجوٍ ولا مديحِ!
ثم قال: فاقرأ خمس آيات من القرآن لنقطع زماننا بشيء يكون ثواب وأجرٌ، فقال: والله العظيم ما أعرف إلا ما أصلي به، على غير إتقان له ولا علم على الحقيقة به! فقال: ويلك فما سمعت أحدوثة في بيتك ومن أهلك ومن يضمه ذراك؟ فقال: أفمن هذا تريد؟ السمع والطاعة، ثم قال: كانت فأرة ..
قال: أي شيء هذا مما يتحدث به! هات.
فقال: كنست بيتها ..
قال: والفأرة مسك مكنسة! وتفهم الكنس! وأي بين لها بخضه، هذا جنون، ولكن هات ما عندك لننظر آخره! فقال: وجدت حنطاية ..
فقال: حنطاية! ما هي؟ قال: طعام ..
قال: يجوز أن يكون في أعشاش الفأر طعام ..
1 / 13
قال: فحملتها إلى الطحان وقالت اطحن لي هذه وخذ نصفها وأعطني نصفها.
فقال: ويلك أيتهيأ أن تمضي الفأرة إلى الطحان وتخاطبه بلسان صهصلق وكلام ذلق، هذا محال، وهذا محال!.
وصاح ونفض كمهن فانطفأت الشمعة، وضحكت مما اتفق لهما.
قال أبو سعد: فضحكت الجماعة ضحكًا شديدًا، وقام من بينهم غلام فخرج، فلما خرج قيل لي: أي شيء قد علمت! فقلت: ما الخير! فقالوا: هذا الخارج ولد الذي حكيت عنه، وقد تغير وجهه وخبثت نفسه وانصرف على ما شاهدت من أمره، قلت: ما علمت ووجب عليكم أن تعلموني حيث بدأت بحديث أبيه! واستحييت مما اتفق!.
٦٧ - قال: وكانت لابن الناط هذا حكايات: فمنها أنه خرج يومًا فرأى على بابه سنورًا ميتة، فقال لها: ها على بابي سنور ميتة! فقالت له جارية في داره: يا سيدي هذه سنور حوراء جارتنا، فقال: ومن هي حوراء البظراء! يجب أن نفذ إلى سيدنا السديد يعني صاحبه الذي كان يكتب له ويحضر منها نقيبان جلدان يأخذان هذه السنور من ها هنا ويطرحانها ها هنا، ويعني على باب حوراء صاحبتها.
٦٨ - وحدثني وقال: قضى الرؤساء لأحد شعراء زماننا حاجة فجاء ليشكره (على صنيعه فقال):
لا خيلَ عندكَ تعطيها ولا مالُ ... فليحسنِ القولُ إنْ لم تحسنِ الحالُ
فقال له حاجب الرجل: يا هذا ليس ما قلت بمدح ولا خارج مخرج شكر! فقال: سهوت وغلطت، فانصرف خزيان.
٦٩ - وجرى بين شهرام المروزي وبين أبي مسلم صاحب الدولة كلام، فال له شهرام: يا لقيط، فصمت الو مسلم وتنبه شهرام على هفوته، فاعتذر وخضع، فقال له أبو مسلم: لسان سبق ووهم أخطأ وبادرة غضب، والغضب من الشيطان، وأنا جرأتك بطول احتمالي لك، فإن كنت للذنب معتمدًا كنت لك شركًا، وإن كنت مخطئًا فالعذر يسعك، وقد شمل عفوي الحالين! فقال له شهرام: أيها الأمير عفو مثلك لا يكون غرورًا، قال له أبو مسلم: أجل، قال شهرام: فإن عظم ذنبي لا يدع قلبي يسكن! فقال أبو مسلم: سبحان الله العظيم، ومن أحسن إليك مع إساءتك لا يسيء إليك مع إحسانك!
٧٠ - وكان عامر بن مصعب يومًا ينظر إلى ابنه وهو يخطب، وقد استحسن الناس كمه، فأقبل على قوم جلوس، وقال لهم: هذا بني ومن هذا خرج، وأومأ إلى ذكره، فتضاحك القوم به، وعرف زلته وانصرف.
٧١ - واجتاز بعض العوام وهو سكران بجماعة قعود، فجلس وأنشد وأومأ إليهم:
اضرطْ عليهمْ فكلهمْ سفلُ ... شبابهمْ والشيوخُ والكهلُ
وضحك ضحكًا مفرطًا، وانصرف، فقال رئيس كان من الجماعة لم يعننا هذا السكران بقوله، دفعًا لذلك عنهم، فقال له أحدهم: الله الله يا سيدنا، أنت سيد الجماعة ومتقدمها، وما على غيرك ولا أراد سواك! فقال له: أحسنت يا سخين العين! وضحكت الجماعة منه.
