1 - النصح بالإخلاص
2 - بارقة الأمل
3 - الغداء على الغدير
4 - ما وراء الستار
5 - سورية في البارلمنت الإنكليزي
6 - التفتيش الأول
7 - مطارح النظر
8 - الاجتماع الثاني
9 - العرس والميدان
10 - المجمع البطريركي
11 - المشكل الجديد
12 - بوادر الحب
13 - حل مشكلة
14 - الأميرة صفا
15 - كشف الغامض
16 - استفحال الخطب
17 - واقعة الساحل
18 - التفتيش عن الأميرة سلمى
19 - النار ولا العار
20 - شكوى الحب
21 - الشهابيون في بيروت
22 - المذاكرات السياسية
23 - استفحال الفتنة
24 - حادثة دمشق
25 - توقع القضاء
26 - الذهاب إلى العرب
27 - المأتم
28 - خطر غير منتظر
29 - خيبة الأمل
30 - البحث والتحقيق
31 - مؤتمر باريس
32 - الخيبة والفشل
33 - البطر بعد الظفر
34 - التزلف والنفور
35 - الاحتفال في الحرش
36 - مؤتمر بيروت
37 - النجاة من السجن
38 - السلطان عبد العزيز
39 - زيارة الوالي
40 - فصل الخطاب
الخاتمة
1 - النصح بالإخلاص
2 - بارقة الأمل
3 - الغداء على الغدير
4 - ما وراء الستار
5 - سورية في البارلمنت الإنكليزي
6 - التفتيش الأول
7 - مطارح النظر
8 - الاجتماع الثاني
9 - العرس والميدان
10 - المجمع البطريركي
11 - المشكل الجديد
12 - بوادر الحب
13 - حل مشكلة
14 - الأميرة صفا
15 - كشف الغامض
16 - استفحال الخطب
17 - واقعة الساحل
18 - التفتيش عن الأميرة سلمى
19 - النار ولا العار
20 - شكوى الحب
21 - الشهابيون في بيروت
22 - المذاكرات السياسية
23 - استفحال الفتنة
24 - حادثة دمشق
25 - توقع القضاء
26 - الذهاب إلى العرب
27 - المأتم
28 - خطر غير منتظر
29 - خيبة الأمل
30 - البحث والتحقيق
31 - مؤتمر باريس
32 - الخيبة والفشل
33 - البطر بعد الظفر
34 - التزلف والنفور
35 - الاحتفال في الحرش
36 - مؤتمر بيروت
37 - النجاة من السجن
38 - السلطان عبد العزيز
39 - زيارة الوالي
40 - فصل الخطاب
الخاتمة
أمير لبنان
أمير لبنان
تأليف
يعقوب صروف
الفصل الأول
النصح بالإخلاص
هضاب لبنان آكام يعلو بعضها بعضا من ساحل بحر الروم إلى قنن صنين، مرتصفة على طول البلاد من طرابلس الشام إلى ساحل صيداء، رصعتها القرى والدساكر، ووشحتها حراج الصنوبر والبلوط، وتخللتها أودية وفجوات تنساب فيها الجداول والغدران، وقد قامت على جوانبها الحدائق والبساتين من التوت والزيتون والتين والرمان، ودبجت أرضها بطرائق الديباج من النرجس والخزام والأقحوان. بلاد المروءة والضيافة والشهامة والعفاف، مضى على سكانها دهور طوال، وهم يغرسون كرومهم ويجنون ثمارهم، ويذودون عن ذمارهم بالبيض الصفاح، جانبهم عزيز وحرزهم حريز، يمر بهم الغزاة من مصر، وبابل، واليونان، والرومان كالطيور القواطع تلتهم ما تراه وتغادر البلاد وأهلها، فيعودون إلى زرعهم وضرعهم يغرسون البساتين، ويزرعون الحقول ويسومون القطعان، ويبنون البيوت، ويشيدون القصور آمنين ناعمي البال إلى أن ينتابهم غاز آخر كما تنتاب الأوبئة البلدان، فيظاهرونه أو يشاغبونه حسب مقتضى الحال.
لما كثر مرور الغزاة في بلاد الساحل بين بيروت ولبنان، انحدر الأمراء آل أرسلان من الشرق إلى الغرب، ونزلوا قرى تطل على طريقهم لاستكشافها فسميت الشويفات، وبنوا فيها دورهم حيث ضافهم سلطان دمشق الملك المؤيد المحمودي الخاصكي منذ خمسمائة عام، ونزل على الأمير سيف الدين ثلاثة أيام.
في دار من هذه الدور وقف الأمير أحمد صباح يوم من أواخر عام 1859، وقف في رواق يطل على بحر الروم وغابة الزيتون المعروفة بصحراء الشويفات، وكانت سفن الصيادين قد خرجت من بيروت للصيد، ونشرت شراعها لنسيم الصبا، وقد هب صباحا من البر إلى البحر قبل اشتداد الهجير، فجازت خلدة وشقت صدر الماء فأرغى وأزبد، ونشرت الغزالة أشعتها على الرمال بين الصحراء والبحر، فعصفرتها وعبثت بما تجمع على أوراق الزيتون من ندى الليل، فطار ضبابا لطيفا كأنفاس المحبين.
وقف الأمير هنيهة يقلب طرفه فيما يراه من جمال الطبيعة، ويستنشق نسيم الصباح، ويصغي إلى تغريد الطيور، وهم بالخروج للصيد، ثم عاد إلى التفكير في كتاب ورد عليه في الليل الفائت من الكولونل روز قنصل إنكلترا في بيروت، وقال في نفسه: لأمر دعاني القنصل إليه، ولا بد من تلبية دعوته. ولم يستغرب دعوة القنصل له وتخصيصه إياه دون أبناء عمه؛ لأنه كان يعتمد عليه بعد أبيه، والكتاب ليس من القنصل نفسه بل من ترجمانه، ثم دخل غرفته وافتقد الكتاب وقرأه ثانية فإذا هو يقول فيه:
الجناب الأكرم والملاذ الأفخم الأمير أحمد أرسلان المحترم دام بقاه
بعد أداء واجب التحية والإكرام، أعرض أن سعادة القنصل أمرني لكي أكتب إليكم أدعوكم إلى دار القنصلية غدا صباحا، للمذاكرة في بعض الشئون الهامة والمرجو تشريفكم في الوقت المعين، وأدام الله بقاءكم.
فقال في نفسه: ما هذه الأمور الهامة يا ترى؟ ولماذا لم يكتب القنصل نفسه إلي بالفرنسوية؟ أويظن أنني أكون آلة في يده كما كان المرحوم والدي؟! تلك أيام مضت ولن تعود، نعم إن إنكلترا وفرنسا ساعدتا دولتنا على الروس في حرب القرم، ولكن تلك المساعدة لا تقضي علينا بالاستعباد، وليس من صواب الرأي أن نجاري خورشيد باشا فيما طلبه، ولكن لا يليق بنا أن نستميت إلى هذا الحد.
ثم نظر إلى ساعته، ونادى مسرورا عبده، وأمره أن يشد على جواده، ولبس ثيابه: بذلة من الجوخ الكحلي، وطماقا مزركشا بالقصب، وتقلد سيفه؛ وهو لجده الأعلى الأمير جمال الدين، قلده به السلطان سليم الفاتح في مدينة دمشق يوم دخلها ظافرا، وتنكب قربينة صنعت لأبيه في بيت شباب، صنعها له أولاد نفاع من فضلات نعال الخيل المطرقة، فجاءت مجوهرة كالسيوف الدمشقية يطلق بها عشرين حواشة معا، فتنطلق منها كالمدفع الرشاش ولا يستطيع إطلاقها إلا من كان ساعده من الحديد مثل ساعده، وألقى على كتفيه برنسا أبيض من نسج دمشق، ثم اعتلى صهوة جواده، ووضع فردين صغيرين في قربوصه؛ وهما هدية لأبيه من إبراهيم باشا، أهداهما إليه قبل واقعة اللجاة، وسار وأمامه عبداه مسرور وسالم، وهما بالعدة الكاملة مع كل منهما يطقان، وزوج طبنجات، وبندقية نظامية إبرهيمية من البنادق التي ألقتها جنود إبراهيم باشا وهي عائدة إلى مصر.
فمر في طريق متعرج بين البيوت والحوانيت، وكانت نساء القرية ذاهبات يستقين وجرارهن على أكتافهن أو رءوسهن، والبراقع مسدولة على وجوههن لا يبين منها إلا عين واحدة يكشفنها لينظرن طريقهن، فلما دنا منهن وقفن كاسرات الطرف هيبة ووقارا، وكذلك كان الرجال يقفون في حوانيتهم، ويضعون أكفهم على صدورهم ويحيونه.
وسار من تحت كفر شيما والحدث إلى الشياح والناس ينظرون إليه شزرا؛ لأن قلوبهم كانت موغرة بالأحقاد، ومر في حراج بيروت، وكان الهجير قد اشتد وعلا صوت الصراصير، فوقف هنيهة في ظل صنوبرة كبيرة مما بقي من الصنوبر الذي غرسه الأمير فخر الدين المعني، وهي منتصبة بين الأشجار التي غرسها إبراهيم باشا كالجبار بين الأطفال، حتى إذا كثر رفس الجواد من كثرة الذباب استأنف السير ومر في طريق الميدان فالباشورة.
وعرف أصحاب الحوانيت أنه من أمراء الجبل من قيافته وعدته، لكنهم لم ينهضوا للسلام عليه لاعتقادهم أن أهالي لبنان فلاحون كلهم حتى أمراؤهم، ولو كانوا من نسل الملوك، ولا هو بادأهم بالسلام أنفة وعتوا، ودار من عند السور «عصور»، وصعد في طريق المصيطبة إلى بيت الكولونل روز قنصل الإنكليز الجنرال، فبادر إليه قواسان كانا واقفين عند الباب، وأمسكا بركاب جواده، فنزل عنه ونفح كلا منهما بريال، ودخل غرفة كبيرة، كواها تطل على حديقة غناء، نسقت فيها أشجار البرتقال والتفاح والرمان، وأنواع الورد والياسمين، وكانت الغرفة مفروشة بالبسط الفارسية، وفيها مقاعد مكسوة بالحرير المطرز من نسج دير القمر، ومكتب كبير من خشب الجوز مطعم بعرق اللولؤ من عمل دمشق، وكراسي إنكليزية كبيرة مكسوة بالجلد البني، أمامها موائد صغيرة، فلاقاه القنصل إلى الباب ورحب به، ثم أتي بالقهوة ودار الحديث بينهما على شئون الجبل وثورة الخواطر فيه، فشكا الأمير من أن نصارى المتن والعرقوب وزحلة ودير القمر قد أكثروا من ابتياع الأسلحة، ولا عمل لهم إلا سبك الرصاص ولف الفشك، فلا عجب إذا فعل دروز الشوفين فعلهم. قال: ويبلغني أن كسروان كلها متحفزة للثورة، وأن يوسف بك كرم قابل قنصل فرنسا، فشد القنصل أزره، وأكد له أن فرنسا لا تتخلى عن الموارنة بوجه من الوجوه. فقال القنصل: ولكن بلغني أن خورشيد باشا قال لكم مثل ما قال قنصل فرنسا ليوسف بك. فقال الأمير: أما أنا فلم أقابل خورشيد باشا. فقال القنصل: نعم لم تقابله أنت، ولكن قابله جماعة من بيت عماد وبيت نكد، ومضى اثنان منهم إلى خلوات البياضة لهذا الغرض، وقد استدعيتك الآن لكي أحذرك من عواقب الثورة، فإنه إذا استفحل الخطب فلا يبعد أن تحتل بلادكم دولة أجنبية، وهذا لا نرضاه لكم ولا للدولة العثمانية، وأمس كان عندي سعيد بك فأخبرته بما أخبرتك به الآن، وليس الخوف من عقالكم بل الخوف من جهالكم، وأنا أعلم شدة طاعتهم للعقال، ولكن ما كل وقت يكون العقال على يقظة من أمرهم.
وطالت المذاكرة نحو ساعتين، حتى إذا حان وقت الغداء دعا القنصل الأمير للغداء معه، وتغدى معهما شاب إنكليزي اسمه السر هنري بدمونت في غرفة مجاورة لغرفة الاستقبال، وجلسوا بعد الغداء يدخنون التبغ ويشربون القهوة، ويتكلمون في مصالح الجبل، وتاريخ أمرائه، وسبب الخلاف بين اليزبكية والجانبلاطية، وبين النصارى والدروز، إلى غير ذلك مما يهتم به قناصل الإنكليز خاصة، وكان كلامهم بالفرنسوية، وقد سر السر هنري بحديث الأمير أحمد، وطلب إليه أن يسمح له بزيارته في داره بالشويفات. فقال: حبا وكرامة، وإن سمحت فإني آتي بنفسي وأذهب بك. فقال السر هنري: إني لا أكلفك إلى ذلك، وسأزورك بعد غد مع أحد قواسة القنصلية. ثم استأذن الأمير أحمد في الانصراف، فودعه الكولونل روز والسر هنري بدمونت إلى باب القنصلية.
ومر وهو راجع في طريقه ببيت رجل اسمه الشيخ درويش ويكنى بأبي فخر، وكان هذا الرجل قد رآه ذاهبا إلى دار القنصل، فجلس في رواق بيته ينتظر عودته، حتى إذا مر به قام للقائه ودعاه لينزل ويشرب القهوة، واعتذر الأمير عن النزول بفوات الوقت، فقال له: ألا نزلت، فإن المرحوم والدك كان يشرفنا كلما نزل إلى بيروت، وبيتنا مستعد لقبول الزوار، وأمس شرفنا الوالي والسرعسكر. وما زال به حتى ترجل وصعد معه إلى رواق كبير يطل على الطريق، فلما جلس قال له الشيخ درويش: يا سبحان الله! إنك جلست على الكرسي الذي كان يجلس عليه المرحوم والدك! وهو الكرسي الذي يجلس عليه دولة الوالي كلما زارنا، هات أخبرني أين كنت؟ ولا تخف عني شيئا، فإن المرحوم والدك كان يطلعني على كل أخباره وأسراره، وقد كان أبي صديقا له، وأوصاني لأكون صديقا لك، قل لي أين كنت؟ فقال الأمير: كنت في بيت الكولونل روز لشغل خصوصي.
فقال الشيخ: أي نعم لشغل خصوصي، اسمع يابني ولا تملك الأجانب منك، ولا تحد عن خطة أبيك - رحمه الله، ولماذا لم تذهب إلى بيت الوالي مثل سائر مناصب الجبل؟
فقال الأمير: إني ذاهب إليه.
فقال الشيخ: أحسنت أحسنت، وتفضل خذ القهوة. انظر ما أجمل هذه الفناجين! فإنها من الصيني الحر، اشتراها المرحوم والدي من دمشق الشام، كل فنجان بعشرة فندقليات، إذا رميته على الأرض لا ينكسر! والظروف من صياغة إسطانبول: فضة روباص، وذهب بندقي، والمرجان من أعلى طبقة. الظروف اشتريتها أنا من إسطانبول، أخذتها من الدلال بثمن بخس بالنسبة إلى ثمنها الأصلي، كانت لأزميرلي باشا الصدر السابق، وبيعت مع بعض التحف بعدما قتل، ما أكثر تقلبات الدهر! يقال إنها كانت للسلطان مصطفى، نعم كانت للسلطان مصطفى، فأهداها إلى أزميرلي باشا، أما أنا فاشتريتها بمالي، كل ما عندي اشتريته بمالي؛ لأني أكره المهاداة، فإن الهدية بلية على ما يقال، فأنت الآن تشرب القهوة في فنجان من الصين، وظرف كان يشرب منه السلطان مصطفى - غفر الله له.
وكان الأمير أحمد يعرف هذا الرجل وحبه للفخر والمباهاة، ولذلك لقب أبا فخر فلم يسؤه كلامه، لكنه ود تقصير الزيارة على قدر الإمكان، فلم يكد يشرب القهوة حتى نهض، وقال: تعذرني الآن يا أبا فخر لأنه لا بد لي من رؤية دولة الوالي.
فقال: أحسنت، وإن أردت فأنا أذهب معك إليه، ولكن قد حانت صلاة العصر، ولا بد لي من الذهاب إلى الجامع، لأني لا أترك الصلاة مطلقا فعلى الطائر الميمون.
فودعه الأمير بعد أن طلب إليه أن يشرفه إلى الشويفات، وركب جواده وسار إلى دار الولاية، وأقام مع الوالي نصف ساعة دار فيها الحديث على شئون الجبل، وكان الوالي يتودد إليه على خلاف عادته، وقال له: أنتم سيف الدولة ولا غنى لنا عنكم، ولا غرض لنا إلا استتباب الأمن في البلاد، وكف يد الأجانب عنها، ولا بد للدولة من ذلك مهما كلفها، ونصيحتي لك أن تكون في خاطرها مثل أبناء عمك.
فقال الأمير: نحن لا نخرج عن خاطر الدولة؛ لأن طاعتها فرض علينا، ولكن يا حبذا لو فضت هذه المشاكل من غير حرب أهلية.
فقال الوالي: هذا الذي نوده، ولكن إذا كان لا بد من الحرب الأهلية، فالدولة لا تتغاضى عنكم؛ لأنها لا تترك الحزب القوي ليفتك بالضعيف، وقد أبنت رأيي بالإسهاب لشيخ العقل، ولا بد من أن يجمعكم ويبسطه لكم، ولا أخفي عليك أن ترددك على القنصل لا يرضينا.
فقال الأمير: كيف ذلك؟! والذي أعلمه أن دولة الإنكليز من أشد الدول صداقة لدولتنا العلية.
فقال الوالي: نعم هي كذلك، ولكن ليس كل رجالها على رأي واحد.
قال ذلك وصمت، فعرف الأمير أن مدة الزيارة انقضت، فقام وودع، فوقف له الوالي وشيعه إلى باب الغرفة التي استقبله فيها على خلاف عادته، وكان هذا الحديث باللغة التركية؛ لأن الأمير أحمد تعلمها لما كان في الأستانة مع أبيه، وهو يحسن التكلم بها كما يحسن التكلم بالفرنسوية، وكان العصر قد أذن فركب جواده وعبداه معه، وسار راجعا إلى الشويفات في الطريق الذي جاء فيه. وكان يفكر في كلام القنصل المسهب وكلام الوالي الموجز وأحوال الجبل، وما يمكن أن تئول إليه إذا نشبت فيه حرب أهلية تسفك فيها الدماء وتحرق البيوت، وراجع ما كان من نتائج الحروب الأهلية السابقة وكلها ضعف على ضعف وذل على ذل، فقال: لا بد لي من اتباع نصيحة القنصل وحمل أبناء عمي على اتباعها. ووصل إلى نهر الغدير، وهو تائه في فيافي الأفكار وحانت منه التفاتة، فرأى نسوة جالسات وراء مطحنة، فخفق فؤاده وغض طرفه وظل سائرا.
وكانت الشمس قد آذنت بالمغيب، وانتشر ذهب الأصيل على ربى لبنان، وألبس الأفق طرازا معلما من البرفير والأرجوان.
الفصل الثاني
بارقة الأمل
في أحوال الناس سر غامض لا ينطبق على قاعدة معلومة، وهو الاتفاقات الكثيرة التي تقع على غير انتظار، يخطر على بالك رجل لم تره منذ سنين كثيرة، وفي الساعة التي يخطر على بالك فيها تراه آتيا لزيارتك، كأن قوة روحية تقدمته ووصلت إليك فأعلمتك بقدومه.
وتفتش عن عبارة قرأتها في كتاب فتقع عينك عليها حالما تفتح الكتاب، وقد تفتش عنها مرة أخرى فلا تجدها إلا بعد العناء الطويل، فكيف اتفق أن عثرت عليها في المرة الأولى؟!
وينشغل بالك بأمر هام وترتبك فيه ولا ترى وجها لحله، ثم تقابل أحد أصدقائك اتفاقا أو رجلا لا تعرفه، ولم تره قبلا، فتجده عنده حل المشكل والخبر اليقين، كأنه سخر لخدمتك وقت حاجتك إليه.
