مقدمة الطبعة الأولى
مقدمة الطبعة الثانية
1 - في الطريق، وفي الجنوب
2 - في واشنطن
3 - في نيويورك
4 - عودة إلى الجنوب
5 - من الجنوب إلى الغرب
6 - في الغرب
مقدمة الطبعة الأولى
مقدمة الطبعة الثانية
Неизвестная страница
1 - في الطريق، وفي الجنوب
2 - في واشنطن
3 - في نيويورك
4 - عودة إلى الجنوب
5 - من الجنوب إلى الغرب
6 - في الغرب
أيام في أمريكا
أيام في أمريكا
تأليف
زكي نجيب محمود
Неизвестная страница
مقدمة الطبعة الأولى
هذه أيام من عام 1953-1954م قضيتها في أمريكا أستاذا زائرا باثنتين من جامعاتها: إحداهما جامعة كارولاينا الجنوبية في الجنوب، والأخرى جامعة ولاية واشنطن في أقصى الشمال الغربي؛ إذ أقمت في كل منهما فصلا دراسيا، فأتيح لي بذلك أن أقطع البلاد من شاطئ المحيط الأطلسي شرقا إلى شاطئ المحيط الهادي غربا.
لكن أكثر اليوميات - بطبيعة الحال - قد كتبت في مدينتي: كولمبيا بولاية كارولاينا الجنوبية حيث أقمت الفصل الأول من العام الجامعي؛ وبلمان بولاية واشنطن حيث قضيت الفصل الثاني؛ هذا فضلا عن زيارتي لواشنطن العاصمة، ونيويورك ونيو أورلينز ولوس أنجلس وسان فرانسيسكو وسياتل، وغيرها.
إن من أظلم الظلم أن تحكم على شعب بأسره حكما ما وأنت واثق من صدقه؛ ذلك لأن الناس أفراد يختلف كل فرد منهم عن سواه، وقد يتعذر جدا - بل يستحيل أحيانا - أن تدرك أوجه الشبه السارية في الجميع، والتي جعلت من مجموعة الأفراد أمة واحدة ذات طابع معين يميزها ... وإذا فخير ما تستطيع قوله وأنت مطمئن إلى صدق قولك، هو أن تصف خبرتك الشخصية مستندا إلى الأفراد الذين كانوا لك مصدر تلك الخبرة؛ فهؤلاء الأفراد فيما يقولونه لك وما يتصرفون به في وجودك، هم الأساس الذي يمكنك من تكوين فكرة يجوز لك في حذر أن تعممها على بقية أفراد الشعب الذين لم ترهم ولم تسمع عنهم.
في هذه اليوميات سجلت بعض خبرتي تسجيلا أمينا صادقا؛ فوصفت من صادفته وما صادفته من الأشخاص والحوادث، بالإضافة إلى ما أحسسته إزاء أولئك الأشخاص وهذه الحوادث، وأردت أن أشرك القارئ العربي في خبرتي؛ فنشرت هذه اليوميات، راجيا أن يجد فيها القارئ شيئا مما يود أن يقرأه عن الحياة في أمريكا، والحياة الفكرية بنوع خاص.
زكي نجيب محمود
مقدمة الطبعة الثانية
إنني إذ أتقدم للمرة الثانية إلى القراء بهذه «الأيام»، أقرر حقيقة قد غابت - على وضوحها - عن بعض الذين تفضلوا بنقد الكتاب في طبعته الأولى، وتلك هي أن في هذا الكتاب «انطباعات» انطبعت بها حاسة البصر أو حاسة السمع أثناء مقامي في الولايات المتحدة عام 1953-1954م أستاذا زائرا، كنت أثبتها يوما فيوما؛ وليس «الانطباع» مما يوصف بالخطأ، بمعنى أنه لو حدث لزائر آخر أن يرى غير الذي رأيت أو يسمع غير الذي سمعت؛ لكان كلانا مصيبا بمقدار ما أصاب في إثبات انطباعه على الورق؛ ليس الأمريكيون رجلا واحدا، بل هم مائة وستون مليونا أو يزيد، ولا يستطيع الزائر - بداهة - سوى أن يتحدث إلى عدد قليل جدا من هؤلاء، فكل واجبه - إذا أراد أن يكتب عن خبرته - ألا يجاوز حدود ما قد سمع منهم، ويجوز - بل يرجح - ألا يكون هؤلاء أنفسهم هم الذين يلتقي بهم ويتحدث إليهم الزائرون الآخرون، وإذا فلا تناقض في أن يسافر اثنان إلى بلد واحد، كل منهما يسمع شيئا غير الذي سمعه الآخر، أو يرى شيئا غير الذي رأى.
لقد حرصت جهدي عندما كتبت هذه اليوميات أن أكون أمينا في وصف خبراتي، ولست أدعي أنها الخبرات الوحيدة التي لا بد أن يصادفها كل كاتب آخر، وحسب قارئي أن يعلم أني صدقته الخبر في حدود خبرتي الخاصة، فأتحت له فرصة العيش معي أياما عشتها هناك.
إن لكل كاتب طابعا خاصا، ولعل طابعي الخاص يتميز بالنقد الذي قد يشتد أحيانا معتمدا على صدق نيتي وإخلاصي؛ ولا أظن أن قارئا يخطئ هذا الجانب مني إذا قرأ لي «جنة العبيط» و«شروق من الغرب» و«الثورة على الأبواب» و«قشور ولباب» - وكلها مجموعات من مقالات تنحو هذا المنحى على تباعد فترات نشرها؛ فإذا وجدني القارئ في هذه اليوميات التي أقدمها له الآن كثيرا ما أميل - عند مقارنة الأشياء بعضها ببعض - إلى ذكر أوجه النقص عندنا ، فليحمل هذا النقد بصدر رحب، وله بالطبع كل الحق في ألا يأخذ بما أخذت به من وجهات النظر ... إنني أقول ذلك لأن ناقدا فاضلا كان قد لامني على ما وجهته إلى الحياة المصرية من نقد هنا وهناك بمناسبة ما كنت أراه أو أسمعه أثناء زيارتي للولايات المتحدة؛ ولو أنصف في نقده لأوضح لي موضع الخطأ في رأيي، وليس أحب إلى نفسي من أن أرى ما يراه عن اقتناع كلما اختلفت بيننا الآراء؛ إن المصري إذ يكتب للمصري هو أخ يتحدث إلى أخيه، فقد يتفقان وقد يختلفان، لكن كلا منهما - على كلتا الحالين - يريد الخير للآخر.
Неизвестная страница
أرجو أن يجد قارئ هذا الكتاب ما قد أردته له من فائدة ونفع.
زكي نجيب محمود
الجيزة، يوليو 1957م
الفصل الأول
في الطريق، وفي الجنوب
الأربعاء 16 سبتمبر 1953م (في الطائرة)
غادرت القاهرة ظهر اليوم، وجلست في الطائرة إلى جوار شاب في مقتبل العمر حسبته عراقيا، لكنه سرعان ما تبين أنه من نيكاراجوا، هو القنصل العام لبلده في شرق الأردن وإسرائيل، يتكلم العربية متعثرا ... وما كدنا نعلو في الجو فوق قطع السحاب الخفيف المبعثر فوق أرضية صفراء هي أرض الصحراء الغربية، حتى مرت بنا المضيفة باسمة توزع علينا قطع النعناع، وبعد أربعين دقيقة أعلن الميكروفون في الطائرة أننا الآن فوق مدينة الإسكندرية، فنظرت فإذا بالإسكندرية لا تزيد على خطوط رفيعة مرسومة بالقلم الرصاص على الورق، وهنا ذكرت من أعرفهم هناك من أهل وأصدقاء، وقلت لنفسي: إذا كانت المدينة الضخمة قد استحالت إلى هذه الخيوط الرقيقة، فبأي منظار يمكن أن أرى الناس؟ والإنسان في هذه الحالة أميل إلى التسرع بالحكم على نفسه بالتفاهة والضآلة؛ فقليل من الارتفاع في الجو يمحوه؛ فماذا يكون أمره عند الرائي من أفلاك أخرى وأكوان أخرى؟ لكن الخطأ هنا هو نسيانه أن الطائرة التي مكنته من الصعود هي من صنعه ووليدة فكره وطموحه وخياله الوثاب. إن أول سطر ينبغي أن يكتب في كتاب ثورتنا وأن يقرأ ألف مرة كل يوم، هو أن نقرر لأنفسنا عن عقيدة قوة الإنسان وجبروته، وأن نمحو من صفحات أذهاننا هذا الوهم الذي ما ينفك يعاودنا ويخيفنا، وهو أن الإنسان مخلوق تافه ضعيف.
غادرنا صفرة الرمال إلى زرقة الماء، فودعت بذلك وطني، وهبطنا في أثينا وفي روما وفي زيورخ وفي باريس وفي شانن بأيرلندة، ومنها عبرنا المحيط الأطلسي؛ ولهذا وقفت المضيفة تشرح لنا كيف تلبس معاطف النجاة إذا اضطرت الطائرة إلى الهبوط فوق الماء.
ركب الطائرة في باريس قسيس أمريكي وجلس إلى جانبي، طويل الجسم عريضه، حليق اللحية، لا يدل على أنه من رجال الدين شيء في مظهره سوى الصدار الأسود؛ فكان هذا أول أمريكي أتحدث إليه في رحلتي إلى أمريكا؛ إنني مقدم على هذه الرحلة معتزما أن أخبر الشعب الأمريكي عن كثب، لا أتأثر في حكمي إلا بما أراه وما أسمعه؛ ولما كان الشعب هو مجموعة أفراده، فمن الأفراد الذين سألتقي بهم وأحدثهم ستتكون فكرتي الخاصة عن الأمريكيين، وإذا فلأنصت جيدا إلى كل حديث، ولأقرأ جيدا كل ما أراه على الوجوه من تعبير؛ فهذا القسيس الأمريكي قد بدت منه علامات الطيبة القلبية منذ اللحظة الأولى، كان على أسرع استعداد أن يعين كلما اقتضى الأمر أن يقدم معونة إلي، ولما شكرته ذات مرة على قدح القهوة الذي تناوله من المضيفة وناولني إياه، اطرد بيننا الحديث، فسألته هل ذهبت إلى مصر؟ فقال: لا، إن أبعد ما وصلت إليه في أسفاري هو روما، لقد عبرت المحيط مرتين ... ولما عرف أني مصري سألني: ما حقيقة الموقف بينكم وبين الإنجليز؟ ثم سرعان ما تدارك قائلا: معذرة، فأظنكم على صلة بالفرنسيين لا بالإنجليز، فصححت له الخطأ وأفهمته أن المشكلة الرئيسية هي بيننا وبين الإنجليز، فسألني: إذا فأنتم خاضعون لبريطانيا، وأنتم لا تريدونها أن تحكمكم، أهذا هو الموقف؟ فابتسمت قائلا: ليس في الأمر خضوع ولا حكم، إننا دولة مستقلة حرة، والأمر كله قائم على وجود قوة عسكرية لهم على جزء من أرضنا هي منطقة قناة السويس، ونريد إخراج تلك القوة من هناك، فانتقل فجأة إلى سؤالي عن عدد الكاثوليك في مصر ... ومضينا في الحديث، فعجبت إذ رأيت بدايته الدالة على جهل شديد بمصر، قد انتهت إلى نهاية دالة على كثرة معرفة وسعة اطلاع، ولولا أنه مشغول العقل بالكاثوليكية إلى حد أعجزه عن التفكير في شيء إلا إذا مزجه بالكاثوليكية؛ لكان رجلا رفيع الثقافة.
قدم لي سيجارة فاعتذرت شاكرا؛ لأني لا أدخن، فقال: ولا أنا أدخن السجائر إلا في رحلة كهذه، لكني بالطبع أدخن السيجار. وعرف أني مشتغل بالفلسفة فسألني عن الوجودية من جهة، وعن الوضعية المنطقية من جهة أخرى، وطلب مني أن أشرح له وجهة نظري في علاقة هاتين الفلسفتين المعاصرتين بالكاثوليكية، فهو يريد أن يعلم إن كان هو قد أصاب الرأي حين رأى أن هاتين الفلسفتين خطر على الدين، فشرحت له رأيي في الوجودية وفي الوضعية المنطقية، لكني رفضت أن أقول شيئا في علاقتهما بالدين، تاركا له هذه الناحية من الموضوع يفيض فيها الحديث ما شاء؛ لأنها تشغله أكثر مما تشغلني، وتهمه أكثر مما تهمني.
Неизвестная страница
وانتقل الحديث إلى الشيوعية، فراح يستنكرها في حماسة عجيبة؛ فقد ثار هنا ثورة انفعالية لا يتوقعها السامع من رجل ديني طابعه الهدوء، وقال - وكأنه يخطب جمهورا كبيرا أمامه مع أنه يتحدث إلى شخص واحد في طائرة تشق ظلام الليل على ماء المحيط: إنني أعلنتها مرارا في كنيستي، بأنني مستعد لجمع التبرع من أهل دائرتي الكنسية؛ لأعطي المال المتجمع لأي إنسان يحس في نفسه الرغبة في اعتناق الشيوعية، فيسافر إلى الروسيا على حساب كنيستي، وإذا استطاع الدخول فله الحق في اعتناق المذهب الشيوعي الذي تمناه لنفسه، أما إذا أوصدت دونه أبواب الروسيا وعاد بخفي حنين، ففيم إذا استمساكه بمذهب لا يريد أصحابه أن يفتحوا له أبوابهم لينضم إلى صفوفهم؟
أطفئت المصابيح داخل الطائرة، وراح المسافرون يصلحون من مقاعدهم ليناموا، وأسندت رأسي ونمت ثم صحوت بعد ساعتين، وشعرت ببرد خفيف فتدثرت ببطانية صغيرة موضوعة في أعلى مقعدي، ثم نمت مرة أخرى نحو ساعة ... الركاب نائمون أو هم يتخذون ظواهر النوم ... ونظرت إلى المحيط، فلم أر محيطا بالطبع؛ لأننا على ارتفاع شديد، لكني رأيت جوا مفضضا؛ فالظاهر أنها كانت ليلة مقمرة، وأن ضوء القمر كان منعكسا على السحاب من تحتنا فأحدث هذا اللون الفضي ... إنني الآن أشعر برئتي حين أتنفس، ولست أدري أهي نتيجة محتومة بسبب الارتفاع، أما أنها ظاهرة خاصة بي وحدي.
ظللت أنظر إلى الجو الفضي خلال الزجاج، وقلت في نفسي: ما أبعد الفرق بين إنسان وإنسان! قارن بينك الآن وأنت تعبر المحيط على هذا النحو، وبين كولمبس وهو يعبر المحيط نفسه؛ لتعلم كم يكون الفرق بين الفرد المبدع الخلاق المبتكر وبين الأفراد الذين يجيئون بعد ذلك فيتبعونه! إن خيال رجل واحد وجرأته فتحت للناس عالما جديدا، وشقت لهم طريقا جديدا، وسرعان ما يختلط علينا الأمر فنظن ألا فرق بين من يبدع ومن يتبع! سرعان ما يختلط علينا الأمر في مصر فلا ندرك فرقا بين مبتكر الطائرة مثلا وبين من يركب الطائرة على نموذج أمامه! سرعان ما يختلط علينا الأمر في مصر فلا نرى المسافة الشاسعة بين عالم يبحث ويصل إلى النتائج الجديدة وينشر هذه النتائج، وبين من يأتي بعد ذلك ليقرأ هذا المنشور ويدرسه ويفهمه، فنقول لأنفسنا: إن منهم علماء ومنا علماء، ولا فرق بين شعب وشعب ولا بين شرق وغرب! ... لكن الفرق يا صاحبي هو نفسه الذي يقع بيني وبين كولمب في عبور المحيط، عبره هو لأول مرة مغامرا مخاطرا متخيلا متعقلا، وعبرته بعده تابعا، فلا مغامرة ولا مخاطرة ولا خيال ولا فكر.
الخميس 17 سبتمبر سنة 1953م
أخذت تباشير الصبح تنتشر حولنا بعد أن قطعنا في سواد الليل أكثر من خمس عشرة ساعة؛ لأننا نتجه غربا كما تتجه الشمس، فنحن والشمس نسير في اتجاه واحد كأنما نحن معها في سباق لا نريدها أن تلحق بنا، لكنها في سيرها أسرع من طائرتنا، فلحقت بنا بعد ظلام طويل، ونظرت عند إشراقها فإذا نحن سائرون فوق سحاب كثيف: منظر غاية في الروعة والجمال، فكأن ما تحتنا من سحاب جبال من رغاوي الصابون، أو أكداس من دخان أبيض.
بدأت الحديث مرة أخرى مع القسيس الذي يجلس إلى جواري، ولم نكد نتحدث حتى طرق الكاثوليكية من جديد يحدثني فيها، ويطلب مني في إلحاح أن أقابل القسيس الكاثوليكي في البلد الذي سأحل فيه، وهو كولمبيا من ولاية كارولاينا الجنوبية، وعاد مرة أخرى يستوثق مني الرأي في بعض نواحي الفلسفة المعاصرة من وجودية ووضعية منطقية؛ ليرى كيف يمكن للدين أن يتقي مواضع الخطر، وقال لي آخر الأمر: إنك لن تجد الأمريكيين كلهم من أمثالي، تحدثهم مثل هذا الحديث العالي فيفهمونك، فقد تقول لهم: «وضعية منطقية»، فيسألونك: كم طابقا تكون هذه العمارة؟ فأنبأته بأن زعماء هذه الحركة الفلسفية هم اليوم في أمريكا، ونحن إنما نتبع ولا نجيئهم في ذلك بجديد.