٧٢ - قال مؤلفه: وحدثني والدي ﵀ عليه قال: كنت عند أبي الحسن محمد بن عمر العلوي رحمه لله وقد دخل إليه بعض معامله شاكيًا من بعض العمال، فقال له: يا سيدنا قد جرى علينا كذا وكذا من الامتهان والحرف، والاستخفاف والخف وأشرفنا على الانصراف من هذا الموضع والانجلاء عنه، فقال: يا هذا ولم ذاك؟ ولأي سبب؟ فأراد أن يقول له: قصدًا لك وقبحًا معك، فقال: والله العظيم ما امتهنا ولا صفعنا إلا على رأسك! فقال: أخرجوه قبحه الله تعالى! فلما أخرج تبين قوله وطارت روحه!
٧٣ - وحدثني أبو سعد محمد بن علي المانداي قال: كنت عند أبي الغنائم ابن القنائي جالسًا فحضر بعض المعاملين وشكا من بعض الناس، فقال له ومستهزئًا به: ولم صبرت منه على هذات الفعل وكان يجب أن تشيل قفاك فتصفع يده ولا تفكر فيه ولا تحتشمه، فقال: هذا يفعله سيد مثلك فأما أنا فلا أقدم على مثله! فامتقع لون ابن القنائي حيا من الحاضرين.
٧٤ - وحدثني قال: كان مع بعض القصاص رجل شيخ يعرف بعبدان، يحضر حلقته ويستحسن كلامه ويزهره ألفاظه، ويعطيه ثلاثة أرطال خبزًا جزاء فعله، وربما نام تحت الكرسي بشيخوخته وتخرج منه رياح تبلغ إلى أنف القصاص، فقال له يومًا: يا عبدان! قال: شافي والله العظيم، فقال له: دعني من هذا، هو ذا تنام وتؤذيني بفساك! فقال له أنا يا سيدي!! الله الله، هؤلاء الروافض يفسون حول الحلقة ويقولون: هذا في لحية الشيخ، قصدًا لك وقبحًا لك، فقال له: يا عبدان أمسك، فعذرك أشد علي من فعلك، فضحك الناس منهما، وانحل المجلس وانفل جمعه ذلك اليوم.
1 / 14
٧٥ - وحدثني قال: كان لابن القنائي أخ يعرف بالبقطائي من أمه، فقعد يومًا يلعب الشطرنج مع إنسان يعرف بأبي عمر الصيرفي وكان أبو عمر يسهو في لعب الشطرنج إلى الحد الذي تجعل على رقبته وظهره الشي الكثير الثقيل فلا يحس بع ويحمله ولا ينتبه له، فتوجهت له على الباقطائي، فقال له: شاه يا بن القحبة، فقال له ابنه: أنت مجنون! الرئيس أبو الغنائم قاعد وأنت تشتم أخاه وأمه! فعلم أنه د غلط، فقال: ما قلت ذاك إلا من جهة الباقطائي، فضحكت الجماعة منه، وخجل ابن القنائي ونهض.
٧٦ - وحدثني قال: كان عندنا إنسان يعرف بزوج المرأة، فمضى يومًا لزيارة قبر (الشيخ) معروف الكرخي (قدس الله سره) ومعه ابن أخت له فرأى فاختة في الطريق، فقال لابن أخته: امض وعلق تلك الفاختة، فقال له: إذا قربت منها طارت فكيف أعلقها؟ فقال: امض مع الحائط نحو تنور الآجر، كأنك تساوم صاحبه على شراء الآجر وخذها، فضحك!
٧٧ - قال: وماتت قريبة لأبي منصور بن الفرج، وكان رئيسًا في الوقت، فاجتمع الناس على طبقاتهم لقضاء حقه، وأخرجت الجنازة والنساء يلطمن ويقلن: واستاه واستاه! على ما جرت به عادة النساء في ذلك، فأنكر زوج المرأة هذا القول وقال: لاستَّ إلا الله ﷾، وصاح عليهن، فضحك الناس، وصار المكان مكان هزل لا مكان حزن.
٧٨ - قال: وأحضره السوادية طنجيرًا وقال: قد ابتعت هذا بخمس دوانيق، فانظر أرخيص هو أم غالٍ! فأدخل رأسه فيه، فقال السوادي: هو صحيح يا سيدي، وليس فيه كسر، قال: ما نحوت إلى ذاك، وإنما أفتقده لا يكون العث قد وقع فيه، فتستعمله أيامًا ويظهر لك بعد ذلك عيبه! فضحك منه وأخذ الطنجير، وذهب.