على هذا النمط كان الأمير أحمد في نظر السر هنري بدمونت، فلم يكد يخرج من دار القنصلية حتى دخل السر هنري مكتبه، وعاد إلى إتمام الكتاب الذي شرع في كتابته إلى أمه ذاكرا فيه خلاصة ما جرى له يوما بعد يوم من حين وصوله إلى بيروت، وكان قد أخبر أمه عن كل ما رآه وسمعه من حين قدومه، وعن درسه جغرافية البلاد من بيروت إلى صيداء، وتعيينه مكان الواقعة التي جرح فيها جده الأعلى كونت بدمونت، لما أوفده ملك الإنكليز الملقب بقلب الأسد لفتح بيروت، فقد عين مكان الواقعة بالتدقيق، وكانت تقاليد عائلته تجعلها قرب نهر الدامور المعروف عند الأقدمين باسم تاميراس أو داموراس، حيث حدثت المعركة الدموية المشهورة بين أنطيوخس ملك سورية ونيقولاوس قائد الجيوش المصرية، فدارت الدائرة على الجنود المصرية، وقتل منها ألفا رجل وأخذ ألفا أسير، وعادت فلولها إلى صيداء، وذلك قبل التاريخ المسيحي بنحو 218 سنة، لكنه وجد أن شكل الأرض هناك لا ينطبق على الوصف الذي وصفها به ولف خادم جده، بل ينطبق على جهات خلدة، حيث تكثر نواويس الحجر التي ذكرها ولف في وصفه، ولا عبرة بما جاء في دليل أورشليم من أن خلدة على اثني عشر ميلا رومانيا عن بيروت؛ لأن الاسم القديم وهو«هلدوي» ينطبق على الاسم الجديد، فالواقعة حدثت قرب خلدة، وجده لجأ إلى كهف من الكهوف التي قرب الشويفات، ولا بد من أن تكون رفاته هناك حتى الآن؛ لأن خادمه ولف سد باب الكهف الداخلي عليه بعد أن لفه بردائه.
ولما قابل السر هنري الأمير أحمد، وعرف أنه من أمراء الشويفات شعر كأن بارقة من الأمل بدت أمام عينيه، ثم لما علم أنه من طائفة الدروز أصحاب الطريقة السرية الخاصة بهم، كادت نفسه تطير حبورا، وجعل يسترق اللحظ ويتفرس في وجهه، وكان الكولونل روز يعلم أنه مغرم بالمباحث التاريخية والأثرية، فأشار إلى عائلة الأمير، وقال للسر هنري: لا يبعد أن يكون جدك كونت بدمونت قد التقى بجد الأمير منذ سبعمائة سنة في ضواحي هذه المدينة، وقد يكون بينكما ثارات وأخاف أن تتقاضياها الآن.
فتبسم السر هنري، وقال: أما الآن فإننا في جوار الأمير، والعرب يرعون الجوار ويحمون الجار. فقال الأمير: بل أنا في حماكم وضيف عليكم.
فقال الكولونل: إن السر هنري جاء هذه البلاد للتفتيش عن رفات جده؛ لأنه توفي فيها على قول خادمه، بعد أن قتل أكثر رجاله، وأسر من بقي منهم حيا، وأرجو أن تبذل جهدك لكي ينال بغيته.
فقال الأمير: حبا وكرامة، إني من الساعة في خدمته باذل جهدي في تحقيق بغيته.
فشكره السر هنري على مروءته وكرم أخلاقه، واتفق معه على أن يزوره بعد يومين؛ ليريه ما حول الشويفات من الكهوف القديمة.
وذكر السر هنري هذه الأمور كلها لأمه، وهو يعجب من هذا الاتفاق الغريب، ويقول: إني موفق بإذن الله. إلى أن قال لها: فإذا عدت ومعي الوثيقة، وختم قلب الأسد عليها، فلا يبقى لي منازع في كونتية بدمونت، ولا يبقى اعتراض لإفلين ولا لأمها، أواه يا أماه لو تعلمين كم أقاسي من هذا البعاد؟! وقد آليت على نفسي أن لا أكتب إلى إفلين حتى أجد الوثيقة.
قال ولف: إنها من الفضة وعليها ختم قلب الأسد، وإنه وضعها على صدر سيده لما لفه بردائه، هذا هو الخبر المسلسل في تاريخ العائلة، وإن باب المغارة إلى جهة الشمال الغربي وقد سدها من الداخل على أسلوب يظهر منه أن نهايتها هناك، لا بد وأن أهتدي إليها إن شاء الله، وهذا الأمير شاب في نحو الرابعة والعشرين تلوح على وجهه لوائح الشهامة وعزة النفس، وهو يحسن الفرنسوية، ولا بد من أنه يحسن لغته العربية، والكولونل روز يكرمه كثيرا، وقال لي إن أباه كان من أخلص الناس لنا، لكنه يخشى أن لا يكون مثل أبيه؛ لأن الذين علموه اللغة الفرنسوية أثروا في ذهنه، فضلا عن أن اللغة وآدابها تكفي لهذا التأثير، ولا أدري لماذا لا يسعى رجالنا في نشر اللغة الإنكليزية وتعليمها لأبناء الأمراء والعظماء، كما يسعى الفرنسويون في نشر لغتهم؟! فإننا إذا فعلنا استفدنا تجارة وسياسة، وقد رأيت كثيرين هنا يتكلمون الفرنسوية والإيطالية ولم أر أحدا يتكلم الإنكليزية من أبناء البلاد غير اثنين أو ثلاثة، ولا أحد يهتم بتعليم اللغة الإنكليزية غير بعض المرسلين الأميركيين. وسأزور الأمير بعد غد، وأكتب إليك عن زيارتي له بالتفصيل. ثم فصل لها كيفية سفره من الأستانة العلية إلى بيروت، لكنه لم يذكر لها شيئا عن المهمة السياسية التي جاء لأجلها.
وكانت الباخرة الفرنسوية على أهبة السفر، فطوى الكتاب وأرسله مع مكاتيب القنصلية، وركب هو والقنصل جوادين وخرجا للنزهة على رمل بيروت إلى أن بلغا البحر ورأيا غروب الشمس، وقد امتدت أصابع الشفق حتى بلغت الأفق الشرقي وهو منظر بديع قرأ عنه في الكتب، ولكنه لم يره قبل الآن، فقال: ما أجمل هذا المنظر وما أبدعه للتصوير! أين مصورو الطبيعة يأتون هذه البلاد فيرون فيها كل يوم منظرا بديعا تعجز ألوانهم عن تصويره؟!
فقال القنصل: نعم، هي كما تقول وفوق ما تقول، ومتى جاء فصل الربيع تتعشقها تعشقا، وما هضاب اسكتلندا وجبال سويسرا شيئا مذكورا في جنب جبال لبنان وهضابه، ولكن انظر كيف صار أقرع أجرد من توالي المحن، وهذه المدينة التي كانت من أعظم المدائن الرومانية تكاد أعلامها تندرس، ولولا الإصلاح القليل الذي نالها في زمن الدولة المصرية لصارت أثرا بعد عين، أين أرز لبنان وبلوط باشان؟! أين المعاقل والمصانع؟! لا ترى مكانها غير أديرة الرهبان ومزارع الفلاحين، أما دور الأمراء والمشايخ فلا تذكر في جنب ما كانت عليه قصور الأمراء في سالف الزمن، أين المدارس والمشاهد التي كانت بيروت غاصة بها في عهد الرومان؟! لم يبق منها غير بعض الأعمدة الكبيرة مبثوثة بين الخرائب والأنقاض دالة على عظمتها السالفة.
فقال السر هنري: أوتبقى الحال على هذا المنوال؟
فقال القنصل: كلا؛ لأن دوام الحال من المحال، فإن لم تفلح مساعينا احتلت فرنسا البلاد كما تعلم، وأن أفلحت فلا بد لنا من وضع حد لسوء الإدارة.
الفصل الثالث
الغداء على الغدير
إلى الشمال الشرقي من الشويفات قرية كبيرة تفضلها في غزارة مائها وكثرة بساتينها، ولو قلت عنها في عدد سكانها وفخامة مبانيها، وهي قرية كفر شيما أو قرية الفضة، نزلها الأمراء الشهابيون من قديم الزمان كما نزل الأرسلانيون الشويفات، وبنى الشهابيون الدور الكبيرة، واعتنوا بغرس الجنائن والبساتين فيها وفيما جاورها من رياض الغدير، وهو نهر شتوي يفيض في الشتاء حتى يطم على الربى، ويجف في الصيف حتى لا تبقى فيه نقطة ماء.
في دار من دور كفر شيما أمير من آل شهاب اسمه الأمير عباس لم يتنصر مع إخوته وأبناء عمه، بل بقي على الإسلام مثل أقاربه في حاصبيا ووادي التيم، وكان عنده خطيب يصلي وراءه، لكنه كان سمحا لا يجادل إخوانه إلا بالتي هي أحسن، ولا منع زوجته وأولاده من التنصر، بل كانت زوجته شديدة التمسك بالنصرانية والإكرام لقسوسها، وكثيرا ما قصده مطران بيروت وتجادلا طويلا، ثم انتهى الجدال بينهما بقوله: لكم دينكم ولي ديني، فيتركان الجدال ويعودان إلى وصف الدخان الجبيلي والشقيفي، فإن المطران كان مولعا بالأول والأمير بالثاني وكانا كلاهما مغرمين بالسعوط، ومع المطران حقة مرصعة بالماس أهدتها إليه الإمبراطورة أوجيني زوجة الإمبراطور نبوليون الثالث لما زارها في فرنسا، فلم يكن يسعه إلا استنشاق السعوط منها من وقت إلى آخر وتقديمها إلى الأمير، حتى يرى حجارة الماس على غطائها، والأمير يقدم له حقة سوداء سادجة من صنع الصين، لكن حملة شبقه كانت من الكهرباء وتحتها حلقات من الجزع والعقيق مرصعة بالذهب، والشبق نفسه قضيب طويل من الورد الأخضر يقطعه ويثقبه بيده، وقد غرس وردا كثيرا في حديقة داره لهذه الغاية فلا تلبث القصبة في يده يومين حتى يبدلها بغيرها قبلما تجف.
وكان للأمير عباس ابنان وابنة اسمها سلمى، وفي اليوم الذي مضى فيه الأمير أحمد أرسلان إلى بيروت لمقابلة الكولونل روز، قامت الأميرة سلمى وطالبت أمها بوعدها، وهو النزول إلى الغدير للنزهة وتناول الغداء هناك؛ لأن مطر الخريف كان قد كسا الأرض بساطا سندسيا، وظهر زهر العصفر فدبجه بطراز معلم، فنادت أمها جارية اسمها زهرة، وقالت لها: قولي لمرجان إننا نازلتان إلى الغدير، وقولي للخزندار أن يرسل غداءنا إلى هناك، ويدعو أم يوسف لتوافينا إليه. وأرسلت سلمى إلى صفا ابنة عمها تدعوها إلى النزهة معهما.
ثم ركبت الأميرة هند وابنتها وابنة سلفها خيولا عربية مطهمة تتهادى بما عليها من الحلى، ونزلن إلى الغدير ونزل معهن مرجان وبيده نارجيلة جوزتها من البلور المطرش وقلبها من الفضة والذهب، وقد علق على جنبه كيس التنباك من المخمل الأحمر المزركش بالقصب، ونزلت زهرة ومعها طاس من الفضة وجارية أخرى بطاس آخر وخادم يحمل سجادتين، وساروا الهوينى وقد تكبدت الشمس السماء، فلم يصلوا إلى الغدير إلا قبيل الظهر.
ثم تبعهم بعض الخدم والحشم ومعهم ما طهاه الطهاة من فاخر الطعام وسلتان من العنب والليمون، فمدوا سماطا للأميرات، ووقفت الجواري في خدمتهن، حتى إذا اكتفين من الطعام وأكلن الحلوى والفاكهة، اتكأن يتطارحن الحديث، وكانت أم يوسف من أفكه نساء القرية حديثا وأوسعهن رواية، فلا يطيب للشهابيات عيش بدونها فيدعونها من بيت إلى بيت، ولا يخرجن للنزهة إلا وهي معهن تطرفهن بالأحاديث المختلفة بعضها صحيح وبعضها مختلق أو مزوق، فحدثتهن تلك الساعة عن أعمال السحر والتعزيم التي كان يعملها الشيخ بشير تلحوق، وكان من أعلم أهل زمانه وأمهرهم وأدهاهم، ومما قصته عنه أنه كان يضع إبريقا بين رجلين، ويتلو عليه بعض الآيات من القرآن والزبور، فيدور الإبريق من جهة إلى أخرى من تلقاء نفسه بقوة السحر، وأنه كان يوقف عصاه فتقف، ثم يأمرها فتدور أمام الجلوس من أمام واحد إلى أمام آخر من غير أن يلمسها أحد، ويضع إبريقين في زاويتين من زوايا الغرفة واحدا ملآنا والآخر فارغا، ثم يتلو بعض الآيات فينتقل الإبريق الفارغ من مكانه ويسير إلى مكان الإبريق الملآن، ويسير الإبريق الملآن من مكانه إلى مكان الإبريق الفارغ، هذا والناس ينظرون ويعجبون ولا يشكون أنه يفعل ذلك بقوة سحرية، ويضع بيضة في إناء ويسلقها فتثب من الماء الغالي من نفسها وتبعد عنه.
وأعجب من ذلك قدرته على شفاء المجانين من جنونهم، لكنه لا يستطع ذلك ما لم يقفل باب غرفته عليه ويبقى فيها عشرة أيام أو أكثر صائما جاهدا، وأخيرا يأتيه ملك الجن ويقول له: اطلب ما تريد. فيقول الشيخ: إن فلانا أصيب بالجنون، وأطلب منك أن تساعدني على شفائه. فيقول له ملك الجن: لبيك وسعديك قد أجيب طلبك. ولما تورمت امرأة الشيخ أحمد تلحوق، حتى ظن أنها حامل، وطال الزمن عليها ولم تلد ولا شفيت من الورم؛ أمر الشيخ بشير يده عليها فشفيت للحال وزال الورم كله، وأتي إليه بالشيخ يوسف تلحوق وهو مجنون جنونا مطبقا، فأبقاه عنده يومين ثم أرجعه إلى بيته صحيح الجسم والعقل.
وكانت كلما أوردت قصة من هذه القصص تستشهد على صحتها بأسماء كثيرين من الرجال المعروفين في البلاد، حتى لم تبق شبهة في نفس الأميرة هند وابنة سلفها أن كل ما كان الشيخ بشير يفعله هو من قبيل السحر الحقيقي، أما الأميرة سلمى فقالت: إن كان الشيخ بشير ماهرا إلى هذا الحد فلماذا لا يستعمل سحره فيما ينفعه وينفع أبناء عمه؟! وأنا لو كنت مكانه أقدر أن استخدم الجن لجعلتهم يملكونني الدنيا.
فصلبت أمها على وجهها، وقالت: اسكتي ولا تتكلمي بهذا الكلام! من منا ينكر الجن؟! ألم يستحضرهم عمك مرة، ولما رآهم ملئوا المكان الذي كان فيه وضاق بهم ذرعا وهم يرقصون حوله، لم ير سبيلا لصرفهم عنه إلا بأن أمرهم ليذهبوا وينقبوا له الأرض التي فوق نهر بيروت، فذهبوا ونقبوها كلها في ساعتين من الزمان، ولكنهم جعلوا جلالها ممتدة عرضا من أعلى إلى أسفل، فلا تصلح للزرع ولا لشيء، ثم عادوا إليه يطلبون عملا يعملونه له، فحار في أمره، وأخيرا التفت إلى ما حوله فرأى بلاسا أسود، فقال لهم: خذوه واغسلوه لي حتى يصير أبيض. فمضوا به يغسلونه وحتى الآن لم يعودوا، ولولا هذه الحيلة لخطفوا روحه.
فصادقت أم يوسف على كلامها، وقصت عليهن قصة القديسة هندية التي كان ملك الجان يأتيها ليلا في شكل تيس من المعزى، فتركب عليه وتذهب به إلى بلاد الصين، وتعود منها بالحرير تدفعه إلى الخواجه جاماتي، وتذهب وترجع في ليلة واحدة من غير أن يشعر بها أحد، قالت: وقد اغتنى الخواجه جاماتي من الحرير الذي جلبته له من بلاد الصين، وها داره أمامنا على قمة سبنيه ولولا ذلك ما استطاع رجل فلاح أن يبني دارا مثل دور الأمراء.
فقالت الأميرة سلمى: سمعت أبي يقول إن الجاماتي كان يدين الأمراء، ويستد الحرير منهم بثمن بخس، ثم يبيعه لتجار الإفرنج بثمن غال وهذا سبب غناه.
فقالت لها أمها: من أين عرف أبوك ذلك والجاماتي نفسه يقول إن الحرير يأتيه من الصين؟!
فقالت الأميرة صفا: الحق مع سلمى، وأنا سمعت أن ميخائيل طوبيا صار أغنى من قارون من مشتراه الحرير من الأمراء والفلاحين بثمن بخس، وبيعه لتجار الإفرنج في مرسيليا.
فقالت أم يوسف: أنا لم أسمع أن ميخائيل طوبيا استخدم الجن مثل الجاماتي، ولكن لا أحد ينكر السحر واستخدام اللعين - خزاه الله. ثم قصت قصة رجل أراد آخر أن يقتله غيلة، فأتى أحد السحرة، وكتب له كتابة سحرية على قطعة من الشحم، ومضى وعلقها في مغارة عميقة، فجعلت الكتابة السحرية تذيب الشحم رويدا وريدا، وكلما ذاب منه شيء نحل جسم الرجل، حتى كاد يموت سلا وعجز الأطباء عن شفائه، وأخيرا استشاروا له أحد السحرة، فعرف بسحره أمر الشحمة، ففتشوا عنها حتى وجدوها ونزعوا الكتابة عنها، فسلم الرجل من الموت ثم شفي، ولولا ذلك لمات لا محالة.
فقالت سلمى: إذا كان الأمر كذلك فلماذا لا يستعين الولاة بالسحر على التخلص من أعدائهم بدل المخاطرة بأنفسهم ورجالهم؟! أنا لا أصدق شيئا من ذلك.
فقالت أم يوسف: هاك قصة جرت للمرحوم أبي يوسف بالقرب من المكان الذي نحن فيه الآن، كان ذات ليلة راجعا من بيروت، وكان القمر بدرا، فلما وصل إلى الوروار سمع غناء وزغردة، فظن أن على الطريق أناسا آتين بعروس، ثم لما قرب من المطحنة علا الصوت كثيرا، وأتاه أربعة أولاد وهم يصفقون ويغنون ويقولون: يا أبا يوسف يا أبا يوسف، تعال انظر العروس. فسار معهم رغما عنه، حتى إذا وصل إلى قرب الماء رأى عروسا مجلوة وحولها جمهور غفير من الرجال والنساء، وهم بالحلى والحلل فقبضوا عليه وقالوا له: هلم نكتب الكتاب. فصلب يده على وجهه، فانشقت الأرض وابتلعت العروس وكل الذين كانوا معها. ولما قالت أم يوسف ذلك ارتجفت مفاصل الأميرة هند والأميرة صفا، وأما سلمى فقالت: إني معلمي قص علي قصة من هذا القبيل، وهي أنه كان سائرا مرة في طريق لم يسر فيه من قبل، فوصل إلى بئر سمع صوتا خارجا منها، فأطل وإذا في قعر البئر نساء يستقين ماء، فلم يشك أنهن من الجن، فأسرع العدو، ولما أتم غرضه من المكان الذي كان ذاهبا إليه خاف أن يعود في الطريق الذي ذهب فيه، فعاد في طريق آخر يمر من تحت البئر، وكان هناك درج يوصل إلى أسفل البئر والنساء ينزلن به ويستقين من الماء، فلو لم يمر في ذلك الطريق لاعتقد أنه رأى نساء الجن في البئر.
فقالت لها أمها: لا يمكننا إلا التصديق بوجود الجن، وأبوك يصدق بوجودهم والمطران أيضا، وكل واحد يصدق بوجودهم، وهم الذين رجموا بيت خالك بالحجارة، فقد فتشنا عن الراجمين كل مكان ولم نر أحدا. وقالت الأميرة صفا: دعونا من هذا الحديث، فقد صرت أخاف من خيالي ولا يمكنني أن أنام وحدي الليلة.
وقصت أم يوسف عليهن قصصا أخرى مضحكة فأطربتهن بعد أن خوفتهن بقصص السحر والجن، فمضى النهار ومالت الشمس إلى المغيب وهن لا يشعرن، ولما مر الأمير أحمد والتفت إليهن، ثم غض طرفه نظرت أم يوسف إلى الأميرة صفا، ثم نظرت كلتاهما إلى الأميرة سلمى فرأتاها قد احمرت وأطرقت إلى الأرض، فتغامزتا ولم تقولا شيئا، وكان العبيد قد أتوهن بالخيل فركبن وعدن إلى بيوتهن.
