ويحسن بنا قبل أن نستطرد إلى الكلام على المعركة أن نجمل حالة الجيشين المتقاتلين عند اللقاء ...
فالجيش الروماني كان أوفر عددا وأكمل عدة بغير خلاف، ولكنه خليط من عناصر عدة منها الروم والأرمن والعرب وأجناس أخرى، وقد يظن لأول وهلة أنه امتاز بالنظام والخطط الفنية على أعدائه، ولكنه في الحقيقة كان أبعد الجيشين عن النظام الصحيح إذا أردنا بالنظام وحدة الحركة والتوجيه؛ لأن المتطوعين فيه من أبناء القبائل كانوا يحاربون على ديدنهم والجنود النظاميين يحاربون على ديدن آخر، وتعوقهم العدد الكثيرة والشكك السابغة التي حسبت من مزاياهم، فهي إلى النقص هنا أقرب منها إلى المزية.
وقد أثيرت فيهم حمية الدين ولكنهم ثاروا لها متشككين متفرقين، وجعلتهم حماستهم الدينية يترقبون من الله عقابا ينزله بهم على خطاياهم وخطايا قيصرهم ورؤسائهم المتهمين عندهم بالزيغ ومطاوعة الشيطان ... فحمية الدين تثيرهم من ناحية وتضيرهم من ناحية، وليست هي من قوة اليقين المكين ...
أما جيش العرب، فقد كان من أمة واحدة تدين بعقيدة واحدة وترجع إلى قيادة واحدة، وفي صدورهم من حمية القتال كل ما يحفز القلب الإنساني إلى الثبات والاستبسال؛ غيرة على الدين وغيرة على العرض وناهيك بالغيرتين، ويقين من نعيم الآخرة ونعيم الدنيا إذا كتب له الفلاح، وكفى بإغراء النعيمين.
كان في جيش المسلمين أصون كرائم البيوتات القرشية؛ بنت أبي بكر وأم معاوية وزوج عكرمة بن أبي جهل وعقائل أناس من الجند والقادة، وقد أمرهن أبو عبيدة قبل المعركة «أن يأخذن بأيديهن أعمدة البيوت والخيام ويجعلن الحجارة بين أيديهن، فإن كان الأمر للمسلمين أقمن على ما هن عليه، وإن رأين أحدا من المسلمين منهزما ضربن وجهه بأعمدتهن وأرجعنه بحجارتهن، ورفعن إليه أولادهن وقلن له: قاتل عن أهلك وعن الإسلام ...» ولم يقنع خالد بهذا، بل قال لهن: يا نساء المسلمين أيما رجل أقبل عليكن منهزما فاقتلنه.
ومن أجل هذا، لا نعجب أن يكون هرقل قد وزن القوى وفكر حقا في عرض الصلح على المسلمين وقال لبطانته وذوي شوراه «لأن تعطوهم نصف ما أخرجته الشام وتأخذوا نصفه وتقربوا من جبال الروم خير لكم من أن يغلبوكم على الشام كلها ويشاركوكم في جبال الروم»، ولكنهم استضعفوه وكبر عليهم أن يجيبوه.
أما المسلمون، فالصلح الذي فكروا فيه قبل القتال هو الصلح على شرطهم المعلوم؛ الإسلام أو الجزية، فإن لم يقبل شرط من الشرطين فالحكم للسيف.
وقد أفادهم عرض هذه الشروط قوة على قوة وزادهم في نفوس أعدائهم مهابة على مهابة، فلما ذهب وفدهم يعرض هذه الشروط قبل القتال على القائد تيودور - أخي القيصر - حسب هذا أنه يهولهم بالذبح والثراء ويكسر نفوسهم بما يريهم من حلل الأبهة والنعيم. فأقام لهم سرادقا من فاخر الحرير يستقبلهم فيه، فوقفوا عند بابه ولم يدخلوه قائلين: «إن ديننا يمنعنا أن نفترش الحرير والديباج.»
فهالوه بزهدهم أكثر مما هالهم بترفه ... وأعسر شيء على جنوده بعد ذلك أن يؤمنوا حق الإيمان أنهم - وهم الغارقون في المناعم والملذات - يقاتلون في سبيل الله قوما، هذا مبلغ زهدهم في المناعم واللذات، وهذا مبلغ استعلائهم على الدنيا وما تبسطه لهم من غواية.
ولم يخف على أحد من قادة الرومان والعرب خطر المعركة الكبيرة التي هم مقبلون عليها؛ هي معركة فاصلة في مصير الشام ما في ذلك ريب. وقد تكون المعركة الفاصلة أيضا في مصير الدولة الرومانية ومصير الأمة العربية، فإن هزيمة الدولة الرومانية فيها تنزع من يدها الأماكن المقدسة ويعقبها ضياع مصر وثورة المتربصين بالقيصر وأهل بيته في بلاده الآسيوية والأوربية، وإن هزيمة الجيش العربي معناها هزيمة الجيش الأكبر، الذي لا يتسع الوقت ولا تتسع الطاقة لتجريد جيش غيره على أثر الهزيمة، وقد تغري القيصر الروماني بإرسال قبائل الشام في أعقاب المسلمين إلى الحجاز والجزيرة العربية ولا يبعد أن تثير أبناء الجزيرة العربية أنفسهم على خليفة الإسلام ممن لا تزال لهم ترات تغلي في حنايا الصدور.
Неизвестная страница