٧٩ - قال: وكان عندنا كاتب ديوان يعرف بأبي غالب الإصطخري، شديد المعضلة قليل الدربة بالعادات، وكان في داره حمام، وكان يوقده بنفسه من السحر إلى الفجر، فإذا فرغ منه دخل الحمام وتغسل وركب، فمن حكاياته أنه صلى بالناس في شهر رمضان فقرأ سورة القصص وخرج من رأس السبعين إلى رأس الثمانين، وسقط في هذه العشر الآيات قصة قارون، فلمنا جلس في التشهد قال في تشهده: أليس كان لقارون المدبر في هذه السورة حديث طويل! ترى أليس كان منه! دع حتى يمر إلى لعنه الله! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته!
٨٠ - قال: ورأيته يومًا وهو على دكان مالحاني، وفي يده رغيف، وهو يأكل من خل المالح، فقلت: يا سيدنا أتأكل هذا الخبر اليابس بهذا الخل القذر في السوق وبين العوام، فاغتاظ مني فقال: خرا أريد أن أصلحه، فأي شي عندك في هذا يجيء خراء أولًا!
٨١ - قال: وكان إذا خرج في حاجة فقال له إنسان: إلى أين أيها الرئيس! رجع ولم يمض فيها، وجرى على القائل له ذاك قبح منه، فاجتاز علي يومًا مسرعًا ولم يسلم، فقلت: إلى أين مدة شهر؟ فرجع إلي: وقعد عندي وقال: قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: إياك وأن تقول لإنسان ما في حاجة إلى أين، فربما كان مارًا في شيء من قاذورات الدنيا، فإن صدقك فقد أحرجته، وإن كذبك فقد آثمته!
٨٢ - وحدث أن سابور الوزير استناب في دار العلم بين السورين خازنًا يكنى بأبي منصور، فلبس في بعض الأعياد ثيابًا جددًا، وأخذ في السحر قارورة فيها حبر، فصبها في يده وطرحها على وجهه، غلطًا من قارورة ماء الورد إلى قارورة الحبر، وخرج على تلك الصفة يريد الجامع، فلقيه الناس وتضاحكوا منه ورأوا ما به، فقال: غلطنا من ماء الورد إلى الحبر! ورجع.
٨٣ - وكان أبو الحسن السمسماني متطيرًا، فخرج يوم عيد داره، ولقيه الناس فقال له مهنئًا: عرف الله تعالى سيدنا الشيخ بركة شؤم هذا اليوم، فقال: وإياك يا سيدي، وعاد وأغلق به، ولم يخرج (بقية) يومه.
٨٤ - ودخل بعضهم إلى رئيس الرؤساء أبي القاسم بن المسلمة فقال له متعجبًا من رئاسته التي عبقت به وجلالته التي باتت له:
فسبحانَ الذي أعطاكَ ملكًا ... وعلَّمكَ الجلوسَ على السَّريرِ
فضحك رئيس الرؤساء منه، ولم يعلمه بموضع غلطه، لعله بقلة معرفته وبأنه لا يعلم أصله!
واتفق أن اجتمعت به يومًا عند عميد الملك أبي نصر الكندري بعد قتل رئيس الرؤساء، فقال له كيف أنشدت رئيس الرؤساء
فسبحانَ الذي أعطاكَ ملكًا ... وعلَّمكَ الجلوسَ على السَّريرِ
أما تعلم أنه ثاني بيت، هو:
1 / 15
أتذكرُ إذ قميصك جلدُ شاةٍ ... وإذ نعلاكَ من جلد البعيرِ
فقال: والله يا مولاي ما أدري ما قلت، ولا أدري ما تقوله أنت الساعة لي، غير أنه مدحني به مادح فمدحت به رئيس الرؤساء فضحك عميد الدولة حتى استلقى!
٨٥ - ورأيت أبا الحسن الوكيل عند بعض الأصدقاء وهما يشربان، ومع أبي الحسن فوطة كتان مغربية مقفصة مليحة، فمزحنا معه وقلنا له: هذه من غزل البيت! فقال: نعم يا سيدنا طاقه وضرطه! فضحكنا وقطعنا بذاك أكثر يومنا.
٨٦ - ولقي يومًا بعض الأجلاف نصر بن الطيب في الطريق، فقال له: يا سيدي البارحة آلمني هذا الموضع من رأسي، وكشف رأسه وترك يده على الموضع، وبقي مكشوف الرأس، فقال له الطبيب: أر رد عمامتك فكفاني الإيماء إلى الموضع من فوق العمامة!.