ودخلت الأميرة هند غرفة ابنتها في المساء، وقالت لها: أين كان أحمد يا ترى؟ الظاهر أنه لم ينظرنا، ألم تغيري فكرك من جهته؟ تقول خالتك إن عمه وأولاد عمه يحسبونه رئيس العائلة وركنها.
فقالت سلمى: نعم، ولكنه درزي، وفوق ذلك فأنا لا أميل إليه مهما كان.
فقالت أمها: وأبوك لا يرضى بمجيد لأنه شاب خليع.
فقالت سلمى: ومن قال إني أريده؟! أنا لا أريد أحدا، ولا أريد أن أفارقك وأفارق أبي.
الفصل الرابع
ما وراء الستار
في دار فخيمة من دور الأستانة العلية التي تطل على البسفور، اجتمع جماعة من وكلاء الدولة وكبار العلماء، أتوها خفية الواحد بعد الآخر، وأوصدوا الأبواب وجلسوا ينظرون في أحوال السلطنة وما آلت إليه من الضعف، وجعل كل منهم يقص القصص المختلفة عن أحوال البلاد التي له فيها أصدقاء يكاتبونه منها أو التي كان مأمورا فيها.
وبعد أن نظروا في الداء مليا في قلة موارد الخزينة، وفيما آلت إليه حال الجيش بعد عودته من حرب القرم، وفي الاعتداء على الحدود؛ أخذوا ينظرون في الدواء، فأشار واحد منهم أن يعيدوا قراءة الفاتحة، وقسم اليمين المغلظة بأن لا يبوح أحد منهم بكلمة مما قيل ويقال في ذلك الاجتماع، فقرءوها وأقسموا كلهم على الكتمان واتباع الخطة التي يقع الإجماع عليها، ولا يعلم حتى الآن ما هي الأقوال التي قالوها، والآراء التي ارتأوها، ولكن يعلم أنهم أجمعوا أخيرا على أن يعملوا عملا يغيظ الدولة الأوروبية، ويجعلها تساعدهم على تغيير الحالة، وكان بعض المأمورين في سورية من حزبهم، فبعثوا إليهم من أطلعهم على القرار الذي أجمعوا عليه، وأهالي سورية غافلون، وسكان لبنان منهم لا ينبذون ضغائنهم وأحقادهم التي أضعفتهم وأذلتهم، فتعبث بهم الأهواء وينقادون صاغرين إلى كل من يدعي زعامتهم، وكيف لا تكون الحال كذلك وقد تسلط عليهم الجور والظلم قرونا طوالا ولسان حالهم يقول:
أحيا الضغائن آباء لنا سلفوا
فلن تبيد وللآباء أبناء
فاتفقت الكلمة في ذلك الاجتماع على إيقاد نار الثورة، وأن يكون القصد منها التنكيل بالنصارى لا انتقاما منهم، بل لغرض سياسي، وهذا شأن رجال السياسة في كل زمان يبيعون النفوس بيع السماح لأغراض يقصدونها، ولولا ذلك ما كان لنصف الحروب والثورات سبب معقول، وهم على هذا النمط من سالف عهدهم، وإنما يختلفون في الأساليب التي يبتدعونها، وقل من يستطيع أن يجاهر بالشكوى منهم أو يقول كما قال ذلك الأعرابي لعمر بن عبد العزيز:
إن الذين بعثت في أقطارنا
نبذوا كتابك واستحل المحرم
طلس الثياب على منابر أرضنا
كل يجور وكلهم يتظلم
وأردت أن يلي الأمانة منهم
عف وهيهات الأمين المسلم
أو من يقول ما قاله المنصور قبلما ولي الخلافة:
حتى متى لا نرى عدلا نسر به
ولا نرى لولاة الحق أعوانا
مستمسكين بحق قائمين به
إذا تلون أهل الجور ألوانا
يا للرجال لداء لا دواء له
وقائد ذي عمى يقتاد عميانا
ولا تحسبن العمران الغربي مزبلا لهذه الشكوى وشافيا من هذا الداء. كلا، بل إن مطامع أهل الغرب تفوق مطامع أهل الشرق، ودهاتهم من رجال المال ورجال السياسة يتذرعون إلى نيل مآربهم بكل وسيلة، ويستحلون كل عمل، فيدخل روادهم بلادا بعيدة، ويخاتلون صاحبها حتى يعاهدهم معاهدة لا بد له من الإخلال بها، ثم يتعقبونه إلى أن يستولوا على بلاده أو على خيراتها بحجة مخالفته لذلك العهد، ولا بد من ذلك ما دام هذا التنازع للبقاء سنة للكون. •••
في غرفة من غرف الدار الكبيرة التي يسكنها الأمير أحمد أرسلان، وقد سكنها أبوه وجده من قبله، جماعة من الأمراء والمشايخ والعقال اجتمعوا على أثر عودة الأمير أحمد من عند الكولونل روز، وتداولوا في أحوال الجبل، فقص عليهم الأمير ما قاله له الكولونل وما قاله الوالي، وجعل كل يبدي رأيه، ويعيد تاريخ الجبل، ويذكر أسباب الأحقاد القديمة من عهد آل تنوخ وآل معن، وتعرض الدول الأوروبية لإبراهيم باشا، وكيف استتبت السلطة للباب العالي على البلاد بمساعدة دولة إنكلترا، ولولاها ما استطاعت الدولة العلية أن تخرج إبراهيم باشا من بلاد الشام، بل كان نصف رجال الدروز الآن منتظمين في سلك الجنود المصرية.
وبعد كلام طويل في هذا الشأن تناول الحديث شيخ أشيب من التلاحقة، وقص عليهم ما فعله السنيور ود قنصل الإنكليز في دمشق الشام منذ ثماني عشرة سنة، لما هرب الأمير أمين أرسلان والأمير أسعد شهاب ونحو ألفين من الدروز إلى حوران فرارا من عمر باشا، الذي اعتقل أمراء الدروز ومشايخها، وكاد يوقع بكل عظيم منهم، فإن والي الشام أوجس منهم شرا، لا سيما وأنه يعلم ما فعل الدروز بعساكر إبراهيم باشا في تلك البلاد الوعرة، فجمع أعوانه واستشارهم في الأمر، فأشاروا عليه أن يلجأ إلى السنيور ود لكي يقنع الدروز بالعودة إلى الطاعة والرجوع إلى أوطانهم، والظاهر أن السنيور ود سر بذلك؛ لأنه كان يود أن يتوسط أمر الدروز من نفسه، ويخشى أن لا تقبل وساطته على حد قولهم «كل معروض مرفوض»، فقبل الوساطة على شرطين؛ الأول: أن يطلب العفو لأولئك الرجال من الباب العالي، والثاني: أن يؤمنوا على أرواحهم إلى أن يأتيهم العفو، فقال له الوالي أحمد باشا: إني أسمح لهؤلاء العصاة أن يقيموا في دار القنصلية إلى أن يصل فرمان العفو من الباب العالي، وأطلق كل أقاربهم الذين قبض عليهم وأدعهم يقيمون معهم في دار القنصلية.
فبعث السنيور ود ترجمانه إلى حوران، ومعه أمر الوالي بالمهادنة إلى حين وصول العفو من الأستانة، وكتب معه إلى الأمراء والمشايخ ضامنا لهم سلامتهم بناء على ضمانة الوالي له، وناصحا لهم لكي يسلموا وينزلوا إلى دمشق، وبعد أيام قليلة عاد الترجمان ومعه الأمير أسعد شهاب - وكان قد انضم إلى الدروز؛ لأنهم وعدوه بالولاية على الجبل - والشيخ يوسف عبد الملك وغيرهما من مشايخ الدروز وسبعمائة من أتباعهم، ومضى السنيور ود إلى الوالي بمشايخ الدروز، فرحب الوالي بهم، وأعطى كلا منهم شالا من الكشمير علامة العفو والرضا، ثم وصل بقية الدروز فضاقت بهم دار القنصلية، ورأى السنيور ود أنه يستحيل عليه أن ينزلهم كلهم في داره إلى أن يرد العفو من الأستانة، فسمح لهم الوالي بالعودة إلى بلادهم ما عدا سبعين من رؤسائهم بقوا في دمشق منتظرين فرمان العفو.
وبعد شهرين جاء الفرمان المنتظر، وفيه أمر صريح بالقبض على أولئك المشايخ وقتلهم وإرسال رءوسهم إلى الأستانة، وكان أحمد باشا قد عزل من ولاية دمشق، وولي علي باشا بدلا منه، فجاء كاخيته إلى دار القنصلية قبلما اشتهر ما في الفرمان، وقال لمشايخ الدروز: علام انقطعتم عن التردد على دولة الوالي؟! فتفضلوا واشربوا فنجان قهوة. فانخدع الشيخ يوسف عبد الملك بهذا الكلام، وسار معه إلى دار الولاية، فقبض عليه حالما وصلها، وبلغ السنيور ود ذلك، فهرع إلى دار الولاية، وأبى أن يجلس إلا ويطلق سبيل الشيخ، فأخبره الوالي بمضمون الفرمان، ثم قرأه له فالتفت إلى أحمد باشا، وكان جالسا مع علي باشا، وقال له: كيف كان الاتفاق بيني وبينك؟ ألم يكن على كذا وكذا؟! وقص على علي باشا واقعة الحال، ثم قال لأحمد باشا: إنك لو ذكرت للباب العالي واقعة الحال كما وقعت تماما، لجاء الفرمان بالعفو حتما، فأجاب أحمد باشا: إنني ذكرت لهم كل ما حدث بالتدقيق، فكانت النتيجة كما ترى، وقال علي باشا: لا بد لنا من العمل بالأمر العالي.
فقال السنيور ود: إن استطعتم أن تفعلوا ذلك فافعلوا، ولكن اعلموا أن إنكلترا لا تخفر ذمة قنصل من قناصلها.
ثم احتدم الجدال بينه وبينهما ثلاث ساعات على غير طائل، وأخيرا قالا له: إنك إن لم تسلمنا كل الرجال الذين عندك برضاك، اضطررنا أن نرسل قوة عسكرية ونستلمهم عنوة.
فاطرق برهة يفكر في أمره، ثم قال لعلي باشا: نحن أصدقاء منذ عهد طويل ولي عليك جميل لا تنكره، فإذا كان لا بد لك من العمل حسب أمر الدولة، فأرجو من فضلك أن تنذرني قبل إرسال القوة العسكرية بنصف ساعة، حتى أخرج النساء والأطفال من دار القنصلية. فقال له علي باشا: وهل مرادك أن تقاومنا بالقوة؟
فقال القنصل: حتما ولا بد لي من الدفاع عن شرف القنصلية، ولا يمكن أن تمسوا أحدا من كل الذين في حمانا ما دمت في قيد الحياة، وأنت تعلم ما يفعل أناس مسلحون مثلنا إذا وقعنا في اليأس، ولا يخفى عليك أن الدولة الإنكليزية لا تدع نقطة من دمنا تذهب هدرا، فإذا شئت أن تلقي دولتك في المشاكل فافعل ما تشاء.
ثم نهض وهم بالخروج، فطلب إليه علي باشا أن يتمهل، وأخذ يفكر في أمره، ثم قال له: إني أعرف الإنكليز وأعرف مقدرتهم، ولا أريد أن أكون سببا للخلاف بينهم وبين دولتنا العلية، فآخذ العهدة على نفسي وأوقف الأمر العالي، وغاية ما يصيبني العزل أو الإبعاد، وهما أهون من حرب دولية.
ثم أمر بأن يطلق سبيل الشيخ يوسف عبد الملك، فعاد إلى دار القنصلية بين ستة من القواسة، واجتمع أهالي دمشق يرون مقدرة قنصل الإنكليز ويعجبون بها.
قال المتكلم: وبقينا في دار القنصلية سبعة أشهر؛ لأني كنت في جملة من لجأ إليها إلى أن جاء العفو من الأستانة، وقد بلغنا أن العفو صدر منها بواسطة سفير الإنكليز، فإذا كان قناصل الإنكليز وسفراؤهم يحموننا ويدافعون عنا أينما كنا، فكيف لا نسمع مشورتهم ولا نعمل حسب إرادتهم؟!
وكان المتكلم شيخا جليلا مسموع الكلمة، وكانت هذه الحادثة معروفة عند بعض الحضور، فشهدوا بصحتها، وكاد ينفض الاجتماع على أن لا يحركوا ساكنا، ولا يأتوا عملا من شأنه إثارة حرب أهلية في البلاد، ولكن قال واحد منهم قبل انفضاض المجلس: هب أن خصومنا اعتدوا علينا وتكرر اعتداؤهم، فهل نصبر على الضيم؟ فأجاب أكثر الحضور: كلا كلا. ثم اتفقوا على أن يرسلوا خبر ما قر عليه قرارهم إلى الخلوات كلها في الجبل ووادي التين وحوران.
ستأتي البقية ...
الفصل الخامس
سورية في البارلمنت الإنكليزي
غطى الضباب مدينة لندن، ووقفت المركبات عن السير والناس عن المشي، ولم تعد المصابيح ترى في الشوارع، فلم يصل الأعضاء إلى دار البارلمنت إلا بشق الأنفس، ولما انتظم عقدهم وجلس كل في مكانه حسب درجته، دارت المجادلات على نتائج الحرب بين النمسا وسردينيا، ومعاهدة زورك، وتنازل إمبراطور النمسا عن لمبرديا للإمبراطور نبوليون الثالث الذي أعطاها لسردينيا، وعلى ماجريات الحرب الأميركية الأهلية، والقبض على جون برون الذي غنم الترسانة الأميركية بعد أن قتل نصف رجاله، وعلى ما جرى لسفراء إنكلترا وفرنسا وأميركا في بلاد الصين وهم ذاهبون إلى بكين فصدوا عن دخولها، وطال البحث في هذه المسائل إلى ما بعد نصف الليل.
وكان العضو النائب عن لنكشير قد طلب من مجلس النواب أن ينظر فيما شاع عن قرب نشوب الحرب في سورية، وعما يقال عن دسائس بعض الدول الأوروبية رغبة في احتلال تلك البلاد وإقفال أبوابها دون التجارة الإنكليزية، فلما حانت الفرصة للمناقشة في هذا الموضوع نهض وقال: إن لنا في سورية تجارة واسعة، فنرسل إلى مدينة بيروت في السنة ما ثمنه أكثر من ستمائة ألف جنيه، فإذا نشبت حرب أهلية هناك بارت تجارتنا، وإذا استولت عليها دولة أوروبية فقولوا على تجارتنا السلام، وأنا أسأل الرئيس عما عنده من الأخبار في هذا الصدد، وعن التحوطات التي اتخذتها الحكومة لمنع هذا الضرر عن التجارة الإنكليزية.
فقال الرئيس: إن الوزارة مهتمة بهذا الأمر تمام الاهتمام، وقد عقدت لجنة للبحث فيه، ومتى علمت الخبر اليقين لا تضن بإطلاع المجلس عليه.
فقال العضو: إننا لا نكتفي باطلاعنا على الأخبار؛ لأن عملاءنا في تلك البلاد يكتبون لنا بأخبارها كل أسبوع، ونحن نعلمها كما تعلمها الوزارة، وإنما يهمنا أن تتخذ الحكومة التدابير اللازمة لمنع الحرب الأهلية، وأن تذاكر الحكومة الطامعة باحتلال سورية، وتكف يدها عن ذلك.
فقال الرئيس: إن الوزارة مهتمة بهذه المسائل كلها، وهي ترجو أن تطرح على المجلس نتيجة أعمالها بعد وقت غير بعيد، ولا يخفى على حضرة العضو الكريم أن الوزارة تهتم بكل أمر له علاقة بنا، ولكنها لا تكفل النجاح في كل أمر؛ لأن زمام الدنيا ليس في يدنا.
ونهض المستر غلادستون حينئذ وكان ناظرا للمالية، وقال: إن مالية البلاد لا تمكن الوزارة من عمل كل ما تتمناه، ولكن الوزارة لا تضن بإنفاق المال إذا كان إنفاقه واجبا لتعزيز قوة البلاد وحفظ متاجرها. ثم قال: ولا يخفى على حضرة العضو الكريم أن جيوشنا تحارب الآن في بلاد الصين مع جيوش الدولة التي أشار إليها، ولنا كلينا مصلحة فلا ننتظر منها أن تسعى في عمل يكون من ورائه الإضرار بنا.
ففهم الأعضاء مع كلامه تهديدا خفيا، ولكنه لطيف لا يؤاخذ به.
وفي اليوم التالي اجتمعت اللجنة برئاسة لورد رسل وزير الخارجية، ونظرت فيما كتبه سفير إنكلترا في الأستانة عن ثورة الأفكار التي يراد بها خلع السلطان عبد المجيد بأية واسطة كانت، ولو بالتنكيل بالمسيحيين حتى تنهض دول أوروبا وتنتصر لهم، وفيما كتبه قنصلها في بيروت عن سعي فرنسا المتواصل في تحريض موارنة الجبل على مقاومة القوة بالقوة، ثم نظرت في تقرير غرفة التجارة عما تستورده سورية من منسوجات إنكلترا، وما تصدره إليها من الصوف وعرق السوس، وبعد بحث طويل في هذا الموضوع قر رأيها على ما تكتب به إلى سفيرها في الأستانة، وإلى سفيرها في باريس، وخلاصته السعي في منع الحرب الأهلية بكل واسطة ممكنة وحمل الدروز على الإخلاد إلى السكينة، وعدم الاغترار بمواعيد الولاة الذين يعدونهم بالمساعدة. •••
وفي تلك الليلة اجتمع جماعة من الماليين عند واحد منهم، ودار البحث على القرض الأخير الذي عقدته فرنسا، والقرض الثاني الذي طلبه فكتور عمانوئيل ملك سردينيا؛ ليستعين به على ضم ممالك إيطاليا بعضها إلى بعض.
فقال أحد الحضور واسمه ابن حاييم: إن القرض الأول مكن فكتور عمانوئيل من التغلب على النمسا، فإذا تيسر له بهذا القرض الثاني أن يضم ممالك إيطاليا بعضها إلى بعض، ويصير ملكا عليها كلها، نكون قد خدمنا أسرة سافوى خدمة لا مثيل لها جزاء دفاعها عنا.
وقال آخر: ليس من غرضنا أن نخدمه أو لا نخدمه، بل أن نستثمر أموالنا في بلاد نأمن عليها فيها، أما فرنسا فماليتها ثابتة وشعبها مجتهد مقتصد ولا خوف عليها مهما زاد دينها، وأما إيطاليا فبلاد فقيرة وأكثر خيراتها تذهب إلى خدمة الدين فيها، ولو علمنا أن حياة كاڤور تطول عشرين سنة أخرى لوثقنا أنه يصلح البلاد، ويبني مالية الحكومة على أساس وطيد، أما وأحوال إيطاليا لا تزال مرتبكة، والسلطة الدينية قوية فيها فلا يحسن المجازفة في تديين المال لها.
وبعد أخذ وعطاء في هذا الموضوع اتفقوا على أن لا يكتتبوا بأكثر من مائة مليون فرنك، ثم قال ابن حاييم: كتب إلينا الخواجه بخور من دمشق أن الأحوال فيها وفي بيروت ليست على ما يرام، وأن دروز الجبل يستعدون للحرب الأهلية، وقد استدان رؤساؤهم منه نحو خمسين ألف جنيه بربا عشرين في المائة، وطلبوا مائة ألف جنيه أخرى، وهو لا يرى مانعا يمنع إعطاءهم إياها؛ لأنهم وعدوه برهن ضياعهم في البقاع وهي تساوي أضعاف ذلك، والدروز داخلون في ذمة إنكلترا فلا يجسرون أن يهضموا لنا حقا عندهم.
وقال آخر: إنني التقيت منذ ساعة باللورد فلان، فأخبرني أن الوزارة باذلة جهدها في منع الحرب الأهلية من سورية، وقد أرسلت الأوامر المشددة إلى سفيرها في باريس وسفيرها في الأستانة ليبذلا جهدهما فيما يمنع إثارة الحرب.
فقال ابن حاييم: إن تم ذلك فهو أصلح لنا، وإن لم يتم ونشبت الحرب فلا بد من أن تلجأ الدولة العثمانية إلى التعويض على المنكوبين وخزائنها فارغة فينفتح أمامنا سبيل آخر للكسب.
