48

كانت الهواية الأولى لعزيزة هي السفر والترحال دون كلل، تجد فيهما مهربها والنهل الذي منه ترتوي عبر التطواف في المدن والأمصار المختلفة، وكانت دائمة القول لسعدى: المدينة حقا تعلم الإنسان.

ففي تلك اللحظات التي يعن فيها للصديقتين الابتعاد عن تونس بأسرها، وخاصة عاصمتها قرطاج التي أحالها ابن عمهما العلام بن هضيبة إلى سجن كبير؛ كان يحلو لعزيزة إطلاق طاقات خيالها بحثا عن كل جديد تشهده عيناها عبر بلاد الله الواسعة.

كانت لا تكف عن التعليق عما تشهده وتدونه من أحداث ومعالم تجمعات الغرباء، وخاصة الفقراء منهم، عبر أساليب تعبيرهم عن أنفسهم وممارستهم وعلاقاتهم الاجتماعية، سواء تمثلت في موسيقاهم وأغانيهم ورسوماتهم الشعبية والجدارية أو في أزيائهم وتصميماتهم، ومعمارية مساكنهم وشوارعهم وساحاتهم العامة.

أما ذروة فرح العزيزة وابتهاجها فكانت لحظة أن تحط مرساتها مشرفة على مداخل المدن والموانئ البحرية؛ في الأندلس والبسفور وعبر البنادقة - جمع بندقية - وهي المدن الساحلية التي بناها العرب الفينيقيون، وعلى مدن وشواطئ البحر الأبيض، ومنها المدينة التي تعيش فيها قرطاج.

ولم تقتصر رحلات عزيزة على مدن وموانئ وحضارات الغرب، فزارت الشرق كثيرا وعاشت حياته؛ زارت بيروت وطرابلس وصور واللاذقية وحلب الشهباء والإسكندرية. وكان يحلو لها تدوين ملاحظاتها وأفكارها ليلا؛ عن ملامح الناس البسطاء وأزيائهم ولهجاتهم وموسيقاهم ومساكنهم وأسواقهم وحتى أغطية رءوسهم، وكان يحلو لها تأملها واقتناؤها والعودة بها عقب كل رحلة مع ما يعجبها من منسوجات ومجوهرات ورسوم ومنحوتات وأزياء وآلات موسيقية، فتروح تنشغل في تأملها وكيفية عرضها فيما بعد على طول الجدران المرمرية - السوداء - التي شيد منها قصرها المنعزل على روابي قرطاج الفيحاء الكثيفة الخضرة.

فاستحال القصر إلى متحف شاهق انتقت العزيزة عناصره ومحتوياته بحرص شديد، والتي راوحت ما بين أغطية رأس الشعوب وشعورهم أو شعورهن المستعارة ومطرزات دمشق، وأرجوان صور، وعروش مهجورة لملكات يمنيات متآكلة الأخشاب وما دون تحتها من نصوص طريفة، منها ما كتب على قبر الملكة «تدمر بنت حسان بن أذينة»، وأذينة هو اسم والدة الملكة تدمر: خرب الله بيت من خرب بيتي!

فكانت تسافر المسافات الطوال بحثا عن أشعار ومعلقات مزدانة بالمذهبيات لشعراء مندثرين، أمثال السموءل، وأمية بن أبي الصلت، وجليلة بنت مرة، والعنتريات وغيرها، تروح تنشد مقاطعها أمام شمعداناتهم ومراياهم ليلا.

وكثيرا ما استوقفتها سعدى وبعض الصديقات والجواري المقربات سائلات، لتندفع عزيزة من فورها في فيض لا ينتهي من الشرح والإسهاب سواء أكان هذا الموضوع متصلا بالمدونات والمخطوطات العفنة البائدة، أو متصلا بمنحوتات الأحجار الكريمة والرسوم والمنمنمات، أو متصلا ببقايا مومياء متآكلة يفيض مرآها بالرهبة التي تدفع بسعدى خاصة إلى الخوف والرهبة، فكانت تصارح عزيزة بإحساسها فتمضي الأخيرة من جانبها في الاسترسال والحديث والشرح.

ولعل هذه المعرفة المتعطشة دوما إلى كل استزادة ولو أدى الأمر إلى الأسفار والاتصال المباشر بالأشياء من جانب عزيزة، هو ما أفضى إلى اتساع شهرتها والتغني بها وبجمالها الآسر الباهر من جانب الشعراء والمداحين، وأصحاب مسارح خيال الظل التي عرفت باسمها السفيرة عزيزة.

كما أن هذه المعرفة كانت في ذات الوقت مصدر عذابها وعزلتها النفسية عن بني جلدتها، أو حتى بعدها عن الطمع في الاستحواذ على السلطة التي ستئول إليها، بحسب التوارث الأنثوي والطبيعي لعرش تونس وقلاعها السبع بالجزائر والمغرب العربي والأندلس.

Неизвестная страница