٨٧ - وخرج يومًا إلى بستان داره فقال للصعاد: احطط من هذا الفحل طلعًا فصعد له، فقال: قد ذكرت بهذا الطلع الجمار، فافتح جمارة الفحل واكسر لي من جانبها قطعة فقال له: يا سيدنا يموت الفحل، فقال: ما يصيبه شيء إذا أخذت لي من جانب جمارته، فامتنع وتعجب، فصفعه إلى أن فتح الجمارة وأعطاه منها طعمة، ومات الفحل بعد أيام، فقال: صدق والله الصعاد!
٨٨ - ودخل بعض الأنصار إلى العلوي البلخي فحين وقعت عليه عينه قال:
ذهبت قريشٌ بالمكارمِ كلَّها ... اللؤم تحتَ عمائمِ الأنصارِ
فقال: هذا جزاء أجدادنا في نصرتكم، وجزاؤنا الآن في قصدكم وخدمتكم! فخجل وحلف أنه ما قصد ذاك ولا عناه، وإنما بيتٌ طرأ على قبله فحكاه!
٨٩ - ودخل أبو نخيلة الراجز على مسلمة بن عبد الملك بن مروان، فقال له:
أمسلمَ إني يا بنَ كلِّ خليفةٍ ... ويا فارس الهيجا ويا جبلَ الأرضِ
شكرتك إنَّ الشُّكر حقٌّ على الفتى ... وما كلُّ من أقرضتهُ نعمةً يقضي
وألقيتُ لما أنْ أتيتكَ عاريًا ... عليَّ لحافًا سابغ الطولِ والعرضِ
فأحييتَ لي ذكري وما كانَ خاملًا ... ولكنَّ بعضَ الذِّكر أهون من بعضِ
فقال له: ممن أنت؟ قال من بني سعد، أحد بني جمان، قال: فأين أنت من الرجز؟ قال: أرجز الناس! قال أبو نخيلة: فذهبت أنشده فسهوت، وأنشدته للعجاج، فلما أكثرت قال: حسبك أنا أعلم بها منك! فخجلت واستيقظت، ومقتني على الكذب وحرمني.
٩٠ - ولما قتل زيد بن المهلب أتى مسلمة برأسه، فقال رجل:
من سرَّ يومًا بزَّ به ... والدَّهرُ لا يغترُّ بهْ
فتطير مسلمة واغتم لذلك، فقال بعض من حضر، وقد رأى ما بمسلمة، يقيم عذر الرجل كم من رجل قد أتى هنا برأسه كذا! فكان قوله أشد على مسلمة من القول الأول، فنهض من مجلسه وانصرف.
٩١ - وقيل: خرج عبد الملك بن مروان يومًا قارًا، وعليه جباب خز متظاهرة، على علي بن عبد الله بن العباس، فقال عبد الملك: يا أبا محمد ندق أم دفر دقًا يعن الدنيا، تكنى بأم دفر، ثقة بالأمل والبقاء، فما مضت عليه جمعة حتى مات!
٩٢ - وأخبر المدائني: قال أبو بكر بن الوليد بن عبد الملك بن مروان يومًا لبعض الناس: ما أحسن غرة فرسك! يعني التي في يده.
٩٣ - وقال: أتى رجل الوليد بن عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين إنك تعيش، أربعين سنة خليفة، فقال الوليد: لا يرضى أمير المؤمنين بضعف ذلك! فمات في أسبوعه.
٩٤ - وأخبر عن الجرمي عن أبيه قال: كنا مع عبد العزيز بن الوليد ومعنا حجر بن عقيل الرياحي، فقال عبد العزيز أو ابنه بشر: أنشدنا يا أبا بشير فأنشد:
فما أخرجتنا رغبةٌ عن بلادنا ... ولكنَّه ما قدرَ الله كائنُ
لحينِ نفوسٍ لم تجدْ متأخرًا ... فلا تبعدنَ تلك النفوسُ الحرائنُ
فقلت له تطيرت: قطع الله لسانك وهلك عبد العزيز في وجعه ذلك.