الفصل السادس
التفتيش الأول
لما حان الوقت الموعود لذهاب السر هندي بدمونت إلى الشويفات لزيارة الأمير أحمد، والتفتيش عن المغارة التي فيها رفات جده كونت بدمونت؛ خاطب الكولونل روز في ذلك، وطلب منه أن يسمح له بذهاب الترجمان معه؛ لئلا يجد الأمير أحمد غائبا فيتعذر عليه التكلم مع أحد؛ لأنه لا يعرف كلمة من العربية، وقام في الصباح وركب جواده، وركب معه الترجمان أيضا وقواس من قواسة القنصلاتو، وساروا نحو الشويفات، فوصلوها بعد ساعتين من الزمان، ولقوا الأمير أحمد في انتظارهم عند نهر الغدير، ومعه جماعة من الأمراء أبناء عمه والخدم والحشم، فرحبوا بالسر هنري وساروا أمامه، وكان الأمراء بالخيول المطهمة، وقد غطوا سروجها بصفائح الذهب الوهاج فوق لبد الشعر الأسود، وقلدوا أعناقها برصائف من الذهب لوسواسها نغم شجي تسمعه الأصائل وتطرب بد، فيزيد إعجابها وتهاديها، فتظنها ترقص رقصا وهي تسير زميلا.
حتى إذا بلغوا دار الأمير أحمد استأذنوا السر هنري في نصب الميدان إكراما له، وانقسموا قسمين، وجعلوا يكرون ويفرون ويتراشقون بالجريد فطرب لذلك طربا شديدا، وكانت الشمس قد تكبدت السماء واشتد الهجير فشكرهم على ما أبدوه له، وقال إنه طالما تمنى أن يرى ميدانا مثل هذا يلعب فيه أمراء البلاد على صهوات الصافنات الجياد، ثم ترجل وترجلوا ودخلوا ديوانا جلسوا فيه، واستراحوا هنيهة، وقدمت لهم الشربات والشبقات، ومد السماط وعليه فاخر الطعام، وأتى بعده بالحلويات، وكانوا ثمانية: الأمير أحمد، وخمسة من أبناء أعمامه، والسر هنري، والترجمان، وأكل السر هنري من كل الألوان، واستطابها على دسمها، وكان يكلم الأمير أحمد بالفرنسوية وهو يترجم لأبناء عمه.
واستراحوا بعد الطعام ساعة زمانية، ثم التفت السر هنري إلى الأمير أحمد وقال له: لا بد لي من العودة إلى بيروت الليلة، وأرجو من فضلك أن ترسل معي واحدا من أتباعك يريني ما حول بلدكم من المغاير. فقال الأمير أحمد: أنا أذهب في خدمتك، فهل تريد أن نذهب راكبين أو ماشيين؟ فقال السر هنري: بل أفضل أن نذهب ماشيين، إلا إذا وجدت في ذلك مشقة أو كان المكان بعيدا جدا.
فضحك الأمير أحمد وقال: إني أجري النهار كله وراء الصيد، وأحب ما علي أن أمشي معك، لا سيما وأننا مضطرون أن نصعد وننزل في أماكن لا تسير الخيل فيها. ثم قاما وودعا الحضور وسارا وحدهما قاصدين المغاير، التي كان الأمير أحمد يمر بها وهو يجري وراء الصيد، فنزلا أولا إلى غربي القرية، ودارا إلى جنوبيها وشرقيها وهبطا في جهة كفر شيما، ومشى معهما ثلاثة من خدم الأمير، وكانا كلما وصلا إلى باب مغارة يراجع السر هنري ما قاله ولف خادم جده عن وصف المغارة والجهة التي تطل عليها، ويدخل الخدم المغارة ويخبرون عما رأوه فيها، واستمروا على هذه الحال نحو ثلاث ساعات إلى أن أجهدهم التعب، ومالت الشمس إلى المغيب ولم ير السر هنري مكانا ينطبق على الوصف الذي عنده.
وبينما كان السر هنري والأمير أحمد يجوبان الشعاب والهضاب يفتشان عن المغارة التي دفن فيها الكونت بدمونت، كانت الأميرة هند خالة الأمير أحمد قد ذهبت هي وابنتها وابنة سلفها إلى نبع ماء في مكان بين كفر شيما والشويفات، وتغدين هناك، ثم تبعتهن أم يوسف، وأتى معها رجل قزم كثير الهزل والمزاح يسمى عنتر، وهو من أفكه الناس حديثا، وأسرعهم خاطرا، يقيم في دور الأمراء للهزل والتهريج، فلما وصل قال للأميرات: خافت أم يوسف أن تخطفها الجن إذا أتت وحدها، فأتت بي معها مع إني أكدت لها أن الجن تخاف منها، ولو لم يكن أبو يوسف أعمى القلب ما وقع هذه الوقعة، ولكن «لا فولة مسوسة إلا ولها كيال أعمى.»
فانتهرته أم يوسف وقالت: اسكت يا خبيث، وخلنا من لسانك ولا تذكر مسألة الجن، فإن الست سلمى لا تصدق بالجن ولا بالعفاريت.
فقالت الأميرة صفا: دعونا من سير الجن والعفاريت، فإني خفت في المرة الماضية، ولم أنم طول الليل.
فقال القزم: الحق في يد الست صفا، وأنا أخاف من الجن لئلا تخطفني، على فيقة يا ست هند أتاكم ضيوف من أولاد عمكم ملئوا الدار.
فقالت: قبحك الله على هذه البشارة، نحن نهرب من الناس والناس تلحقنا.
فقال: إذا أردت أن تتخلصي منهم، فلا أسهل من ذلك؛ ديني الفقير منهم فلا تعودي ترين وجهه، واطلبي من الغني أن يدينك فلا يعود يرى وجهك!
فقالت: أصبت، وإن كان فراق البدوي بعبا، فلا كان البدوي ولا كانت العبا.
وقبل أن تتم كلامها وصل الأمير أحمد والسر هنري والرجال الثلاثة الذين معهم، فاضطربت الأميرات لما رأين رجلا بثياب إفرنجية، ولكن لم يطل اضطرابهن؛ لأن الأمير أحمد كان قد أخبرهن أنه لقي في بيروت عند القنصل شابا إنكليزيا من عائلة شريفة، وأنه وعده بزيارة الشويفات بعد أيام قليلة، فلما رأينه أدركن حالا أنه هو الشاب الذي أخبرهن عنه، وتقدم الأمير أحمد وعرفهن به.
فنظرت إليه الأميرات معجبات من جمال طلعته، واعتدال قامته، ونظر هو إليهن فرأى الجمال الشرقي الذي قرأ عنه في حكاية ألف ليلة وليلة وكتب الروايات والرحلات ، وكان يظن أنه من قبيل الشعر والمبالغات.
ودعتهما الأميرة هند للجلوس معهن وشرب القهوة، وقدمت لها السكاير، وسألت السر هنري عن كيف رأى البلاد، وعما إذا كان معه أحد من أهله، وطلبت إليه أن يزورهم ويضيفهم تلك الليلة، وكان الأمير أحمد يترجم بينها وبينه، فأجابها السر هنري أنه آسف؛ لأنه ثقل عليهن بمجيئه إليهن في تلك الساعة، ولكنه سر جدا برؤية الأميرات الشهابيات، وأنه كان يحسب أنهن يتحجبن مثل سائر نساء الجبل، فإذا هن مثل الأميرات في بلاده؛ لا يحرمن مخلوقات الله من نظرهن، كما لا تحرم الشمس النبات من باهر أشعتها.
فسرت الأميرة هند بهذا التشبيه، ونظرت صفا وسلمى إليه باسمتين ثم أطرقتا حياء، أما القزم فكان يتأخر إلى الوراء رويدا رويدا وهو يزور بعينيه ويقلب شفتيه، والتفت إليه الأمير أحمد وقال له: مالي أراك تهرب منا يا عنتر؟!
فقال: متى حضرت الملائكة هربت الشياطين. فقال الأمير: إذن كان يجب أن تهرب قبل مجيئنا.
فقال عنتر: كنت عازما على الهرب، ولكن أم يوسف مسكتني؛ لأنه لا يطيب لها عيش في البعد عني.
فقالت أم يوسف: اسكت يا لعين، وخلنا من شرك فأنت في كل عرس لك قرص.
والتفت السر هنري إلى الأمير أحمد كأنه يستفهم منه عما يقوله القزم، فترجمه له فضحك وهو يقول في نفسه: هذا مجلس من مجالس الأمراء حقيقة، وهذا من الأقزام الذين لا يخلو منهم مجلس أنس من مجالس الملوك.
وكان الخدم قد غلوا القهوة وأرادوا تقديمها للسر هنري قبل غيره، فأبى إلا أن تقدم إلى الأميرات أولا. فقالت له الأميرة هند: إذن العادة عندكم مثل العادة عندنا تقديم الأميرات على الأمراء. وترجم له الأمير أحمد ذلك، وقال له: إن هذه هي العادة عندنا أيضا، ولكنها خاصة بالأميرات، وأما سائر الناس فرجالهم مقدمون على النساء في كل شيء. فعجب السر هنري من ذلك، وقال: إذن لم يفضل أميرات الشرف إلا لأن حقهن في التفضيل أثبت من أن ينكر.
وكان مجلسه مواجها لمجلس الأميرة سلمى ، فلم يسعه إلا النظر إليها مرة بعد أخرى، فصبغ الحياء وجنتيها وزادها جمالا على جمال، ولحظ حرج موقفها، وشعر من نفسه أنه في موقف تذوب فيه المهج، فنهض واستأذن في الانصراف، فنهض السيدات إجلالا له، فودعهن مصافحة، وعاد أدراجه هو والأمير أحمد وهو مبلبل الأفكار، وخاف أن يظهر أمره، فجعل يحاول جمع أفكاره المشتتة وهو ينظر إلى ما حوله فيرى صورا تمر أمام عينيه ولا يفقه لها معنى، إلى أن وقعت عينه على نبات صغير الورق له ثمر أحمر كحبوب المرجان، فوقف وقال للأمير أحمد: انظر، هذا نبات الفوة الذي يستعمل في الصباغة، وهذه أول مرة رأيته نابتا.
وكان عارفا بعلم النبات مغرما بجمع الحشائش، فأخذ يصف بعض ما يراه منها لكي يخفي ما به من تبلبل الأفكار.
ولج عليه الأمير أحمد لكي يبيت عنده تلك الليلة، وأرسلت أمه تلج أيضا، فاعتذر بأنه لا بد من عودته حالا لكي يكتب مكاتيبه لقيام سفينة البريد في الصباح، لكنه وعد بالعودة في الأسبوع التالي لاستئناف البحث عن المغارة.
الفصل السابع
مطارح النظر
التنازع سنة الكون، به ارتقت أنواع الحيوان والنبات، وإليه مرجع التفاضل بين الشعوب والأمم، وهو شامل لأعمق عواطف النفس، كما أنه عام لما في الكون من العوالم.
كان السر هنري بدمونت مغرما بابنة خاله إفلين برادن، يراها عين الكمال ومجمع الجمال، وهي تدل عليه ولا ترى في قلبها ما يجذبها إليه؛ لأنها رأت منه سيرا على غير الطريق السوي، مثل أكثر الشبان الذين يربون في نعمة وينغمسون في الملاهي، فإن أمه أرسلته إلى مدرسة أكسفرد، وقطعت له مائة جنيه في الشهر، فكان ينفقها وينفق فوقها، وهذا شأن أكثر الشبان في تلك المدرسة، وكان قليل الدرس ولكنه ذكي الفؤاد، فحصل ما يكفي لنيل الشهادة، وخرج من المدرسة ولا مطمع له في الدنيا إلا ابنة خاله فلا يرى غيرها، ولما رأى منها الدل والصدود رهن نفسه لمشيئتها، وانقطع عن الملاهي، وعكف على الدرس، وطلب المعالي، ولا غاية له إلا رضاها حتى حسدها عليه أترابها، أما هي فبقي الدلال شأنها والغنج ديدنها، وحدث ذات يوم أن ذكرت ألقاب الشرف وأنساب الشرفاء، فقال إن جده كان مع الملك ركارد ملك الإنكليز الملقب بقلب الأسد، وإنه كان فارسا مغوارا، وأنعم عليه الملك بلقب كونت قبل وفاته.
فتبسمت إفلين قائلة: أراك تصدق هذه الأقاصيص الموضوعة كأنها حقائق راهنة.
فقال لها: هذا ليس من الأقاصيص الموضوعة، بل هو خبر ثابت بالسند المتصل، وأنا أصدق ولف كما أصدق أصدق الناس، والفارس الباسل لا يكذب ولا يختلق الأخبار، وقد ذكر ولف في الخبر الذي نقل عنه أنه وضع وثيقة لقب جدي على صدره لما دفنه، وهذا كلام من رأى بعينه ولمس بيده، نعم إن منحه هذا اللقب غير مذكور في سجل الألقاب، ولكن أي سجل يحفظ بالتدقيق والناس في دار الحرب، ولم تصف الأيام لقلب الأسد بعد رجوعه وخلاصه من الأسر حتى تطالبه عائلتنا بإثبات ذلك في سجلات الحكومة.
فبقيت إفلين على ريبها، وقالت له: إن أنت وجدت الوثيقة أثبت الكونتية لك؛ لأنك الوارث الوحيد له الآن.
فقال: نعم، وسأفعل ذلك وأبذل دونه كل مرتخص وغال إن كان يرضيك.
وكانت تتكلم معه على سبيل المزاح، أما هو فأخذ الأمر بالجد، وجعل يفتش في كتب الأنساب والتواريخ، وعقد النية على الذهاب إلى سورية ليفتش عن الوثيقة فيها، وكان قد انتظم في وزارة الخارجية، فطلب أن ينقل إلى بلاد الشام، فنقل أولا إلى الأستانة ثم إلى مدينة بيروت وآماله معلقة باكتشاف الوثيقة وإرضاء ابنة خاله وهو لا يرى غيرها أمام عينيه، أما الآن فعاد من الشويفات على غير ما ذهب؛ فقد ذهب إليها وفي قلبه شخص واحد وأمام عينيه مطلب لا يرى سواه، وهو أن يعود بالوثيقة فترضى ابنة خاله عنه، وترتفع منزلته في عينيها، وعاد وقلبه يتنازعه شخص آخر، شخص الجمال والدلال؛ فتاة لم ير أجمل منها في بلاده ولا في غيرها، فتاة من نسل الأمراء الذين حاربوا فرسان الصليب ودحروهم في بلاد الشام، ولقد ربي مع ابنة خاله وشب معها وأحبها كما يحب الأخ أخته، ولكنه كان يشعر دائما أنها بعيدة عنه، وازداد البعد بتقدمهما في السن، فظن أنه لم يملأ عينيها لسيره في طرق لا ترضيها، فغير أسلوب معيشته وبذل جهده في مرضاتها، وكلما ظن أنه بلغ المراد رأى أنه لم يزل حيث كان بالنسبة إليها، لا هي تقصيه ولا هي تدنيه، لكنه لم يفشل ولا قطع الأمل، وقد تحمل مشقة السفر إلى بلاد الشام قربة منها وزلفى.
والآن شعر كأن آماله كلها كانت أماني، وإفلين لا تحبه إلا كما تحب الأخت أخاها، تهتم بأمره وترجو له الخير والفلاح، تحزن لحزنه وتفرح لفرحه، تتألم إذا أصابه مكروه، وتفتخر إذا فعل فعال الكرام، وتفتديه بنفسها إذا وقع في شدة، ولكنها لا تلقي اعتمادها عليه ولا تحسب إنه الرجل الذي يكفلها في السراء والضراء.
ثم قال في نفسه: ولكن من هذه الأميرة؟! ومن هم قومها؟ وما هي أخلاقهم وأطوارهم؟ ومن أي مذهب هم؟ وكيف ينظرون إلي؟! وقد لا أراها بعد الآن، وقد تكون مخطوبة أو متزوجة، وقد يكون أهلها أرفع مني حسبا ونسبا فلا يتنازلون لمصاهرة أناس مثلنا. كنت أستطيع أن أسأل الترجمان عنها، ولكنه يعد ذلك فضولا مني، ولا يبعد أن تكون خطيبة للأمير أحمد وهي ابنة خالته، ولعلها احمرت لما رأته. لم تتكلم على مسمعي غير كلمة واحدة حينما عرفها بي، فقد قالت بالفرنسوية إنها تسر بمعرفتي، ما أمهر هؤلاء الفرنسويين في تعليم لغتهم ونشرها في الآفاق! هذا كله فعل الرهبنات، يطردونهم من بلادهم وينفقون عليهم في سائر البلدان لينشروا فيها لغتهم. لا بد من إيضاح ذلك لنظارة الخارجية حتى تهتم حكومتنا بنشر لغتنا اهتمام الفرنسويين بنشر لغتهم.
سأكتب لأمي عن هذه الفتاة، وهي تقرأ كتابي لإفلين فتثور الغيرة في قلبها، ذلك القلب الطاهر، قوتل الرجال ما أقل وفاءهم! لا لا، لا أنساك يا إفلين أبدا، إن افتكاري بهذه الأميرة السورية من قبيل الجنون الوقتي الذي يعتري الشاب، دقائق جديدة تكونت في دماغي كما يقول العلماء ارتسمت فيها أول صورة وقعت عليها، لكنها تزول سريعا كما ارتسمت سريعا.
خطرت هذه الخواطر على بال السر هنري، وناجى نفسه بها وهو ماسك القلم وعازم على الكتابة لأمه، ونظر إلى ساعة أمامه، وقال: حسبي من أحلام الصبا. وأنغض رأسه مسرعا كأنه يجزر ذبابا حط عليه، وغرضه نزع هذه الأفكار من باله، وشرع في الكتابة، فملأ صفحات كثيرة وصف فيها كل ما لقيه في ذهابه إلى الشويفات ورجوعه منها.
الفصل الثامن
الاجتماع الثاني
عاد وكلاء الدولة والعلماء إلى الاجتماع في دار رشيد أفندي، وكلهم متشوف إلى الاطلاع على ما فعلته اللجنة التنفيذية التي شكلت لإجراء ما أقروا عليه في اجتماعهم السابق، وعلى ما ورد عليها من أشياعهم في سورية، فقرئ كتاب وارد من دمشق مؤداه أن سكانها على أتم الوفاق والوئام، وأنه يتعذر إيقاظ الفتنة فيها، لا سيما وأن أميرا من نزلائها لا يستحل خفر ذمة أحد بوجه من الوجوه، ولا يصدق أن ما طلب منه يعود بالنفع على أحد، وأعوانه أشداء يفعلون كل ما يأمرهم، فيستطيع أن يحمي بهم المدينة كلها.
ولما قرئ هذا الكتاب ضحك أحد المأمورين، وقال: إن كانت كل الكتب التي وردتنا على هذا النسق، فلا فائدة من قراءتها غير التضليل، فإن الأمير هو الذي أشار على فرنسا باحتلال سورية وأرشدها إلى السبيل المؤدي إلى ذلك، فوعدته بجعله أميرا عليها.
فناقضه مأمور آخر، وكثر الحجاج واللجاج بين الطرفين، إلى أن تصدى لهما أحد الحضور وأطلعهما على كتابة معه من سفارة باريس، فنظروا فيها، ثم نظر بعضهم إلى بعض وصمتوا.
وقرئ كتاب وارد من بيروت وكله أمل وتأكيد وتفاؤل بنيل المراد، فقال أحد العلماء: أوصوهم أن لا يسرفوا. ثم قرئ كتاب وارد من لبنان يشكو كاتبه فيه من أحد المأمورين ويقول: إننا نظنه جاسوسا. وطلب إبعاده، فكلف أحد الحضور بالسعي في نقله إلى ولاية أخرى.
ودار الكلام على الخطة التي يراد اتباعها في كل أنحاء الولاية بناء على الكتاب المسهب المرسل من سفارة لندن، ومدار هذه الخطة إثارة الرأي العام الأوروبي بأعمال تستفز الأوروبيين إلى «التداخل»، ولا خوف من فوز المعتدى عليهم؛ لأن دولة عظيمة ستمنعهم من أن يعضدوا بعضهم بعضا ولا يتسع لها مجال التداخل؛ لأن الدولة المناظرة لها توقفها عند حدها، وتحبط مساعيها وتمنعها من ازدراد اللقمة التي اختطفتها؛ فتحصل الغاية المطلوبة من غير ضرر كبير.
