في مدرسة من هذه المدارس، وهي غرفة واحدة على دائرها مقاعد من الخشب، والأولاد جلوس عليها مرصوصين رصا، والمعلم جالس على كرسي إلى جانب الباب، وأمامه مائدة صغيرة عليها جرس ودواة وفي يده قضيب من الرمان؛ وقف ثلاثة أولاد أمام المعلم وجعلوا يقرءون في كتاب طبع حديثا في المطبعة الأميركية، وبينما هم يقرءون والمعلم يصلح أغلاطهم، ويأمر المجتهد بشد أذن الكسلان دخل رجل طويل القامة، أسمر اللون، عابس الجبين، لابس دامرا مرخي الأكمام، دخل يتهادى في مشيه لطول قامته، فنهض المعلم واقفا إكراما له ووقف التلامذة كلهم لوقوفه، فأمسك بيد المعلم وأسر في أذنه كلمتين، ثم خرجا من المدرسة ووقفا أمام الباب يتحادثان، وبعد هنيهة عاد الرجل من حيث أتى، ودخل المعلم وقرع الجرس، وقال للتلامذة: اذهبوا كل واحد إلى بيته، لا تحيدوا يمنة ولا يسرة، ولا تتأخروا في الطريق، وقولوا لأهاليكم: إن المعلم صرفنا وستقفل المدرسة بضعة أيام. وخذوا كتبكم معكم.
فقام التلامذة وتأبط كل كتابه أو كراسته، وتكتفوا وخرجوا في صف واحد، ثم تفرقوا وسار كل منهم في طريقه، ولم يكادوا يصلون إلى بيوتهم حتى وجدوا فيها حركة غير عادية، وبعضهم التقوا بآبائهم ذاهبين للمجيء بهم، وقابلهم أمهاتهم بلهفة وأدخلنهم حالا إلى داخل البيوت، وكن قد أخذن يجمعن القليل من ثيابهم ويرزمنها.
فدهش الأولاد من ذلك، وسأل الكبار منهم آباءهم وأمهاتهم عن سبب هذا الاضطراب، وأقبلت حنة وأصبعها على فمها وهي تقول لأخيها: «هس، قتل مسلم وبدهم يقتلونا كلنا .» فأمسكت أمها بكتفها وهزتها، وقالت لها: «اسكتي يا مضروبة.»
ما أرهب تلك الساعة! وما أثقلها على النفوس! ألوف مؤلفة من الأرامل والأيتام الذين نجوا من المذابح وقصدوا بيروت للاحتماء بها، ألوف من النساء اللواتي ذبح رجالهن وأولادهن أمام عيونهن، ألوف من الصبيان والبنات الذين نجوا مع أمهاتهم وساروا يوما بعد يوم مشيا على أقدامهم إلى أن بلغوا بلاد الأمان، مئات من الرجال الذين ساعدتهم التقادير على النجاة، وعلى كل منهم أن يعول عائلتين أو ثلاثا من عيال إخوته الذين ذهبوا شهداء السياسة والطمع؛ كل هؤلاء التجئوا إلى مدينة بيروت، وهم يحسبون أنهم نجوا من كل خطر، وفي ساعة واحدة رأوا سيف النقمة مسولا فوق رءوسهم، فتصوروا المشاهد الفظيعة التي مرت بهم منذ شهر أو شهرين، ورأوا فيها أشلاء القتلى لم تزل تتحرك والدم يفور من جراحها، وأيقنوا أن نجاتهم كانت حلما مر وانقضى، وأن السيف تابعهم لا محالة، ولم يبق لهم مهرب ولا نصير، الجبل وراءهم محروق القرى، والبحر أمامهم يرغي ويزبد.
مضى العصر ومالت الشمس إلى المغيب، وطالت ظلال البيوت والأشجار واكدر ماء البحر بعد صفائه، وبدت تباشير الشفق فوق جبال لبنان، وامتدت أصابعه من الشرق إلى الغرب، الطبيعة ساكنة جامدة، ولكن النفوس جائشة مضطربة.
ماذا نعمل يا رجل؟ وإلى أين نذهب بهؤلاء الأولاد؛ أولادنا وأولاد أخيك وأولاد صهرك؟ ليس لنا مهرب إلا إلى بيت إبراهيم، فإنه واسع وله بوابة كبيرة متينة، ولا بد ما يجتمع فيه كثيرون من أهالينا وأقاربنا، فندافع عن أنفسنا إلى أن يفرجها ربنا.
وبعد قليل جمعوا ثيابهم وساروا هي وزوجها وسلفتها وابنة حميها وأولادهم إلى أن وصلوا إلى بيت الخواجه إبراهيم، وهو من وجوه بلدهم، وكان قد نجا مع الذين نجوا، احتمى ببيت الست نائفة، ثم هرب بعد المذبحة، ورحل إلى بيروت واستأجر بيتا كبيرا فيها؛ لأنه كان على شيء من الثروة، ولما أتت أموال الإحسان جعل وكيلا على توزيعها، فخص نفسه بجانب كبير منها، أما الآن فهرب من بيته إلى بيت رجل من وجهاء بيروت، له بوابتان؛ الواحدة داخل الأخرى، وهو أحصن من بيته، وكان صاحبه مشهورا بشجاعته وبأنه من أمهر الرجال بلعب السيف، ولكنه كان قد هرب من بيته والتجأ إلى دار وجيه كبير من أكبر أغنياء بيروت، فلما وصلها وجدها مملوءة بالناس الذين التجئوا إليها من النازحين ومن أهالي بيروت أنفسهم، والدار كبيرة ساحتها مرصوفة بالحصى الملونة ولها سور عال على دائرها، وفي وسطها حديقة غناء فيها من أنواع الأزهار والرياحين وفسقية كبيرة يتدفق الماء منها، وعلى جانبي الحديقة بناءان فخيمان، كل منهما طبقتان فيهما الغرف الكبيرة الدالة على غنى وافر، ولا عجب؛ فإن صاحبها جمع ثروة طائلة من مصر وبر الأناطول من التجارة والمرابحة، لكنه شعر الآن بالخطر كما شعر غيره، فأخذ زوجته وأولاده وأمواله ونزل إلى سفينة بخارية كانت راسية في المرفأ، ووافاه إليها أولاد عمه وكثيرون من أغنى أغنياء المدينة، وعزموا على السفر تلك الليلة تاركين الدار تنعى من بناها.
وغابت الشمس وخيم الليل، والرجال يعدون ما وجدوه من الأسلحة ليدافعوا بها الدفاع الأخير، والنساء يضرعن إلى الله وإلى السيدة، والأولاد سهروا مع والديهم إلى أن غلبهم سلطان الكرى، فانطرحوا في أماكنهم، وجالت نفوسهم في فردوس الأحلام، يحلمون بألعابهم تارة وبدروسهم أخرى، ولم تغمض في تلك الليلة إلى عيونهم.
وجلس اثنان من الشيوخ يحدث أحدهما الآخر عن حركة الأمير بشير الأولى والثانية، وعن خروج إبراهيم باشا، ويقول: مرت بنا التباريح ولكن لم يحل بنا مثل هذا الضيق، أيذبحوننا ذبح الغنم برجل واحد؟! ولا أحد يشفع ولا أحد يدفع، وقد تخلى الله عن شعبه وأسلمنا إلى يد الأعداء.
فقال الآخر: هذه آخر الأيام كما أنبأنا الجفر، ولكن لا بد ما يأتي المسكوب من أقصى الشمال كما قال النبي دانيال.
Неизвестная страница