٩٥ - وخرج زياد مع معاوية، فحدا الحادي:
قد أعلمتهُ الضمرُ الجيادُ ... أنَّ الأميرَ بعدهُ زيادُ
1 / 16
فتنمر معاوية وقال لحصين وزياد يسمعُ يا حصين إن لك رأيًا وتعقلًا، فما فرق أمر هذه الأمة فسفكت دماءها، قال قتل عثمان، قال: صدقت، إن الخلافة أمر من أمر الله وقدره، لا تصلح لمنافق ولا لمن ضل وأعان ظالمًا، يعرض بزياد أنه أعان عليا ﵇، ففطن زياد واعتذر إلى معاوية وقال: يا أمير المؤمنين، راجزٌ رجز بما لم يكن عن أمري ولا علمي يصير ذنبًا لي! أعيذك بالله من هذه الظنة التي لا تجوز لك ولا تحسن بك، فقبل معاوية ذاك وأمسك.
٩٦ - وحكى مسرور الخادم قال: أمرني الرشيد بقتل جعفر بن يحيى، فهجمت عليه في الوقت، فوجدته يشرب، وبين يديه أبو زكار، المغني الأعمى وهو يقول:
عداني أنْ أزورك غيرَ بغضٍ ... مقامك بين مصفحة سداد
فلا تبعدْ فكلُّ فتىً سيأتي ... عليهِ الموتُ يطرقُ أو يغادي
فقلت له: يا أبا الفضل الذي قد جئت له والله من ذاك قد والله طرقك، فأجب أمير المؤمنين، قال فدعني أوصي، فتركته فأوصى بما أراد، وحملته فحززت رأسه، وفي ذلك يقول الرقاشي:
أيا سبتُ يا شرَّ السُّبوتِ صبيحةً ... ويا ضفرُ المشؤومُ ما جئتَ أشأما
أتى السَّبتُ بالأمر الذي هدَّ ركننا ... وفي صفرٍ جاءَ البلاءُ مصمما
وفيه يقول أيضًا:
الآنَ استرحنا واستراحت ركابنا ... وأمسكَ من يجدي ومن كان يجتدي
وقل للمنايا قد ظفرتِ بجعفرٍ ... ولن تظفري من بعدهِ بمسوَّدِ
وقل للعطايا بعد فضلٍ تعطَّلي ... وقلْ للرزايا كلَّ يومٍ تجددَّي
ودونكَ سيفًا برمكيًا مهندًا ... أصيبَ بسيفٍ هاشميٍّ مهنَّدِ!
٩٧ - وقيل: كان فرج الرخجي مولى لحمدونة بنت الرشيد المعروفة بحمدونة بنت عضيض، ولحق ولاؤه الرشيد، وكان زياد أبو فرج معن بن زائدة، وسبي معه فرج ابنه عند غزو معنٍ الرخج.
قال عمر بن فرج: حدثني أبي قال: كنت مع أبي زياد إلى حين سبانا معن، وكان قد غنم غنائم جليلة من الرخج وسبيًا عظيمًا، فنزل في معسكره، وحطت الأثقال، ونزعت السروج (عن الدواب) فينا نحن على ذاك إذ بصرنا بغبار عظيم، فظن معن أنه الطلب، فأمر قتل الأسرى، فقتل في ساعة واحدة أربعة آلاف أسير، وخبأني أبي تحت الأكف، وقال: لعلك إن قتلت أنا سلمت أنت! ثم أقشع الغبار عن حمير وحش، وبقي عدد يسير من الأسرى، فرفع السيف، وكان ذلك الغبار المشؤوم بقتل أربعة آلاف نفس.