وكان بين الحضور رجل أشيب تدل ملامح وجهه على أنه عرك الدهر، وذاق ما فيه من خل وخمر، وكان صامتا لا يتكلم، ولكن وجهه يدل على أنه كان يتتبع المتكلمين ويزن كل كلمة، فلما رأى أنهم فرغوا من الكلام، التفت إلى رئيس المجلس، وقال: لقد علمتنا التجارب أن العامة لا تقف عند حد محدود إذا أطلق لها العنان، والذي أخشاه هو أن النتيجة لا تكون حسب التقدير، فلو نلنا بغيتنا وافتديناها برجل أو رجلين أو عشرة أو مائة، لهان الأمر، وقلنا «ويل أهون من ويلين»، ولكنني أخاف أن نطلق العنان للغوغاء فيسرفوا في القتال والتنكيل، فتفقد البلاد جانبا كبيرا من سكانها الذين عليهم اعتمادها في الصناعة والتجارة، ويتسع المجال للتداخل الأوروبي فوق ما نريد، فمهما بالغنا في التحذير لكيلا يسرفوا لا نوفي الأمر حقه، ولا بد لنا من انتداب أناس يعول عليهم لكي يديروا هذه الحركة ضمن حدودها المعقولة. فوافقوه على رأيه وانتدبوا ثلاثة أرسلوهم إلى بلاد الشام لهذه الغاية. •••
في الليلة التي اجتمع فيها وكلاء الدولة في الأستانة للنظر في أمر يمكنهم من إبدال الحالة الحاضرة بأصلح منها؛ اجتمع ثلاثة من المرابين في بيت الخواجه بخور بدمشق، والبيت في حي اليهود يوصل إليه بزقاق ضيق لا يسع إلا اثنين يمشيان معا، وكذلك باب البيت ضيق واطئ يضطر الداخل منه أن يحني رأسه حين دخوله، ولكن البيت واسع رحب، في داره فسقية كبيرة يتدفق الماء منها، والأرض حولها مرصوفة بالرخام المجزع، وفيها دوائر غرست فيها أشجار الليمون والريحان وأمامها ديوان عضائده من الرخام الناصع البياض، وأبواب الغرف التي حوله يحيط بها قوائم من الرخام المنقوش نقشا بديعا يمثل بعضه شرفات لها أساطين وحنايا مفرغة.
ويدخل من هذه الأبواب إلى غرف كبيرة مفروشة بالبسط العجمية على جوانبها مقاعد من المخمل المعرق أو الحرير المحجر تنار بمصابيح مدلاة من السقف زجاجها ملون، وفيها منصات عليها مصابيح أخرى من نوع الطلمبا يوقد فيها زيت الزيتون، وفي وسط الغرفة كانون كبير من النحاس الأصفر أوقدت فيه نار الفحم لتدفئتها، فدخل الثلاثة غرفة من هذه الغرف وتداولوا في الانتقال إلى بيروت؛ لأن أصدقاءهم في أوروبا - ولا سيما في باريس ولندن - كتبوا إليهم أنه يخشى من حرب أهلية في بلاد الشام، وهم لا ناصر لهم، فأية فئة غلبت تطمع بأموالهم وتسلبها، أما بيروت فلا يخلو مرفؤها من سفينة أجنبية يلجئون إليها إذا دعت الضرورة.
وقال واحد منهم: إني لا أرى ما يخشى منه، فبالأمس استدان أمير من أمراء لبنان عشرين ألف غرش من محلنا في بيروت لتزويج ابنته، فما دام الناس يهتمون بالإنفاق على أفراحهم، فهم غير مشغولي البال بأمر مهم مثل الحروب الأهلية.
فقال آخر: وأنا جاءني من ابن خالي في دير القمر أن الناس هناك لا شغل لهم إلا صب الرصاص وعمل الفشك «الخرطوش»، وقد أخبروه صريحا أنهم ينتظرون ثورة عامة.
فقال الخواجه بخور: وهذا هو الصواب، فإن عملاءنا في كل مكان يقولون إن الفتنة كامنة الآن كالنار تحت الرماد، ولا بد من إيقاظها قريبا، ورأيي أن نستشير الأمير المغربي في أمر انتقالنا، فإني أعتقد فيه الإخلاص، فأجمعوا على أن يستشيروه ويفعلوا حسب مشورته.
الفصل التاسع
العرس والميدان
خصت بلاد الشام بإقليم لا أعدل منه على وجه البسيطة، ساحلها من المنطقة الحارة ينبت فيه النخيل والصبر والبرتقال، ويقتني سكانه الإبل لحمل أثقالهم، وجبالها يكللها الثلج أكثر فصل الشتاء والربيع، وينبت فيها الأرز والبربريس، وتقيم فيها الدباب والأرنب، والبلاد بين بين الاعتدال بعينه لا ينبت نبات في المنطقة المعتدلة، إلا ويجود فيها التين والزيتون والكرم والتوت واللوز والجوز والمشمش والتفاح والليمون والرمان والصنوبر والسنديان والدلب والشربين والورد والياسمين. كل شجر مثمر وغير مثمر، وكل نبت مزهر وغير مزهر، فصول أربعة تتوالى في مواقيتها كأنها جارية على قواعد الحساب.
الخريف بوسميه يعد الأرض للزرع، والشتاء بمزنه يخترق طبقاتها، ويروي جذور أشجارها ويمد مياه ينابيعها ويفعم غدرانها وأنهارها، ويأتي الربيع بشآبيبه فيروي نباتها حتى يزهر ويثمر، ثم تمسك السماء عن المطر ستة أشهر متوالية بين الاعتدالين من أواسط الربيع إلى أواسط الصيف، فتنضج الأثمار وتتيسر الأعمال، وإذا ترفه المرء وأراد الابتعاد عن الساحل فلا أكثر من أن يسير ساعتين، فيصل مكانا هواؤه عليل وماؤه نمير، كأنه انتقل من وادي النيل إلى جبال الألب.
ولكن مهما كثر الخير والمير في بلاد صغيرة كبلاد الشام لا تستوفي أسباب الحضارة ما لم يكن لأهلها بضاعة يتجرون بها، حتى يشتروا بثمنها ما لا يجدونه في بلادهم من الحاجيات والكماليات، فإذا كثر عندهم الحديد فقد ينقصهم النحاس، وإذا كثر الحرير فقد ينقصهم الكتان، وإذا كثرت الفضة فقد ينقصهم الذهب.
ولقد كان السوريون أهل تجارة من قديم الزمان، بل هم أول من ركب السفن وخاض البحار وضرب بالقوافل شرقا وغربا، وامتدت تجارتهم من الهند إلى إسبانيا على طول نصف الكرة الشرقي، وساروا بسفن سليمان إلى جنوبي أفريقية، وما ذلك إلا لأنهم وجدوا في بلادهم من البضائع ما تروج سوقه في سائر البلدان، وتقلبت الدول وكرت القرون بغيرها وأهالي الشام يسعدون ويشقون، ولكنهم لم ينفكوا عن التجارة برا وبحرا، ومرت بهم سنون تشيب الولدان، وابتلوا بولاة كأنهم زبانية الحجيم، ولكنهم لم يفقدوا خصب أرضهم وكبر همتهم.
الزمن الذي حدثت فيه حوادث هذه الرواية سبق بقرون كلها ظلم وجور وإرهاق، تلتها فترة صغيرة ساد فيها الأمن الفترة التي استتب فيها الأمر للأمير بشير الشهابي المعروف بالكبير، ثم لإبراهيم باشا ابن محمد علي باشا عزيز مصر، في هذه الفترة عاد الناس إلى زراعتهم وتجارتهم فنقبوا أراضي الساحل وزرعوا فيها التوت، وربوا دود الحرير وبعثوا به إلى فرنسا، فتدفقت عليهم ميازيب النضار.
رجل واحد من أهالي عمشيت لا من الأمراء ولا من المشايخ كسب من تجارة الحرير ما استطاع أن يوفي به الأموال الأميرية عن بلاد البترون وبلاد جبيل وبلاد الفتوح دفعة واحدة. هذا الرجل، واسمه ميخائيل طوبيا، أقام في عمشيت قريته، وجعل يشتري الحرير من أهالي البلاد المجاورة ويرسله إلى مرسيليا وبلغ من علو همته أنه كان يملي على خمسة من الكتاب في وقت واحد كأنه نبوليون الأول، ولا يستطيع الإنسان أن يدبر الأعمال الكبيرة إلا إذا كان كبير الهمة.
واقتنى غيره قوافل من الجمال أو البغال لنقل بضائع المشرق الأقصى من العراق إلى دمشق، ومنها إلى ساحل بيروت، وحمل بضائع أوروبا إلى داخلية البلاد لنقلها إلى المشرق الأقصى، فلا تمر بك ليلة إلا وتسمع غناء المكارين يحدون لجمالهم، وأجراس بغالهم تحيي ظلمة الليل وتطرب آذان النيام، فتتدفق ينابيع النضار على جانب كبير من السكان، خلة جرى عليها أهالي الشام من عهد الفينيقيين، واستمروا عليها أكثر من ثلاثة آلاف عام، يسعدون بها آونة ويشقون أخرى، والدهر في الناس قلب.
وكان أمراء لبنان قد ذاقوا لذة الراحة بعد طول الكفاح، وباروا الفلاحين وسبقوهم في زرع التوت وتربية دود الحرير، فصارت مزارعهم في البقاع تأتيهم بما يحتاجون إليه من الحبوب، وحراجهم في الجبل تسوم فيها قطعانهم ومواشيهم، وبساتينهم في الساحل يربى فيها الدود ويعصر منها الزيت، فتمتعوا برفاه العيش، وظهر ذلك في أعراسهم ومآتمهم.
وكانت الأميرة صفا مخطوبة للأمير قاسم من أمراء الحدث، وجاء الوقت المعين للاحتفال بزفافها إليه، فجاءها التجار والصاغة من بيروت بالأطالس، والمقصبات الحلبية، والحلى المختلفة من عقود، وقلائد، وخواتم، وأساور، وأقراط، وضفائر مرصعة باللؤلؤ، والماس والياقوت. وأهدى العريس إليها هدايا فاخرة من أنسجة دمشق ودير القمر ومصوغات بيروت وصيداء.
وجاء اليوم الموعود للخروج بموكب العروس من كفر شيما إلى الحدث، وهو يوم أحد قبل الصوم الكبير، وكانت الأميرة جلنار أم الأمير قاسم تخاف أن يكون يوم العرس يوما مطيرا، فنذرت لمار أنطونيوس أنه إذا كان اليوم صحوا تصنع له إكليلا من الذهب وتعلق أمامه قنديلا من الفضة، وعلم المطران بنذرها فلما انحبس المطر من أول الأسبوع وغابت الشمس يوم السبت تحيط بها غيوم حمراء، خاف أن يأتي الأمر على غير ما يود، ولكن أصبح الصباح يوم الأحد ولا غيم في السماء ولا ضباب في الجو، وفاضت أشعة الغزالة على ربى لبنان وانتشرت على ساحل بيروت:
وفاخر بحر الروم لون سمائه
وسارت جواريه عليها المطارف
وسالت على الكثبان غدران عسجد
من الشمس فيها الظل غرثان وارف
وساحل بيروت الخصيب ونهرها
وتلك الروابي والقرى والصفاصف
بساط وسيف والنهود ولؤلؤ
نضيد على صدر الربى متراصف
وكان الأمراء آل شهاب وآل أبي اللمع قد وفدوا إلى الحدث من جهات مختلفة، أتي كل منهم بموكبه من الخدم والحشم، فلم تعد تسمع إلا صهيل الخيل، وإطلاق البنادق، وأصوات الطبول والدفوف والزمور، وكلما وصل وفد منهم قوبل بالأغاني والزغاريد وقماقم العطر ومجامر البخور، واجتمع أولاد القرية ووقفوا عن كثب مبهوتين مدهوشين، والسعيد منهم من أعطي فرسا ليمشي به، أما آباؤهم فقاموا على خدمة الضيوف والأتباع كأنهم كلهم من خدم الأمير.
وقام الأمراء في الصباح واعتلوا صهوات خيولهم، فتألف من ذلك موكب كبير يأخذ الطرف مهابة وجلالا. سارت في مقدمته الأميرة جلنار أم الأمير قاسم على جواد أشهب يتهادى بما عليه من الحلى، وإلى جانبيها اثنان من خواص أهل القرية ماسكان بركابها، ووراءها سائر الأمراء، وأمامهم وخلفهم خلق كثير فيه المغنون والمطبلون والمزمرون، وسار هذا الموكب الهوينى، وكلما مر ببيت قابلته نساؤه بالزغاريد وقماقم ماء الود إلى أن خرجوا من بين البيوت، وساروا في الأرض البراح بين الحدث وكفر شيما، وكان الماء قليلا في نهر الغدير فقطعوه، ولقوا هناك وفدا من كفر شيما آتيا لاستقبالهم والترحيب بهم، فتصافحوا وهم على ظهور الجياد، وأكثر رجالهم من إطلاق البنادق، ثم نصب الميدان في سهل فسيح على ضفة الغدير، فانقسم الأمراء فريقين وجعلوا يترامون بالجريد؛ يهجم الفارس منهم والجريدة في يده ويرمي بها خصمه فتخرج كالشهاب الثاقب؛ لأن زخم الفرس يضاف إلى قوة الساعد، ويراها الخصم مقبلة إليه، فيحيد من طريقها أو يغطس تحت بطن جواده أو يستلقيها بيده أو يدفعها عنه بجريدة أخرى، والفتيان من القريتين يجولون في الميدان، وكلما وقعت جريدة التقطوها وأعطوها لفارس من الفرسان، وظل أولئك الأمراء في كر وفر وهجوم ودفاع إلى أن تصببت جباههم عرقا وسبحت جيادهم في عرقها، وإذا بفتى يصرخ ويقول: أخ يا عيني يا أمي. كان هذا الشاب يلتقط الجريد فأصابته جريدة ذهبت بعينه، فالتف عليه غيره من الفتيان، وأتوا به إلى الأمير الذي ضربه، وقالوا له: انظر يا سيدي، عبدك فلان طارت عينه. فقال: اربطوها له. ثم نادى وكيله وقال له: أرسل إلى هذا المسكين كيس غلة وخمسمائة غرش. فتقدم أبو الفتى وقبل يد الأمير ودعا له بطول العمر، ومن يهن يسهل الهوان عليه!
وكان الأمير أحمد أرسلان في جملة المدعوين إلى هذا العرس، وذكره للسر هنري بدمونت في إحدى خطراته إلى بيروت فود السر هنري أن يكون حاضرا ليشهد الميدان ولعب الجريد، فدعاه الأمير أحمد إلى الحضور، وكان يعلم أن الميدان سينصب على ضفة الغدير، فوافاه السر هنري إلى كفر شيما، وسارا مع أمرائها الذين لاقوا أمراء الحدث، ووقفا يريان الفرسان تكر وتفر، ولم يشتركا معهم، وحاول كثيرون إغراء الأمير أحمد بالنزول إلى الميدان، فلم ينزل معتذرا بوجود السر هنري معه، وهو في الباطن يخشى حدوث ما لا يرضاه؛ لأن الأحقاد الكامنة بين النصارى والدروز كانت قد أخذت في الظهور، وتطاول أحد الفتيان عليه ووجه جريدة إليه، وهو يقول: خذها يا أمير أحمد، ولا تقل إني غدرتك. فاستلقى الأمير أحمد الجريدة بمحجن كان في يده ولم يحذفه بها، وكان ابنا الأمير عباس أخوا الأميرة سلمى هناك فبادرا إلى الذي رمى الجريدة وتكلما معه؛ لأن أمهما أوجست شرا من حضور ابن أختها، فأوصت ابنيها أن لا يفارقاه، وقالت لهما: إن العيون محمرة فلا تدعا ابن خالتكما وحده.
ولما انتهى الميدان وأصيب الفتى بجريدة فقأت عينه، قال بعض الحضور: إن هذا الأمير الإفرنجي لا بد وأن يكون عارفا بالطب. فأتوا بالفتى إليه فنظر وإذا العين قد فقئت تماما ، فقال للأمير أحمد: لا أرى أن رد النظر إليها في الإمكان، ولكن يجب أن تعالج لكيلا تلتهب، ويمتد الالتهاب إلى أختها. ثم نزع ورقة من جيبه، وكتب له سطرين إلى طبيب في بيروت ليذهب إليه بها، فأخذها الفتى وقبل يده.
ثم سار الموكب في طريقه كأن عين ذلك الفتى ذبابة كانت على رأسه فأطارتها الجريدة عنها! حتى إذا بلغ الموكب دار العروس في كفر شيما علت الزغاريد، وطلقات البنادق وأصوات الطبول والزمور، وبادر رجال القرية إلى استلام الخيول والمشي بها، وتصافح الأمراء ودخلت أم العريس واعتنقت كنتها، ثم قدمت القهوة والشبقات، ومدت أسمطة الطعام من الخرفان المحمرة والديوك المقمرة والرز المفلفل والألبان والأسماك وأنواع الحلوى، ولما فرغ الأمراء من الطعام جلس الأهالي والأتباع أفواجا أفواجا، حتى إذا امتلأت الخواصر وفرغت الجفان انتظم الموكب ثانية، وقامت العروس فودعتها الأميرة سلمى وكاد يغمى عليها، واعتنقتها الأميرة هند وهي تبكي؛ لأنها ربتها بعد وفاة أمها فكانت مثل أم لها وودعها أبوها وزوجته؛ لأنه كان قد تزوج بعد وفاة أمها، فخنقت العبرات الأميرة صفا، لا سيما وأنها تذكرت أمها وشعرت حينئذ باليتم شعورا أليما لم يخامر قلبها من قبل.
ثم أركبوها وساروا بها الهوينى وهم ينشدون الأناشيد ويطبلون ويزمرون، إلى أن وصلوا إلى دار العريس، فقام المطران ولفيف الكهنة بصلاة الإكليل، ووزعت الهدايا من أكياس القصب ومناديل الحرير ومدت أسمطة الطعام، وزينت الدار وما حولها تلك الليلة وأطلقت فيها السهام النارية.
وبينما الناس في لهو وطرب يغنون ويزمرون ويطلقون السهام فتشق عنان السماء، علت الجلبة والضوضاء وهجم القوم بعضهم على بعض حتى اختلط الحابل بالنابل؛ فإن شابا كان يطلق سهما فأصاب فتى من أولاد الأمراء في رأسه فوقع صريعا، وظن أبوه أن السهم أرداه، فاستل سيفه وضرب الشاب به فانتصر له رفاقه وهجموا على الأمير، وهجم أعوانه عليهم، وعلا الصياح حتى اختلط الجمع كله اختلاطا، وخرج العريس ومن معه، وخرج النساء أيضا وتركن العروس في حجلتها، وكان الظلام حالكا خارج البيت إلا حيث توقد المشاعل، فتركها الرجال الموكلون بها واختلطوا بالغوغاء، ومضت ساعتان من الزمان، وذلك الجمع كالبحر الزاخر، ثم خمد الهيجان رويدا رويدا، فانجلى عن كثيرين من الجرحى والعريس في جملتهم، فإنه أصيب بعصى شدخت رأسه فعادوا به إلى داخل الدار، ولكنهم فتشوا عن العروس فلم يجدوها، وتناقل النساء هذا الخبر وبلغ الرجال فجعلوا يفتشون في جوانب البيت وغرفه، وعادت الضوضاء ومضت ساعتان في التفتيش على غير جدوى.
وتضاربت الأقوال حينئذ فمن قائل: إن الجن خطفت العروس بحلاها. ومن قائل: إن أميرا آخر يحبها وتحبه، ولكن أباها أبى تزويجها منه فأرسل أتباعه اختطفوها، وهم الذين صوبوا السهم إلى ذلك الفتى لكي يقلقوا الجمع فيلهوا عنهم. ومن قائل: إنها كانت تريد أن تترهب ولكن أباها منعها من ذلك وأبى إلا تزويجها، فبعث الراهبات من اختطفها. لكن الأكثرين كذبوا هذا القول الأخير إجلالا للراهبات عن هذا الفعل المنكر، وكيفما كانت الحال فإن التفتيش استمر إلى الصباح ولم توجد العروس، ولا وجد أثر لها، وقام في نفوس الأكثرين أن الجن اختطفوها. •••
وجلست الأميرة هند مع ابنتها تلك الليلة وقالت لها: لا أدري لماذا أشعر بضيق في صدري على فراق صفا، مع أن حماتها تحبها كما تحب الأم ابنتها، وقاسم من نخبة الشبان، نعم إنه لا يقاس بأحمد، ولكنه أفضل من كل أولاد عمه، هل رأيت أحمد بين الحضور هو والأمير الإنكليزي؟ يظهر لي أن أحمد تغير كثيرا في هذين الشهرين فصار قليل الكلام كثير التفكير.
