وذهبت بعد زيارتي للمحكمة العليا إلى الكابتول الذي يجتمع فيه مجلسا الشيوخ والنواب: والكابتول هو سرة واشنطن؛ أي أن المدينة صممت على أن تتلاقى طرقها عند مبنى الكابتول؛ وللكابتول جانبان: أحدهما للشيوخ، والآخر للنواب.
بدأت بزيارة جناح الشيوخ، عليك أن تصعد إليه سلما رخاميا عظيما، أمامه تمثال كبير ل «فرانكلن»، ثم تصعد أول جزء من السلم فترى صورة على الحائط؛ أعني رسما حائطيا، إلا أنه محاط بإطار فخم جميل، وهي تصور موقعة مع الإنجليز ... الجمال والروعة والفخامة والضخامة حولك من كل ناحية، فلا تدري أين تجيل البصر ...
دخلنا قاعة الشيوخ، وجلسنا في مقاعد الزائرين، وهي مغطاة كلها بالحرير الأحمر المزخرف، والمقاعد في شرفة تدور مع الجدران الأربعة، وتطل من حيث أنت إلى أسفل إلى أرض القاعة حيث يجلس الأعضاء؛ والأعضاء يجلسون على مكاتب منفصلة وليست مقاعدهم بالصفوف المتلاصقة المقاعد؛ وعدد الشيوخ ستة وتسعون شيخا، لكل ولاية من الولايات شيخان ينوبان عنها مهما اختلفت الولايات في عدد سكانها، وتنقسم القاعة قسمين بينهما ممشى؛ فالجزء اليمين للجمهوريين، والجزء اليسار للديمقراطيين، وفي المقدمة مقعدان: أحدهما لزعيم الأغلبية والآخر لزعيم الأقلية؛ ويجلس الأعضاء بترتيب أقدميتهم في العضوية، فيجلس الأحدث في الصفوف الخلفية ويجلس الأقدم في الصفوف الأمامية، وكلما قدم العهد بعضو وخلا له مكان أمامي تقدم إليه ... وعلى مقربة من السقف وبامتداد الجدران الأربعة وضع عشرون تمثالا نصفيا لأول عشرين ممن تولوا رئاسة هذا المجلس؛ ورئيس الشيوخ هو دائما نائب رئيس الجمهورية، وفي وسط السقف مصباح مربع الشكل في مسطح واحد مع السقف نفسه، وعليه نقش هو نفسه النقش الذي يمثل الخاتم الرسمي للدولة، فإذا أضيء المصباح ظهرت خطوطه ... وبين الشيوخ امرأة واحدة، وليس فيهم أحد من الزنوج.
قصدنا بعد ذلك إلى مجلس النواب في الجناح الآخر من مبنى الكابتول، وفي طريقنا بين المجلسين مررنا تحت قبة البناء، قبة الكابتول العالية ... قف هنا تحت القبة وانظر، إنني لم أر الدنيا كلها لكني لا أعرف كيف يمكن أن يكون في الدنيا بأسرها بناء يضارع هذا البناء في فخامته المعجزة؟! القبة عالية علوا لا يطوف ببال من لم يقف تحتها؛ جدرانها من الداخل زخرفت بلوحات زيتية كبيرة جدا تمثل سلسلة من مناظر تاريخ الولايات المتحدة: وصول كولمبس إلى الأرض الجديدة، وصول الحجاج المهاجرين لأول مرة من أوروبا إلى أمريكا، الحرب مع الإنجليز واستسلام الإنجليز ... إلخ؛ وكذلك ترى حول حافة القبة السفلى - عند بدء اتصالها بالقاعدة - نقوش بارزة تمثل أيضا مشاهد من تاريخ الولايات المتحدة ... لا يسع الرائي بالطبع سوى أن يتذكر قبة كنيسة القديس بطرس في روما، وقبة كنيسة القديس بولس في لندن، ولا أذكر أن إحدى هاتين تفوق قبة الكابتول فخامة وجمالا.
