ولا نعلم على التحقيق حكمة التفرقة بين هذه الجيوش في طرائقها ووجهاتها، ولكنها على ما يظهر مسألة الماء والكلأ من جهة، ثم رغبة الخليفة في تشتيت جموع الروم وتوزيع أغراضها، ولا يخلو الأمر من الحيطة لمنع الالتفاف بالجيش الواحد إذا أوغل في البلاد كما حدث قبيل ذلك لجيش خالد بن سعيد، فإن الجيوش الأربعة يكون كل منها مددا لصاحبه ومانعا للالتفاف به أو منقذا له من الالتفاف إذا وقع فجأة، وهذا مع علم الخليفة يومئذ بتفوق الحاميات الرومانية في مواقع البلاد الداخلية، إذ كان الرومان على ما يظهر قد اطمأنوا من جانب الفرس بعد انتصارهم عليهم، واطمأنوا إلى جانب العرب بعد رجوع حملاتهم الثلاث على النحو المعروف، وهي حملات مؤتة وتبوك وجيش أسامة، وزادهم اطمئنانا أنهم غلبوا الحملة الرابعة وهي حملة خالد بن سعيد، وأنهم عرفوا اشتغال العرب بحرب الفرس، فوقع في روعهم أن العرب أضعف من أن يشغلوا أنفسهم بحرب دولتين عظيمتين في وقت واحد. فمن هنا خلت ربوع الشام من جيش كبير للرومان، وعلم الخليفة ذلك فاعتقد أن تفرقة الجيوش في زحفها إلى الشام أقرب إلى توزيع العمل والإسراع فيه، فإن تغير الموقف وعمد الرومان إلى حشد الحشود الكبيرة، فقد أوصى القادة بالتشاور والتعاون في مقابلة هذه الطوارئ، كما أوصاهم بالرجوع إليه.
وقد نجحت هذه الجيوش في وجهاتها وتقدم بعضها إلى دمشق وبعضها إلى حمص وأوغل بعضها إلى فلسطين.
ثم نمى إليهم أن القيصر يستعد لهم بجيش كبير في أنطاكية وجيش آخر في جوار بيت المقدس، وبلغت عدة الجيش الأول على تقدير بعض المؤرخين مائتين وأربعين ألفا، وعدة الجيش الثاني سبعين ألفا أو نحو ذلك، ولو نزلنا بعدة الجيشين إلى النصف حسبانا للمبالغة وجهل الحقيقة لما كان نصف هذا العدد بالشيء القليل؛ لأنه يربى على ثلاثة أضعاف الجيش العربي كله بعد قدوم جيش خالد إليه، ولم يرتفع به أحد إلى ما فوق الخمسين ألفا على أعظم تقدير ...
فتشاور القواد فيما يصنعون، فاستقر رأيهم على التراجع إلى الجنوب؛ ليتجمعوا قبل أن يتلاقى الجيشان الرومانيان ويشتبكا بهم وهم متباعدون متفرقون، كل منهم في بضعة آلاف.
ولعلهم يصبحون في تراجعهم أقرب إلى الأمن إذا حاربوا وظهورهم إلى الصحراء، وقد علموا بالأمثلة الكثيرة أن الجيوش الرومانية تحجم عند حدودها ولا تجسر على خوضها في أعقاب جيش كبير أو صغير.
والمؤرخون مختلفون فيمن هو صاحب المشورة الأولى بالتراجع إلى الجنوب ... فمنهم من يقول إنه أبو سفيان بن حرب ومنهم من يقول إنه عمرو بن العاص.
وهذا القول الأخير أدنى إلى الواقع؛ لأن عمرا كان يتراجع في الجنوب قبل أن تصل الجيوش الأخرى إليه، وكان من الموافق لخططه أن توافيه الأمداد في ميدانه بفلسطين.
وأيا كان صاحب الرأي الأول في هذا، فقد تم التراجع بإقرار الخليفة وكان شعوره بحرج المسلمين في أماكنهم هو الباعث له أن يستدعي خالدا من العراق إلى الشام، فكتب لقواده بالشام يقول: «اجتمعوا فتكونوا عسكرا واحدا والقوا زحوف المشركين بزحف المسلمين، فإنكم أعوان الله، والله ناصر من نصره وخاذل من كفره، ولن يؤتى مثلكم من قلة، وإنما يؤتى عشرة الآلاف والزيادة على عشرة الآلاف - إذا أتوا - من تلقاء الذنوب، فاحترسوا من الذنوب واجتمعوا باليرموك متساندين، وليصل كل رجل منكم بأصحابه.»
ومن المعتذر جدا تمحيص التواريخ في ترتيب الوقائع بعد وصول خالد إلى الشام، ولكن الأرجح فيما نرى أن المعركة الأولى بدأت مع الجيش الأصغر في «أجنادين » بالجنوب؛ لأن البدء بأصغر القوتين وإخلاء الجنوب قبل الانتقال إلى الشمال أولى وأوفق من ترك هذا الجيش الأصغر وراء ظهور المسلمين ومواجهتهم الجيش الأكبر بين عدوين، ولأن معركة «أجنادين» لم يشترك فيها معظم القواد المسلمين، مما يرجح أنها وقعت قبل اجتماع هؤلاء القواد في صعيد واحد، ولو أنها وقعت بعد المعركة الكبرى في اليرموك لما كان مفهوما أن يترك أولئك القواد جيشا كجيش الرومان في فلسطين دون أن يتعقبوه جميعا، مع فراغهم من أسر الجيش الكبير في اليرموك.
وعلى أية حال، هزم الروم في «أجنادين» وكانت الوقعة الحاسمة بينهم وبين المسلمين في اليرموك، على اختلاف كثير في التواريخ، واتفاق في تصوير خطة القتال.
Неизвестная страница