فقالت الأميرة سلمى: ألم تسمعي ما قال أبي؟ إنهم يطبخون لنا طبخة ويدبرون مهلكا!
فقالت أمها: إن أحمد أعقل من أن يغتر بنفسه، فإن بلاد كسروان كلها قائمة قاعدة، وفرنسا معنا، والإنكليز لا يساعدونهم ولو تظاهروا بمساعدتهم، إن كل أحد يقول الآن إن هذا الأمير الإنكليزي جاء مع أحمد؛ لأنه حليف له، مع أنه جاء لكي يشاهد العرس والميدان لا غير، كما قال لي أحمد نفسه، وقد أوصيت أخويك أن لا يفارقاهما خوفا من أمر يحدث، إن أحمد من أعقل الشبان وهو يحبك جدا، وقد قال لي بالأمس إنك ما عدت تلتفتين إليه.
فصمتت الأميرة سلمى ولم تقل شيئا، وانتهى الحديث على هذه الصورة، ولكن لما خلعت ثيابها لتنام فكرت طويلا في أمر يشغل بالها، وذرفت دمعتين سخينتين ثم ألقت رأسها على وسادتها، وسلمت نفسها لسلطان الكرى وهي لا تعلم شيئا مما جرى لابنة عمها. •••
وعاد السر هنري إلى بيروت تلك الليلة، وجلس بعد العشاء يكتب لأمه، فوصف لها ما رآه في يومه، وصف الميدان ولعب الجريد وتهادي الجياد العربية بما عليها من الحلى، وملابس الأمراء المقصبة، وأشار إلى الفتى الذي فقئت عينه، وعجب من رضوخ الناس للذل واعتقادهم القضاء والقدر، ثم وصف ما رآه في بيت العروس وأسهب في وصف المآكل وجلوس الأمراء حول السماط على المساند، وانتقل إلى وصف الأميرات وملابسهن وحلاهن، وكان قد رأى الأميرة سلمى واقفة إلى جانب ابنة عمها الأميرة صفا كأنهما بدران أو لؤلؤتان، فلما شرع في وصفهما ارتجف القلم في يده وأرتج عليه، فكتب يقول: أخاف أن أصف لك جمال هاتين الأميرتين، فتطلع إفلين على كتابي وتقول إني نسيتها حتى صرت أرى غيرها جميلا مثلها، الجمال الشرقي غير الجمال الغربي، الجمال الشرقي مسلح والجمال الغربي أعزل، تنظر الفتاة الشرقية إليك بعينيها، فتشعرين كأنها راشت سهامها ورشقتك بها، أما الفتاة الغربية فترين في زرقة عينيها كأسا سائغة تودين ارتشافها، ثم قال: لم أهتد حتى الآن إلى المغارة، ولكن بلغني اليوم أنهم عثروا على مغارة قرب الشويفات فيها أسلحة قديمة، وسأمضي إلى هناك في هذين اليومين، إذا وجدت رفات جدي والوثيقة، فسأسمي نفسي أمير لبنان، وآتي بإفلين إلى هنا فتكون أميرة لبنان، هذه أحلام أهدس بها أحيانا، ولكن قلبي يحدثني أن إفلين نسيتني؛ أنساها إياي اللورد كارو الذي كتبت لي عنه، أخبريني عن كل ما قاله لها بالتفصيل، وعن مقام هذا اللورد بين قومه، فإنني لا أعرفه.
ثم ذكر لها أمورا أخرى عن أحوال الجبل وثورة الأفكار فيه، وختم الكتاب وهو يود الرجوع إلى وصف الأميرة سلمى وقلمه لا يطاوعه، كأنه يرى حرما حظر عليه الدنو منه.
الفصل العاشر
المجمع البطريركي
شمالي لبنان مقر المردة ومعقل رجال الدين، عصى قياصرة الروم ولم يخضع لخلفاء المسلمين، بل كان ينازعهم السلطة في بلاد الشام، وكان لأمرائه السيادة المطلقة من أورشليم إلى أنطاكية يحاربون بني أمية كما يحارب الأكفاء بعضهم بعضا، واستمروا على ذلك إلى أن وقع الخلاف الديني بينهم وبين أراخنة القسطنطينية، فعاون الروم العرب عليهم، وتوالت السنون وهم لا يزيدون قوة ولا تزيد بلادهم اتساعا، فضعف شأنهم رويدا رويدا إلى أن انقرضوا وبقيت السيادة لرجال الدين؛ لأنهم يتجددون بالانتخاب، فبنوا أديرتهم على كل معقل، واستأثروا بجانب كبير من أملاك البلاد.
في دير من هذه الأديرة، فوق زوق ميكائيل شمالي الطريق إلى بزمار دير بكركي لرهبنة أنشأتها فتاة حلبية اسمها هندية، جاءت كسروان واشترت أولا دير ما عبدا المشمر، وأنشأت فيه الرهبنة، ثم استحسنت موقع بكركي، وطلبت من رهبانه المقايضة فأعطتهم ديرها وأخذت ديرهم، وبنت فيه بناء كبيرا أنفقت عليه أربعين ألف ريال، وكانت عازمة أن تزيده فخامة واتساعا، فجاءته بثلاثين ألف حجر منحوت وبأعمدة عظيمة من الرخام، ولكن قام عليها مبغضوها وشانئوها ونسبوا إليها السحر والضلال، فاضطر البطريرك يوسف التيان إلى الاستعفاء؛ لأنه كان من ناصريها، وحرمتها الكنيسة وحرمت أعمالها، وحلت رهبنتها، وبات الدير قفرا لا يأوي إليه غير البوم. ويقال إن أحد المطارنة أحرق الثلاثين ألف حجرا كليا، زاعما أن الحرم تناولها.
وكان بطاركة الموارنة يقيمون في دير قنوبين في شمالي لبنان، فاختاروا الإقامة في كسروان في الأيام الأخيرة؛ لأنها مقر وجهاء الموارنة، فكانوا ينزلون في الدير الذي يختارونه إلى أن تنصب البطريرك يوسف إسطفان، فعقد المطارنة مجمعا في دير مار يوسف الحصن في غسطا، حضره القاصد الرسولي، وقرروا في جملة ما قرروه أن يكون الكرسي البطريركي في بكركي، ثم تكرر هذا القرار في مجمع آخر ولكن لم يعمل به، فلما تنصب البطريرك يوسف حبيش عمل به، وأقام في بكركي وخلفه البطريرك يوسف الخازن فزاد البناء . وأمام الدير ميدان صغير في آخره شجرة ميس قديمة العهد، وكثيرا ما يمشي البطريرك والمطارنة فيه يتلون فروض الصلاة.
وفي تاريخ الدويهي أن بكركي كانت بلدة كبيرة في أوائل القرن الخامس عشر، والمنظر منها جميل جدا يطل على كل بلاد الساحل من جبيل إلى بيروت وما وراءها جنوبا.
إن حوادث الجبل المشار إليها في الفصول السابقة جعلت بطريرك الموارنة يدعو المطارنة ووجوه الطائفة للاجتماع والمذاكرة فيما يجب عمله إذا قام الدروز لمحاربة النصارى، فاجتمع لديه جماعة منتقاة لا تتجاوز اثني عشر نفسا، وهم: مطران بيروت، ومطران صور وصيداء، ومطران عكاء، ومطران قبرص، ومطران الشام، والخوري نعمة الله الدحداح كاتب السر، والخوري يوحنا الحاج قاضي النصارى. ومن الوجوه: الأمير أمين منصور أبو اللمع، ويوسف بك كرم، والشيخ كنعان الخازن، والشيخ صالح الخازن، وترجمان قنصلاتو فرنسا في بيروت.
المجلس رهيب البطريرك في صدره والمطارنة على جانبيه وأكثرهم شيوخ عركوا الدهر، وبعضهم درس في رومية، واطلع على أخبار الأمم الغابرة والحاضرة، وعرف تاريخ لبنان وما تعاقب عليه من أيام النعيم والبؤس، فدارت المذاكرة على أحوال الجبل من حين تولاه عمر باشا النمسوي، فإنه تولى إمارته واتخذ بتدين دارا للولاية واتخذ له مديرين: الشيخ خطار العماد، والشيخ منصور الدحداح؛ الأول: درزي والثاني: ماروني، وولى الشيخ فرنسيس أبا نادر الخازن على كسروان، والشيخ ظاهر منصور الدحداح على الفتوح، وولى على بلاد جبيل والبترون والكورة ثلاثة من المشايخ الحمادية، فنفرت الخوازنة من انضمام ولاياتهم الثلاث إلى واحد منهم، ونفرت نصارى جبيل والبترون والكورة؛ لأن الحمادية مرفوعة ولايتهم عنهم منذ نحو ستين سنة، نعم إن عمر باشا اتخذ النصارى أحلافه ليرضوا بولاية الدولة، وجند منهم الجنود وجعل الشنتيري وأبا سمرا قائدين عليهم، وكتب مصطفى باشا والي بيروت إلى البطريرك يثني على غيرته في خدمة الدولة، وأرسل إليه هدية نفيسة ظرف فنجان مجوهرا، ولكن الأفعال التي فعلها منيب باشا بالدحادحة والدسائس التي دست للدروز لينتقضوا على عمر باشا ويحاربوه، ثم قسمة البلاد إلى قائمقاميتين متناظرتين، ثم إلى ولايتين وتجدد الفتن واستمرارها؛ كل ذلك مكن الضغائن والأحقاد في قلوب النصارى والدروز.
هذا من حيث أهالي لبنان ونسبتهم بعضهم إلى بعض، وكأن الحروب الأهلية التي استمرت مئات من السنين لم تكف لزعزعة أركان الجبل والتنكيل بأهله، فتسلط عليه عاملان آخران يرميان بسهم واحد إلى غرضين مختلفين: الواحد يريد التنكيل بالنصارى لكي يتحزب لهم أهل ملتهم من الدول الأوروبية، ويسعوا في تغيير الحالة الحاضرة، والثاني يريد التنكيل بهم لكي يجد سبيلا لحمايتهم واحتلال البلاد.
وكان مدار الكلام في المجمع البطريركي على شئون الجبل، وما يجب عمله في تلك الأحوال، وكان كثيرون من الحضور غير عارفين الغاية المقصودة، فلما شرحت لهم بهتوا وخاف بعضهم عواقبها، وكثر الجدال بينهم، ولا سيما بين مطران بيروت ومطران عكاء، وأخيرا تكلم مطران دمشق وكان مسموع الكلمة لتقواه، وقال: إن نحن جرينا على الخطة التي فصلها لنا حضرة الترجمان، فقد لا يكون الضرر جسيما في نواحي لبنان، ولكن المدن البعيدة كدمشق لا تسلم من الإفراط، ونحن هناك شرذمة صغيرة فلا تبقى منا بقية، وما فائدتنا من اصطلاح الأحوال بعد أن نمسي من الغابرين.
فقال له الترجمان: لقد أوصينا بكم أميرا مقداما عندكم، وهو تكفل بمنع كل إفراط، ولا نظن أنه يصاب أكثر من اثنين أو ثلاثة، وقد لا يصاب أحد، بل يكتفى بنهب بعض البيوت، وإن كانت حادثة البادري توما أقامت أوروبا وأقعدتها والقاتل مجهول، فكيف إذا حدثت ثورة عامة وبدا اعتداء مقصود؟!
وبعد جدال طويل وأخذ وعطاء أجمعوا على إرسال جانب من الرجال المسلحين إلى ساحل بيروت، وجانب آخر إلى جهات زحلة ثم يعود الفريقان من حيث أتيا.
الفصل الحادي عشر
المشكل الجديد
ركب الأمير أحمد وركب معه ثلاثة من رجاله وهم بالسلاح الكامل؛ لأن النزول إلى بيروت لم يعد مأمون العاقبة تماما، ولما وصلوا إلى الغدير اضطروا أن يصعدوا إلى مخاضته؛ لأن الماء كان غزيرا فيه على أثر الأمطار الكثيرة التي وقعت في الشهر الماضي، ووصلوا إلى بيت الكولونل روز نحو الساعة العاشرة صباحا ، ودخل الأمير أحمد إلى مكتب الكولونل، وأما رجاله فدخلوا غرفة في الدار الخارجية، وكان الكولونل في انتظاره ومعه السر هنري بدمونت فرحبا به، وكان البرد شديدا مع أن الجو كان صافيا والشمس مشرقة، وقد أوقد الكولونل نارا كبيرة في موقد حديدي دفئت بها الغرفة، ولما استقر المقام بالأمير قال له الكولونل: بلغني أن أبناء عمك وجمهور المشايخ عازمون على مقاومة القوة بالقوة، وهم على تمام الاستعداد، وأن دروز وادي التيم متحفزون مثلكم، وقد كاتبتم دروز حوران وعربها وكلهم قلب واحد معكم.
فقال الأمير: لا يمكننا أن نخفي استعدادنا، ولكن غرضنا محصور في الدفاع، فإذا اعتدوا علينا اضطررنا أن ندافع عن أنفسنا.
الكولونل :
إن كلمة الاعتداء كلمة مبهمة غير محدودة، فغدا يتهارش كلبان أو يتخاصم رجلان أو يقتل زيات في أحد الخانات، فتقوم القيامة ويدعي كل فريق أنه اعتدي عليه، وما دامت القلوب ملآنة فلا بد من إفراغها، وقد كنت أظن أن كلامي لك في السنة الماضية أقنعك بالعدول عن هذه الخطة، وجعلك تقنع أبناء عمك بالعدول عنها، فلا أرى حتى الآن إلا تفاقم الشر والتحفز للقتال وتوالي الاجتماعات في كل خلوة والانصياع لمشورة الوالي، فقل لأبناء عمك إن مساعدتنا لهم تصل إلى حد محدود، ودفاعنا عنهم لا يجدي نفعا إلا إذا كان الحق في جانبهم، فإن الحق هو الذي يقوينا على الدفاع.
الأمير :
كن على ثقة يا سعادة القنصل أننا لا نكون البادئين، وأنا معكم في أن كلمة الاعتداء غير محدودة المعنى، ولكني أؤكد لسعادتكم أننا غير عازمين أن نلجأ إلى القوة إلا إذا طفح الكيل، فإذا قتلوا منا واحدا هنا وواحدا هناك واعتدوا علينا في جهات مختلفة، فمهما توقى خاصتنا وبذلوا من الجهد في تسكين العامة، فالعامة لا تستكن ولا تسكت، ومحال على أحد الفريقين أن يمنع الشر إذا أراده الفريق الآخر؛ لأن الفريق الذي يريده يتذرع إليه بكل وسيلة، فلماذا لا يجتمع القناصل كلهم ويوجبون على النصارى أن يكفوا عن الابتداء بالشر؟
فتنهد الكولونل ونظر إلى صورة معلقة أمامه على الحائط تمثل ملكة الإنكليز والإمبراطور نبوليون الثالث واقف أمامها يقبل يدها، فقال في نفسه: ما أبعد الظواهر عن البواطن! وكيف يركب أهل السياسة كل مركب خشن في سبيل الوصول إلى مقاصدهم! وكان قد بلغه اجتماع المطارنة والمشايخ في دار البطريرك، فإن قواس القنصلاتو سمع الترجمان يتكلم مع المطران وهما راجعان على الخطة التي قر القرار عليها، وكان قواس قنصلاتو إنكلترا نسيبا له فأخبره بما سمع، وهذا أخبر الترجمان، واتصل الخبر بالقنصل فرآه معقولا ومنطبقا على ما أتاه الخبر به من وزارة الخارجية بناء على ما وصلها من السفارة في باريس، فاستدعى الأمير أحمد لكي يحذره، وكان يعلم أن الوالي يحرض الدروز، وإذا سمعت كلام الفريقين لا تجد عليهما ممسكا ولا تقطع بأن الشر ينتج عنه، وأي لوم على من يقول لك «كن على حذر واعلم أني لا أتركك إذا رأيت عدوك اعتدى عليك»، أو يقول لك «استعد لخصمك، ولكنك إذا رأيته اعتدى عليك، فلا تقابل القوة بالقوة فتضعف حجتك وتمنع صديقك من مساعدتك، بل استمت لخصمك قليلا فيأتي الصديق لمعونتك وتكون الغلبة أتم»؟! القولان سياسيان محكمان، وأغراض أهل السياسة لا تنال بأقل منهما.
هذه الخواطر خطرت كلها على بال الكولونل في تلك اللحظة التي كان ينظر فيها إلى الصورة، فإن الأفكار أسرع من الكهربائية في حركتها، وهي مثل صورة كبيرة تمثل معركة من معارك القتال أو حادثة من حوادث التاريخ تلمحها لمحة واحدة، فتتجلى لك تلك الواقعة أو الحادثة بملابساتها الكثيرة في لحظة من الزمان.
ثم التفت إلى الأمير، وقال له: إن الذي أراه وتدل الدلائل كلها عليه هو أنكم إذا تهيأتم للحرب فالحرب حادثة لا محالة، وإذا لم تتهيئوا لها لم تحدث، وإذا حدثت فلا بد ما تدور الدائرة على النصارى، وحينئذ تبادر دولة من الدول الأوروبية إلى احتلال بلادكم، وربما لا تمضي بضعة أشهر حتى تروا بوارجها في مرفأ بيروت وجنودها على ربى لبنان، وأنتم أدرى بما تصير حالكم إليه حينئذ. وقد تقول لي: كيف يمكن أن نصل إلى هذه النتيجة والوالي يحرضنا على القتال؟! فأقول لك: إن الوالي قصير النظر في العواقب، وهو وأضرابه في القسطنطينية يرمون إلى غرض آخر، وربما تتحقق أمنيتهم ولكنهم لا يعبئون بكم؛ لأن السلطنة واسعة فلا يحسبون حساب بقعة صغيرة مثل لبنان، ولكن لو علموا أن العاقبة تكون كما تقدر الدول الأوروبية لعدلوا عن هذا التحريض.
فأدرك الأمير غرض الكولونل تماما، ولكنه كان يرى يده مغلولة عن العمل، لا سيما وأن أمرا آخر شغل باله منذ شهرين من الزمان، فإن أمه كانت تحبب إليه الاقتران بالأميرة سلمى ابنة خالته، وهذا كان غرض خالته أيضا، وكانت الأميرة سلمى تنظر إليه كما تنظر إلى أخويها، وإذا كلمتها خالتها في ذلك تلميحا غيرت الموضوع ولم تبد الرفض التام، فلما دنا زفاف الأميرة صفا طلبت منها خالتها جوابا صريحا، فأجابتها: أنت ترين اضطراب الأحوال يا خالتي، والشهابيون عن بكرة أبيهم لا يحتملون ذكر الأرسلانيين، فما هذا وقت النظر في هذه الأمور.
فعادت خالتها وأخبرت ابنها بذلك فزاد انشغال باله، وكان قد رأى اضطراب الأميرة سلمى واحمرار وجهها لما شاهدت السر هنري بدمونت فأوجس شرا حتى لم يعد يدعوه إلى الشويفات، وكان وهو يكلم الكولونل روز في هذه النوبة ينظر إلى السر هنري من وقت إلى آخر، وهو يحسب أنه يرى أمامه خصما عنيدا، حتى إذا فرغ من الحديث السياسي التفت إليه السر هنري باسما، وقال له: عسى أن تطمئن القلوب فنعود إلى التفتيش عن المغارة.
فلم يسعه إلا العود إلى المجاملة، فقال له: لا أرى الآن ما يمنعنا من التفتيش، فتعال شرفنا وقتما تريد. فشكره السر هنري ووعده بأن يزوره بعد أيام قليلة، ثم قال له: ولكن ما هذا الخبر الذي سمعناه؛ وهو أن العروس التي حضرنا عرسها خطفت من بيت عريسها؟!
فقال الأمير أحمد: نعم، وقد أشاعوا أن الجن خطفتها، خرافات العجائز! والحقيقة مجهولة حتى الآن، فمن قائل إن واحدا من الفلاحين؛ أي من غير الأمراء، كانت تحبه وقد اتفقت معه على الهرب ، ومن قائل إنها كانت تريد أن تترهب فمنعها أبوها من ذلك، لكنها اتفقت مع بعض الراهبات فخرجت إلى بيت في جوار بيت عريسها ولبست هناك لبس الراهبات وهربت معهن، ومن قائل غير ذلك، وأبوها غير مهتم بها، والفتاة لا أم لها، ليس لها من يهتم بأمرها.
