انتهزت فرصة إدراكي لدقة هذا الرجل في معلوماته، وسألته عن أمر كنت أحب أن أزداد به علما، وهو: إذا كان الأمريكيون خليطا من مهاجرين أوروبيين، فما الذي جعل المهاجرين الفرنسيين والهولنديين والإسبان يتكلمون الإنجليزية، بحيث أصبحت الإنجليزية هي لغة الأمريكيين قاطبة؟ فقال: جاء الأمر تدريجا، فمر على ثلاث درجات: خطوة كان كل قبيل يتكلم لغته الأصلية؛ وخطوة ثانية كان الأطفال يتعلمون فيها الإنجليزية في المدارس ويتكلمون اللغة الأصلية في المنازل، وإنما يتعلمون الإنجليزية في المدارس لكثرة المهاجرين الإنجليز كثرة عددية بالنسبة لسائر المهاجرين؛ وخطوة ثالثة أصبحت الإنجليزية فيها هي لغة المدارس والمنازل في آن معا ... على أن هناك بعض جماعات ظلت إلى زمن قريب جدا تتكلم اللغة الأصلية، وقال: سأشير لك الآن في طريقنا إلى بلد سنمر عليه اسمه «يونين تاون»، سكانه من المهاجرين الألمان، ظلوا يتكلمون الألمانية إلى أن كنت أنا طالبا في المدرسة الثانوية، والناس في ولاية نيومكسكو إلى الآن يتكلمون الإسبانية في كثير من المواضع، بل إن قانون ولاية نيومكسكو يجعل الإسبانية لغة رسمية إلى جانب الإنجليزية، كذلك في ولاية لويزيانا لا يزال كثيرون هناك يتكلمون الفرنسية وخصوصا الكهول.
أشرفنا فجأة على حافة واد عميق جدا واسع، يلتقي فيه نهران: نهر «سنيك» (الثعبان) ونهر كلير ووتر (الماء الصافي)، فترى من الارتفاع الذي كنا عليه التقاء النهرين، كما ترى مدينة «لوستن» في قاع الوادي؛ الفرق بين المرتفع الذي كنا عليه وجوف المنخفض الذي سنهبط إليه ألفا قدم، والانتقال في المنظر مفاجئ حتى ليدهش الرائي الذي لا يتوقع أن يرى ما رآه؛ والنزول من القمة إلى الوادي يكون على طريق هو معجزة في تعبيد الطريق: طريق يدور مع السفح في دوائر وانثناءات، هابطا تدريجيا مع دورانه وانثناءاته حتى تصل إلى بطن الوادي، وعندئذ تدرك انتقالا مفاجئا في درجة الحرارة؛ ففي الوادي دفء شديد بالنسبة إلى القمة التي هبطنا منها.
ودرنا بالسيارة في أنحاء البلد؛ كانت «لوستن» غريبة في عيني حتى لقد أحسست أني انتقلت إلى عالم آخر لا إلى بلد قريب، ولعل هذا الشعور مصدره طريقة النزول إليه منزلقين على طريق يذهب ويجيء في حضن الجبل، ووقوعه في جوف إناء من الأرض فسيح القاع جدرانه جبال محيطة بقاعه ... مدينة لوستن قريبة جدا من أحد محابس الهنود الأصليين؛ فالهنود الأصليون محصورون في محابس منتثرة هنا وهناك في أرجاء الولايات المتحدة، وليس معنى انحصارهم في محابسهم أنهم محرم عليهم الخروج والسفر، بل معناه أن الحكومة قد اختصت كل مجموعة من مجموعات الهنود الأصليين بمساحة من الأرض يستغلونها دون أن يلتزموا بالضريبة، ولا يجوز لأحد من البيض أن ينافسهم في أرضهم تلك ولا ما يقع فيها من أنهار وأشجار وغيرها؛ وفي مقابل هذه الحقوق يضيع على الهنود حقهم في التصويت، أو بعبارة أخرى: يضيع عليهم حقهم في أن يكونوا مواطنين؛ غير أن لكل هندي - كما أفهمني الدكتور «ك» في هذه الرحلة - الحق في التنازل عن امتيازاته تلك إذا أراد أن يكون مواطنا له ما للأمريكيين وعليه ما عليهم، والكثرة الساحقة منهم يؤثرون امتيازاتهم على أن ينخرطوا في سلك المواطنين.
رأيت ونحن ندور بالسيارة في أنحاء البلد أفرادا من الهنود يسيرون في الطرقات، لكني رأيتهم بالثياب العادية المألوفة نساء كانوا أو رجالا، وكنت أظن أن الهنود الأصليين لا يرتدون إلا الملابس التي أراهم فيها حين أراهم في السينما مثلا، فسألت الدكتور «ك»: أين الريش الذي يتميزون به على رءوسهم كما ألفناهم في الصور؟ فضحك وقال: إنهم لا يلبسون ثيابهم الوطنية الأصلية إلا في مناسبات، وهم عادة لا يلبسونها إلا إذا تقاضوا أجرا لقاء ذلك، كأن يلبسوها مثلا لمخرج سينمائي أو نحو ذلك، وإذا فهي مورد كسب لا أكثر ولا أقل.
وعدنا فصعدنا بالطريق المنثني إلى القمة التي هبطنا منها، وسرنا في مرتفعنا شطر مقرنا «بلمان»؛ وفي طريق عودتنا فتح الدكتور «ك» موضوع الإنجليز واستعمارهم مرة أخرى، فحدثت بيني وبينه طوال الطريق مناقشة بدت فيها سرعة البديهة بالنسبة لكلينا؛ فالدكتور «ك» - على غبائه البادي في ملامح وجهه وطريقة مشيته - عسير في مناقشته، غير أني أعتقد أنني كنت أقوى منه حجة، لا بسبب ضعفه في المناقشة، بل بسبب ضعف القضية التي يدافع عنها، وقضيته هي أن الإنجليز قد بلغوا في استعمارهم حد الكمال، ومن أضعف جوانب مناقشته المثل الآتي، أسوقه لأدل به على مدى التحيز في نظرة الإنسان مهما كان عالما كالدكتور «ك».
قال: سأترك الآن قناة السويس؛ لأن عاطفتك متصلة بها ولا تصح فيها المناقشة، وأنتقل إلى جبل طارق، فهل ينكر أحد أن إنجلترا قد صانت هذه النقطة الهامة لصالح العالم كله؟
قلت: أنا لا أحب الكلمات العائمة المبهمة، فما معنى «العالم» في هذا السياق؟ أيشمل «العالم» الصين والروسيا مثلا؟
قال: لا، بل الولايات المتحدة.
قلت: كأن تعريف العالم عندك هو بلدك الذي تعيش فيه؟
قال: وما الضرر في أن أنظر إلى الموضوع من وجهة نظري؟ ألا يجوز أن تكون هي أيضا وجهة نظر «العالم»؟
Неизвестная страница