وهذا قصر فرج الذي ببغداد قصره، ولم يزل في يده وفي يد عمر ولده إلى أن قبضه المتوكل عن عمر، ونظر أعرابي إلى بناء قصر فرج فقال:
لعمركَ ما طولُ البناءِ بنافعٍ ... إذا كان فرعُ الوالدين قصيرا
٩٨ - وحكى أبو عبيدة قال: كان عجل بن لجيم من محمقي العرب، فقيل يومًا إن لكل فرس اسمًا، فما اسم فرسك فإنه جواد؟ قال: لم اسمه، قالوا: فسمه، ففقأ إحدى عينيه وقال قد سميته الأعور! وفيه يقول الشاعر:
رمتني بنوُ عجلٍ بداءِ أبيهمُ ... وهلْ أحدٌ في النَّاسِ أحمقُ منْ عجلِ
أليسَ أبوهم عاب عينَ جوادهِ ... فسارت به الأمثالُ في النَّاسِ بالجهلِ
٩٩ - وحدث الصولي بإسناده ذكره عن عمرو بن محمد الرمي قال: كان على بيت مال المعتصم رجل من أتهل خراسان يكنى أبا حاتم، فخرجت لي جائزة فمطلني بها، وكان ابنه قد اشترى جارية مغنية تسمى "قاسم" بستين ألف درهم، فعملت فيه شعرًا أهجوه به، وجلست ألاعب المعتصم بالشطرنج، ويلعب بين يديه فلما في نفس من أمر أبي حاتم وغيظي منه غفلت عن كوني ألاعب المعتصم وأنشدت هجوي له، وكان:
لتنصفني يا أبا حاتمٍ ... أو لتصيرن إلى الحاكم
فتعطي الحقَّ على ذلة ... بالرغم من أنفكِ ذا الرَّاغم
يا سارقًا مالَ إمامَ الهدىَ ... سيظهرُ الظلمُ على الظالم
ستونَ ألفًا في شرا قاسمٍ ... من مالِ هذا الملكِ النائمِ
1 / 17
فقال المعتصم: ما هذا الشعر؟ فاسترجعت وفزعت من قولي "الملك النائم" وتحرجت أيضًاُ أن أكون سبب هلاك الرجل وفساد أمره، فلجلجت القول، وخفت الحال، وكلما انزعجت ورويت حرص بي، وألح علي، حتى تنعمه فقلت: أقول وأنا آمن؟ قال: نعم فقلت: أظن صاحب بيت الكمال مطل الشعراء شيئًا فعمل هذا الشعر فيه، قال: فما معنى قاسم؟ قد اشترى ابنه جارية اسمها قاسم، بستين ألف درهم، وإياها لاشك عني، فقال: إذًا فأنا الملك النائم لاشك، هذا رجل مملقٌ وليته بيت ليعيش بما يرتزق عليه منذ سنين، فمن أين لابنه هذا المال! ثم قال لإيتاخ: عليك بصاحب بيت المال وابنه فاقبض عليهما، وخذ مائتي ألف درهم منهما، ووله غيرهما.
١٠٠ - وحدث أبو الخطاب زياد بن يحيى قال: حدثنا الهيثم بن الربيع قال: حدثنا الهيثم عن الشعبي، قال: أرسل إلي عبد الملك بن مروان وهو شاك، فقلت: كيف أصبحت يا أمير المؤمنين، قال أصبحت كما قال ابن قميئة أخو بني قيس بن ثعلبة، قلت: وما قال؟ قال: قال:
كأني وقد جاوزتُ تسعين حجَّةً ... خلعتُ بها عني عذارَ لجامي
رمتني بناتُ الدهر من حيث لا أرى ... فكيف يمن يرمي وليسَ برامِ
فلو أنني أرمي بسهمٍ رايتهُ ... ولكنني أرمي بغير سهامِ
إذا ما رآني الناسُ قالوا ألمْ يكن ... حديدًا شديد البطشِ غير كهامِ
فأفنى وما أفنى من الدَّهرِ ليلةً ... ولم يفن ما أفنيت سلكَ نظامِ
على راحتي مرةً وعلى العصا ... أنوءُ ثلاثًا بعدهنَّ قيامي
قال الشعبي: فقلت لا ولكنك كما قال لبيد بن ربيعة، قال: وما قال؟ قلت: قال.
راحت تشكي إليَّ النَّفس مجهشةً ... وقد حملتُكَ سبعًا بعد سبعينا
فإن تزادي ثلاثًا تبلغي أملًا ... وفي الثلاث تمامُ للثمانينا
فعاش والله بعد ذلك حتى بلغ وتسعين حجة فقال:
كأني وقد جاوزت تسعين حجةً ... خلعتُ بها عن منكبي ردائيا
فعاش والله حتى بلغ عشرًا ومائة فقال:
أليسَ في مائة قد عشها رجلٌ ... وفي تكامل عشرٍ بعدها عبرُ
فعاش والله حتى بلغ عشرين ومائة فقال:
عمرتُ حينًا بعد مجرى داحسٍ ... لو كانَ للنفسِ اللجوجِ خلودُ
فعاش والله حتى بلغ أربعين ومائة فقال:
ولقد سئمت من الحياةِ وطولها ... وسؤال هذا الخلق: كيف لبيد؟
فقال عبد الملك: والله لقد ذهب بحديثك عن البأس، فاقعد يا شعبي عندي، ما بيني وبينك إلا الليل، فحدثني قال: فحدثته حتى أمسيت وانصرفت فمات والله في جوف الليل!.