وصلنا مطار نيويورك بعد طيران دام ثلاثا وثلاثين ساعة، وكنت قد احتفظت في ساعتي بوقت القاهرة، فكانت الساعة عليها عندئذ الثامنة، فأرجعتها ست ساعات لتدل على وقت نيويورك، ووجدت سيدة تسأل عني جاءت لتستقبلني ووجدت معها قائمة بأسماء الغرباء الذين ينتظر وصولهم اليوم، أعطتها إياها وزارة الخارجية، وسرعان ما علمت أن السيدة تنتمي إلى جمعية تطوعية جعلت مهمتها استقبال الغرباء من أساتذة وطلاب؛ ليمهدوا لهم طريق الاستقرار في بلادهم حتى لا يضلوا السبيل كما يضل كل غريب ليس له هاد يهديه، وقد يظن السامع أن هذه هي الجمعية الوحيدة التي أخذت على نفسها هذه المهمة الإنسانية؛ لأنه في الحقيقة يكفي أن تفكر جماعة واحدة في التطوع لمثل هذا العمل، لكنني دهشت حين أعطتني السيدة قائمة بأربعة وثلاثين عنوانا لأربع وثلاثين جمعية تطوعية، كلها تألفت لهداية الزائرين الغرباء!
خرجت من مكان التفتيش الجمركي، ووقفت أنتظر السيارة العامة التي تنقل المسافرين من المطار إلى المدينة، وهنا جاءني الشرطي فحياني بقوله: لا شك أنك مغتبط لعودتك إلى أرض الوطن؛ فهذا شعور أحسست به أنا لما عدت إلى الوطن بعد غيبة. فقلت له: أنا مغتبط لوصولي، ولكني زائر وليست أمريكا بوطني. فراح الشرطي يحدثني حديثا يفيض ودا وطيبة قلب عما ينبغي أن يكون بين الناس من إخاء مهما اختلفت أوطانهم، وسأل متعجبا: لماذا تنشأ حرب بين قوم وقوم كالحرب الكورية مثلا؟ ألا يريد كل رجل أن يعيش بين أهله؟ وقال لي الشرطي - فيما قال - إنه إيطالي؛ فلم أفهم لأول وهلة ماذا يريد، ولو أنه بالطبع يقصد أنه من أصل إيطالي، لكني لم أخل عندئذ من دهشة أن يذكر الأمريكي أصله الأوروبي أول ما يذكره عن نفسه من حقائق، وجاءت السيارة فأعانني في حمل حقائبي وأوصى السائق بي خيرا، ودله على أقرب مكان للفندق الذي علم أني سأقيم فيه.
لقد تحدثت حتى الآن مع ثلاثة: القسيس في الطائرة، والسيدة المتطوعة في المطار، وهذا الشرطي، ولو كان هؤلاء عينة للشعب الذي جئت لزيارته، فهو إذا شعب ودود كريم طيب معين.
الجمعة 18 سبتمبر
Неизвестная страница
صحوت مبكرا، نزلت لأرى شوارع نيويورك وهي في هدوء الصباح، ولبثت أطوف على مهل، شاخصا ببصري هنا، لامسا بأصابعي هنا، واقفا عند مفترق الطرق هناك! حتى إذا ما حان موعد العمل في المكاتب قصدت إلى مؤسسة جون وتني في المبنى الضخم بميدان روكفلر، وهي المؤسسة التي منحتني منحة سخية لأقيم في أمريكا عاما دراسيا، أحاضر في اثنتين من جامعاتها: في جامعة كارولاينا الجنوبية بكولمبيا خلال النصف الأول من العام، وفي كلية الدولة بولاية واشنطن في النصف الثاني من العام. استقبلتني الآنسة «ل» وهي فتاة في نحو الخامسة والعشرين من عمرها، أو قد تزيد قليلا، سمحة الوجه، جميلة الملامح، مهندمة في أناقة واحتشام، تبدو عليها علائم التهذيب والثقافة، استقبلتني بترحاب شديد، وأعطتني القسط الأول من منحتي المالية، ودعتني على الغداء مع مدير المؤسسة الدكتور «و» ... وفي الدقائق القليلة التي صحبتني فيها الآنسة «ل» لتعينني على صرف راتبي من مصرف في أسفل البناء، أنبأتني عن جون وتني صاحب المؤسسة ومانحي المنحة المالية أنه رجل فوق الأربعين بقليل، وقد كسب أمواله من سباق الخيل، حتى اقترن اسمه بالسباق في أرجاء البلاد كلها، فأراد أن يغير منحى حياته ليكسب لنفسه شهرة عن طريق آخر ، وبدأ عدة أعمال من أهمها إنتاج الطعوم المثلجة المعبأة، وهو الآن في هذا المجال التجاري قد بلغ أوج الشهرة ... تذكرت عندئذ أنني حين كنت أتحدث في الطائرة إلى جاري القسيس، وأنبأته أنني أستاذ زائر بمنحة من جون هيي وتني صاحب الملايين، سألني القسيس: أهو وتني رجل السباق؟ فقلت له: أي سباق؟ لا أظن ذلك؛ فهو رجل كل ما أعلم عنه أنه مشجع للعلم والعلماء.
تركت الآنسة «ل» لأعود إلى مكتب المؤسسة ساعة الغداء، وقبل أن أسير في شوارع المدينة جلست على مقعد قريب، ونشرت الخريطة أمامي لأرى أين أسير، وحددت لنفسي ثلاثة مواضع أزورها هذا الصباح: عمارة إمباير ستيت التي هي أعلى بناء في العالم، والمكتبة العامة وبناء جمعية الأمم ... الحق أنك لا تلبث في نيويورك أن تتعود ناطحات السحاب، كأنما أنت مقيم فيها منذ أول نشأتك! فهي كما عهدناها في الصور وعلى الشاشة حتى ليخيل إليك ألا جديد.
دخلت المكتبة العامة فإذا بها فوق كل خيال من الأناقة والفخامة والنظافة والذوق، وقد رأيت على بابها إعلانا عن معرض لمخطوطات إمرسن، فجعلته هدفي من الزيارة، ووقفت في غرفة المعرض أنظر إلى الصفحات المنشورة في صناديق الزجاج بخط إمرسن، وقرأت له بضعة خطابات وجدت خطه فيها غاية في الوضوح. إن القارئ ليعجب أن يقرأ للأديب العظيم مثل إمرسن خطابات خاصة كأنه رجل عادي له ما لسائر الناس من توافه وصغائر في حياته! ...
إنني أنظر إلى الناس في الطرق، فلا أجد ما توقعته من علامات السرعة والانشغال؛ فقد كنت قرأت لكاتب مصري زار نيويورك وكتب لنا عنها أنه كلما سأل أحدا في الطريق سؤالا امتنع عن الإجابة معتذرا أو بغير اعتذار؛ لأن الجميع في رأيه يسيرون وكأنهم يعدون عدوا، ليس لديهم الوقت الذي يقفون فيه ليجيبوا السائل عن سؤاله ... إنني لم أشهد شيئا من ذلك؛ فهم ناس كسائر الناس ذوي القلوب الطيبة، تسأل من شئت منهم فيقف لك محتملا لغتك المتعثرة، ليفهم قولك ثم يهديك بقدر ما في مستطاعه أن يهدي.
تناولت الغداء مع الدكتور «و» والآنسة «ل» من مؤسسة وتني، وكان حديثنا على مائدة الغداء يدور معظمه حول سؤال سألني إياه «و»، وهو: ما رأي المصريين في الأمريكيين؟ فقلت له صادقا: رأي المصريين عن الأمريكيين لسوء الحظ مأخوذ من السينما؛ فالأمريكي عندهم - كما هو عند العالم أجمع - رجل غني قليل الثقافة غريب النزوات؛ وأضفت إلى ذلك قولي: إن تقدير المدنية الأمريكية مختلف عليه؛ فمن الناس من يرفعها ومن الناس من يخفضها، فقال الدكتور «و»: التبعة في ذلك كله واقعة على من يستعمل الألفاظ بغير تحديد لمعانيها، فما معنى «مدنية أمريكية»؟ من هو «الأمريكي» أولا؟ وما هي «المدنية» ثانيا؟ أتظن أن الأمريكيين كلهم سواء؟ إنك ذاهب إلى الجنوب، وسترى طرازا من الناس ولونا من العيش ووجهة للنظر تختلف كثيرا عما تراه في نيويورك، وعما تراه في وسط البلاد وفي غربها، فمن هو «الأمريكي» من هؤلاء؟ ثم ماذا يقصد على وجه التحديد بقولهم «مدنية أمريكية»؟ ... ومضى «و» في حديثه على هذا النحو، فوجدته يتفق مع طريقتي في التفكير كل الاتفاق؛ لأنني من القائلين بوجوب تحديد هذه الألفاظ الغامضة التي تلقى في الحديث جزافا ...
قلت له: إن المتحدثين عن «المدنية الأمريكية» يقصدون على الأرجح مدنية تقوم على العلم دون الجانب الإنساني من عقيدة وفن وما إلى ذلك؛ فقالت الآنسة «ل»: هذا لسوء الحظ رأي شائع عنا في أنحاء العالم كله؛ ولذلك ترى أولي الأمر منا يبذلون اليوم جهود الجبابرة في زيادة الاهتمام بالإنسانيات في التربية والتعليم.
وسئلت عن رأي رجال العلم عندنا في الإنتاج العلمي الأمريكي، فقلت صادقا مرة أخرى: إن رجال العلم عندنا أميل إلى اتهام الإنتاج الأمريكي بالضحولة مع أنهم مخطئون؛ فقد قال لي يوما رجل من المشتغلين بعلم النفس في مصر عن علماء النفس الأمريكيين إنهم سطحيون، مع أنك لا تراه يقرأ إلا مراجع أمريكية! قالت الآنسة «ل»: وبماذا تعلل هذه التهمة إذا؟ قلت: لعلها مسألة نسبة؛ فالأمريكيون ينتجون أكثر من غيرهم، وبالطبع يستحيل أن يكون كل الإنتاج جيدا، فإذا فرضنا مثلا أن كل خمسة كتب بينها كتاب واحد جيد، فيكون الأثر على المتتبع لهذا الإنتاج هو أن القلة جيدة والكثرة رديئة، مع أن هذا القليل الجيد هو في ذاته أكثر مما ينتجه أي بلد آخر ... فأعجب الدكتور «و» بهذا التعليل وقال: مصداقا لما تقوله أضيف ما يأتي: الأمريكيون أغنى من سواهم؛ فالنتيجة هي أن يخرج منهم لزيارة البلاد الأخرى عدد كبير من أوساط الناس، فإذا فرضنا مثلا أن كل خمسة أشخاص يزورون البلاد الأجنبية بينهم شخص واحد ممتاز وأربعة من الأوساط الوسطى، فسيكون أثر ذلك على الشعوب الأخرى هو أن أقلية قليلة من الأمريكيين ممتازة، وأما كثرتهم الغالبة فدون مرتبة الامتياز في ثقافتها وأخلاقها، ولما كانت البلاد الأخرى - كإنجلترا مثلا - لا يستطيع الخروج منها إلا الممتاز، فستقول عنهم الشعوب الأخرى إنهم شعب ممتاز.
هكذا تحدثنا على مائدة الغداء، حتى إذا ما فرغنا علمت أن الآنسة «ل» قد أعدت لي زيارة لقسم الفلسفة بجامعة كولمبيا بنيويورك، وقالت: إني سأقابل هناك الأستاذ إرون إدمان الذي يريد أن يتحدث إلي؛ فسررت كل السرور أن تتاح لي فرصة لقاء رجل كنت أقرأ له وأنا في القاهرة، ولو أنني لا آخذ في الفلسفة مأخذه؛ وكان موعد اللقاء الساعة الثالثة. ركبت السيارة العامة وقصدت إلى الجامعة، وفي الساعة الثالثة تماما نقرت على باب غرفة الأستاذ، وجاء الأستاذ وتلقاني لقاء عجيبا؛ فقد كان يظن أنني طلبت لقاءه لأستفسر عن شيء معين، وكنت من ناحيتي أظن أنه طلب لقائي ليستفسر عن شيء معين، وهكذا بدأت الزيارة بسوء تفاهم عند الطرفين، ولم تكن زيارة موفقة، ولعل أهم ما دار فيها من حديث أنه سألني عن اتجاهي الفلسفي. فلما قلت له: إنني وضعي منطقي، قال: إنني لسوء الحظ مصاب بالعمى نحو الوضعية المنطقية فلا أرى فيها شيئا؛ فأنا مختص بعلم الجمال، وليت الأستاذ فلان كان هنا لتلتقي به؛ لأنه يتجه في الفلسفة وجهتك، وودعته وانصرفت.
الإثنين 21 سبتمبر
غادرت نيويورك بالطائرة قاصدا إلى كولمبيا بولاية كارولاينا الجنوبية حيث أحاضر في الفلسفة مدة النصف الأول من العام ، ومررت في طريقي مرورا خاطفا بواشنطن حيث قابلت الدكتورة «إ» وتحدثت معها فيما أنا مكلف بعمله أثناء زيارتي، كما مررت مرورا سريعا بأصدقائي في مكتب البعثات والسفارة ... واستأنفت الطيران إلى كولمبيا فبلغتها عند الغروب، وكان يستقبلني في المطار العميد «ن» والدكتور «ش»، وهما من رجال الجامعة الأعلام، فما كان أشد دهشتي - بل حيرتي - حين رأيت هذين الأستاذين الجليلين يسبقانني إلى حمل حقائبي ووضعها في سيارة الأول، ثم صحباني إلى الفندق الذي نزلت فيه ... الحق أنني ساعتئذ تخيلت أستاذا أمريكيا يزور مصر كما أزور أنا اليوم أمريكا، ثم سألت نفسي: من من رجال الجامعة عندنا يفكر في استقباله في المطار كما استقبلني هذان السيدان، ويظل يرعاه حتى يطمئن على استقراره؟ ... لكننا نغمض الأعين عن هذه الأمثلة الإنسانية، ونصر على أن نمضي في صياحنا - لأن الأمر لا يعدو الصياح - بأن هؤلاء الناس يعيشون في مدنية مادية ليس فيها شيء من القيم الإنسانية، أما نحن فنترع وننعم بمدنية روحية!
Неизвестная страница
الظاهر أن الفنادق هنا متشابهة التأثيث والإعداد، فغرفتي في هذا الفندق الذي نزلت فيه شديدة الشبه بالغرفة التي نزلت بها في نيويورك، وحسبي الآن من أوجه الشبه وضع الإنجيل على المكتب في كلتا الغرفتين، إنني لأرجو ألا تفلت مني أمثال هذه الأشياء الصغيرة الدالة على مغزى كبير؛ فها أنا ذا أرى الأدلة تتراكم على أنني إزاء شعب متدين، وقد كنت أظنه غير ذلك ... ترى ماذا يقول زائر أمريكي في مصر لو نزل في فندق سميراميس مثلا، فوجد القرآن موضوعا أمامه في كل غرفة؟
لم أكد أستقر في غرفتي دقائق حتى دق التلفون، والمتكلم هو الدكتور «ف» أستاذ الفلسفة بالجامعة يهنئني بسلامة الوصول، ويقترح اللقاء إذا لم يكن عناء السفر يحول دون ذلك، فرحبت بزيارته ... الدكتور «ف» من الذين أكسبتهم الدراسة الفلسفية تنبها ذهنيا وصحوا فكريا تراهما في لمعة عينيه؛ فالدراسة - فيما شهدت من خبرة الحياة - إما أن تؤدي بصاحبها إلى هذا التنبه والصحو، وإما أن تميل بصاحبها نحو الفتور والذهول ... والدكتور «ف» من الصنف الأول، رحب بمقدمي وأخذني في سيارته إلى مكتبه بالجامعة، ومكتبه هناك هو نفسه مكتبته - كما هي الحال بالنسبة للأساتذة جميعا - فجدران المكتب الأربعة مغطاة برفوف الكتب؛ مكتبه هو مكان عمله ودراسته على السواء؛ لكل أستاذ مثل هذا المكتب الذي وضع فيه عدته من كتب وأوراق، فإذا قيل للأستاذ أن يتصل بطلابه كان للقول معنى؛ لأنه مستقر هناك، وللطالب الذي يريده أن يسعى إليه في مقره ذاك؛ فهل يمكن أن أرى ذلك وألا أقارنه بحالنا في القاهرة؟ أساتذة الفلسفة جميعا محشورون في غرفة واحدة لا تسع إلا منضدة واحدة! أين يجلس الأستاذ ليعمل؟ أين يجلس حتى لا يجد نفسه مضطرا إلى العودة مسرعا إلى منزله بعد إلقاء محاضراته؟ أين يجلس ليقال له بحق أن يتصل بطلابه؟ إننا نقول كلاما لا نعنيه.
تحدثت مع الدكتور «ف» في المحاضرات التي سألقيها عن الفلسفة الإسلامية، فوجدت أن الناس يرقبون هذه المحاضرات ليعلموا بها ما لم يكونوا يعلمون عن الإسلام وعن العرب وعن الشرق الأوسط بصفة عامة؛ كثير من الأساتذة رتبوا حضورهم هذه المحاضرات، بل كثير من أفراد الناس خارج الجامعة طلبوا الحضور. لقد أعلنت الجامعة قبل حضوري عن محاضراتي في الفكر العربي، فكان ذلك حافزا لكثيرين جدا من الناس أن يعدوا أنفسهم لها.
الثلاثاء 22 سبتمبر
خرجت مع الصباح الباكر، فوجدت مدينة كولمبيا على نمط واشنطن مع الفارق في اتساع الرقعة؛ فهي مبان وطيئة نظيفة، وشوارع غاية في الاتساع، وكل منزل من منازلها - ومنازلها خشبية مطلية باللون الأبيض - تحوط به الحدائق؛ فأمام المنزل حديقة وخلفه حديقة، وله حديقة في كل من جانبيه؛ لهذا تنظر - خصوصا إذا نظرت من رابية عالية - فترى المنازل البيضاء تطل من الخضرة إطلال الزهور البيضاء في بستان فسيح.
