ودارت مناقشة بعد الفراغ من كلمتي، فسألتني سيدة في نحو الأربعين من عمرها، سمحة الوجه وعليها بساطة الطهر ونقاؤه (وقد علمت بعد خروجنا من الكنيسة أنها فقدت زوجها منذ خمس سنوات، ولها خمسة أطفال، وهي مدرسة لمادة التدبير المنزلي في أحد أقسام الجامعة لتعول هذه الأسرة الكبيرة) سألتني قائلة: إذا كان الإسلام قريبا كل هذا القرب من المسيحية كما شرحت لنا، فكيف تعلل هذا التفاوت البعيد بين الثقافة المسيحية والثقافة الإسلامية؟ فقلت لها: إنني يا سيدتي رجل فلسفة بصفة عامة، ورجل منطق بصفة خاصة، ومدقق في معاني الألفاظ بصفة أخص، فماذا تعنين بعبارة «ثقافة مسيحية»؟ الثقافة مركب من علم وفن وموسيقى وأسلوب عيش وطريقة بناء للبيوت وارتداء لملابس ... إلخ إلخ، فهل تريدين أن تصفي كل هذا المركب المعقد بكونه مسيحيا؟ ثم ماذا يكون المعنى بعد ذلك؟ أما إذا أردت أن تقولي إن هناك اختلافا في المركب الثقافي بين البلاد التي أضيفت إليها العقيدة المسيحية والبلاد التي أضيفت إليها العقيدة الإسلامية، أجبتك بأنه خلاف لا دخل للمسيحية أو للإسلام فيه، فلو بدلنا الموقف وأعطيناكم الإسلام وأخذنا المسيحية؛ لظلت خيوط المركب الثقافي في الجانبين على ما هي عليه تقريبا؛ أنا لا أقول ألا أثر للدين في تشكيل وجهة النظر، بل أقول إن المسيحية والإسلام في هذا سواء، فلا اختلاف في النتيجة بين أن يشرب المجتمع جرعة من مسيحية أو جرعة من إسلام، ما دام كل منهما في أساسه دينا يعتقد في إله ذي صفات متفق عليها بين العقيدتين.
قالت: لكننا نلاحظ أن المسيحية دفعت الشعوب المسيحية إلى رفع مستوى معيشتها، على حين أن الإسلام لم يفعل ذلك في شعوبه؛ فقلت لها: أي شعوب مسيحية تقصدين هذه التي دفعتها العقيدة المسيحية إلى رفع مستوى معيشتها؟ أتكونين مسيحية أكثر من المسيح ذاته؟ والمسيح لم يأبه بمستواه الاقتصادي! إنه لم يفكر في أن تكون له ثلاجة كهربائية وسخان كهربائي وسيارة! أم المثل العليا المسيحية كما تمثلت في الرهبان والزهاد والأديرة والصوامع؟ وهؤلاء بالطبع هم المسيحية في أصفى وأنقى صورها؟ فهل كانت العقيدة دافعة لهم أن يرفعوا مستوى معاشهم؟ وأنت طبعا تقصدين برفع مستوى المعيشة هذه البحبوحة المادية من مال ومتاع، إنني لأكاد أقول إنك تزدادين مسيحية كلما نزلت بمستوى معيشتك! تزدادين مسيحية كلما خشنت ثيابك وهزل مسكنك وقل طعامك كما وكيفا، تزدادين مسيحية كلما قاومت رغبات الجسد - هكذا قال قادة المسيحية من رسل وفلاسفة - وما إشباع رغبات الجسد إلا ما تسمينه أنت رفعا لمستوى المعيشة ... إن مستوى المعيشة في أمريكا قد ارتفع لعوامل في أرضها من معادن ونبات وحيوان، لا لأن أهل أمريكا مسيحيون.
إذا يا سيدتي فلا الإسلام أفقر أهله ولا المسيحية أغنت أصحابها، بل العكس أولى؛ فالمسيحية إن دعت إلى شيء من ذلك فهي تدعو إلى الزهد والرهبانية، والإسلام إن دعا إلى شيء من هذا القبيل فهو يدعو ألا رهبانية، وأن الدنيا جديرة أن ينظر إليها الإنسان كأنما هو سيعيش فيها أبدا.
قالت: وماذا تقول في أثر الإسلام في معاملة المرأة من حيث الحجاب وما إلى ذلك؟ أليس ذلك ثقافة إسلامية؟
فقلت: لا، هذه ثقافة اجتماعية، كان الأمر كذلك قبل الإسلام، وكان يكون كذلك بغير الإسلام؛ إنك لو رأيت مسيحيا يأكل بالشوكة والسكين فلا تقولين إن المسيحية دعته إلى ذلك، بل تقولين إنه أسلوب عيش اجتماعي يأتي عليه أي دين فلا يغيره ... وعلى كل حال فاعلمي أن ليس في أصول الإسلام سطر واحد يقضي حتما بحجاب المرأة، وأن زوجة النبي قد خرجت معه للقتال، فليس الإسلام مسئولا عن أصول اجتماعية لم يقرها بل عمل على زوالها.
فاعترضت سيدة أخرى، راجعة بالحديث إلى نقطة رفع المستوى المعاشي بسبب العقيدة، قالت: لكنك أفهمتنا أن الزكاة من أصول الإسلام، وهي إعطاء نسبة معينة للفقير، فإذا لم يكن الدين عاملا على رفع المستوى الاقتصادي، فلماذا نعطي الفقير إذا؟
فقلت لها: إن أقل ما أجيب به هنا هو - على رأي أرسطو - ألا أخلاق بغير حد أدنى من ظروف مادية؛ فلكي يصلي المتدين فلا بد له من أنفاس يرددها في الصلاة، وهذه لا تكون بغير طعام ولا شراب، فهذا الحد الأدنى هو الذي نراعيه حين نحث على طعام المسكين.
وانتهى الاجتماع وكان لكلمتي ومناقشتي وقع عميق جدا في نفوس السامعين رأيته في نظرات الدهشة، وفي تحية الإعجاب التي حيوني بها وأنا منصرف.
الجمعة 19 مارس
كنا في منزل الدكتور «ف. ب» عصر اليوم، في الاجتماع الأسبوعي الذي يعقده في داره كل أسبوع؛ ومتكلمة الاجتماع اليوم هي الدكتورة «س. ش» وموضوعها «العقيدة المسيحية»؛ وذلك ليحدث شيء من التقابل والتوازن مع كلمتي التي ألقيتها في الاجتماع نفسه يوم الجمعة الماضية عن مبادئ الإسلام ... دار الدكتور «ف. ب» كعهدي بها قد بلغت حد الكمال من حيث الروح التي تشيع فيها أثاثا وكتبا وسقوفا وجدرانا، كل شيء فيه فواح بالعاطفة الإنسانية في أسمى معانيها وفي شتى نواحيها؛ فيه دفء القلب إلى جانب الفكر والدراسة، فإذا نسيت تجاربي كلها فلن أنسى السيدة «ب» وقد أحنت الأيام ظهرها تجلس على كرسيها كأنه العرش، وأمامها أدوات القهوة والشاي، ونتقاطر إليها هذا يطلب قهوة، وذلك يطلب شايا، والدكتور الكهل العالم المتواضع «ف . ب» يدور على الحاضرين بوعاء الفطائر التي خبزها هو اليوم بيديه!
Неизвестная страница