فقال السر هنري: بلغتنا هذه الأخبار، ثم لم نعد نسمع عنها شيئا، فظننا أنكم اهتديتم إليها.
فقال الأمير: كلا، وأنا قلما أسمع شيئا من أخبار الشهابيين الآن غير ما يتعلق بالقلاقل التي في الجبل، ولو لم تكن خالتي امرأة عمها ما كنت سمعت عنها شيئا.
ثم قام وودع القنصل والسر هنري، وطلب القنصل منه أن يبقى عنده للغداء فاعتذر بأنه مدعو للغداء عند أحد أقاربه، ومر في طريقه على بيت أبي فخر، وهو لا يلتفت يمنة ولا يسرة مخافة أن يرى ذلك الرجل؛ فيضطر أن يكلمه، لكن أبا فخر كان جالسا أمام الباب، فلما رآه قادما قام لاستقباله، ودعاه لينزل ويشرب فنجان قهوة، فاعتذر بقرب آذان الظهر وبأن عمه في انتظاره، فجادله أبو فخر وكانت السماء قد غامت وابتدأ وقوع المطر، فلم ير له بدا من التخلص منه بأية واسطة كانت، فودعه وأعمل المهماز في شاكلة جواده، وكان لعمه دار في بيروت يشتي فيها، فسار إليه مع رجاله الثلاثة وهم يعدون عدوا، وكان في الطريق صبية يلعبون تحت المطر، فلما رأوا الخيل عادية قاموا ليهربوا من وجهها، فهرب واحد منهم إليها فداسه فرس أحد أتباع الأمير، وخرجت أمه في تلك اللحظة لترى سبب عدو الخيل، فرأت ابنها يختبط بين قوائم الفرس، فجعلت تزعق وتصيح واجتمع النساء على صياحها وعلت الضوضاء، وترجل الأمير ليرى ما حل بالولد فترجل رجاله معه، وكان في قهوة مجاورة كثيرون من أهل العطلة فالتفوا عليهم، وكان الولد حيا، ولكن كسرت ذراعه وشدخ رأسه ونزف الدم الكثير منه.
واتفق مرور ضابط في ذلك الطريق ومعه بعض الجند، فزاد صياح النساء وعرف الضابط الأمير فطلب منه أن يذهب معه إلى الوالي، وحمل الجند الولد لكي يمضوا به إلى حيث يقيم طبيب العسكر، وأعطى الأمير أحمد أم الولد كل ما معه من النقود، فرمته بها، وهي تقول: قتلت ابني وأنت تبرطلني بغرشين؟! وحاولت أن تلحق به فردها العسكر عنه، فجعلت تتناول الحجارة وترشقه بها، ووقع حجر منها على فرسه فرفس وجمح وكاد يتفاقم الخطب، وبينما هم على هذه الحال مر بهم الوالي ذاهبا إلى الجامع لأجل صلاة الجمعة، فترجل الأمير ورجاله حالا، ودعاه الوالي للذهاب معه، فوقع في حيرة؛ لا هو يريد أن يخالف أمر الوالي ولا هو يستطيع أن يجيبه إليه، وإن أجابه فقد لا يسمح له بدخول الجامع، وإذا جاءت المشاكل ضاقت حلقاتها حتى يضيق المرء بها ذرعا مهما كان رحب الصدر واسع الحيلة؛ هنا ولد مضرج بالدماء وأمه تصيح وتستغيث، وأهالي بيروت يستخفون بأهالي الجبل كلهم ويعدونهم فلاحين ولو كانوا أمراء ومن نسل الملوك، والوالي الذي يفضل الأمير أحمد أن يخسر أية خسارة كانت ولا يراه في ذلك الوقت، أمره بالذهاب معه والدخول إلى الجامع والصلاة فيه، وهذه مشكلة أخرى لم يكن ينتظرها، نعم إن بعض أعمامه تظاهر بالإسلام، ولكن ذلك لم يكن من مذهبه، فوقع في حيرة ولا حيرة الضب!
الفصل الثاني عشر
بوادر الحب
بذلت الوسائل كلها في التفتيش عن الأميرة صفا لا من قبل أبيها؛ لأنه كان قليل الاهتمام بها، بل من قبل عريسها وذويه؛ فإنهم حسبوا اختفاءها عارا لا يمحى، وزادهم قلقا تلبس الأمر عليهم، فبعثوا بالرسل إلى كل ناحية وصوب، بعد أن فتشوا بيوت القرية كلها فلم يقفوا لها على أثر، وكان يأتيهم كل يوم رجل بخبر جديد، فيبحثون ويفتشون فلا يجدون لخبره صحة، وجاءهم رجل ذات يوم وقال إنه كان ذاهبا إلى جهة بسكنتا، فأمسى عليه المساء وغامت السماء، فخاف من المطر والليل حالك الظلام والطريق وعر لا يسلك، ولا سيما بعد أن مر فيه السيل وخربه، فقصد ديرا من أديرة الراهبات قريبا من الطريق، وطلب من البواب أن يسمح له بالنوم عنده فامتنع البواب أولا عن إجابة طلبه، ثم رأى اشتداد الريح فخاف أن يموت بردا إذا لم يسمح له بالمبيت عنده. ونحو نصف الليل قرع الباب، فقام البواب وفتح وإذا أمام الباب رجلان معهما امرأة في زي راهبة، وهم راكبون خيولا، فدخلا بها ووقف الثلاثة في الصحن الخارجي، ودخل البواب وقرع الباب الداخلي فجاءت راهبة فتحته وأدخلت المرأة وأقفلت الباب، وعاد الرجلان من حيث أتيا.
فلما سمع الأمير ذلك قام في نفسه أن هذه المرأة هي عروسه نفسها؛ لأنه شاع وذاع أنها كانت عازمة على الترهب، فقام من ساعته ونزل إلى بيروت وأخبر المطران بما سمعه من هذا الرجل، فأكد له المطران أن الخبر كاذب؛ لأن الراهبات لا يقبلن فتاة عندهن ما لم يأت بها أهلها، ولا سيما بعدما حدث من القيل والقال في مسألة الراهبة هندية، أما الأمير فلم يكتف بهذا النفي بل طلب من المطران أن يرسل ويتحقق له الأمر، فقال: إن هذا خاص بسيدنا البطرك، وسأرسل الآن أخبره بما وقع وأنتظر أوامره. وكان من الأمير كيس فيه عشرون ذهبا، فقدمها إلى المطران أجرة قداديس، فامتنع المطران عن أخذها أولا ثم أخذها، وقال للأمير: كنت أظن أنك تسمح لنا بنصف المطحنة كما سمحت أمك بالنصف الآخر حتى تصير كلها للكرسي. فعبس الأمير؛ لأن إيجار المطحنة السنوي ثلاثة آلاف غرش، ولو أراد أن يبيعها لبيعت بثلاثين ألفا أو أكثر، ولكنه عاد فرأى حرج موقفه فقال للمطران: الذي تقوله سيادتك يصير. واتفقا على أن يكتب له حجة بالنصف الثاني من المطحنة فتصير كلها للكرسي.
وكانت الأميرة سلمى أكثر الشهابيات اهتماما بفقد ابنة عمها؛ لأنها عشيرة صباها وقد ربيتا معا، وحالما بلغها الخبر عرفت حقيقته، ولكنها كانت تحسب أن ابنة عمها عدلت عن عزمها، ورضيت بما قسم لها؛ فإن صفا كانت قد أخبرتها بما عزمت عليه منذ أكثر من نصف سنة، ثم لما لج الأمير قاسم في طلبها ولم تر لها مناصا من قبوله، ولا سيما بعد ما رأت من اضطهاد زوجة أبيها لها ، ورأت أن سلمى لا تشجعها على عزمها، وغاية ما في الأمر أنها طلبت منها أن تترك بيت أبيها وتأتي وتسكن معها؛ لما رأت منها ذلك تظاهرت بالقبول، ولم تعد تبوح لها بشيء، وكانت كبيرة النفس قليلة الكلام، فدبرت أمرها على مهل، وكانت تعلم خطر السبيل الذي سارت فيه، ولكن لسان حالها كان يقول:
إذا لم يكن إلا الأسنة مركب
فلا يسع المضطر إلا ركوبها
وكانت الأميرة هند كثيرة الأوهام تصدق ما يقال عن الجن والعفاريت، فقام في نفسها أن الجن خفطت ابنة سلفها، لكنها رأت الأمر فادحا رهيبا حتى لم تجسر على التفكير فيه، بل خافت أن تذاكر ابنتها به، وسرت الأميرة سلمى باعتقاد أمها ذلك لكيلا تضطر أن تكذب عليها إذا سألتها عما تعلمه من أمر ابنة عمها، لكنها بقيت مضطربة البال عليها، ولم يعد يهنأ لها عيش ومرت الأيام وهي لا تزيد إلا قلقا، وكثيرا ما كان يخطر ببالها السر هنري بدمونت فتسر بالخاطر وتجاربه أو تنفيه من ذهنها وتتسلى عنه بعمل تعمله أو كتاب تقرؤه، ثم كثر تردده في بالها ولم يعد يفارقها بسهولة، فقلقت أولا من جراء ذلك، ثم رأت أنها مدفوعة إلى محبته رضيت أو كرهت، فلم تعد تحاول المحال بمحو صورته من ذهنها، وصارت تود أن تراه أو ترى منه أقل علامة تدلها على أن في قلبه مثل ما في قلبها، ولما مضت أيام كثيرة ولم تره ولا سمعت عنه شيئا، صارت تقيم في رواق يشرف على طريق الشويفات، وكلما رأت فارسا أحدقت بنظرها إليه، ولم تنقطع عن لوم نفسها، وكثيرا ما قامت الحرب بين عقلها وقلبها؛ يقول عقلها: هذا شاب أجنبي رأيته مرتين لا غير، والمرجح بل المؤكد أنه نسيك الآن ولم تعودي تخطرين بباله، فما هذا الغرور بل هذا الجنون؟! فيجيبه قلبها: لو لم يكن في قلبه عاطفة إلي ما كان في هذه العاطفة إليه، وإلا فما معنى قولهم إن القلوب شواهد والحب متبادل، ناهيك عن أنه في المرتين اللتين رأيته فيهما نظر إلي نظرا غير عادي، وفي المرتين كان الحياء يصبغ جبينه، وكان يسترق اللحظ، وإذا نظرت إليه غض طرفه، ولم أر شيئا مثل ذلك في كل الشبان الذين عرفتهم ولا في أحمد. ثم يخفق فؤادها وتشعر كأن حجرا ثقيلا وضع على صدرها وهي تحاول كتمان ما بها عن كل أحد.
الفصل الثالث عشر
حل مشكلة
وقف الأمير أحمد أمام باب الجامع وهو يضرب أخماسا لأسداس، فضاقت في وجهه المذاهب، وتصبب جبينه عرقا باردا، ورأى الوالي حيرته فتظاهر بأنه لم ير شيئا، ووقف معه يكلمه في الصحن والجماعة تصلي وراء الإمام، ثم دار معه ومشيا إلى جهة الميضئة، وكان يحسن التركية والوالي يسر بحديثه، وقد علم أنه آت من دار قنصل الإنكليز، لكنه لم يشر إلى ذلك، بل حصر الكلام في تغلب النصارى على الدروز في حادثة بيت مري التي حدثت في الصيف الماضي، وكيف أنهم أثخنوا فيهم وحرقوا قراهم، قال: وأنت تعلم غيرتي عليكم وحسباني إياكم سيف الدولة، ولكن الصدر الأعظم لم يكن يهتم بشكاوى حينئذ الاهتمام الواجب لانشغال الدولة بأمور أخرى أهم من مسائل لبنان، فلما تمهدت تلك الأمور اتجه الالتفات العالي إلى الجبل وفي النية قصاص الذين سببوا هذه الفتنة، وها عمك وجميع المناصب والمشايخ موافقون على ذلك، ويقيني أنك أنت معهم أيضا.
فقال الأمير: أنا ابن الدولة وعبدها المطيع. وكان كلام الكولونل روز لا يزال يتردد في ذهنه؛ وهو أنه إذا دارت الدائرة على النصارى تبادر دولة من الدول الأوروبية إلى احتلال بلادكم. وصمت قليلا ثم قال: ولكن هل تأذنون دولتكم لي في الكلام بحرية وصراحة؟ فقال الوالي: قل ما تشاء. فقال: هب أن الحرب الأهلية نشبت وأننا انتصرنا على خصومنا بمعونة الله وبتأييد دولتكم لنا، أفلا تكون النتيجة أن دول أوروبا ترسل مراكبها الحربية وتحتل البلاد حالا؟!
فتبسم الوالي وقلب شفتيه، وقال: كن مطمئن البال من هذا القبيل، فإن دول أوروبا متخاصمة متناظرة، ولا يمكن لدولة منها أن تسمح لأخرى باحتلال هذه البلاد، وأحب ما علينا أن تقع المنافسة بينهم حتى نخلص من شرهم.
الأمير أحمد: حلمك يا أفندينا، فأنا قرأت في التاريخ أن دولة واحدة منهم تحسب حامية المسيحيين في الشرق والدول الباقيات يسلمن لها بهذا الحق.
فقطب الوالي وجهه لكنه قال: إن هذا الكلام حبر على ورق، فدولة فرنسا تدعيه ودولة المسكوب تنازعها فيه، والحق للقوة، ألا ترى أن الفرنسويين ساعدوا محمد علي، والإنكليز قاوموهم وغلبوهم، وأنا واثق أن الإنكليز معنا في هذه النوبة أيضا، ولذلك لا ألومك لأجل ترددك على قنصلهم ألا ترى أنه معنا.
والتفت الأمير أحمد حينئذ إلى الجامع فرأى الناس قد أخذوا في الخروج فقال في نفسه: إنني أخلص من مشكل وأقع في آخر! لكنه كان قوي البداهة، فأجاب الوالي قائلا: نعم، إني أرى منه كل تشجيع لنا وغيرة على دولتنا، ويظهر لي من كلامه أن الإنكليز لا يزالون مخاصمين للفرنسويين، ولا يهون عليهم أن تحتل فرنسا هذه البلاد.
وكانت الجماعة قد خرجت من الجامع كما تقدم، فسار الوالي والأمير أحمد معه، وخرجا من الباب الخارجي كأنهما صليا مع الجماعة وخرجا معها، وهو أمر عادي للولاة والحكام يدخلون المعابد ويقفون في صحنها يتحدثون مع خواصهم في شئون مختلفة، وهم يحسبون أنهم أتوا وعبدوا مثل غيرهم، كأن الكبراء معفون من القيام بشعائر الدين، وسري عن الأمير أحمد؛ لأنه كان يكره الرياء ولكنه لم يكد يسير في الشارع مع الوالي، حتى رأى المرأة التي ديس ولدها واقفة له في المرصاد، وهي تصيح وتصخب فسأل الوالي عن قصتها، فقيل له إن جوادا من خيل الأمير داس ابنها، فوقف وأدار رأسه إلى الأمير وشمخ بأنفه كأن لسان حاله يقول له: مسكتك وكيف تنجو من يدي. فقال الأمير: نعم، إن ابنها وقع في الطريق، فرفسه فرس رجل من أتباعي، ولكن المسألة عرضية.
فقال الوالي: ألم يدسه فرسك؟ فقال الأمير: كلا بل فرس رجل من أتباعي وهو له ليس لي، ومع ذلك فالمسألة عرضية وقد نقل إلى المستشفى.
فأسف الوالي على ما بدر منه، وأراد أن يمحو تأثير كلامه من ذهن الأمير أحمد، فدعاه لزيارته حينما ينزل ثانية إلى بيروت، وقال لرئيس الضابطة وكان سائرا وراءه: خذ هذه المرأة من هنا ولا تدعني أرى وجهها. ثم ودع الأمير أحمد وسار في طريقه، فوقف الأمير إلى أن أبعد عنه، ثم ركب جواده وأسرع إلى بيت عمه وهو لا يصدق بالنجاة من هذه المشاكل المتوالية.
فلما وصل إلى بيت عمه وجد عمه والبعض من مشايخ البلاد في انتظاره فهنئوه بالسلامة؛ لأن أحد أتباعه كان قد سبقه إلى هناك وأخبرهم عن التقاء الوالي به، وأخذه معه إلى الجامع بعدما جرى للولد ما جرى، وكانوا يخافون أن يمنع من دخول الجامع مع الوالي، أو يأخذه الوالي بجريرة الرجل الذي داس فرسه الولد، فتفضي الحال إلى ما لا تحمد عقباه، فلما وصل قص عليهم ما جرى له مع الوالي في صحن الجامع وكلام الوالي له، وكانوا كلهم من رأي الوالي، ويظنون أن إنكلترا تساعدهم نكاية في فرنسا، أما هو فأكد لهم أن إنكلترا لا تساعدهم بل تطلب منهم أن يلزموا السكينة ولو اعتدي عليهم، فقالوا: له إذن تكون العاقبة وخيمة علينا، ولا نعود نستطيع السكن في البلاد، بل نضطر أن نرحل منها، وأروه مكاتيب واردة إليهم من دروز حوران ووادي التيم، فقرأها وتمعن فيها مليا وجاراهم في الحديث، ثم جلسوا للطعام وغيروا موضوع الكلام أمام الخدم، وجلسوا بعد ذلك ينظرون في تدبير المال اللازم لما يقصد من الأعمال؛ لأن الوالي وعد بكل مساعدة حتى بالرجال والسلاح، ولكن خزينته أفرغ من جراب أم موسى، وكان الخواجه بخور قد انتقل إلى بيروت، بعدما وقف على رأي الأمير المغربي، فزاره عم الأمير أحمد وطلب منه أن يقرضه ألف كيس؛ أي خمسمائة ألف غرش، وهو يرهن له ما يملكه من الزيتون في صحراء الشويفات، واختلفا على المدة ومعدل الربا؛ فالأمير طلب أن تكون المدة أربع سنوات، ويكون الربا اثني عشر في المائة، والخواجه بخور طلب أن تكون المدة سنتين فقط، ويكون الربا عشرين في المائة ، وأن الأمير أحمد يضمن الدين مع عمه، ولذلك لم يتفقا.
وجاء الخواجه بخور حينئذ لرد الزيارة ومشاهدة الأمير أحمد؛ لأنه كان يعرف أباه وكان بينهما صداقة قديمة، ولم تطل إقامته حتى اتصل الكلام إلى مسألة الدين. فقال الخواجه بخور: لقد بلغت الديون التي استدانها منا جمهور المشايخ والبكوات حتى الآن أكثر من ثلاثين ألف كيس، وكلها بفائدة عشرين في المائة، فلا يخلصنا أن نعطيكم بأقل من هذه الفائدة؛ لأن النقود صارت عزيزة في هذه الأيام، ولا سيما بعدما عقدت فرنسا قرضا وعقدت سردينيا قرضا آخر استغرقا كل الأموال التي في أيدينا، وأنتم تعلمون مقدار القلاقل المنتشرة في البلاد كلها، ولولا علمي أن الفوز يكون لكم أخيرا؛ لأن الدولة معكم، ما كنت أخاطر بغرش واحد، ولكن مع ذلك من يدري ماذا تكون العاقبة.
فجعل الأمير أحمد يتوسل إليه ليتساهل مع عمه، ويجعل الربا خمسة عشر في المائة، ويعفيه من الضمان؛ لأن عمه يستعيب ذلك، ومما قاله له: إن الأملاك التي سيرهنها عمي لك تساوي خمسة آلاف كيس على الأقل، أفلا ترهنها على ألف كيس؟! لقد زدتموها يا خواجه بخور، وهذا ليس من العدل ولا من الإنصاف ونحن أصدقاء من زمان طويل.
فقال الخواجه بخور: ليس في اليد حيلة يا أمير أحمد، وأنت تعلم أني لست وحدي، وأن أولاد عمي لا يتنازلون عن غرش واحد.
فأخبره الأمير أحمد أنه استدان من بيت طراد، ولم يدفع سوى 12 في المائة، نعم إن المبلغ الذي استدانه زهيد، ولكنه لو طلب منهم ألف كيس بهذه الفائدة لأعطوه.
فأجابه الخواجه بخور أن هذا يكاد يكون ضربا من المحال في هذه الأيام، وأنه لو طلب منهم اليوم ودفع لهم عشرين في المائة لرأى أنهم يعتذرون عن إعطائه مائة كيس بهذه الفائدة.