دق التلفون في غرفتي عصرا، وإذا بالمتكلم عربي يقول: الحمد لله على السلامة يا أستاذ، أنا فلسطيني هنا وأريد رؤيتكم؛ فنزلت فورا، وجدت شابين، هذا الفلسطيني يصحبه لبناني؛ أما الأول فممن شتتت الحوادث الأليمة أسرته في فلسطين، فجاء إلى هذه البلاد يسعى نحو الرزق والعلم في آن معا، إنه يعمل في الصيف ليكسب قوت العام ونفقات الدراسة خلال أشهر الشتاء والربيع، إنه رجل بكل معاني الرجولة الصلبة القوية؛ وأما زميله اللبناني فعلى كثير جدا من رعونة الصبيان مع أنه لا يصغر الفلسطيني عمرا، حياته ميسرة نسبيا، وقد علمه اليسر أن يتميع. على كل حال فرحت بلقائهما والحديث معهما ساعة من زمان؛ إن إخاء العربي للعربي أمر لا يشعر به الإنسان على شدته وقوته إلا في مطارح الغربة، فعندئذ يبدو في وضوح كيف أن العربي والعربي شقيقان، بالقياس إلى سائر الشعوب.
كنت في غرفتي في المساء أقرأ وأكتب، وإذا بي أسمع دقا شديدا على باب الغرفة المجاورة لغرفتي، وأسمع نداء عاليا، ثم تحول الدق إلى باب غرفتي، فقمت وفتحت الباب، وكنت إذ ذاك أرتدي ملابس النوم (البيجاما) وإذا بي إزاء ثلاثة رجال في حالة من المرح الشديد، ولعلهم أرادوا - مدفوعين بمرحهم هذا - أن يشركوا سواهم معهم؛ فلما فتحت الباب صاحوا: ها أنت ذا يا جو؛ وأخذوا يجذبونني من يدي جذبا لم أقو على مقاومته، فجعلت أرجوهم أن يتركوني لعملي، لكنهم يمضون في شدي قائلين: تعال هنا يا جو، حتى أخرجوني أمام غرفتي؛ ولما رأوا على وجهي علامات الانقباض - مع أنهم كانوا يتوقعون مني ضحكا ومرحا - تركوني قائلين بعضهم لبعض: الظاهر أن ليس له نصيب في حياة المرح ... عدت إلى غرفتي وأقفلتها، لكني لبثت مدة طويلة لا أستطيع استئناف ما كنت أكتبه.
الأربعاء 23 سبتمبر
اليوم مشرق جميل، كل شيء يبدو أمام عيني رائعا، وأحس قلبي ينبض نبضة النشوة والفرح؛ قمت مبكرا وأخذت أتطلع من وراء النافذة، وللنافذة غطاء من السلك وقاية من البعوض؛ كل شيء مشرق راقص، وفتحت الراديو لأسمع موسيقى فتضيف إلي نشوة هذا الصباح.
وألقيت اليوم أول محاضراتي عن الفلسفة العربية؛ جعلت المحاضرة تحليلا لخصائص الفكر العربي، إن كانت له خصائص تميزه عن فكر الغرب، وأحسست بنجاح وثقة في نفسي وفيما أقول ... وكان بين الحاضرين السيدة «ش» التي استرعت انتباهي منذ اللحظة الأولى بل قبل اللحظة الأولى؛ لأنها جاءتني قبل بدء المحاضرة تسألني عن المكان الذي سأحاضر فيه. عرفتني بنفسها تعريفا وافيا وطلبت مني أن أنطق لها باسمي لتنطقه صحيحا، وقالت: إنها هي وزوجها - وهو ضابط في مستشفى عسكري بسلاح الطيران - قد وضعا خطة حياتهما على أن يقيما بمصر حينا، وهما يريدان أن يعلما عن مصر كل ما يمكن العلم به؛ عليها علامات الذكاء، ولا بد أن أضيف إلى ذكائها جاذبية الأنوثة فيها؛ وكل شيء في ثيابها وحليها ينم عن ذوق جميل ... الظاهر أنه مهما كان الكاتب صريحا فلا بد أن تنقصه الصراحة؛ لأنني أشعر برغبة في أن أخفي شيئا من شعوري، وهو أنني اغتبطت في نفسي لما وفقت إليه من طلاقة لسان، وحضور بديهة في المحاضرة الأولى لأظفر بالرضى من هذه السيدة التي جعلت هدفها مصر.
Неизвестная страница
طاف بي الدكتور ش - وهو رئيس الفلسفة وأستاذ لعلم النفس - على مدير الجامعة وعمدائها ومن كان من أساتذتها بنادي الأساتذة. وفي النادي جلسنا نحو ساعة هناك حيث شربنا القهوة وتحدث إلي الحاضرون وتحدثت إليهم، وكاد الحديث كله أن يكون عن الثورة المصرية ورجالها، وجعلت أشرح لهم بعض ما غمض عليهم من نواحيها.
الأحد 27 سبتمبر
ذهب أفراد الأسرة التي سكنت بمنزلها إلى الكنيسة، وبقيت وحدي، فجلست في الشرفة الخارجية أقرأ الجريدة المحلية الصباحية؛ ففي كولمبيا جريدتان أساسيتان: إحداهما تصدر في الصباح والأخرى في المساء، وجريدة الأحد ضخمة تبلغ حجم جريدة الأهرام نحو عشر مرات.
نظرة سريعة إلى هاتين الصحيفتين المحليتين كفيلة أن تدل على مدى اللون الإقليمي؛ فهي تعنى أولا بشئون الولاية - ولاية كارولاينا الجنوبية - وبعد ذلك تأتي شئون سائر الولايات وشئون العالم الخارجي.
كنت وأنا في مصر أضيق صدرا بالروح القبلية الشائعة في صحفنا حتى المهم منها، فتراها تخصص فراغا كبيرا لأخبار الأفراد: هذا سافر، وهذا تزوج، وذاك وافته منيته، وهؤلاء ارتقوا في مناصب الدولة ودرجاتها، وما إلى ذلك مما لم يكن ينبغي أن يشغل فراغا من صحيفة تعلو على أمثال هذه التوافه؛ فلما وجدت شيئا قريبا من هذا في الصحيفة المحلية هنا - وبالطبع ليس الأمر كذلك في صحيفة كبرى مثل نيويورك تايمز التي تصدر في نيويورك - أدركت أنه كلما ضاقت دائرة اهتمامات الناس في مجتمع ما؛ جاءت صحفهم ملونة بلون إقليمي محلي كأنها نشرات، أما إذا اتسع الأفق وارتفعت الثقافة؛ نشرت الصحف بالتالي شباكها حول العالم، وأهملت الصغائر من أخبار الأفراد.
فالناس هنا كما رأيتهم - من اللمحات السريعة التي أتيحت لي حتى الآن - يكادون يغلقون نوافذهم للعالم الخارجي، لا يعلمون عنه إلا القليل وأقل من القليل، بل لا يكادون يأبهون بما يجري في الولايات الأخرى البعيدة من الولايات المتحدة نفسها؛ وصحيفتاهم:
The State
الصباحية، و
Columbia Record
المسائية مرآة لهذا كله؛ فأهم للصحيفة وللناس أن تملأ صفحة بأسرها أو صفحات كاملة كل يوم بصور العرائس اللائي تمت خطبتهن أو تم زواجهن من أن تنشر أنباء الثورة المصرية مثلا على شيء - ولو قليل - من التفصيل.
Неизвестная страница
جلست في شرفة الدار عصرا، فجاءت سيدة الدار وفي يدها طعام ملفوف في ورقة صفراء، وقفت تقول لي: إنها ذاهبة إلى الحديقة لتطعم الديدان؛ فنظرت إليها نظرة فيها دهشة وسؤال، فقالت: إني أطعم الديدان، في حديقتي مجموعة كبيرة منها أواليها بالطعام، إنني أعطف عليها، كنت منذ سنوات أقشعر منها وأخشاها؛ لأنها ستأكل جسدي بعد الموت، لكني الآن أعطف عليها؛ فأقل ما يقال فيها: إنها تنفع تربة الأرض للزراعة دون أن يلحقنا منها أذى، قليلة هي الأشياء التي تنفع ولا تؤذي؛ لهذا أذهب كل يوم إلى حديقتي وأطعم مجموعة كبيرة من الديدان هناك.
قلت لها: إنني أسمع مواء قطة لا ينقطع، يأتي إلى غرفتي من النافذة الخلفية، فهل في الحديقة قطة حبيسة؟ فقالت: لا، هذا طائر صوته يشبه المواء؛ إنني لا أطعم القطط ولا أحبها لسبب واحد وهو أنها تأكل العصافير، إن لي صديقا اسمه كذا يحب العصافير حبا جما؛ ولهذا ألف جمعية تعمل جهدها للتخلص من القطط صيانة للعصافير وحماية لها، لكن الجمعية جعلت مبدأها ألا تؤذي قطا، بل هي تجمع القطط في مكان ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، وبهذا تعيش القطط وتعيش العصافير، وصديقي هذا يعطي دولارا (ريالا) لكل من أعطاه قطة يضمها إلى معسكر القطط.
الثلاثاء 29 سبتمبر
صاحب البيت قسيس متقاعد، كان واعظا في كوريا والصين؛ حيث قضى الشطر الأكبر من حياته، واسمه «م» ... ما أعجب هذا الرجل في شدة طيبته وتواضعه واستعداده الحقيقي للخدمة والمعونة! وقد ذكرني بالقسيس الذي التقيت به في الطائرة من باريس إلى نيويورك، فهل يجوز لي من هذين المثلين أن أعمم الحكم وأقول إن رجل الدين في المسيحية رجل دين حقا من حيث التواضع والتضحية بالنفس في سبيل غيره؟ هل يجوز لي أن أقول بناء على هذه الخبرة القليلة مع هذين الرجلين إن رجل الدين عندهم لا يعتقد في دينه فقط، بل يحياه ويتمثله؟ ... وهنا كدت أكتب: «وأما رجل الدين عندنا ...» لولا أنني اعترضت على نفسي قائلا: ليس عندنا «رجل دين» بالمعنى الدقيق لهذه العبارة؛ فكل مسلم رجل دين؛ بمعنى أن كل مسلم مسئول عن دينه أمام ربه ... وعلى كل حال أراني مدفوعا إلى كتابة هذه العبارة: «إن من يسمون عندنا برجال الدين قوم حفظوا قواعد الدين ودرسوها كما تدرس الرياضة أو الجغرافية، لكنهم قل أن يحيوها بحيث تتمثل حية في أشخاصهم.»
اتصل بي الدكتور «ش» رئيس قسم الفلسفة بالجامعة؛ لينبئني أنه سيرتب أربعة اجتماعات في منزله في أيام حددها لي، بحيث يدعو في كل اجتماع مجموعة من الأساتذة ليعرفوني وأعرفهم، فشكرته في حرارة وإخلاص على هذا الكرم الأصيل ... إن الدكتور «ش» مثل نادر للرجل المهذب المؤدب، إنني والله كلما رأيت رجلا كهذا كيف يقدم لي المعونة مضحيا بوقته وجهده؛ أعجب لنفسي أشد العجب أن يشيع عن القوم أنهم ماديون في نزعاتهم وفي حياتهم، وأننا - نحن المصريين - روحانيون! ليس الأمريكيون معنى مجردا في الهواء، بل هم ناس، فإذا أردت أن تقول عنهم شيئا فأمسك القول حتى ترى أفرادهم وتتحدث إليهم لترى بنفسك إن كان «الدولار» وحده هو دائما رائدهم في سلوكهم كما يشيع عنهم، أم أنهم مدفوعون إلى سلوكهم في كثير جدا من الأحيان بمعان إنسانية سامية نبيلة ... لماذا جاء الدكتور «ش» هذا مع العميد «ن» ليقابلاني في المطار؟ لماذا يتسابقان على حمل حقائبي؟ لماذا يرتب لي هذه الحفلات الأربع في منزله؟ لماذا يحمل إلي بنفسه الكرسي الثقيل من طابق في البناء إلى طابق حتى يعد لي مكانا مريحا؟ لماذا يدور بي في سيارته ساعات ليبحث لي عن سكن أستقر فيه؟ هذا أمريكي، فهل دفعه إلى هذا السلوك كله حب «الدولار»؟ أم دفعه قلب كبير وشعور نبيل؟ إنني في هذه اليوميات لن أكتب إلا خبرتي الشخصية المباشرة، وسأصم أذني بعد الآن حتى لا أسمع هذه الأحكام الجائرة التي يلقيها الناس جزافا على شعوب بأسرها.
لو سئلت عن الأمريكيين لأجيب في حدود خبرتي؛ لقلت بغير تردد: إنهم يمتازون بحسن العشرة وكرم الضيافة؛ فيستحيل أن أجلس في مطعم ثم يأتي من يشاركني في المائدة دون أن يحيي تحية طيبة وأن يبدأ الحديث، وإذا انقطع حبل الحديث بيننا فانقطاعه دائما يكون من ناحيتي لا من ناحيته.
الأربعاء 30 سبتمبر
كان الدكتور «ز» قد لاحظ لي - وأنا في القاهرة - قائلا: إن المشكلة الجنسية في أمريكا محلولة بالزواج المبكر، والظاهر أنه قد أصاب في ملاحظته؛ فالطالبات اللائي يحضرن لي محاضراتي كلهن متزوجات، وكثيرون جدا من الطلبة متزوجون؛ وملاحظاتي في هذا الباب تزداد اتساعا، فأزداد بذلك وثوقا أن الزواج هنا إنما يكون في سن مبكرة جدا، في العشرين أو نحوها، وأنك تكاد لا تعثر فوق هذه السن على رجل واحد أو امرأة واحدة غير متزوجة، وقد جاء ذلك الزواج المبكر بنتيجتين: أولاهما استقامة الأخلاق استقامة لا تطرأ ببال أحد خارج البلاد الأمريكية! ألا ما أظلم الناس في أنحاء العالم حين يحكمون على الأمريكيين بتحلل الأخلاق! لكنها السينما هي التي أوحت إلى الناس أن الحياة في أمريكا كلها مصورة في حياة الممثلين والممثلات على الشاشة البيضاء! ... الأخلاق في أمريكا أقرب إلى التزمت منها إلى التحلل، والسبب الأول في ذلك هو استمساكهم بالدين لدرجة لا يحلم بها إنسان من الشعوب الأخرى، ثم تفرع عن ذلك سبب ثان وهو الزواج المبكر واستتباب الأسرة.
وأما النتيجة الثانية للزواج المبكر فهي أن يتزوج الزوجان في سن متقاربة إن لم تكن متساوية، وذلك مقبول حين يكونان في العشرين والثلاثين، أما حين تتقدم بهما السن إلى الأربعين والخمسين، فالرجل يظل على شبابه على حين تهرم المرأة، فترى الزوجين عندئذ فيخيل إليك أنك إزاء رجل ووالدته لا رجل وزوجته، ومن هنا كثيرا ما ينشأ الطلاق في سن متأخرة؛ ولذا تسمع عن نسبة عالية في الطلاق بين الأمريكيين.
لم أكن أتصور أن تبلغ الإذاعة هنا هذه الدرجة كلها من السخف بسبب الإعلانات التجارية؛ فلست أبالغ إذا قلت: إنه بعد كل إذاعة تستغرق خمس دقائق يذاع إعلان تجاري؛ الإعلان يتخلل الأحاديث والغناء والموسيقى، فلا يمكن أن تفتح الراديو وتستمتع بإذاعة متصلة في شيء واحد مدة نصف ساعة مثلا؛ بل إن الذي يتولى البرنامج الإذاعي كثيرا ما يكون هو المحل التجاري الذي يعلن عن نفسه؛ فمثلا تعلن سيارات شفروليه عن نفسها في نصف ساعة، فتعد لذلك برنامجا إذاعيا، فيه أغان وفيه موسيقى، وبعد كل بضع دقائق من الأغاني أو الموسيقى يقطع المذيع مجرى الشيء المذاع ليقول شيئا عن سيارات شفروليه وهكذا، حتى الأخبار تتولى إذاعتها شركات تجارية لتنتهز فرصتها وتعلن عن نفسها خلال إذاعة الأخبار.
Неизвестная страница
أضف إلى ذلك أن الإذاعة تصبغها صبغة محلية إقليمية؛ ففي كولمبيا وحدها أربع محطات إذاعية، كلها محطات تجارية، أعني أنها ملك أفراد أقاموها لتكون مصدر كسب، وبطبيعة الحال يكون الكسب من الإعلانات التجارية، وإذا فالبرامج الإذاعية قائمة على هذا الأساس؛ ولا بد أن تكون معظم الشركات المعلن عنها في كولمبيا أو ما يجاورها من بلاد.
وبصفة عامة ألاحظ أن النزعة الإقليمية قوية جدا في أمريكا؛ فأهل كارولاينا الجنوبية يتعصبون لها أولا باعتبارها هي الوطن المباشر، كالذي نسمع عنه أحيانا في مصر من تعصب أهل الصعيد لصعيدهم، وأهل الوجه البحري لبلادهم، أو من تعصب أهل المديرية الفلانية لمديريتهم.
الأحد 4 أكتوبر
كنت أقرأ جريدة الصباح في شرفة المنزل، وجاء الأب «م» (رب الدار التي أسكنها) تصحبه سيدة في نحو الثلاثين من عمرها؛ تبادلنا التضحية، وسألتني السيدة: من أي بلد أنت؟ فقلت: من مصر. دخلا المنزل، وبعد قليل عادت السيدة وحدها واستأذنت في الجلوس، وبدأت الحديث معتذرة إذا كانت قد قطعت علي قراءتي ... ولم نكد نبلغ من الحديث شوطا قصيرا حتى علمت أنها ابنة الأب «م» نفسه، وأنها مصابة بمرض عقلي؛ ولذا فهي تقيم في المستشفى إقامة شبه دائمة؛ إذ هي هناك منذ ثلاث سنوات؛ وأخذت المسكينة تشكو إلي من سجنها في المستشفى الكريه، قائلة: إنها لا تطلب سوى أن يقولوا لها في أمانة وإخلاص ما علتها، ثم سألتني: أتظنهم يجرون علي التجارب؟ ترى هل يبقونني في هذا السجن بقية عمري؟ ... إن حديثها عادي لا أثر فيه لانحراف عقلي، ولولا أنها أنبأتني نبأها لما ظننت بها مرضا، لو استثنيت عبارة واحدة قالتها فدلت بها على اضطراب عقلها، وذلك أني سألتها: أنت إذا ابنة الأب «م»؟ فقالت: يقولون ذلك، لكني أراني أقرب شبها بخالي، فلا يبعد أن أكون ابنته!