1 / 18
١٠١ - وحكى أبو عبيدة عن عمه عن أبيه عن الكلبي عن عوانة: أن زيادًا بينا وهو جالس في قصره إذ برزت له كف قد عقدت ثلاثين، ثم غابت عنه، فقال زياد: إنا لله، نعيت إلى نفسي، أعيش ثلاثين يومًا أو ثلاثين شهرًا أو ثلاثين سنة! فلمنا استوفى ثلاثين يومًا أمل ثلاثين شهرًا، فلما بلغا اتفق أن قدم عبيد الله بن أبي بكرة، وكان عامله على سجستان، فأمر زياد سليمًا مولاه بمحاسبته من ليلته، ثم أرسل إلى سليم فحضر فقال له: إني أجد وعكًا، فمسه، فإذا مثل لهب، النار في جسده، فتأمله فرآه قد طعن في إصبعه، فأتاه بمائة وخمسين طبيبًا منهم ثلاثة قد أدركوا كسرى، فنظروا إليه، فقال بعضهم: دلوني على أنصح الناس له، فقالوا: سليم، فأخذ بيده وقال له: مر صاحبك بالوصية، فانطلق سليم إلى شريح القاضي فقال له: يا أبا أمية إن بعض الأطباء أخبرني أن الأمير مما به قد أمرني أن آمره بالوصية، وأنا أكره أن استقبله بذاك، ولك عنده منزلة، فإن رأيت أن تأمره بالوصية فافعل، فإنه ليس يتهمك! قال: نعم، وأمر زياد ببابيه ففتحا ودخل الناس يعودونه ويدعون له وينصرفون، ثم جاء شريح حتى قام على باب القبة فسام، ودعا ثم قال: أيها الأمير الوصية، فإن الله قد أمر بها، وليست تقدم شيئًا وليست تؤخره، فقال: نشدتك الله أتاك سليم فقال لك كذا وقال لك كذا وقال لك كذا؟ قال: اللهم نعم، فقال: قد أوصيت ثلاث وصايا نسختها واحدة، واحدة منها عند أمير المؤمنين، وواحدة مثلها عند المنجاب الضبي، ونسخ ابن الكلبي الثالثة وبضعهم عند حارثة بن بدر الغداني! ثم قال: أيتهن أصبتم فاعملوا بها، ثم دعا مهران كاتبه فقال: اكتب إلى أمير المؤمنين: "من زياد بن أبي سفيان أمات بعد: فإني كتبت وأنا في آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من (أيام) الآخرة، وقد وليت الكوفة عبد الله بن خالد بن أسيد، ووليت البصرة سمرة بن جند، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته فقال له سليم: أذكرك أيها الأمير إلا وليت عبيد الله ابنك فإنه ليس بدون هؤلاء في الفضل، فقال: اسكت، إن يكن فيه خير فسيوله عمه، وقدم الهيثم من الحجاز، فأخبر بذلك، فقال: ما أصنع بالهيثم وما معه! ولم يأذن له ومات من ليلته.
١٠٢ - وحدثنا أبو عبد الله الزبير بن أبي بكر بن عبد الله بن مصعب ابن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام قال: حدثني تعمي عن معافى بن نعيم أن واليًا كان على اليمامة ولاه بلال بن جرير بعض أعماله، فجلس يومًا يحكم والخصوم كجلوس، إذ تمثل أحدهم:
وابنُ المراغةِ واقفٌ أعيارهُ ... مرمى القصيَّة ما يذقنْ بلالا
ولا يعلم أنه من ذاك بسبيل، فقال: أين هذا المتمثل، قال: هأنذا أصلحك الله، قال: ادن أنت وخصمك، فدنوا، فقال: هلم أعد البيت فغمره إنسان فقال: والله ما هو إلا شيء على لساني وما أردت بذلك مكروهًا! قال: هو أشهر من ذاك، هلم فاحتجا، وحكم بينهما.
١٠٣ - وحدث الزبير قال: حدثني عبد الرحمن بن عبد الله الزهري عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه، عن عمر بن عبد العزيز بن مروان قال: حضر الأخطل عند عبد الملك بن مروان فأنشده:
ألا سائلِ الجحَّافَ هلْ هوَ ثائرٌ ... بقتلي أصيبْ من سليمِ وعامرِ
قال: واتفق أن كان الجحاف حاضرًا فكلح في وجه الأخطل وقال مجيبًا له:
نعمْ سوفَ نبكيهمْ بكلَّ مهَّندِ ... ونبكي عميرًا بالرِّماح الخواطرِ
يعني عمير بن حبابٍ السلمي، ثم قال: لقد ظننت يا بن النصرانية أنك لم تكن لتجترئ علي ولو رأيتني لك مأسورًا، وأوعده، فما زال الأخطل من موضعه حتى حمَّ، فقال له عبد الملك: أنا جارك منه.