اجتزنا هذا البهو الذي تغطيه القبة الكبرى، ودخلنا من باب على جانبه تمثالان ضخمان من البرنز : أحدهما لواشنطن والآخر لجفرسن، ودخلنا في بهو آخر تعلوه قبة أخرى، لكنها طبعا أصغر من الأولى ... هذا البهو الدائري قد رص حول دائرته ستة وتسعون تمثالا كلها بالحجم الطبيعي، لكل ولاية من الثمانية والأربعين تمثالان اختارتهما الولاية من عظماء أبنائها؛ ولذلك سمي البهو ببهو التماثيل.
وبعدئذ صعدنا سلما رخاميا إلى حيث مجلس النواب، وكما هي الحال في السلم المؤدي إلى مجلس الشيوخ ترى أمامك وأنت صاعد صورة حائطية كبيرة، إلا أن الصورة هنا تمثل زحف الأمريكيين غربا زحفا ينهزم أمامه الهنود الأصليون من سكان البلاد، فترى في الصورة معركة دائرة على قمم جبال روكي، وهنالك على أعلى قمة منها وقف رائد ينظر إلى وادي كالفورنيا كأنما يبشر قومه بزحف جديد نحو الغرب ...
نحن الآن في قاعة مجلس النواب: قاعة مستطيلة في أعلاها وعلى مدار جدرانها شرفة للزائرين؛ ومقاعد النواب صفوف متلاصقة المقاعد، رصت في أنصاف دوائر، وتنشق نصفين يفصلهما ممشى، الجزء اليمين للجمهوريين واليسار للديمقراطيين؛ ومقعدان أماميان لرئيسي الأغلبية والأقلية؛ والنواب يبلغون - فيما أذكر - 435 نائبا ليس لهم ترتيب في طريقة الجلوس أماما وخلفا، ما دام العضو يجلس في النصف المخصص لحزبه؛ وليس بين الأعضاء إلا محايد واحد، وفيهم إحدى عشرة امرأة؛ وبين النواب زنجيان؛ وعلى مقربة من السقف وعلى طول الجدران الأربعة حفرت في الحوائط تماثيل على شكل الأنواط لكبار المفكرين في تاريخ البشر بصفة عامة ممن أنتجوا شيئا من باب القانون والتشريع ... وفي هذه القاعة يجتمع المجلسان حين يجتمعان معا، وفيها يخطب رئيس الجمهورية حين يلقي خطابه في الكونجرس.
خرجت من الكابتول وأنا في حالة تشبه الذهول من هذه العظمة كلها، ونظرت من الخارج إلى البناء في مجموعه، فرأيت هناك على قمته وعلى رأس القبة الكبرى تمثال امرأة تمثل الحرية، كأنما ارتفعت هكذا في السماء لتتعاقد مع الآلهة ألا يدخر الإنسان جهدا في سبيل حريته.
وعدنا الطريق بعد ذلك إلى حيث مكتبة الكونجرس، وهي مقابلة للكابتول، بنيت في أول القرن التاسع عشر (1803م) ... هي أكبر مكتبة في العالم، هكذا قال دليلنا - ولم يستثن حتى مكتبة المتحف البريطاني بلندن - ففيها عشرة ملايين من الكتب، ولها ملحق جديد خصصوه للأقسام الشرقية، ومنها القسم العربي.
تصعد إليها سلما عريضا إلى حيث مصطبة فسيحة تقوم عليها صفوف مع عمد رفيعة نهضت في واجهة البناء جليلة، ثم تدخل خلال باب من أبوابها الثلاثة الضخمة ... ليتني ادخرت كل ما في جعبتي من ألفاظ التفخيم والتضخيم والجمال والجلال والروعة لأقولها كلها في وصف وقفة تقفها في هذه المكتبة العجيبة! ماذا أقول؟ مهما قلت فلن أعين خيالا على أن يتصور الواقع؛ فلا بد من رؤية العين، وحتى إن رأت العين، فلن ترى إلا جزءا من ألف جزء مما في هذه المكتبة من روعة فنية.
Неизвестная страница