جاءت أمها عائدة من الكنيسة، فاحتضنتها في حرارة وقبلتها في حنان؛ فالذين يظنون في مصر أن حب الأمومة مقصور على المصريات يكفي أن يروا كيف استقبلت هذه الأم ابنتها.
قالت لي «ب. م» (وهو اسم فتاتنا المريضة): إنها ترى أحلاما مزعجة كل ليلة. قلت لها: وبماذا تحلمين؟ قالت: أحلام فظيعة، كثير منها عن الرجال ... قلت في نفسي: ما أتعس حال الإنسان بما فرض على نفسه من قيود جنسية تحتج عليها الطبيعة في مثل هذه المسكينة!
وجاءت ساعة العصر فأرادوا أن يعيدوا فتاتنا المريضة إلى مستشفاها وهي تضرع إليهم ألا يفعلوا؛ إنها تبكي وتقبل أقدامهم أن يبقوها بينهم وألا يعيدوها لتكون مجنونة من المجانين، والوالدان يديران وجهيهما بأعين باكية حتى لا يريا ضراعة ابنتهما؛ وأنا الغريب لم أحتمل المنظر فصعدت مسرعا إلى غرفتي ... ها هنا صراع بين عاطفة وعقل؛ إنني من أشد أنصار العقل على العاطفة، لكن ذلك في الكلام والكتابة، أما في سلوكي العملي فأضعف من أن أحتمل منظرا كهذا، وأقسم أني لو كنت ذا أمر لأبقيت فتاتي معي وليكن من سلوكها في داري ما يكون ... لكن الأب «م» استعان بابنه الشاب على ابنته الضارعة، فأخذ الأخ أخته في سيارته وانصرف بها إلى المستشفى.
جلس معي الأب «م» وزوجته في شرفة المنزل، وسرعان ما فتحا موضوع بنتهما «ب» فتحدثنا طويلا في أمرها، أنبآني أن مرضها شدة في الخيال حتى لتتوهم الأوهام وتحسبها حقائق ... سألت الوالدين: هل في الأمر مشكلة جنسية؟ فانطلقت الزوجة تؤكد أن ابنتها كانت متروكة حرة التصرف في أمر نفسها، ولم يكن لهما دخل في حياتها، فلم يعملا على كبت طبيعتها وغريزتها، وقالت: إن «ب» كانت تدرس في واشنطن، وكانت على أتم حرية في اتصالها بالأصدقاء الشبان، لكن الغريب في أمرها هو أنها حتى الخامسة والعشرين من عمرها - وهي الآن في الحادية والثلاثين - كان يتودد إليها الشبان فلا تلقي لهم بالا، وبعد أن أصابتها هذه المصيبة أخذت تهذي بالرجال! فقلت لها: الأمر واضح؛ فقد كانت مكبوتة بحكم ضواغط التربية لا بحكم أنكما ترقبانها أو تمنعانها، نشأت في جو ديني أوحى لها بالتزمت، ثم نادت طبيعتها فعجزت عن متابعة المستوى الخلقي الذي يطلبه المجتمع.
إن أمثال «ب. م» هذه من المصريات آلاف، بل عشرات الآلاف؛ إننا نظن أننا ما دمنا قد كممنا الأفواه فلا تنطق بالرغبة الطبيعية، وما دمنا قد حبسنا الأجساد فلا تنطلق مدفوعة بالغرائز، فقد حل الإشكال وانتهى الأمر؛ لكننا بغرائزنا المكبوتة مرضى لا نفكر تفكيرا سليما ولا ننتج إنتاجا قويما. ألا فليعلم من لا يعلم أن فقرنا العلمي والفني وأن قلقنا الاجتماعي كله راجع - ولو إلى درجة ما - إلى عدم تنظيم العلاقة بين الشبان والشابات؛ إن الله قد أراد لنا أن نكون مجتمعا ذا جنسين، فمن أراد له أن يكون غير ذلك فليحتج على الله، وليمسك عن كل أمل في إصلاح حقيقي يتناول المجتمع من أسسه وأصوله .
المنزل الذي أسكنه مجاور لمتحف الفنون، وقد رأيت المتحف مضاء عند عودتي من مشية قصيرة، فدخلته لأنظر ما به من معروضات فنية، وإذا بالمتحف حفلة افتتاح؛ فقد وقف عند المدخل صف طويل من الرجال والسيدات يستقبلون الزائرين، والبيانو يعزف أنغاما حالمة، وعلى مائدة طويلة أنواع من طعام وشراب ... والمعروض الذي يحتفلون بافتتاحه الليلة هو لفنان اسمه يوجين تومسن، ولوحاته تعرض في ولاية كارولاينا الجنوبية لأول مرة، وهو ليس من رجال المدرسة الحديثة في التصوير، بل هو أقرب جدا إلى الفن في صورته الكلاسيكية، وأعني بذلك أنه يرسم الأشياء والأشخاص كما تبدو لعينه، وليس غرضه من التصوير تأليفا بين الألوان كما هي الحال عند أصحاب المدرسة الحديثة.
Неизвестная страница
لكن الدور العلوي من المتحف مليء بإنتاج الفنانين المحدثين من أهل الولاية نفسها؛ فها هنا تجد الاتجاهات الحديثة متمثلة كلها جنبا إلى جنب، فترى فنانا يتبع بيكاسو ومدرسته، وآخر يرسم على طريقة الانطباعيين، وثالثا يرسم على طريقة الفن المنقوط وهكذا ... إنه لا حق لي حتى الآن أن أحكم على الفن الأمريكي؛ لأنني لم أر منه إلا القليل، وفي عزمي أن أدرسه دراسة أوفى حين أزور المتاحف الكبرى في واشنطن ونيويورك وشيكاجو، لكني أقولها الآن متحفظا، وهي أن الأمريكيين لم ينشئوا لأنفسهم مدرسة فنية خاصة بهم، بل نقلوا المدارس الأوروبية وتابعوها، ثم ظهرت فردياتهم وشخصياتهم في حدود المدارس الأوروبية.
الجمعة 9 أكتوبر
قرأت قصة جيدة في مجلة «بوست» عنوانها «رجل بين فتاتين»، وخلاصة القصة التي يهمني تسجيلها، هي أن إحدى الفتاتين كانت لا تميل بطبعها إلى البقاء في البيت زوجة وأما لأطفال، وتريد إذا ما تزوجت أن يكون العمل ميدان نشاطها، وهي فوق ذلك لعوب تحب السهرات الأنيقة والمطاعم الفاخرة وما إلى ذلك، وأما الفتاة الأخرى فتعمل انتظارا للزواج، وتؤثر لنفسها إذا ما تزوجت أن تجعل من دارها مملكة لها؛ الفتاتان تعملان مع الفتى في مكتب واحد، والأولى تبادله الحب علنا، والثانية تحبه ولا تفصح عن حبها؛ وبعد تحليل رائع يشرح النفوس الثلاث، انتهى بنا الكاتب إلى موقف وقف فيه الفتى موقف الذي يختار، لكنه لم يلبث أن اختار لحياته الفتاة الثانية، فتاة البيت التي ترى عزتها وسعادتها في زوجها وأبنائها، ولا تزيغ بصرها الحفلات والسهرات والارتقاء في ميادين العمل الخارجي.
والمهم عندي هو أنه إذا كانت هذه القطعة الأدبية تصور الأمريكي في ميوله ونزعاته، كان الأمريكي أميل إلى زوجة لا تعمل؛ وإذا فلا يزال الرجل هو الرجل أينما كان، ولا يزال المثل الأعلى الذي يطمح إليه الزوج أن يكون هو عائل الأسرة ليكون سيدها.
السبت 10 أكتوبر
الأب «م» وزوجته يشرفان على نشاط اجتماعي في الكنيسة التي يتبعانها كل سبت في المساء؛ أعلم ذلك ولا أدري على وجه الدقة ما نوع هذا النشاط، وقد دعاني الأب «م» اليوم أن أصحبه إلى كنيسته، وهي الكنيسة البرزبتيريانية ففعلت ... ذهبت فإذا بي أرى ما لم أتوقعه في كنيسة؛ إذ رأيت ندوة ملحقة بالكنيسة، وعرفت أنها مكان لنشاط اجتماعي كل مساء، وأما مساء السبت فهو خاص بالجنود؛ ففي كولمبيا معسكر كبير للجنود وهم في مرحلة التدريب، فتوجه إليهم الدعوة أن يحضر منهم من يحضر إلى ندوة الكنيسة في هذا الموعد، وتدعى طائفة كبيرة من الفتيات ليكون الاجتماع طبيعيا مؤلفا من الجنسين؛ وما هو إلا أن دارت أقراص الحاكي بالموسيقى ودار معها الرقص! وفي الندوة استعداد للألعاب المختلفة كالبنج بونج والشطرنج؛ وكذلك أعدت مائدة كبيرة عليها القهوة والشاي والكوكاكولا وأنواع الشطائر والفطائر لمن يريد شرابا أو طعاما بغير ثمن.
وقال لي الأب «م» وهو يشرح لي أوجه نشاطهم في كنيستهم هذه: إن كثيرا من الكنائس الأخرى لا توافق على أن نقيم في الكنيسة رقصا، ولكن كنيستنا لا ترى أبدا ما يمنع أن يحيا الإنسان حياة مرحة ما دامت حياة شريفة.
الإثنين 12 أكتوبر
في المساء ألقيت في النادي الفلسفي محاضرة عن الوضعية المنطقية ... إنني أصبحت لا أستريح إلى الدكتور «ف» أستاذ الفلسفة؛ لأن له ملاحظات أشك في أنها تنطوي على قصد طيب؛ فمثلا أشاع أنني لولا دراستي في إنجلترا لما أبديت الذي أبديته من قدرة، فما كان - في رأيه للناس - أن تخرج مصر دارسا مثلي؛ مما اضطرني يوما أن أعلن في محاضرة قلتها، أنني بخيري وشري صناعة مصرية، ذهبت إلى إنجلترا بعد أن بلغ سني الأربعين وبعد أن أخرجت ستة عشر كتابا ... وكان اليوم له تعليق أثار غيظي لكني كتمت الغيظ في نفسي وناقشته بأعصاب يبدو عليها الهدوء؛ وذلك أنه في المناقشة التي أعقبت محاضرتي في النادي الفلسفي، انتهز فرصة ذكري لأوجست كونت فقال: إن أوجست كونت لا يظن خيرا بالمدنية العربية كلها ... فأجبته بعد صمت قصير استجمعت فيه هدوئي: أنا لا أعرف أنه قال شيئا من ذلك، وسأفرض أنه قال فأحكم عليه في هذه النقطة بأنه قد بعد عن كل روح فلسفي صحيح، فليست المدنية كلمة ترسل إرسالا بغير حساب، المدنية دين وأدب وفن وحكومة وعلم ونظام عيش وغير ذلك، فكم قرأ أوجست كونت من الديانة الإسلامية ليحكم؟ وكم قرأ من الأدب العربي في أصوله ليحكم؟ وهل درس دقائق الفن العربي وتفصيلات الحكومة العربية ليحكم؟ أم قالها قولة من لم يدرس ولم يحلل؟ إن كان قد فعل ذلك فليس هو بالفيلسوف المسئول في قوله هذا ... وبالطبع كنت في ذلك بمثابة من يقول إياك أعني واسمعي يا جارة؛ فالدكتور «ف» إنما يحتمي بأوجست كونت، لكنه يريد أن يقول هو عن المدنية العربية هذا الحكم، ولو قاله عن دراسة لما كان ثمة ما يدعو إلى لوم، لكن أسباب الدراسة بالطبع لم تتهيأ له؛ لأنه - على الأقل - لا يعرف اللغة العربية ليقرأ أصول المدنية العربية.
إن من أظهر المعالم التي يلاحظها الإنسان في الأمريكيين مما يثير دهشته أول الأمر؛ نسبة الأمريكي نفسه لأصله الأوروبي؛ فكلما أخذت في التحدث إلى واحد منهم كان الأرجح أن يذكر لك في حديثه أنه إنجليزي أو إيطالي أو فرنسي ... إلخ. فلا غرابة أن تجد في صحافتهم اتجاها نحو تقوية «التأمرك»، وفي ذلك قرأت مقالا للكاتبة المعروفة لنا بشدة عطفها على الشرق الأوسط «دوروذي تومسن» تقول فيه: إنهم بحاجة إلى بث الدعاية لروح «التأمرك» هذه في نفوس الأمريكيين؛ فلو فرضنا مثلا أن حربا قامت في تشيكوسلوفاكيا - هكذا قالت الكاتبة - فليس من الإنجليز أو الفرنسيين من يحس أن حربا قامت في وطنه وبين بني جنسه، أما الأمريكيون فغير ذلك؛ لأن منهم من لا يزال إخوته وبنو عمومته هناك، فهو أمريكي بقوميته وجزء من شعوره، لكن الجزء الباقي من شعوره ملتفت إلى أهله الأولين، وكيف ينسى وهم لا يزالون معه في تراسل وتزاور؟
Неизвестная страница
وقد جمعتني الصدفة على مائدة عشاء بسيدة إيطالية الأصل ورجل إيطالي الأصل كذلك؛ بعد أن عرف كل منهما الآخر راحا يتحدثان عن إيطاليا بما يدل على شدة حنينهما؛ قالت السيدة: إنها تزور إيطاليا في إجازاتها مرة كل سنتين، فقال إنه كذلك يفعل؛ الرجل صانع لثياب السيدات، وله مصنع به مائة عاملة، فسألته السيدة: كم إيطاليا في مصنعك؟ وهي تقصد بالطبع كم عاملا من أصل إيطالي؟ فقال: كلهم بالطبع إيطاليون؛ وفهمت من الحديث أن السيدة مشتركة في جمعية تجمع الإعانة للمشردين من أبناء إيطاليا، وأقامت الجمعية في جهة بإيطاليا بلدا جديدا يكون مجالا لتربية هؤلاء الأبناء ... هذان أمريكيان، لكن هل يعقل أن يخلو من كل عطف على إيطاليا إذا ما نشبت حرب مثلا بين إيطاليا وأمريكا؟
كل ذلك دعاني إلى التساؤل: هل تكون «أمريكا» أكثر من أرض بها مصالح أهلها، يحبونها بمقدار ما هي مصدر نفع لهم؟ بعبارة أخرى: هل أصبحت أمريكا «وطنا» لأبنائها بالمعنى الذي يفهم من كلمة «الوطن» في العالم القديم؟
السبت 17 أكتوبر
كم نتعجل أحكامنا على الشعوب حين نلقي القول جزافا بغير سند أو دليل! إن الحكم على رجل واحد هو - عند من يحاسب نفسه - أمر عسير، فما بالك بالحكم على شعب قوامه مائة وستون مليونا من الأنفس؟! فكثيرا ما سمعت من مصريين زاروا أمريكا قبل أن أزورها أن روابط القربى هنا ضعيفة، حتى ليكاد الوالد يهمل ولده والولد يتنكر لوالده؛ لكنني لم أشهد علامة واحدة تدل على ذلك، بل كل ما شهدته دليل ناهض على أن روابط الأسرة قوية متينة ... أقول هذا بمناسبة ما رأيته اليوم في جريدة الصباح؛ إذ رأيت صورة لوالد يجلس على مقعد في الطريق، والمقعد موضوع بحيث ينظر الرجل من نافذة بناء إلى جواره - والبناء هو مستشفى - فيرى ولده المريض وهو على سريره في المستشفى؛ وقالت الصحيفة: إن الرجل قد لبث - حتى صدور صحيفة هذا الصباح - يومين كاملين في جلسته تلك ناظرا إلى ابنه لا يتحول عنه، وسئل الوالد: ماذا يدعوك إلى هذا العناء كله؟ إنك قد تعرض نفسك للأذى بهذا الجلوس في العراء ليلا ونهارا، فبكى الرجل وقال: قال لي فلان (وهو ابنه) حين جيء به إلى هنا: «ابق معي يا أبي» فلا يسعني سوى البقاء إلى جانبه كما أرادني أن أفعل، وإذا كان مقامي إلى جواره في المستشفى متعذرا فأقرب نقطة إليه هي هذا المكان من الشارع بالقرب من نافذة غرفته؛ قيل له: لكنك بحاجة إلى النوم والراحة بعد يومين كاملين لبثت فيهما جالسا على هذا النحو المضني! فأجاب: ليس بي أقل رغبة في نوم ...