١٠٤ - وحدث الزبير قال: حدثني عم مصعب بن عبد الله عن أبي نخيلة الراجز قال: قدمت على المنصور فأقمت ثلاثة أشهر لا أصل إليه، فقال لي عبد الله بن الربيع الحارثي: يا أبا نخيلة إن أمير المؤمنين يريد أن قدم المهدي ولده في العهد بين يدي موسى بن عيسى، فلو قلت شيئًا تحثه على ما يريد، ويؤكد عزمه كنت حريًا أن تخطى، فقال أبو نخيلة في ذلك:
دونكَ تعبد الله ذاكا ... خلافة الله الذي أعطاكا
أعطاكَ ربِّي وبها اصطفاكا ... فقد تنظرنا لها اباكا
ثم انتظرنا بعده إيَّاكا ... ونحن فيهم والهوى هواكا
نعرى فنستدري إلى ذراكا ... أسند إلى محمدٍ عصاكا
1 / 19
فابنك منا استرعيته كفاكا ... واحفظ النَّاسِ له أدناكا
وقد وجدت الرجلَ والوراكا ... وحكتَ حتَّى لم تجدِ محاكا
ودرتَ في هذا وذا وذاكا ... وكل قولٍ قلتُ في سواكا
زورٌ وقد كفر هذا ذاكا
وثناها بأخرى هي:
إلى أمير المؤمنين فاعمدي ... سيري إلى بحرِ البحورِ المزبدِ
أنتَ الذي يابن سميَّ أحمدِ ... ويابنَ بيتِ العربِ المسوَّدِ
يا أعظمَ النَّاسِ بدًا لم تجحدِ ... إنَّ الذي ولاكَ ربُّ المسجدِ
ليس وليُّ عهدها بالسعدِ ... عيسى فنكلِّها إلى محمدِ
فقد رضينا بالهمام الأمردِ ... بل قد فرغنا غير أن لم نشهدِ
وغيرَ أن العقدِ لم يؤكَّدِ ... وحتى تؤدي من يدٍ إلى يدِ
فبادرِ البيعةَ وردَ الحشَّدِ ... وردَّه منك رداءَ يرتد
فهو داءُ السَّابق المقلَّدِ ... قد كان يروي أنَّها كأنْ قدِ
عادتْ ولو قد فعلتْ لم ترددِ ... فهي ترامي فدقدًا عن فدفدِ
حتَّى إذا حان ورود الوردِ ... وحان تحويل الغوي المفسدِ
قال لها الله هلمي وارشدي ... فأصبحت نازلةً بالمعهدِ
لم ترمِ تزفارَ النفوسِ الحسَّدِ ... بمثلِ ملكٍ ثابتٍ مؤيدِ
لما انتحوا قدحًا بزندٍ مصلدِ ... بلوا بمشزور القوى مستحصدِ
صمصامةٍ تأكلُ كلَّ مبردِ
وروي الخدم هذا الشعر وحفظوه وتداولوه، فبلغ ذلك المنصور فدعا به وعنده عيى بن موسى جالسًا عن يمينه، فأمر بإنشاد ما بلغه عنه، فحذر عيسى، ولم يمكنه التوقف فيما أمره المنصور، فأنشده والمنصور يشر ويفرح، وعيسى يكمد ويحقد! قال أبو نخلة: وخرجت فلحقني عقال بن شبه فقال: أما أنت فقد سررت أمير المؤمنين، فلئن تم ما أصلت لتصيبن ما أملت ولئن أخطاك ذاك لتبغين "نفقًا في الأرض أو سلمًا في السماء! " قال: فعلت لعقالٍ:
علقت معالقها وصرَّ الجندب!
ما كان لي والله قدرة على الخلاص من هذا المجلس وما جرى فيه، فكتب المنصور لأبي نخلة بمائة ألف درهم، فخرج إلى الري لأخذها.
قال الزبير: فحدثني عمي أن عيسى بن موسى وجه مولى يقال له قطري، فقتله في طريقه، وسلخ وجهه، وقال له لما أضجعه ليذبحه: يابن المومسة هذا أوان صر الجندب! فقال أبو نخيلة: لعن الله ذاك جندبًا ما كان أشأم ذكره وأنكد جده! وكان ظفره به قطري بساوة، وهو ذاهب إلى الري، وقال لي محمد بن الحسن المخزومي، بل ظفر به حين انصرف من الري، ودخل عليه قومه وهو في بيت خمار، وقد ثمل فذبحه، وقتل مزن كان معه من غلمانه، وهرب بعضهم بدوا به وماله!.
1 / 20