وعدت فنزلت إلى الطابق الأرضي حيث طفت ببعض غرفه، وهناك رأيت صورة «ديجا» المشهورة التي تصور تمشيط الشعر؛ ففيها ثلاث نساء في أوضاع مختلفة، أمسكت كل منهن بشعرها ومالت بجسدها فوقفت وقفة من تمشط شعرها؛ وصورة صغيرة أخرى ملأتني فتنة وإعجابا لفنان اسمه «سيورا» واسمها «كاسر الحجر»، وهي تصور عاملا أمسك بفأسه وانحنى يكسر بها الحجر، ليس في الصورة تفصيلات؛ فهي تكاد لا تزيد عن بقعة من اللون بغير أجزاء؛ ومع ذلك فالحياة والحركة فيها يراهما حتى من ليست له خبرة بالنقد الفني.
وجلست أستريح في هذا الجو الفاتن الساحر، كأنما يصعب على نفسي أن تخرج من هذه الدار التي أترعت بالفن بناء وأثاثا وجدرانا.
لم أكد أفرغ من الغداء حتى بدأت جولة كبيرة رأيت فيها مراكز الحكم والثقافة في واشنطن ... وأول دار زرتها هي دار المحفوظات؛ تدخلها من مدخل فخم تقوم فيه العمد الضخمة، فإذا أنت في بهو مستدير تعلوه قبة عالية، ومع دوران البهو يدور صف من صناديق الزجاج المضاءة، عرض فيها أهم الوثائق التاريخية في حياة الولايات المتحدة، صدرت بالوثيقة الكبرى وثيقة الاستقلال التي هي أساس الدستور، والتي تبدأ: «نحن الشعب ...» وعند المدخل داخل البهو صفان من أعلام، هي أعلام الولايات الثمانية والأربعين بحثت فيها عن علم كارولاينا الجنوبية كأني من أهلها، فرأيته بما عليه من نخلة تتخذها شعارا لها؛ وخرجنا من البهو الدائري إلى ممر طويل ينحني بانحناء البهو الذي تعلوه القبة، وفي هذا الممر فجوات في الحائط على الجانبين، مغطاة بألواح الزجاج ومضاءة، لكل ولاية منها فجوة تضع فيها أهم وثائقها الإقليمية.
وقصدت بعد ذلك إلى مبنى المحكمة العليا - وهنا ألاحظ أن القائمين بالحكم في الولايات المتحدة هيئات ثلاث: رئيس الجمهورية ورجاله، والكونجرس بمجلسيه للشيوخ والنواب، ثم المحكمة العليا - وبناء المحكمة العليا حديث أقيم سنة 1935م، وهو من المرمر الأبيض، وقيل إنه صنع من المرمر ليكون رمزا لصفاء القضاء ونقائه، وقد بنيت الدار على النمط اليوناني الروماني في فن العمارة، هذا النمط الذي يسحق نفسك سحقا، أو إن شئت فقل هو النمط الذي يسمو بنفسك سموا بفخامة عمده وبما في أجزاء البناء من تناغم واتساق؛ تصعد إليه بسلم عريض، وتجد عند المدخل تمثالين رائعين، حتى إذا ما دنوت من الباب وجدت عند أعلاه هذه العبارة:
مساواة في العدالة في ظل القانون ...
وادخل معي إلى هذه الصالة الفسيحة وكلها - كسائر البناء - من المرمر الأبيض الناصع؛ وانظر إلى كل شيء أمامك وعلى جانبيك وفوق رأسك؛ انظر إلى صفوف العمد المرمرية الجميلة، وإلى السقف وقد زخرف بمربعات حمراء، كل مربع منقوش نقشا بارزا بزهرة اللوتس، وإلى صفين من ثريات مضاءة ... انظر إلى هذا كله وقل: ما أجل الإنسان وما أعظمه!
وهنا تولانا أحد رجال المحكمة فطاف بنا في أرجائها ... والمحكمة العليا مؤلفة من تسعة قضاة، وهي لا تنظر إلا في القضايا التي يكون فيها احتكام لقواعد الدستور؛ ولذلك لا يأتي إليها جناة ولا شهود وليس فيها محلفون؛ كل ما فيها تسعة قضاة ومحامون.
ودخلنا قاعة المحكمة، هذه القاعة التي تضطرك إلى حبس أنفاسك في صدرك لروعتها التي تأخذ بالألباب! هي قاعة مستطيلة تتدلى على جوانبها كلها ستائر من القطيفة الحمراء السميكة؛ وفرشت أرض القاعة بالقطيفة الحمراء السميكة التي تغوص فيها القدم ، وصفت فيها المقاعد مكسوة بالقطيفة الحمراء؛ جلست هناك ونظرت أمامي إلى ما يشبه مصطبة المسرح، وضع عليها منضدة كبرى، وخلف المنضدة رصت مقاعد تسعة للقضاة التسعة؛ وأول ما تلاحظه فيها هو اختلاف تلك المقاعد شكلا وحجما ... لماذا؟ لأن لكل قاض عند تعيينه أن يجيء بالكرسي الذي يريحه؛ لهذا ترى مقعدا كبيرا وآخر صغيرا، ترى مقعدا عاليا وآخر وطيئا ... وقال لنا محدثنا هناك متفكها إن يابانيا زار واشنطن وعاد إلى بلاده يكتب ملاحظاته في سلسلة من مقالات، فقال عن هذه المقاعد إنهم في الولايات المتحدة يتيحون للأكفاء أن يختاروا كراسيهم، وليست الكراسي عندهم هي التي تختار الرجال؛ والكاتب بالطبع يلعب على كلمة «كراسي» التي تعني «وظائف» كما تعني «مقاعد».
ومقاعد القاعة كلها، والحاجز الذي يفصل المقاعد عن المنصة، صنعت جميعا من الخشب الماهوجني الجميل، والسقف مزخرف بمربعات حمراء برزت فيها نقوش وردية اللون تمثل زهور اللوتس.
وانتقلنا من قاعة المحكمة إلى قاعة المداولات، وهي قائمة صنعت جدرانها الداخلية من خشب لا تشبع من جمال منظره، ووضع في وسطها مربع من مناضد خضراء أحيطت بمقاعد جلدية ضخمة فخمة، وتدلى من سقف القاعة نجفتان بلوريتان كبيرتان جدا، وقد قيل لنا إن هذه الغرفة أصبحت تسمى «غرفة المداولات الدولية»؛ ففيها اجتمع مندوبو الأمم المتحدة لأول مرة حين أرادوا وضع دستور الأمم المتحدة عقب الحرب الماضية.
Неизвестная страница