أهذه مشاعر أب يعيش في شعب لا يعبأ بالعواطف الأبوية؟
دعاني مستر «ه» إلى مصاحبته في رحلة إلى الريف لنقضي عطلة الأسبوع، وحدد لي موعدا في الساعة الواحدة أمام متحف الفنون. لم أكن قد رأيت هذا الرجل العجيب، إنما تم التعارف بالتلفون؛ فلما جاء الموعد رأيتني إزاء رجل في الخامسة والستين ممتلئا بالحيوية والنشاط، لا تمضي عليه دقيقة واحدة دون أن يضحك من كل قلبه؛ تظهر عليه البساطة الشديدة في حديثه وثيابه ونكاته، لكنك لا تلبث أن تنفذ ببصرك إلى قلبه فترى قلبا مليئا بالهموم، وقد ظن أن الضحكات المتوالية قادرات على إزالة همومه ... رحب بي ترحيبا كريما، ودخل بي إلى متحف الفنون من بابه الخلفي الخاص بموظفي المتحف، وصاح بأعلى صوت: أين هؤلاء البنات؟! فعجبت أول الأمر أن أراه يستبيح هذا الصياح في مكان كهذا؛ لأنني لم أكن أعلم على وجه الدقة مع أي رجل أنا الآن ... أجابه الدكتور «ك» (وهو مدير المتحف) من داخل المتحف صائحا بعبارة لم أتبينها؛ فعاد مستر «ه» إلى صياحه: لا، أنا لا أريدك أنت ولا أسعى إلى رؤيتك، فما لك من قيمة عندي، إنما أردت البنات! وكنا في هذه اللحظة قد بلغنا مكتب الدكتور «ك» مدير المتحف، فسلمنا، وعندئذ جاءت فتاة فصاح صديقنا «ه»: «أهلا»، وقال: ها هي ذي «م»؛ تعالي يا «م» فهذا هو ضيفنا الدكتور محمود جاءنا من مصر، سيصحبنا في رحلة اليوم ... و«م» هذه فتاة في الثالثة والعشرين، تحمل درجة في الفنون الجميلة، وتعمل في المتحف، وفنها هو زخرفة الخزف؛ وهي وسط في جمالها، مليئة الجسم نوعا، لو قيل لي إنها مصرية لصدقت؛ لأنها تشبه مصريات كثيرات في بشرتها وسواد عينيها؛ ودقائق قليلة جدا تكفيك أن تعلم كم بلغت «م» من قوة الشخصية والثقة بالنفس؛ فهي تنظر إلينا نحن الكهول بالنسبة لها، وتحدثنا كأنها تنظر وتتحدث إلى صغار! صوتها واضح، وتعبيرها واضح؛ لا يغرها أنها تعلم، ولا يخجلها أنها تجهل.
خرجنا من المتحف نحن الثلاثة: فتاتنا «م» ومستر «ه» وأنا، وركبنا سيارة «ه»، وبعد قليل وقفت بنا السيارة أمام منزل في الطريق، فنزلت «م» صامتة، وعادت ومعها سيدة عمرها بين الخمسين والستين، هي السيدة «ب»، فسلمنا وتعرفنا؛ وقد عرفت أنها مديرة المطبعة في الجامعة؛ فهي المسئولة عن كل ما تخرجه الجامعة من مطبوع ومنشور؛ والسيدة «ب» هي الزميلة الرابعة في رحلتنا اليوم.
لست أدري في الحقيقة ماذا أقول وماذا أدع من ألوف التفصيلات التي انطبعت في ذهني من هذه الرحلة؛ ولذلك فإني سأترك القلم يكتب ما يطفو على سطح الذاكرة من تفصيلات؛ وأول ما أبدأ به هو شخصية هذا الرجل العجيب مستر «ه» أمرح مخلوق على ظهر الأرض؛ يستحيل أن ترافقه دقيقة واحدة دون أن ينفض عنك الخجل ويدفعك إلى الضحك وإلى المرح دفعا؛ إنه لا ينقطع عن الصياح والزئاط كأنه الطفل الصغير يلعب على شاطئ البحر في الرمل والماء؛ وهو من أغنياء المنطقة، ويعتز بأسرته التي هبط منها؛ فهو وحده الآن يملك نحو ستين ألفا من الفدادين، ويدير عملا واسعا في كولمبيا؛ ثم هو فوق ذلك محام وعضو في مجلس شيوخ الولاية ومشهور في الناس.
جلست إلى جانبه في السيارة، وجلست السيدة «ب» والآنسة «م» في المقعد الخلفي، وهو ترتيب يخالف التقاليد؛ إذ كان ينبغي أن تجلس سيدة في المقعد الأمامي، لكنهم اتفقوا على ذلك لتتاح لي فرصة الرؤية الكاملة، والاستماع إلى ما يقوله مستر «ه» تعليقا على مشاهدات الطريق.
أشار إلى شجرة تحتها صخرة، وقال: إن لهذه الصخرة قصة محزنة؛ ففي الحرب الأولى فقدت أم ابنها وجاءها خبر موته؛ فلم تلبث أن مسها الجنون، وصور لها جنونها أن قد جاءها من ولدها خطاب يقول لها فيه إنه آت إليها في الطريق راكبا إحدى السيارات العامة؛ ولذلك فهي تنتظر قدوم تلك السيارة العامة التي تحمل ولدها؛ تنتظرها يوما بعد يوم، وقد ظلت خمسة عشر عاما لا تنقطع يوما واحدا عن المجيء إلى هذه الصخرة، والجلوس طول النهار حتى مغرب الشمس؛ معها قليل من طعام، وإبرة وخيط؛ وكلما مر بها إنسان في الطريق، قالت له: «إنني أنتظر ولدي، إنه قادم في سيارة عامة، كتب إلي يقول هذا ...» إنني أكتب هذه القصة دليلا على الأواصر العاطفية الشديدة التي تشد قلوب الأسرة الواحدة بعضها إلى بعض؛ فليس الأمريكيون كما يقول عنهم الناس قوما في صدورهم قلوب من حجر، يعبدون «الدولار» وحده ويسبحون بحمده!
Неизвестная страница
في تاريخ هذه الولاية - ولاية كارولاينا الجنوبية - قائد مشهور اسمه ماريون، تراه مخلدا في التماثيل، ومذكورا في أسماء الشوارع، ويطلق اسمه على بحيرة كبيرة ... وقد مررنا على مزرعة كبيرة، فقال مستر «ه»: إنها مزرعة كانت لأسرة ماريون، ورثها الولد الأكبر حسب قانون الوراثة السائد عندنا؛ وكان القائد ماريون هو الولد الثاني في أسرته، فلم يرث شيئا، ولولا ذلك لما خرج للحرب واشتهر. ثم أخذ مستر «ه» يدافع عن ذلك النظام في الوراثة على أساس أنه من جهة يحافظ على ملك الأسرة فلا يتجزأ؛ ومن جهة ثانية يهيئ فرصة الظهور في الميادين الأخرى أمام الأبناء الآخرين؛ وكان موفقا في ضرب الأمثلة من أسرات كثيرة، ذاكرا أسماء رجال اشتهروا لأنهم كانوا الأبناء الثواني أو الثوالث، فخرجوا يسعون في الأرض عملا وإنتاجا وذيوع صوت ... لكن هذا النظام قد تغير الآن هنا، وأصبح الميراث قسمة متساوية بين جميع الأبناء.
الطريق كله - وقد قطعنا طريقا يقرب من المسافة بين القاهرة إلى الإسكندرية قاصدين إلى خزان على بحيرة اسمه خزان سانتي كوبر - الطريق كله خضرة وأشجار باسقة؛ ومررنا بحقول مزروعة قطنا وقصبا؛ فهذه ولاية تزرع قطنا وتنافس مصر في قطنها، لكن شتان بين قطن وقطن؛ فالنظرة السطحية تدلني - ولا أستطيع أن أنظر إلا هذه النظرة السطحية السريعة؛ لأنني قليل الخبرة بالزراعة - تدلني على أن قطنهم ظاهر الضعف بالنسبة إلى قطننا؛ فلست ترى حقل القطن وقد نضجت ثماره غزيرة المحصول غزارة القطن المصري، والأرض حمراء كأنها مغطاة بمسحوق الطوب الأحمر.
وصلنا بالسيارة إلى باب خشبي يعترض الطريق، مفتاحه مع مستر «ه»، وهو إذا ما انفتح دخل الداخل في غابة كثيفة الشجر؛ وطلب مستر «ه» من الآنسة «م» أن تفتح الباب وقد ناولها المفتاح؛ فهممت أنا أن أفعل ذلك لأوفر على الآنسة عناء النزول، فقال لي مستر «ه» ضاحكا مازحا: اسمع مني الرأي؛ فأنا أكبر منك وأخبر بالنساء، يخيل إلي أنك قليل الخبرة بهن؛ فها أنت ذا قد أحضرت معك صندوقا من الشكولاتة، وأخذت توزع على هاتين المرأتين من حلواك طول الطريق، ظانا أن الحلوى تكسب النساء، لكن كسب النساء له طريق واحد، وهو إذلالهن بالعمل، وأنا أحب تشغيل النساء بما أكلفهن من أعمال يؤدينها ... والتفت إلى «م» وقال في لهجة الجد المصطنع: «م» انزلي وافتحي الباب! ونزلت «م» وضحك الجميع.
دخلنا إلى طريق ضيق يشق الغابة الكثيفة، ووقفنا عند بيت في قلب الغابة كان على شرفته سيدة متقدمة في السن نوعا ما، اسمها «س»، وفتاة وفتى وطفل صغير؛ فتصور هذا الرجل المرح كيف دخل البيت صائحا مهللا، يمسك هذه ويقبل تلك ويرحب بهذا؛ جلسنا على الشرفة نضحك كلنا لكل لفظة يقولها «ه» ولكل حركة يتحركها ، وأتوا لنا بأكواب الشراب؛ وبينا نحن جلوس استعادوني النطق باسمي؛ فلفظة «محمود» صعبة جدا عليهم أن ينطقوها، فما هو إلا أن أخرج مستر «ه» من جيبه حزمة من قصاصات؛ واسمي مكتوب على كل قصاصة منها! وبعثرها بين الجالسين قائلا: هاكم! توقعت أن يسألني كثيرون أثناء الرحلة عن اسم الدكتور محمود، فطلبت من سكرتيرتي أن تدق اسمه على آلة الكتابة في عشرين أو ثلاثين صورة؛ فكلما سألني سائل عن اسمه أخرجت له واحدة من هذه القصاصات ... أضحكني هذا المنظر ... عرفت أن السيدة «س» هي صديقته، والفتاة هي ابنتها، والفتى هو زوج ابنتها، وهو فنان يشتغل في متحف كولمبيا مع الآنسة «م».
قال مستر «ه» هلموا بنا لعلنا ندرك ساعة من ضوء النهار نستحم فيها في البحيرة، والظاهر أنه خلق هذا العذر لنترك هذه الدار ونقصد إلى أكشاكه الخشبية على شاطئ البحيرة؛ حيث سنبيت الليل، لكن أصحاب الدار دعونا على العشاء، وطلبوا منا أن نذهب لنعود إليهم في الساعة السابعة.
ذهبنا إلى مكان منعزل على شاطئ البحيرة، فيه نحو ستة أكشاك خشبية، فيها كل ما يتصوره الإنسان من أسباب الراحة؛ لكن هذه الأشياء مهوشة الترتيب إلى درجة تضحك؛ فلو تعمد إنسان أن يضع الأثاث في خلط وهرجلة لما عرف كيف يبلغ هذه الدرجة منهما؛ لكنك تجد كل ما تريد: آلات التبريد وآلات التدفئة لا عدد لها، وأطباق وأوان وطعام إلخ ... إلخ؛ خصص كشكا للسيدتين، وآخر لي، وكان له هو كشك كبير أقرب إلى المنزل الصغير، فيه غرفة الطعام والمطبخ وشرفة للجلوس وغرفة للكتب. إن الزائر لا يملك سوى أن يضحك ضحكا متواصلا لما يراه في منزل مستر «ه» هناك؛ لأنه يجمع فيه أشياء عجيبة، يضعها على المناضد ويعلقها على الجدران؛ فلا بأس عنده مثلا من أن يضع قطعة من الحديد الصدئ، أو يعلق حذاء باليا على الجدار! ومن هذه الأشياء ترى، لا أقول مئات، بل ألوفا، كأنما منزله هذا دكان يبيع منوعات قديمة! وهو يضحك معك على نفسه، ويقول: إنه يجمع معظم هذه الأشياء من أكوام القمامة.
جاء وقت العشاء فذهبنا إلى منزل الأسرة الداعية، والمنزل من الداخل آية من آيات الفن وحسن الذوق في بساطة: هدوء وعزلة في قلب الغابة، كأنما أنت في محراب راهب عابد، والأضواء في غرفة الجلوس وغرفة الطعام خافتة توحي بالاسترسال في حلم جميل، وعلى مائدة الطعام وضعوا الشموع، وبدأنا طعامنا بالصلاة - كما هي العادة التي لم تشذ مرة واحدة على أية مائدة شهدتها - وكان معظم الحديث معي أولا عن الفلسفة واتجاهاتها، ثم عن الفن المصري القديم، يسألونني عنه في خبرة وفي دقة؛ لأن بيننا اثنين من دارسي الفن، وحسبوني ملما بدقائق الفن المصري ما دمت مصريا، وعلى كل حال فقد وفقني الله في إجابة معظم ما وجهوه إلي من أسئلة في هذا الباب.
عدنا بعد العشاء إلى أكشاكنا على شاطئ البحيرة، مارين بأقرب مدينة لنشتري طعاما للغد، مستر «ه» معروف للناس جميعا، يقابلونه بالترحاب والتكريم، قال لي صاحب الدكان الذي وقفنا فيه نشتري حاجاتنا: إن مستر «ه» هذا رجل عجيب، يحب صرف ماله على الناس، لا تراه في أي مكان أو في أي بلد إلا ومعه جماعة من ضيوف؛ إنه ثري كثير الكسب لكنه كثيرا ما يقول - وهو ينفذ ما يقوله: إن المال إنما كسب ليصرف. ولما تركنا الدكان قال لي مستر «ه»: هل رأيت هذا التاجر؟ إنه قاتل! قتل على الأقل خمسة أشخاص، ومع ذلك لم تثبت عليه جريمة، كان فقيرا معدما، وكسب من جرائمه مبلغا لا يقل عن نصف مليون دولار، وبدأ تجارته هذه واطرد نجاحه وأصبح ذا اسم في المجتمع ... ثم سكت مستر «ه» قليلا وقال: أليس هذا من سخرية القدر ومضحكاته ومحزناته معا؟
جلسنا العشية في شرفة مستر «ه»؛ الظلام ضارب من حولنا فلا نعرف البحيرة القريبة منا إلا من أصوات موجها، واستأنفنا الحديث الذي بدأناه في منزل السيدة «س» عن الفن، إلا أنه الآن حديث عن الفن المعاصر، وكان «ه» والسيدة «ب» يعارضان - في تهكم - ألوان الفن المعاصر، وانطلقت مدافعا في حرارة كأنما أنا واحد من هؤلاء الفنانين المعاصرين، وظلت الآنسة «م» صامتة لا تنطق إلا بالقليل حينا بعد حين ... لم أكن أدري أن حديثي في الفن قد غزا قلب «م» غزوا، وأصبحت تنظر إلي نظرة الإعجاب الشديد، وتتلمس من شفتي كل كلمة أقولها، وما أكثر ما يكون الحب عند هؤلاء الناس قائما على مثل هذا الإعجاب!
إنني كلما ازددت معرفة بمستر «ه» عرفت أنه عالم بأسره، عالم غريب، قال لي: كان لأبي مكتبة كبيرة وفيها كتب ذات قيمة أثرية عظيمة، ويكفي أن تعرف أن كتابا واحدا عرض لي فيه عشرة آلاف دولار، ومع ذلك رفضت بيعه، وأهديت المكتبة بأسرها إلى جامعة كارولاينا الجنوبية؛ وكذلك ترك أبي وجدي صورا فنية ذات قيمة عظيمة - أخذ يذكر بعضها بالاسم - فأهديتها إلى متحف الفن بكولمبيا، وهي هناك الآن تملأ أكثر من غرفة (ومن هنا أدركت سر دالته على المتحف وأهله) ... ثم أضاف قائلا: إنني رجل صريح مع نفسي؛ إنني لا أميل ميلا حقيقيا إلى الكتب أو الصور، فلماذا أبقيها في داري غير منتفع بها؟ لماذا لا أمتع بها أكبر عدد ممكن من الناس؟ كانت زوجتي تختلف معي في النزعة؛ فهي تميل إلى الأرستقراطية والظهور، وأما أنا فرجل بسيط، أريد أن أعيش كما تريدني طبيعتي أن أعيش، لا تكلف ولا تصنع.
Неизвестная страница
أردنا ونحن جلوس في الشرفة أن نشرب القهوة، فكان لا بد أن يقوم بإعدادها أحدنا وأن يتعهد بغسل الأقداح آخر؛ فألححت في أن أشترك في هذا أو في ذاك، فقال مستر «ه» مازحا: بالله لا تتلف علينا النساء بأدبك، أنت وأنا رجلان، مهمتنا أن نجلس هنا في الشرفة نشرب الشراب وندخن السيجار، وأما هاتان فامرأتان تؤديان لنا واجب الخدمة في ولاء، أليس كذلك يا بنات؟ فتجيب السيدتان في ضحك: ألا شك في ذلك.
وسأل مستر «ه»: من ذا يقوم غدا بإعداد الإفطار؟ فعرضت كل من السيدتين أن تقوم بهذه المهمة، فينظر إلي مستر «ه» ضاحكا وهو يقول بمرحه المعهود : هل رأيت؟ اقعد مستريح البال ، أنت وأنا رجلان، نشرب وندخن السيجار، وهما تطهيان لنا وتغسلان الأطباق والأقداح، هيا يا بنات!
الأحد 18 أكتوبر
أقرب قرية إلى مكان أكواخنا الخشبية هي قرية بنوبولس، وباسمها يعرف المكان، والذاهب إلى الأكواخ على شاطئ البحيرة يمر بمكتب بريد ريفي قديم يقع على حافة الغابة التي نتخللها لنصل إلى البحيرة، فكلما مررنا بالسيارة أمام هذا المكتب في جولاتنا، أشار مستر «ه» إلى مكتب البريد ضاحكا ضحكا عاليا وقال: صندوق الخطابات هنا فتحته عمودية (العادة طبعا أن تكون فتحة الصندوق أفقية) هذه الحقيقة البسيطة يقولها مستر «ه» كلما مررنا هناك، وفي كل مرة يضحك ضحكا عاليا، لا يمل من التكرار، ولا ينقطع عن الضحك في كل مرة كأنه في كل مرة يكشف كشفا جديدا؛ وهذا كله دال على بساطة نفسه وعدم التعقد في نفسيته، والحق أني أصبحت الآن أميل إلى وصف الشعب الأمريكي كله بهذه الصفة، وهي انطلاقه انطلاقا حرا في التعبير عن نفسه (ذلك بالطبع إذ نصف جاز أن شعبا بصفة من الصفات)؛ الأمريكي ذو نفس شفافة أقرب إلى نفس الطفل في شفافيتها، ليس فيها القيود الداخلية التي تمنعه من القول والسلوك على نحو حر طليق يعبر عن فردية الفرد إلى أقصى حد مستطاع في مجتمع؛ لا غرابة أن يلبس رئيس جمهوريتهم قميصا مشجرا ملونا، ولا غرابة في أن يضحك مستر «ه» لما هو تافه في نظر المأزوم من الوجهة النفسية، الذي يلجم نفسه عن المرح والضحك إلى أن تهتز له الأرض وما عليها من أثقال!
أعدت لنا السيدتان «ب» و«م» طعام الإفطار، فلما جلسنا على المائدة طلب مني مستر «ه» أن أصلي صلاة الطعام على طريقتنا، والصلاة المقصودة دعاء بأن يديم الله نعماءه وبركاته؛ فتمتمت بالبسملة ... بدء الأكل بالدعاء أمر لا بد منه حتى عند مستر «ه» الذي يخيل إليك أن قد خلا قلبه من كل إيمان!
وأبدت الآنسة «م» رغبتها في سباحة وتجديف، فأسرعنا بسيارة مستر «ه» إلى منزل صغير في جوف الغابة ، يسكنه الحارس على أملاك مستر «ه» في هذه المنطقة؛ ليطلب إليه أن يجيء إلى البحيرة بقارب، وقال لنا مستر «ه» عن هذا الرجل إنه مكثار في العيال؛ فله في كل عام مولود جديد، تعالوا نسأل الرجل وزوجته كيف يستطيعان إنشاء مولود جديد في كل عام ... يقول ذلك مستر «ه» مرة بعد مرة، ضاحكا فرحا مرحا ... وما هو إلا أن جاء إلى شاطئ البحيرة هذا الحارس في سيارة نقل كبيرة تحمل القارب المطلوب، وجلست إلى جانبه زوجته وطفلان من أطفاله الكثيرين.
وفي الضحى ذهبنا إلى محطة توليد الكهرباء المقامة بين البحيرتين؛ مشروع جبار، فقد رفعوا مستوى الماء في إحدى البحيرتين بطرق صناعية؛ ليصب ماؤها في البحيرة الأخرى متدفقا مولدا الكهرباء ... أخذ المهندسون يشرحون لنا ما يستحيل على مثلي أن يفهمه، حتى لقد قالت السيدة «ب»: إني والله لأعجب أن يكون في الدنيا إنسان واحد يفهم عنهم هذه الأشياء التي يشرحونها!
الحق أني قد امتلأت بشعور حقيقي لا تكلف فيه، أنني واحد من فئة لا فائدة منها، وأعني أولئك الذين قضوا حياتهم في دراسات نظرية لا تشبع جائعا، ولا تكسو عاريا، ولا تتقدم بها الدنيا قيد أنملة أو تتأخر قيد أنملة. أنظر إلى هذه الأنابيب التي تلتوي على بعضها كأنها أمعاء حيوان ضخم، وإلى هذه المصابيح، وهذه المفاتيح، وهذا الصوت الذي يطن في جنبات المكان، وإني لأقول لنفسي إذ أرى وأسمع: أي مجنون في الدنيا يرى هذه الأشياء تصنع وتقام، يصنعها العقل البشري، ثم يختار لحياته أن تقضى في تحليلات لفظية وشطحات خيالية نظرية كما أقضي حياتي؟! كان المهندسون كلهم شبانا صغارا، ومع ذلك أنبأني مستر «ه» أن أقل راتب للواحد منهم هو ثلاثون دولارا في اليوم؛ أي نحو اثني عشر جنيها أو يزيد!
كان مستر «ه» موضع احترام الناس هناك؛ فهو رئيس المشروع، يعرف عنه كل شيء على الرغم من أنه محام درس القانون ولم يدرس هندسة؛ جاءه مهندس وعرفه بنفسه قائلا: ألا تذكرني يا مستر «ه»؟ أنا الذي جئتك في مكتبك بنيويورك عام كذا؛ لتوقع لي على إذن الصرف؛ صرف مليون ونصف من الدولارات لهذا المشروع؛ أتدري يا مستر «ه» ماذا كنت أقول لنفسي وأنت توقع الأوراق؟ كنت أقول: توقيع هذا الرجل الذي أمامي يساوي ملايين الدولارات، فهل يأتي يوم أرى فيه توقيعي بمثل هذه القيمة؟ وجعلت ذلك منذ ساعتئذ أملي ومرتجاي ... وأخذ مستر «ه» يحكي لنا كيف استغرق التوقيع يوما بأكمله من الصباح إلى المساء؛ إذ كان لا بد من توقيع كذا ألفا من الأوراق، ومن كل ورقة اثنتا عشرة نسخة، فكان يستخدم لذلك قلما كهربائيا، إذا أماله في يده مال معه اثنا عشر قلما أخرى بطريقة آلية، وإذا وقع على ورقة بالقلم الذي في يده، وقعت بقية الأقلام على بقية النسخ بصورة آلية.
خرجنا من محطة توليد الكهرباء، فقلت وأنا أزفر زفرة المتحسر: ما أتفه دراستي أمام هذه المنشئات العظيمة! فقالت لي السيدة «ب»: أنا لا أوافقك؛ فدراستنا إنسانية، وبغير مشاعر الإنسان لا تساوي هذه المنشئات شيئا، فلولا أن النساء قد أحببن الماس لصار الماس حجرا خسيسا.
Неизвестная страница
كثيرون وقفوا بقواربهم يصطادون السمك قرب السد الذي يفصل البحيرتين؛ فالسمك كثير جدا هناك، تراه جماعات جماعات قرب سطح الماء؛ وقفنا ننظر، ولكن ما أبعد الفرق بين نظر ونظر! فرجل كمستر «ه» يرى حين ينظر، أما أنا فأنظر ولا أرى! فمثلا يهبط طائر أبيض يطير هابطا صاعدا، أما عند مستر «ه» فهو الطائر الفلاني، ينزل ليتلقط السمك الصغير ويطير به مسرعا، وأنظر إلى السمك يتلوى قريبا من سطح الماء، فلا يزيد هذا المنظر في عيني على ذلك، أما عند مستر «ه» فهو سمكة من النوع الفلاني قد التقمت سمكة من النوع الفلاني، ثم يضيف قائلا: إن السمكة الآكلة تعرف كيف تأكل فريستها؛ فهي تبدأ بالرأس لا بالذيل، حتى تقضم الرأس فتقضي على المقاومة، ولا تتعرض لضربات الذيل داخل حلقها.
عدنا إلى أكواخنا الخشبية في مكانها الهادئ على البحيرة، ورأيت في الطريق عددا كبيرا من السيارات التي تجر وراءها قوارب الصيد، فترى صاحب السيارة قد انطلق ووراءه قارب مركب على عجل كعجل السيارة نفسها، قاصدا إلى حيث يصيد السمك في عطلة الأسبوع. ولما لمحت سيارة تقودها فتاة وحدها، وتجر وراءها قاربا مشدودا إلى سيارتها، قلت لنفسي: ما شاء الله كان! فهي صاحبة سيارة أولا؛ وتعرف كيف تقودها ثانيا؛ وثالثا لها قارب؛ ورابعا تعرف كيف تشد القارب إلى السيارة؛ وخامسا تعرف على الأقل رياضة واحدة من سباحة أو سماكة أو تجديف؛ وسادسا هي فتاة وحدها فلا حارس ولا رقيب ... وعلقت على ذلك لنفسي قائلا: هذه هي المدنية الغربية متمثلة في فتاة.
قالت السيدة «ب» تعليقا على كثرة السيارات في الطريق: إن عدد السيارات يزداد ازديادا شديدا؛ فأجابها مستر «ه» بأن أمريكا رغم ذلك لا يزال أمامها في هذا المضمار طريق طويل حتى تنتج لكل فرد سيارة، فبينما الإنتاج الآن هو سيارة واحدة كل خمس ثوان؛ (أي 288 سيارة في اليوم) فإنها تنسل من السكان سبعة آلاف كل يوم.
هموا أن يسبحوا في البحيرة، ووزع علينا مستر «ه» أردية السباحة، فقلت: إني لا أسبح، وسأقف لكم على الشاطئ أنظر ... فانفجر مستر «ه» ضاحكا وراح يبلغ هذه النكتة الكبرى لزميلتينا «ب» و«م» كأنما هي أعجوبة من أعاجيب البشر!
لو استرسلت في تفصيلات الرحلة لما انتهيت من وصفها، حسبي ذلك منها.
وبدأنا طريق العودة عصرا، وبينا نحن عائدون انعرج بنا في الطريق مستر «ه» إلى جوف الغابة في موضع ما، فسألناه: إلى أين؟ قال: زرعت شجرة جوز هنا في التاريخ الفلاني، وأرعاها كلما مررت في هذا الطريق؛ ونزلنا عند الشجرة، فراح يقلمها هنا ويهذبها هناك، وقال: إن أحب شيء إلي أن أزرع شجرة في هذا الموضع، وأخرى في ذلك الموضع من المواضع التي أرتادها في رحلاتي، محاولا أن أحصل على أكبر جوز في الولاية؛ سألته السيدة «ب»: فيم هذا التقليم والتشذيب؟ لماذا قطعت كل هذه الفروع؟ فأجابها: لكي تركز الشجرة جهدها كله في تكبير الثمار بدل أن تنفق عصارتها في تغذية فروع لا فائدة منها؛ وكذلك نزلنا في موضع آخر يجاوره منزل وحيد على حافة الغابة، زرع به شجرة أخرى؛ فراح مستر «ه» يقلم الفروع وينادي سكان المنزل بأعلى صوت، فخرج الرجل وزوجته ورحبا بنا ... هنا كان بعض الجوز ساقطا على الأرض، فالتقطه مستر «ه» وهو يصيح في مرح ليس بعده مرح، كأنه الطفل الصغير في فرحته بلعبة جديدة، وأخذ يناول كلا منا جوزة أو جوزتين مما التقط، ويصيح: قولوا بصراحة أيها الأصدقاء، ما رأيكم في هذا الجوز العجيب؟ فقال قائل: ما ألذ! وقال آخر: ما أروع ... من ذا يلومني إذا أحسست عندئذ بالحسرة العميقة حين قارنت تربيتي بتربية رجل كهذا؟ أي نوع من البشر أنا؟ وأي نوع من النشأة نشأت؟ بماذا أزيد على البهيمة غذيت لتنمو ثم تموت إذا جاءها الأجل؟ إنه بغير هذا الشغف بالحياة فلا حياة؛ بل إنه بغير هذه الرغبة في استطلاع الطبيعة والقدرة النفسية على الدهشة والتعجب لكل ما تبديه الطبيعة من كائنات، فلا ثقافة؛ فليس المثقف مكتبة متنقلة خزنت في جمجمة الرأس، إنما المثقف رجل حي يقف من الدنيا وقفة المشترك في تطورها ونموها، والمستطلع لسرها وخبيئها.
الإثنين 19 أكتوبر
في صحيفة اليوم حادث له غرابته: ذهب طالب في الجامعة أمس ساعة الغروب إلى منزله، وضرب أمه حتى قتلها؛ ثم أخذ السيارة وذهب بأعصاب باردة هادئة إلى أبيه في مكان عمله، زاعما أنه إنما أراد أن يعود به إلى المنزل في السيارة كأنه الابن المشتاق؛ لكنه يضمر عزما أن يقتل أباه؛ وكان أبوه - بمصادفة عجيبة - مطلوبا في قسم البوليس لأداء الشهادة في حادث ما، فعرج الابن بأبيه على قسم البوليس، بل واستطاع الابن بأعصابه الحديدية أن يستخدم تلفون البوليس ليقول لأحد أصدقائه - الذي كان معه على موعد يذهبان فيه إلى السينما: إنه قد يتأخر قليلا عن موعده، لكنه ذاهب معه لا محالة فلينتظره، وأخيرا صحب الوالد ولده إلى الدار، والوالد لا يدري من الأمر شيئا؛ ودبر الولد أن يدخل بأبيه من الباب الخلفي حتى لا يمر بالغرفة الملقاة فيها جثة أمه القتيل؛ ولم يكد الوالد والولد يدخلان حتى انهال الولد على والده ضربا فأفقده النطق، ولم يستطع الإجهاز عليه؛ لأن الجيران أحسوا حركة فجاءوا يستطلعون الأمر فوجدوا ما وجدوا ... والعجيب أن قد سئل زملاء الطالب في الجامعة، فأجمعوا على أنه كان من أهدأ الطلاب خلقا وأطيبهم سلوكا! فكم في هذه الدنيا من مآس لا يعلم الدوافع إليها إلا الله وإلا علماء النفس إن أراد الله لعلم النفس أن يكون علما يركن إلى أحكامه ونتائجه.
دعاني مستر «ه» أن أذهب إلى لقائه مساء في فندق كولمبيا، ولم أدر لماذا ولا إلى أين نذهب، لكني أحببت هذا الرجل الذي يشيع في نفسي قبسا من مرحه كلما التقيت به، فاستقبلني في بهو الفندق بحفاوة، وراح كمألوف عهده يضحك ويصيح لا يأبه إن كان في الفندق ناس أو قطع من الحجارة! وكان في وسط البهو امرأة جالسة في نحو الأربعين من عمرها، لكنها على درجة عالية من الجمال؛ فأخذني ودنا منها وقال: إنني يا سيدتي لا أعرفك لكني مع ذلك أريد أن أقدم لك هذا الضيف من مصر؛ ثم قال لها: إني أرجح أنك قد جئت إلى كولمبيا في اجتماع القساوسة الذي ينعقد الليلة؛ لأني رأيتك في صحبة قسيس، فقالت: نعم، هذا القسيس هو زوجي جئت معه؛ فأجابها مازحا: لا شأن لي إن كان زوجك أو أخاك، إنما شأني هو أنك رائعة الجمال.
وما هي إلا أن صعدنا السلم إلى غرفة فسيحة صفت بها الموائد، فعرفت عندئذ أنه احتفال يقيمه ناد اجتماعي شبيه جدا بنادي الرواد عندنا في مصر، مهمة أعضائه: الخدمة الاجتماعية، والغاية من الاحتفال أن يقدم الأعضاء زوجاتهم حتى يعرف الجميع بعضهم بعضا، وصاحبي مستر «ه» مدعو ليكون خطيب الحفلة، فطلب من الداعين أن يعدوا لي مقعدا بجواره، وقدمني إلى أعضاء النادي ... وجاء دور أخينا مستر «ه» ليقول كلمته فهز القاعة هزا بالضحك؛ فهو ظريف الملاحظة في فكاهة مستملحة، أراد أن يقول للحاضرين كم تغيرت مدينة كولمبيا عن ذي قبل، فوضع هذا المعنى في أسلوب فكاهي يثير الضحك ؛ إذ قال: تغيرت الدنيا في هذا البلد تغيرا عجيبا أيها الإخوان؛ فقد كانت العادة أيام طفولتي أن يأكل الأطفال أجنحة الدجاج وأرجله، أما صدورها فللكبار، فلما كبرت فرحت لأنني كنت أرتقب العهد الذي أكون فيه من أكلة الصدور، لكن شاء لي الحظ الأنكد أن يذيع رجال الطب في الناس أن الأطفال يجب أن يعطوا صدور الدجاج ليتغذوا غذاء جيدا، وحسب الكبار أجنحة وأرجل؛ وإذا فقد ضاعت فرصتي في العهدين معا! ... تغيرت الدنيا يا إخواني، وإني لأدرك مدى التغير عن عهد طفولتي حين أقف على ناصية الطريق يوم ريح، فعندئذ أرى النساء مشغولات بإمساك الشعر على رءوسهن مخافة أن يختلط ويضيع تصفيفه، وللريح بعد ذلك أن ترفع عنهن الثياب ما شاءت فينكشف من أفخاذهن ما ينكشف، وأما في عهد طفولتي فقد كانت المرأة يوم الريح العاصف تمسك بثوبها بين ركبتيها اتقاء للعري، وليحدث لشعر رأسها بعد ذلك ما يحدث ... وهكذا وهكذا.
Неизвестная страница
إن الإنسان ليكسب قلوب الناس بخفة روحه أكثر جدا مما يكسبها برجاحة عقله.
الأحد 25 أكتوبر
الساعة التاسعة صباحا جاءني مستر «ه» ومعه الدكتور «ت»، وهو في السبعين من عمره، كان أستاذا للأدب الإنجليزي بصفة عامة، ومختصا بأدب شيكسبير بصفة خاصة، في جامعات مختلفة، منها جامعة شيكاجو وجامعة تكساس وجامعة كارولاينا الشمالية؛ وله كتب كثيرة عن شيكسبير، أحدثها كتاب ظهر هذا العام، عنوانه: «مقالات لشيكسبير»، جمع فيه آراء شيكسبير في الموضوعات المختلفة؛ آراءه التي وردت في مسرحياته نثرا، فجعلها كأنها مقالات كتبها شيكسبير تحت عنوانات مختلفة ... إن كل شيء يذكر الدكتور «ت» بسطر أو أسطر من شيكسبير، ويخيل إليك أنه قد حفظ شيكسبير بأسره عن ظهر قلب.
انطلقت بنا السيارة نحو مدينة أوجستا بولاية جورجيا، وهي تبعد عن كولمبيا نحو مائة ميل؛ وكان أول حديثي مع الدكتور «ت» في السيارة عن هذه المدنية العلمية؛ إذ بدأ «ت» بقوله: إنني أمقت هذه المادية الصارخة، وأتمنى أن أعيش عاريا في جزيرة، وإني لأتعجب لماذا يتسابق الناس وراء الآلات الحديثة التي تهون الحياة؟ إنني لا أملك ولا أحب أن أملك معظم هذه الأدوات الحديثة؛ ليس لي مذياع مصور ولا أريد أن يكون لي.
قلت له: إني لا أوافقك؛ ورحت أدافع له عن هذا الذي يسمى مدنية مادية؛ لأنه في الحقيقة مدنية علمية، وليس «العلم» مادة بقدر ما هو تفكير؛ فالسيارة مثلا عقل مجسد، من الخطأ تسميتها «مادة»؛ لأن كل جزء فيها قد بلور تفكيرا عقليا، وماذا يكون التفكير إن لم يكن روحا؟!
فقال الدكتور «ت»: امض في حديثك؛ فإنما أردت بما قلته أن أبدأ حديثا لأسمعك ...
كم يحز في نفسي أن أرى كل يوم ألف دليل على مقدار جهل هؤلاء الناس بنا وبعقيدتنا الدينية! إنني أبعد ما أكون عن التعصب الديني الأعمى، لكني في الوقت نفسه أكره الظلم في الحكم الذي ينبني على جهل بالحقائق؛ فليقولوا في الإسلام ما شاءوا إلا أنه عبادة أصنام! ... فقد مررنا في الطريق بكنيسة، فكانت باعثا لمستر «ه» أن يسألني ما عقيدتي الدينية؟ وإلى أي كنيسة أنتمي؟ - وهو سؤال يستحيل ألا يوجه إليك كلما قابلت أحدا؛ فالكنيسة تملأ رءوسهم، وتشعب المذاهب يشغل بالهم - فقلت له: إني مسلم؛ فقال: لقد سمعتك تجيب بهذا الجواب مرات عدة، ولم أفهم ماذا تعني كلمة «مسلم»؟ أهي تتبعك للكنيسة الأرثوذكسية أم البروتستانتية أم ماذا؟ قلت له: لا شيء من هذا؛ فأنا مسلم، وقد جاء الإسلام بعد المسيحية بسبعة قرون، فهو تعديل لها من بعض الوجوه، وعلى كل حال فهما متشابهان في الأصول؛ لأن اليهودية والمسيحية والإسلام فروع ثلاثة من أرومة واحدة، هي العقيدة في إله خالق ...
فقال مستر «ه»: لم أسمع قط بكلمة «مسلم» هذه، أتكون «محمديا»؟ فقلت له: نعم إلا أني لا أحب أن تسمى عقيدتنا بالمحمدية كما تسمونها؛ لأن لها اسما هو «الإسلام» من «السلام» ... صحيح أن الديانات تنسب لأنبيائها؛ فالبوذية لبوذا، والمسيحية للمسيح، وقد تسأل لماذا لا تكون المحمدية لمحمد؟ لكني أحس في استعمالكم لكلمة «محمدية» معنى آخر، وهو أنها عقيدة أنشأها رجل ولم يوح بها من الله.
قال مستر «ه » - ووافقه الدكتور «ت»: لكن معذرة، أليست المحمدية تعبد شيئا غير الله؟ فقلت له: لو كان الإسلام قد جاء بشيء واحد، فهو تأكيده عبادة الله الواحد الذي لا يتعدد ولا يشاركه أحد.
يحفظ الدكتور «ت» كثير جدا من الأدب عن ظهر قلب، وقد ذكرنا «إمرسن» فقلت له: إني أخي في مصر يترجمه إلى العربية؛ فسألني: أهو يترجم المقالات أم الشعر أم كليهما؟ فقلت: المقالات؛ فراح يحدثني عن خصائص إمرسن حديثا فيه لفتات جميلة، ومما أعجبني من ملاحظاته عن أسلوب إمرسن أنه يكتب كتابة تهتز اهتزاز البندول؛ فهو يهبط ثم يعلو ثم يهبط، وذكر لذلك مثالا عبارة يقول فيها إمرسن: «إنني ضئيل كالجزر، إنني إله، إنني نبتة صغيرة على الجدار.» فهو يشعر بضآلته ثم بعظمته ثم بضآلته مرة أخرى، ويعلق الدكتور «ت» على ذلك بقوله: إن هذه الحركة البندولية في شعورنا مألوفة لكل واحد منا، كلنا يحسها في نفسه.
Неизвестная страница
أخذ مستر «ه» يجول بنا في أراض زراعية فسيحة هي أرضه وأرض أسرته؛ إن أهل كارولاينا الجنوبية يعتزون بالأسرة وبالحسب شأن البلاد الزراعية العتيقة؛ فمستر «ه» فخور بآبائه وأجداده ومكانة أسرته واتساع ملكها؛ فهذه ثلاثة وستون ألفا من الفدادين، هي أرض جده لأبيه، وهذه خمسة وثلاثون ألفا هي أرض جده لأمه، وهذه قطعة مساحتها ثمانون فدانا في وسطها مبنى صغير أهداها من أرضه للنادي الزراعي ... ثم أخذنا إلى مقبرة كبيرة وسط الشجر الكثيف، هي مقبرة أسرته، قبورها كلها من المرمر، تتفاوت جدة وتاريخا، لكن وحدة الأسرة بادية فيها؛ فعلى كل قبر اسم من فيه: فلان «ه»، أو فلانة «ه»؛ وهكذا يتبعثر أفراد الأسرة في حيواتهم ويتفرقون ثم يعودون فيلتقون في مقبرة واحدة أسرة واحدة.
وكان مستر «ه» يعرج بنا في الطريق إلى جوف غابة هنا وقلب مزرعة هناك، مشيرا إلى بيوت منعزلة قائمة وحدها بغير جيران، فيقول هذا منزل ابن عمي فلان، أو فلان أو فلان؛ وحدث أحيانا أن رآه سكان هذه المنازل فخرجوا إليه مرحبين، لكننا لم ندخل من هذه الدور إلا دارا واحدة قال عنها إنها لابنة عمه فلانة، وهي تحتفظ بمجموعة قيمة من الصور الفنية النادرة أراد لنا أن نراها؛ فاستقبلتنا في هذه الدار سيدة نصف جميلة، لم يكن في الدار غيرها وغير ابن لها في نحو العاشرة من عمره جلس إلى مكتب صغير يذاكر دروسه؛ البيت قائم وحده في جوف غابة، لا جار له إلى مسافة بعيدة جدا، وهو يبلغ درجة الكمال نظافة وأناقة وحسن ذوق، أخذت السيدة تدخلنا غرف الدار واحدة بعد أخرى؛ لتطلعنا على الصور الفنية التي تقتنيها، وهي لأشهر الفنانين الأمريكيين في القرن التاسع عشر، وكثير منها صور لأفراد أسرة «ه».
وكنت في الطريق قبل بلوغنا هذه الدار، قد سألت الدكتور «ت» ما معنى كلمة «يانكي» التي يوصف بها أهل الشمال؛ فبين أهل الشمال وأهل الجنوب حزازات إلى اليوم لا يدرك مداها إلا من زار أمريكا، فأهل الجنوب يمقتون أهل الشمال الذين هزموهم في حرب تحرير العبيد، وأهل الشمال لا يخلون من احتقار خفيف للجنوبيين، ولا تزال الفوارق بعيدة بين أهل الشمال وأهل الجنوب، خصوصا في مسألة الزنوج؛ فيريد الشماليون ألا تكون هناك تفرقة بين أبيض وأسود، ويصر الجنوبيون على أن ينشق المجتمع نصفين لا يختلطان ولا يمتزجان ولا يتماسان بأي وجه من الوجوه: البيض والسود ... على كل حال، سألت الدكتور «ت»: ما معنى «يانكي» التي تصفون بها أهل الشمال؟ فلم يعرف، ولما وصلنا إلى دار هذه السيدة، قال الدكتور «ت» للسيدة: أعندك قاموس أبحث فيه لهذا السيد عن معنى «يانكي» وأصلها؟ فأجاب الغلام الذي يذاكر دروسه قائلا: هي تحريف كلمة «إنجليزي» فلما هاجر الإنجليز لأول مرة إلى أمريكا حرف الهنود الأصليون كلمة «إنجليزي» وجعلوها «يانكي» ... وفتحنا القاموس فوجدنا هذا المعنى الذي قاله الغلام، وإلى جانبه احتمال آخر، وهو أن تكون مأخوذة من «يان كي» التي هي كلمة هولندية.
وانتهت بنا الرحلة إلى غايتها المقصودة، وهي الدار الصغيرة التي يسكنها قريب لمستر «ه» هو القاضي «ه» وعمره ستة وثمانون عاما، كان قاضيا وهو الآن يقضي شيخوخته وحيدا في هذه الدار.
دار القاضي «ه» في ضاحية مدينة أوجستا، وهي مدينة تساوي كولمبيا مرة ونصف مرة، يسكنها الأغنياء، ويقصد إليها المستشفون من داء الصدر لحسن جوها؛ لما اقتربنا من الغابة التي سننفذ خلالها إلى حيث دار القاضي «ه» قال لي مستر «ه»: إننا يا دكتور محمود قادمون على بيت ابن عمي القاضي «ه»، وهو رجل مسن متهدم ضعيف؛ ولذلك فلن نطيل المكث عنده، فإذا رأيتنا نسرع في الرجوع وإذا رأيته لا يعبأ بذلك، فاعلم أن السبب هو ضعف شيخوخته.
وصلنا إلى الدار الصغيرة القائمة وسط أشجار باسقة، وحولها فضاء صغير قطعت أشجاره ونشأت فيه بركة ماء تسبح عليها بجعتان؛ المنزل صغير جدا، غرفتان صغيرتان ومطبخ وحمام، في الغرفة الأولى مكتبة على جدرانها الأربع، وفي وسطها منضدة صغيرة متينة جديدة، قال عنها القاضي «ه» إنه صنعها من خشب أشجاره؛ وفي الغرفة الثانية سرير صغير ومنضدة محملة بأكداس المجلات، مجلات هذا الأسبوع أو هذا الشهر، ثم كتاب مفتوح عنوانه «الماء»؛ وأخذ يقص علينا القاضي «ه» خلاصة ما قرأه حتى الآن في هذا الكتاب، وهو خاص بمشكلة الماء في ولاية كارولاينا الجنوبية؛ فالزراعة فيها معتمدة على المطر، لكن قد يحدث أحيانا أن يمتنع المطر فتتعرض الزراعة للخطر، وهذه هي المشكلة التي يعالجها الكتاب.
وجاء إلى القاضي «ه» ونحن معه ضيف يحمل إليه زهورا من أنواع نادرة، فراح القاضي الكهل ينظر إليها واحدة واحدة كأنه يتفرس في لوحات فنية ويستطلع أسرارها، وانصرف الضيف والتفت إلينا القاضي بحديثه، فإذا حديثه سلسلة لا تنقطع من النكات والطرائف، وهو في ضحك مستمر غير أن شيخوخته لم تمكنه من الضحك العالي القوي كما يفعل قريبه الأصغر مستر «ه»؛ وقد كانوا حدثوني عنه أنه لا يشرب الخمر أبدا - على عكس قريبه مستر «ه» الذي لا يكاد يمسك عن الشراب لحظة؛ فزجاجة الخمر معه أنى ذهب - فما كدنا نستقر مع القاضي في داره الصغيرة حتى أخرج مستر «ه» زجاجة خمره، فكانت مثار نكات القاضي فترة طويلة.
وقد أدهشني أن أرى القاضي «ه» - مع الدكتور «ت» - يتلو أسطرا من شيكسبير في كل مناسبة؛ كان يبدأ هو الأسطر فيسايره فيها الدكتور «ت»، أو يبدأ الدكتور «ت» فيلاحقه القاضي، كأنما كانا يتسابقان أيهما يحفظ أكثر من زميله وأجود، وأيهما يغوص في بحر شيكسبير اللجي ليعود ومعه لؤلؤة تناسب الموقف والسياق.
أصر القاضي الكهل على شيخوخته أن يطوف معنا في أرضه وبين أشجاره؛ فأول خروجنا من داره كان يحمل قطعة من الخبز في يده، فقال إن البجعتين لن يلبثا أن يريا الخبز في يدي فيقبلا علي؛ لكن البجعتين لم تأبها، فراح القاضي يقول النكات على نفسه؛ ثم انتقلنا إلى بركة أخرى قال إنها مليئة بالسمك، وإنه قد عود السمك أن يطفو على الماء زرافات كلما ألقى إليه بفتات الخبز، لكنه جعل يلقي الفتات في الماء فلا يأبه له السمك، فاستأنف القاضي الفكه نكاته، فقد عصاه البجع والسمك لسبب لا يدريه.
وللقاضي في غابته حديقة زهور بها كثير من أشجار الكاميليا، قيل إنها أكبر زهور للكاميليا استطاع إنسان أن ينبتها في الولاية كلها؛ ولهذه الأشياء عندهم قيمة أي قيمة! وراح القاضي يحدثنا عن كل شجرة، بل عن كل زهرة كأن هذا الزهر بنوه وبناته؛ إنه لا يتحدث عن زهوره بالجملة، بل يتحدث عنها فردا فردا؛ لأنها أحياء في ذهنه ينميها ويربيها ويتعقبها بالعناية والملاحظة والرعاية كل يوم.
Неизвестная страница
وقد كان يستحيل ألا يجيء ذكر مصر في الحديث؛ فسألني القاضي «ه» السؤال الذي يستحيل ألا يسأله كل إنسان هنا، كما يستحيل ألا يأخذني الغضب والانفعال كلما أجبته، فما استطعت مرة واحدة أن أجيب عنه وأنا هادئ الأعصاب، وهو: إنكم تطلبون من الإنجليز أن يتركوا قناة السويس، فهل إذا تركوها تستطيعون الدفاع عن أنفسكم؟ فأجيب دائما بقولي: لأن نستطيع أو لا نستطيع الدفاع عن أنفسنا فإنما ذلك من شأننا وحدنا، وليس من حق مخلوق على ظهر الأرض أن يسألنا سؤالا كهذا؛ فضلا عن أننا إذا دافعنا عن أنفسنا فضد الإنجليز، وإذا خفنا على أرضنا فمن الإنجليز ، ولا يعقل أن نستريح لدفاع الإنجليز وهم عدونا الأول؛ الإنجليز عدو قائم فعلا، والروس عدو محتمل الوقوع، ومن البلاهة أن تستبقي عدوا حقيقيا اتقاء لعدو محتمل.
فقال القاضي «ه»: إنه يصارحني بشعوره، وهو أنه كلما قرأ عن رغبة المصريين في استرداد قناة السويس، كاد الدمع يطفر من عينيه؛ لأن الإنجليز قد بنوها بمالهم وحرسوها بمالهم، فكيف يجيء المصريون الآن فيقولون: نريد القناة؟ فلما أفهمته أن المال مالنا حتى وإن بقي بعضه دينا علينا، وأن الأرض أرضنا، وأن السواعد المصرية هي التي حفرت القناة في أرض مصرية، قال القاضي إما جادا أو متهكما: هذا كشف جديد لي في السياسة أن أعلم من هذا السيد أن القناة لم ينفق عليها الإنجليز.
وجاء في حديثهم ذكر التفرقة اللونية بين البيض والزنوج، وقد جعلت خطتي أن ألزم الصمت كلما ذكر هذا الموضوع؛ فهو موضوع حساس في ولايات الجنوب، بل هو شغلهم الشاغل ومصيبتهم الكبرى! إن البيض والزنوج يكادون يتساوون عددا في ولايات الجنوب؛ والتفرقة بين اللونين في هذه الولايات تفرقة تامة في كل شيء كأنهما خطان متوازيان لا يلتقيان مهما امتدا! أحياء لسكنى البيض وأخرى لسكنى الزنوج، مدارس وجامعات للبيض وأخرى للزنوج، مطاعم للبيض وأخرى للزنوج، في السيارات العامة خصصت المقاعد الأمامية للبيض والخلفية للزنوج، بل للبيض باب في السيارة وللزنوج باب آخر، للبيض باب في محطة السكة الحديدية واستراحة خاصة، وللزنوج باب آخر واستراحة أخرى، للبيض عربات في القطار وللزنوج غيرها، إذا كان البيض والزنوج يعملون معا في مصنع مثلا، فللبيض صنابير ماء وللزنوج أخرى، وكارثة الكوارث في نظري أن يكون للبيض كنائس خاصة بهم وللزنوج كنائسهم، مع أن الجميع قد يكونون مسيحيين تابعين لمذهب واحد!
التفرقة اللونية بين السود والبيض في ولايات الجنوب هي مركب النقص الذي لا يجوز لغريب مثلي أن يمسه بحديثه؛ لأن البيض هناك - كأي ناس في أنحاء العالم - يعلمون أن مثل الإنسانية الأعلى هو ألا يكون فرق بين إنسان وإنسان، لكن العقيدة شيء وممارستها شيء آخر؛ فمن العسير جدا على نفوسهم أن يمتزجوا مع من كانوا حتى أمس القريب عبيدهم، اشتروهم بمالهم ليفلحوا لهم أرضهم، فلا يمكن بين يوم وليلة أن تقول للسيد إنك أنت وعبدك الذي اشتريته بمالك على قدم المساواة لا فرق بينك وبينه، إنهم يقولون: إن المساواة شيء والامتزاج شيء آخر؛ فللسود علينا أن لهم كل الفرص التي للبيض، لهم علينا أن يكون لهم من المدارس والمستشفيات وكل وسائل الحياة الحرة الكريمة ما للبيض سواء بسواء، لكن هل هذه المساواة في المنافع تقتضي حتما أن نمتزج معا ونعيش معا؟ لماذا تنشد سعادة السود ولا تبالي بسعادة البيض؟ فإن كان الزنوج يسعدهم أن يمتزجوا مع البيض، فالبيض يسعدهم ألا يمتزجوا مع الزنوج ... وهكذا وهكذا، وباختصار: إن هذه المشكلة عندهم هي الداء الذي ينغص عليهم العيش ولا يعرفون له دواء؛ فبالعقل يرون شيئا وبالشعور يريدون شيئا آخر، وسيظل الإنسان إلى أبد الدهر نهبا بين عقله من ناحية وشعوره من ناحية أخرى.
قلت إنهم - القاضي «ه» ومستر «ه» والدكتور «ت» - راحوا يتحدثون عن الزنوج، فلزمت الصمت كعادتي إذا ما دار الحديث عن الزنوج؛ لأنني بطبيعة الحال لا أوافق أن يقوم بين اللونين تفرقة كائنة ما كانت، وفي الوقت نفسه لا ينبغي أن أكون ضيفا يلدغ مضيفه بالنقد، فضلا عن أنني أحاول أن أشعر بشعور هؤلاء وهؤلاء ... قال الدكتور «ت» بمناسبة ضجة في النقد الأدبي قامت حول كتاب أخرجه كاتب زنجي: إننا نحتفل لإنتاج الزنوج أكثر جدا مما نحتفل لمثله من إنتاج البيض، فلو برع لاعب زنجي في الكرة وبرع إلى جانبه لاعب أبيض، ظفر الزنجي بمعظم التمجيد، وكذلك قل في ميادين العلم والأدب والسياسة؛ ثم قال متهكما: وددت أن أكون زنجيا إن كان هذا هو حظ الزنوج! وردد النغمة نفسها مستر «ه» والقاضي «ه».
وجاء حديث الزنوج مرة أخرى ونحن في السيارة عائدون، فقال الدكتور «ت»: ليس الاختلاف بين البيض والزنوج مقصورا على البيئة والتربية، بل هناك اختلاف أصيل موروث؛ ولهذا فهما جنسان مختلفان في كل شيء ... حتى نوع الجرائم التي يرتكبها أفراد هذا الجنس أو ذاك تختلف؛ فالجريمة التي يرتكبها الزنجي تختلف في هدفها وفي وسيلتها عن الجريمة التي يرتكبها الأبيض؛ الزنجي يقتل مدفوعا بالغضب والغيظ، وأما الأبيض فقد يقتل لغير هذا، هو يدبر الجريمة قبل ارتكابها، على حين أن الزنجي يستثار لها فيندفع إلى ارتكابها فورا ... ومضى يقول: لما كنت أستاذا في جامعة شيكاجو كان البيض هناك يقترفون جرائم عجيبة، فمثلا حدث مرة أن أمسك بعضهم برجلين عنوة وخصوهما، لا لشيء سوى التفكه الأثيم، أما الزنجي فيستحيل أن يقترف جريمة كهذه؛ الأبيض قد يخطف الطفل من أبويه ويقتله ويطلب من أبويه فدية (كانت أمريكا عندئذ ترتج ارتجاجا لحادث خطف طفل من أبويه الثريين وقتله الخاطف وأخفى قتله، ثم طلب من أبويه ستمائة ألف دولار فدية، وأخذ الفدية، وبالطبع لم يعد والدا الطفل يسمعان شيئا)، وأما الزنجي فليست هذه جريمته، لكن حرك الزنجي يقتل ... وفي هذا لا بد من الاعتراف بأن الزنجي أشرف وأنبل وأشجع؛ إني أقول ذلك تقريرا للحق، مع أني لست من محبي الزنوج، ولا أحب أن يقال عني أبدا أنني أعطف على الزنوج؛ فإنني أعتقد أن وجود الزنوج في بلادنا هو نكبتنا الكبرى.
واستطرد الدكتور «ت» في حديثه عن الجرائم، فقال: إن آخر إحصاء قد دل على أن المجرمين الشباب معظمهم من المتعلمين، ثم سأل في حماسة: أليس ذلك لأن طريقة التربية عندنا خطأ في خطأ؟ إنني الآن أكتب كتابا في هذا، وأضرب ضربات قاسية من النقد لنظامنا التعليمي كله؛ إذ لم تعد الشخصية وتكوينها والأخلاق وبناؤها هي الهدف الهام في تعليمنا ...
وانتهزت فرصة حديثنا في المجلات الأدبية، فسألت الدكتور «ت»: أي المجلات الأمريكية في رأيك أعلاها ثقافة؟ فما كان من الدكتور «ت» إلا أن راح يندد بموقف الثقافة في أمريكا قائلا: إنه حتى أرقى مجلاتنا ثقافة قد أصبح يتودد إلى القراء الأوساط في ثقافتهم، فيستميلهم بقصص كلها قائم على الغرائز الجنسية ... وسألته عن أجور النشر في المجلات، فما كان أشد دهشتي حين علمت أن المقالة الواحدة أو القصة الواحدة في مجلة مثل «بوست» أو «لايف» أو «نيويوركر» قد يبلغ أجرها ثلاثة آلاف دولار؛ أي أكثر من ألف جنيه مصري! ... لكن إلى جانب ذلك عرفت أن الكثرة الغالبة من المجلات العلمية والأدبية التي تعلو بمستواها فيقل مدى توزيعها لا تعطي الكاتب شيئا، وحسبه فخرا أن المجلة قد نشرت له ما كتب!
الإثنين 26 أكتوبر
عقدت اليوم ظهرا في نادي الأساتذة جلسة لمناقشة السياسة الدولية مع زائر سياسي دعته الجامعة، وهو مستر «و. د» وهو عضو في البرلمان الإنجليزي من حزب المحافظين، ومراسل لجريدة الديلي تلجراف اللندنية، عمره حول الأربعين وهو متكلم من الطراز الأول، رجحت أن يجيء ذكر مصر فذهبت إلى الاجتماع مصمما أن أتدخل في المناقشة إذا دعا الأمر إلى التدخل.
Неизвестная страница
جلس في وسط حلقة كبيرة من أساتذة الجامعة، وراح كل يسأل ما عن له من أسئلة في سياسة العالم فيجيب مستر «و. د» إجابة الخبير، وهو ممتلئ ثقة بنفسه، وحدث ما توقعت؛ إذ سأله سائل عن الموقف في قناة السويس، فقال مغيظا: إنه يستحيل علينا أن نسحب قواتنا من هناك بغير بديل نطمئن إليه؛ فنحن لا نثق بالمصريين، وهم قوم متعبون يصعب الاتفاق معهم على حل معقول ... فتدخلت قائلا: يا سيدي، لست من رجال السياسة، ولكني مصري أولا، ورجل من رجال المنطق ثانيا، وأحب أن أناقشك في ألفاظك التي استخدمتها ... وأولها كلمة «الثقة» في قولك: إنكم لا تثقون بالمصريين، ما معناها؟ إنني أفهم معناها لو كان المصريون قد أخذوا من أرضكم أرضا، وقيل لكم «اتركوهم في أرضكم» فتجيبون بالرفض قائلين إنكم لا تثقون بهم؛ أما أن تعتدي على أرض غيرك وتقول إنني سأظل هنا لأنني لا أثق بصاحب الأرض فقول يستحيل أن يقبله عقل سليم؛ لأنه قول ينفي عن الألفاظ معانيها المألوفة ... وأما أن المصريين «متعبون» فإني أؤكد لك أن المصريين إذا أسفوا على شيء فذاك أنهم لم يكونوا «متعبين» بالدرجة الكافية لإخراجكم من بلادهم.
قال مستر «و . د» أنا لا أعرف أين يكون الفرق بين أن تساعدنا الولايات المتحدة بقواتها، وبين أن نساعدكم نحن بقواتنا! فقلت له: إن الفرق هو كالفرق بين الأرض والسماء؛ فقد اخترتم أن تساعدكم الولايات المتحدة، وأما نحن فلم نختر مساعدتكم، وفي حرية الاختيار يكون الفرق بين الحر والعبد؛ فسكت ونظر إلى قدميه، وقال: نعم، أظن أن هذه نقطة جديرة بالنظر ... ولما انفض الاجتماع جاءني مستر «و. د» يصافحني قائلا: إنني لا أعتذر إليك، لكنني أحييك وأقول لك: إنني كنت أعرف أن مصريا موجودا بين الأساتذة، فلما سئلت عن مصر أردت أن أكون صريحا، فأقول في حضوره ما كنت أقوله في غيابه؛ وأكد لي أنه ربما وصل الفريقان إلى اتفاق عما قريب.
الخميس 29 أكتوبر
لماذا أتتبع أخبار الطفل المريض الذي جلس أبوه إلى جوار المستشفى ينظر إليه خلال النافذة؟ لماذا يشتد حزني هذا الصباح إذ قرأت أن الطفل قد مات ليلة أمس بعد أربعة عشر يوما أنفقها أبوه على كرسي فوق طوار الشارع لا يعبأ بجوع أو برد؟ ... هل يمكن أن يكون مثل هذا الوالد من شعب يعبد «الدولار»؟ ألا ما أظلم الناس في أحكامهم على الناس!
نعم، لبث الوالد المزارع في المدينة إلى جوار ابنه المريض، لا يعود إلى مزرعته بل لا يكاد ينتقل عن كرسيه الذي وضعه في العراء لينظر إلى ابنه؛ لأن ابنه طلب إليه ألا يتركه، وكان متعذرا على الوالد أن يدخل معه في غرفته، فجلس على الطوار ينظر إليه خلال النافذة لا يكاد يأكل أو ينام ... ولما نشر في الصحف نبأ هذا الوالد، جاءت إليه تبرعات كثيرة منوعة؛ فتبرع متبرع بمقعد طويل مريح يستلقي عليه الوالد، وتبرع مطعم بتقديم الوجبات للوالد مدة إقامته في المدينة، وتألفت جماعة تتناوب الجلوس مع الوالد للتسرية عنه، وتبرع آخر براديو ... إلخ إلخ. هذه نزعة إنسانية فيها شبه كبير بعواطفنا الشرقية الحادة، لكنها تزيد على عواطف الشرقيين بكونها تنتقل إلى المعونة العلمية ولا تكتفي بالتعبير اللفظي الذي لا يغني من برد أو جوع .
لكن يشاء الله أن أرى إلى جانب هذه العاطفة الإنسانية النبيلة عاطفة أخرى خسيسة دنيئة، تتجلى في حكم أصدره اليوم قاض على قاتل أبيض قتل زنجيا؛ حكم القاضي على القاتل (الأبيض) بالسجن سنتين؛ لأنه قتل ذلك الزنجي، ولست أريد أن أعلق على عدم التناسب بين العقوبة والجريمة؛ فقد لا يكون ذلك من شأن رجل لم يدرس القانون، ولم يدرس تفصيلات الموضوع، لكن الذي يدعو إلى العجب الشديد هو «حيثيات» الحكم كما نشرت في صحيفة اليوم؛ إذ جاء في الحيثيات ما تأتي ترجمته بالحرف الواحد:
إنني أحكم على فلان بالسجن سنتين ليتعلم درسا، وهو ألا يخالط الزنوج، لقد خلقنا الله مختلفين، فلماذا نسلك كما لو لم يكن بين الناس اختلاف؟ لقد كان فلان يستطيع أن يجد من أمثاله البيض من يقضي معهم وقت الفراغ والتنزه ...
ومعنى ذلك أن القاضي لا يعاقب المجرم القاتل على جريمته، بل يعاقبه على شيء آخر وهو أنه اختلط مع زنجي، فهذا عند القاضي أخطر من القتل! ترى بماذا كان يحكم هذا القاضي نفسه على زنجي قتل رجلا أبيض؟!
الجمعة 30 أكتوبر
ذهبت إلى نادي الأساتذة في الفترة التي تقع بين المحاضرتين، وأخرج الدكتور «ك» أستاذ تاريخ القانون من جيبه قصاصة، وقرأها للحاضرين، وإذا هي الحكم الذي أصدره القاضي على القاتل الأبيض الذي قتل زنجيا فحكم القاضي عليه بالسجن عامين، وقال في تبرير الحكم: إنه قد قضى بسجنه ليعلمه درسا ألا يختلط بعد ذلك بزنجي.
Неизвестная страница
فدار الحديث بين الأساتذة حول التفرقة بين البيض والسود، وهو موضوع حساس يشغل الناس هنا كبيرهم وصغيرهم، ويستحيل أن يذكر هذا الموضوع أمامي إلا وأظل صامتا لا أنبس بحرف واحد ... وعرفت من حديث الأساتذة ما اشتد له عجبي؛ إذ عرفت أن من تقاليد الصحف المحلية هنا ألا تنشر صورة لرجل أسود أو امرأة سوداء، وألا تذكر زنجيا أو زنجية بلقب «السيد فلان» أو «السيدة فلانة».
قال الدكتور «ك» وهو ساخط على هذه التفرقة: إنني أذكر أن رجلا أبيض كان مخمورا فدخل على امرأة زنجية في دارها وقضى معها الليل، فلما افتضح أمره في الصباح، أطلق البوليس على التهمة «إخلالا بالأمن»، وحكم على الرجل بغرامة بضعة دولارات، أما إذا حدث العكس، فدخل رجل زنجي على امرأة بيضاء في دارها، فالجريمة عندهم يكون اسمها «اغتصابا جنسيا» ويكون الحكم فيها بالإعدام!
وقال الدكتور «ك» بعد ذلك: قولوا ما شئتم، أما أنا فتؤذيني هذه التفرقة في العدالة، ولا بد أن تسوى العدالة بين الجميع ... لكن بقية الأساتذة كانوا أميل إلى الاعتراف بالفوارق القائمة بين البيض والسود، وإن يكن معظمهم كان يخفف القول بزعمه أن الأمر مرهون بالزمن، وأن الحال يزداد صلاحا، والفوارق تزداد زوالا على مر السنين.
كان منتصف الساعة الثامنة مساء موعدي مع السيدة «ج» أرملة العالم الأثري الأستاذ الدكتور «ج» - وقد كان مديرا لمعهد الآثار الأمريكي، وأستاذا للدراسات القديمة في جامعة نيويورك، ومؤلف كتاب «الفئوس السحرية» - فقد دعتني كما دعت الأب «م» وزوجته ...
ضغطنا على جرس الباب الخارجي، فلاحظت أن صوت الجرس الذي أسمعه يدق داخل الدار ليس كسائر أجراس البيوت، بل هو أقرب إلى أجراس المدارس، وجاءت سيدة في الخامسة والثمانين من عمرها ففتحت لنا الباب، وهي السيدة «ج» التي تقوس ظهرها، وعيناها واسعتان عليهما شبه غشاء من ماء، ويداها مرتعشتان.
وأول ما يصادف الداخل إلى دارها أجراس معلقة على حائط البهو في هيئة عقود كبيرة، مائة جرس على الأقل أشكالا وألوانا؛ فهذا من نحاس وذلك من حديد، هذا أصفر وذلك أزرق؛ وقفت بنا عند هذه الأجراس وأخذت تقول: إنني أحب الأجراس، اشتريت هذا الجرس في روما، وكان هذا الجرس معلقا في لجام جمل عند أهرام الجيزة في مصر، وهذا الجرس كان هو جرس بيتنا أيام طفولتي، وهذا وهذا وذلك ... إنني أحب الأجراس! كنت في روما أعلق عقود الأجراس على فروع الشجر أمام شرفة منزلي، فكلما هب الهواء واهتزت الفروع سمعت رنين الأجراس أنغاما مختلفة جميلة؛ إنني أحب الأجراس ...
ودخلنا بعد ذلك غرفة الجلوس إلى يميننا؛ كل المقاعد خشبية غليظة متينة، وبها منضدة من خشب غليظ متين كذلك، فهذا المقعد كتلة خشبية وضعت على ثلاث قوائم تركت على صورة فروع الشجرة التي لم ينجرها قادوم أو مساحة، صنعته السيدة «ج» بيدها من أشجار حديقتها، وذلك المقعد قطعة من جذع شجرة لا قوائم لها وهكذا، وراحت السيدة تقص علينا تواريخ مقاعدها واحدا واحدا، أين صنعته وكيف صنعته، وتعلق تعليقات عاطفية نحو أثاثها كلما قصت علينا تلك التواريخ؛ فهي تحب هذه المنضدة، وهي تحنو على ذلك المقعد، وذلك الكرسي عزيز عندها.
وجدران الغرفة مليئة «بالمعلقات» صنوفا غريبة: أطباق ملونة وصور وتحف ومصابيح ... وخرجنا من غرفة الجلوس لندخل غرفة مقابلة لها هي المطبخ وفيه مائدة الطعام، وقفت السيدة «ج» وعلى كتفيها خمسة وثمانون عاما، وأمسكتني من ذراعي وقالت: في هذه الغرفة حياتي؛ فها هنا أعمل وها هنا أطعم وها هنا أقرأ وها هنا أعيش.
وتنظر حولك في هذا المطبخ فترى العجائب، حتى لا يسعك أحيانا إلا أن تضحك من كل قلبك؛ وابدأ من الباب: فقد كتبت السيدة «ج» على باب مطبخها - أعني على خشب الباب نفسه - وصفات لأكلات، ووقفت تشرح لي لماذا ملأت الباب بهذه الكتابة الفريدة في نوعها، فهي تقف أمام الفرن هكذا، وتلتفت بوجهها هكذا دون أن تتحرك، فترى كم من الدقيق تضع وكم من السكر أو البيض أو اللحم؟ فلماذا لا أوفر على نفسي عناء كتاب أفتحه كلما أردت الكشف عن شيء أثناء الطهي؟ ... وانظر إلى نافذة المطبخ تجد عند قمتها رفا رصت عليه عشرون زجاجة صغيرة مختلفة الشكل، وكلها ملئ بالزيت، فتسألها: هل هذه صنوف مختلفة من الزيت؟ فتقول: لا، كلها نوع واحد، إذا لماذا تضعين الزيت في هذا الصف الطويل من زجاجات صغيرة؟ فتجيب: لأني أحب شكلها هكذا صفا من زجاجات.
لم تكن السيدة «ج» في عيني حتى الآن سوى امرأة كهلة أقرب إلى البلاهة، وربما أصابها شيء من الخرف، لكن سرعان ما خاب ظني؛ فلم ألبث أن رأيت فيها امرأة من عجائب البشر:
Неизвестная страница