ولكن كلام الأمير أحمد عن بيت طراد حل عزائم الخواجه بخور، فقال في نفسه: يجب أن نجمع كل أصحاب البنوك الذين يدينون، ونتفق على معدل واحد حتى لا يضر بعضنا بعضا. وبعد جدال طويل اتفقوا على أن يكون معدل الربا ثمانية عشر في المائة، وأن تكون المدة ثلاث سنوات، ويكتفي الخواجه بخور بالرهن ولا يطلب ضمان الأمير أحمد.
ثم التفت الخواجه بخور إلى الأمير أحمد وسأله عما إذا كانت الأملاك تساوي خمسة آلاف كيس حقيقة، فقال: نعم وهذا لا يقبل الغلط؛ فإنها خمسمائة قنطار من أغراس الزيتون، والقنطار يساوي خمسة آلاف غرش على الأقل.
فقال الخواجه بخور: إذن يمكنه أن يستدين عليها ألف كيس أخرى، فنحن تحت أمرك وأمر عمك.
وعاد الخواجه بخور إلى مكتبه، فوجد أنه أتاه تحويل على خزينة بيروت بثلاثة آلاف كيس؛ لأن شركاءه في لندن وفينا كانوا يدفعون الأموال في الأستانة، ويأخذون بها تحاويل على خزائن الولايات فأسقط في يده؛ لأن اليوم كان الجمعة، والخزينة مقفلة واليوم التالي السبت لا يستطيع أن يعمل فيه عملا، فيضيع عليه ربا يومين، فجعل يشتم ربان السفينة التي لم توصل التحويل يوم الخميس، وعد ذلك من جملة النحوس التي توالت عليه تلك السنة، وعاد إلى بيته منغص العيش كأنه خسر خسارة كبيرة لا تعوض.
الفصل الرابع عشر
الأميرة صفا
مضى شهران على اختفاء الأميرة صفا ولم يعلم أحد مقرها، لكن زادت الإشاعات بأنها ترهبت في أحد الأديرة، وكتب المطران إلى البطريرك، وبحث البطريرك في الدير الذي أشار إليه الأمير قاسم، فلم يجدها فيه ولا وجد أن راهبات الدير يعلمن شيئا من أمرها، وكان أبوها يظن أنها هربت مع شاب من الفلاحين فحرمت ميراثها من أمها؛ لأن الشاب غني جدا، وكان يحبها ويود الاقتران بها، ولكن الشهابيين لا يزوجون الفلاحين، ولو صاروا من أفقر الناس وصار الفلاحون من أغناهم، وقد قال هذا الشاب لأبيها إنه يتنازل له عن ميراثها من أمها، وكان وافرا جدا، فإن أمها من نسل الأمير بشير الكبير، وقد ورثت منها جنائن وبساتين في الحدث والشياح ووطأ نهر الكلب، وضياعا ومزارع في بلاد جبيل وسهل البقاع، فمال أبوها إلى تزويجه بها، ولكن إخوته وأبناء عمه منعوه من ذلك، وهي لم تكن تميل إلى ذلك الشاب ، واتفق أنه كان غائبا وقت زواجها، فاتهموه باختطافها ولكنه عاد من غيبته، واتضح أنه لم يكن عارفا بما جرى لها؛ لأنه لما رأى إصرار أهلها على تزويجها بالأمير قاسم، سافر إلى مصر لكي يسلوها، فلما رأى أبوها ذلك انشغل باله وخاف أن يتحقق أمر ترهبها، فيطلب منه أن يسلمها كل ميراثها من أمها.
وكان كذلك؛ فإنه بينما كان ذات يوم يفكر في هذا الأمر جاءه رسول من دير العازرية في بيروت ومعه كتاب من ابنته له، فلما فضه وقرأه أظلم الضياء في عينيه، وقام من ساعته وجاء إلى بيت أخيه الأمير عباس أبي الأميرة سلمى؛ لأنه كان أكبر منه سنا وأوسع خبرة وأراه الكتاب، فأرغى هذا وأزبد وشتم ولعن، وقال لأخيه: قلت لك لا تدع هؤلاء الراهبات يدخلن بيتك، وليس طمعهن بصفا بل بالجنائن والبساتين والضياع والمزارع، ما دمتم لاصقين بهذه الطغمة صيروكم على الأرض، هذا قاسم الحمار وهب المطحنة كلها للمطران لكي يفتش له عن صفا، وأنا أحلق لحيتي إن كان المطران لا يعلم أنها ذهبت مع الراهبات، وأن ذلك بعلمه وبدسيسته، هذا أمر لا نحتمله ولا نطيقه لم يقع مثله لبيت شهاب من أول مجيئهم إلى هذه البلاد إلى الآن، اسمع ماذا تقول لك في مكتوبها تقول إنها فرحة جدا؛ لأنها تستطيع الآن أن تصلي لأجل خلاص نفسك واهتداء عمها، من كان يمنعها عن الصلاة وهي هنا؟! ألا يسمع الله في لبنان كما يسمع في إيطاليا، ولكن ليس العبرة هنا، بل العبرة في قولها إنها نذرت لله أن تساعد الفقراء والمساكين بكل ما تملكه؛ أي بكل ما ورثته تكفيرا عن نفس أمها؛ لأن نفسها لا تزال في المطهر، قم قم لعبوا عليك وأخذوا ابنتك ومرادهم أن يأخذوا أموالك، ثم اسمع ماذا تقول، إنها مبسوطة جدا ولكن البرد شديد في تلك البلاد وهي مصابة بزكام شديد، غدا يتحول معها إلى سل في تلك البلاد الباردة وتموت، من يذهب من هنا إلى إيطاليا في فصل الشتاء غير المجانين؟!
فلم يقل الأمير فارس شيئا بل جلس يفكر في الأمر، ويمص المصة بعد المصة من الشبق الذي في يده، ويطلق دخانها في الجو، حتى صار حوله سحابة من الدخان، وهو يقطب حاجبيه تارة، ويرفعهما أخرى كأنه يفكر في مسألة ابنته، والأمير عباس يعيد تلاوة المكتوب وينظر في معانيه، وأخيرا قال الأمير فارس: ليس لنا إلا قنصل فرنسا، فهو محتاج إلينا الآن، فأذهب إليه أنا وقاسم ونطلب منه أن يرجعها حالا وإلا نخرب طبخته كلها.
فقال الأمير عباس: وهذا لا يكفي، بل يجب أن تتهددوا المطران بالرجوع إلى الإسلام إن هو أصر على عدم إجابة طلبكم، فإني أخاف أن قنصل فرنسا لا يستطيع أن يفعل شيئا من هذا القبيل؛ لأن الإمبراطورة في يد الإكليروس لا تخالف لهم أمرا، ولا تتجاسر أن تطلب منهم شيئا والإمبراطور في يدها، وعلى كل حال لا ضرر من الذهاب إلى الاثنين؛ إلى القنصل وإلى المطران.
وكتبت الأميرة صفا إلى الأميرة سلمى، وأرسلت الكتاب ضمن كتابها إلى أبيها ليسلمه إليها، وهو باللغة الفرنسوية وتقول فيه:
أختي وشقيقة روحي ...
أطلب السماح منك يا حبيبتي ومن والدتك الحنونة؛ لأنني فارقتكما على هذه الصورة، وقد كنت أعلم لما ودعتك وودعتها أنني قد لا أعود أراكما في حياتي، فتصوري مقدار كآبتي حينما خرجت من بيت أبي ووقع نظري آخر مرة على الوجوه التي أحبها، وعلى المناظر التي قضيت فيها زهرة عمري، على الأماكن التي كنا نلعب فيها معا والأشجار التي كنا نجلس تحتها، كل ما كنت أتسلى بتربيته من الطيور والرياحين والأزهار، كل شيء من ذلك له مكان في قلبي، ولكن المكان الأول فيه هو لك ولأمك ولقبر المرحومة والدتي.
آه يا سلمى! كم أود أن أراك الآن، وأضمك إلى صدري، ونذهب معا إلى قبر والدتي، فأضع خدي عليه وأغسله بدموعي! صدقيني يا سلمى، إني تركتكم كلكم لأجلها؛ لكي أخلص نفسها، لا بد من أن يكون الناس قالوا أقوالا كثيرة، واتهموني تهما لا أصل لها. الله يسامحهم، أما أنا فكنت أشعر أني اخترت النصيب الصالح، ولا يحق لقاسم أن يلومني؛ لأنني أخبرته صريحا أنه يستحيل علي أن أقترن به بعد أن كرست نفسي لمخلصي، فلومه على نفسه، وكذلك لا يحق لأبي أن يلومني، ومع ذلك فإني أصلي لأجلهما دائما، كما أصلي لأجل أبيك وأمك، ولا تظني يا حبيبتي أني صرت الآن أسعد مما كنت، كلا، غير أني أرجو أن يغفر الله لي ولكل الذين أحبهم، نوبي عني بتقبيل والدتك وتقديم الاحترام لوالدك.
ولما قرأت الأميرة سلمى الكتاب وترجمته لأمها جلست الاثنتان تبكيان، وشعرت الأميرة سلمى كأن بلاطة وقعت على صدرها، فلم تعد تستطيع التنفس، ومضت ساعة من الزمان وهي تعود إلى البكاء كلما وقع نظرها على أمها، وصفقت أمها بيديها فأتوها بالنارجيلة والقهوة، فجلست تتسلى بالتدخين، وقالت لابنتها: هل كنت تعلمين يا سلمى عزم صفا على الترهب؟ فقالت: أخبرتني صفا بذلك مرارا، ولما رأت أني لم أصوب رأيها لم تعد تكلمني به، والظاهر أنها لم تصمم إلا قبل العرس بيوم أو يومين.
فقالت أمها: لا تخافي إلا من النهر الهادئ، من كان يظن أن صفا تقدر على هذه الحيلة؟! ولكن ماذا نقول وماذا نتكلم؟! أبوك يشمت بنا، وخالتك تشمت بنا، وابن خالتك يشمت بنا، فالصمت أولى، قال عمك إنه سيذهب إلى المطران وقنصل فرنسا هو وقاسم، ولكن لا فائدة من ذلك، وستكون عاقبة تشديدنا أنهم لا يعودون يدعونها تأتي إلى هذه البلاد، ما خلصنا من سيرة القديسة هندية حتى وقعنا في قصة ابنة عمك، غدا ترين تطويل ألسنة الفلاحين علينا، الله يهونها.
ومرت ساعتان وهما في حديث مثل هذا، ودخل الأمير عباس، وجلس إلى جانب زوجته، وأتاهما أحد الخدم بمنقلة، وقال الأمير عباس: أخذت مني عشرين غرشا أمس، ولا بد لي من استرجاعها. فقالت له: ستخسر عشرين فوقها. ثم أخذا يلعبان لكن الاثنين كانا مشغولي البال، وقبلما أتما الدق الأول قالت الأميرة هند: هل تظن أنهم ينجحون في إرجاعها؟ فقال: لا أظن؛ لأنهم طامعون بأملاكها، فإن أملاكها تساوي أكثر من ستمائة ألف غرش ، ولا بد ما توقفها كلها للدير، وأنا خائف على صحتها؛ لأنها تقول في مكتوبها إلى أبيها إنها مصابة بزكام شديد.
فتنهدت زوجته وقالت: يجب أن ندير بالنا على سلمى، فإن أختي كلمتني عنها مرات كثيرة، وأحمد ميت حتى يأخذها، ولكن هي لا تلتفت إليه، ولاسيما بعد أن زارنا هذا الشاب الإنكليزي.
الأمير عباس :
ماذا تقولين؟ ماذا تقولين؟ الشاب الإنكليزي؟! متى زارنا هذا الشاب؟
الأميرة هند :
رأيناه مرة ونحن عند النجمة كان مارا هو وأحمد، ثم دعاه أحمد لحضور العرس، ألم تره حينئذ؟
الأمير عباس :
نعم رأيته، أهذا هو؟ نعم رأيته ولكنني لم أسأل عنه.
الأميرة هند :
يقول أحمد إنه وكيل القنصل، وإنه من أمراء الإنكليز.
الأمير عباس :
من أمراء الإنكليز ويكون وكيلا للقنصل! لعله افتقر مثل كثيرين من الشهابيين.
الأميرة هند :
يقول أحمد إنه من الأمراء الأغنياء، ولكن أمراء الإنكليز مهما كانوا أغنياء يخدمون في أصغر الوظائف السياسية، وقد جاء إلى بر الشام لكي يفتش عن قبر واحد من أجداده قال إنه قتل قرب بيروت، ودفن في جهات الشويفات أو كفر شيما، سلمى تعلم عنه أكثر مني، فإنها سمعت كل كلمة قالها أحمد، وسمعت أشياء أخرى عنه من الخدم، فإذا كانت تتعلق به فهناك المصيبة.
الأمير عباس :
لماذا تكون مصيبة؟! ألم يتزوج عبد الله بابنة تشرشل بك الإنكليزي؟! فإن كان هذا الأمير كريم الأخلاق شهما فلا مانع عندي، ولكن إن كان أفاقا مثل كثيرين من الإفرنج الذين يأتون البلاد الشرقية للارتزاق والاكتساب، فينبغي أن لا ندع له سبيلا إلينا. ثم صفق بيديه فدخل الخادم فقال له: ناد سلمى. فدخلت الأميرة سلمى وبيدها كتاب كانت تقرأ فيه، وجلست إلى جانب أمها، فقال لها أبوها: ما قصة هذا الأمير الإنكليزي؟
فاحمرت وجنتاها وخفق فؤادها وقد باغتها سؤال أبيها مباغتة، فلم تدر بماذا تجيب، لكنها كانت سريعة الخاطر تعلم أن سكوتها حينئذ أدل عليها من كلامها وأكشف لسترها، فقالت: لما رأيته كنت مع أمي ولم أسمع منه وعنه إلا ما سمعته أمي ، ولا بد من أن تكون قد أخبرتك بكل ما تعلمه من هذا القبيل.
فجعل يتفرس في وجهها وهي مطرقة إلى الأرض محمرة الوجنتين، فلم يخف عليه أمرها، ولم يشأ أن يزيد ارتباكها، ثم قال: لا بد من أن يكون أحمد عارفا به. والتفت إلى زوجته، وقال: إذا جاء أحمد إلى هنا، فذكريني لكي أسأله عنه، أما أنت يا سلمى، فانظري ما أصاب ابنة عمك، ولا تدعي أحدا يلعب بعقلك، وعلى كل حال لا أسمح لك أن تفعلي شيئا إلا بعلمي، هل تعدينني بذلك؟
فقالت: نعم، ولكن صفا معذورة؛ لأن عمي لم يكن يلتفت إليها، كما يجب على الأب أن يلتفت إلى ابنته وخالتها على ما تعلم.
فقال: إن كانت صفا معذورة فأنت غير معذورة، فإنك تعلمين معزتك علي وعلى أمك، وقد كانت أمك تود أن تعطيك لابن أختها، ولكن لما علمت أنك لا تميلين إليه اعترضتها وأوقفت الأمر.
فقالت الأميرة هند: ولا أزال أود أن تغير فكرها؛ لأنه ليس في كل الشبان مثل أحمد.
أما سلمى فلم تتكلم بشيء بل بقيت صامتة، وعاد أبوها إلى اللعب بالمنقلة، وعادت هي إلى القراءة في الكتاب الذي كانت تقرأ فيه.
وفي اليوم التالي نزل الأمير فارس أبو الأميرة صفا والأمير قاسم عريسها إلى بيروت، وزارا المطران أولا فوجداه عارفا بما جرى للأميرة صفا، وقال لهما إنه لم يكن يعرف ذلك من قبل، فقال الأمير فارس: لقد عرفت الآن وأنت وسيدنا البطرك قادران على إرجاعها حالا.
فقال المطران: إن هذا لا يمكن بعد أن نذرت العفة. فنظر إليه الأمير قاسم نظرة الاستغراب وقال: إن قانون الرهبان والراهبات واحد في كل الدنيا تقريبا، فالذي يدخل الرهبنة يدخل أولا تحت التجربة مدة سنة أو سنتين، ويحق له أن يترك في هذه المدة.
فقال المطران: هذا قانون رهبنتنا، ونحن لا نعلم قانون رهبنتهم، وعلى كل حال أنا لست مسرورا بهذا العمل، وقد كتبت إلى سيدنا البطرك ليعترض عليه، وأنا اعترضت عليه بنفسي؛ لأننا لا نسر بمداخلة الرهبنات اللاتينية في طائفتنا، ومع ذلك لا أقدر أن أعدكم بنجاحنا.
فقال الأمير فارس: نحن ذاهبان إلى قنصل فرنسا، فما رأي سيادتك في ذلك؟
فقال: لا بأس اذهبا إليه وهو قادر على مساعدتنا إذا أراد.
فقال الأمير فارس: إن لم يساعدنا، فأنا أعرف كيف أفسد لهم الطبخة.
فاضطرب المطران من هذا الكلام وقال: ماذا تقول يابني؟! لا تخلط شعبان برمضان، هذه مسألة وهذه مسألة، فمسألة ابنتك مسألة دينية عائلية، ومسألة الجبل مسألة سياسية، وهذه هي الفرصة الوحيدة لنا للتخلص من هذه الحالة التي لا تحتمل، فأرجو أن لا تحركوا ساكنا.
فقال الأمير فارس: سياسية أو غير سياسية، فأنا لا أسكت ما لم تردوا لي بنتي.
فأطرق المطران وهو ماسك لحيته بيده يفكر في الأمر، ثم قال للأميرين: انتظراني هنا حتى أذهب وأقابل القنصل.
ونادى قواسه ولبس جبته وسار إلى قنصلاتو فرنسا، فقابله القنصل بالترحاب وتذاكرا مليا ثم وعده خيرا.
الفصل الخامس عشر
كشف الغامض
اثنان من العملة دخلا مغارة بين الشويفات وكفر شيما، ظاهرها قبر بسيط باب في الصخر الكذان الأبيض، عرضه نحو ثلاث أقدام وعلوه نحو أربع، وقد علاه الطحلب، وعلت النباتات حوله، حتى كادت تسده من الأقحوان والشوكران وبخور مريم، وأينعت السراخس داخل المغارة من كل ما يكره الشمس ويحب الظل، وكان مع العاملين أدوات الركس مران ومجرفتان، وهما أخوان أتيا ليغرسا نصب التوت حيث كان التين مزروعا؛ لأنهما رأيا الحرير أربح من التين، وهما مالكان لتلك الأرض مثل سائر أبناء لبنان؛ لأنه قلما يخلو أحد منهم من ملك يعمل به وكثيرا ما ينقب البور ويفتت الصخر ويزرع في فتاته تينة أو كرمة أو توتة أو زيتونة.
واستمر وقوع المطر ساعة من الزمان فاضطرا أن يبقيا في المغارة كل تلك المدة، وصارت عيونهما ترى ما لم تكن تراه أولا؛ لأنها اعتادت الظلام فاتسعت حدقاتها، وجمعت النور القليل المنعكس عن جدران المغارة فانتبها إلى حفرة في داخلها كأنها باب مغارة أخرى، فقاما إليها وجعلا يحفران فأزالا التراب، وإذا هما بباب آخر كالباب الأول ولكنه مسدود بحجر كبير.
فتعاونا عليه ونزعاه من مكانه، ودخلا المغارة الثانية وهي أكبر من الأولى، وكان الظلام حالكا فيها إلا حيث يدخلها قليل من النور من الباب الذي فتحاه، فمشيا فيها وعثرا بما ظناه عظاما فاقشعر بدناهما ووقفا حائرين، ثم اعتمدا على أن يرجعا الحجر إلى مكانه، ويعودا بعد الظهر ومعهما شمعة، فعادا بعد الظهر ولم يكن أحد يشك في أنهما عائدان لزرع نصب التوت بعد انقطاع المطر؛ لأن الأرض أرضهما وكانا يزرعان التوت فيها، ودخلا المغارة وفتحا الباب الداخلي ثانية وأنارا الشمعة، فدهشا مما رأيا فيها؛ فإنهما رأيا عظام عشرين أو ثلاثين جثة، وبعض تلك الجثث لم يكن باليا بل كان جافا مسودا، ومع بعضها أسلحة قديمة: دروع وسيوف وفئوس وخوذ، كأن الذين وضعوا القتلى هناك من أصدقائهم لا من أعدائهم، أو كأن الفرصة لم تسمح لهم لسلبهم فألقوهم في المغارة بأسلحتهم.
فاتفق الأخوان على أن يسدا الباب الداخلي كما كان ويعودا في الليل، فيأخذا الأسلحة شيئا فشيئا حتى لا يشعر بهما أحد، فسداه وخرجا وكانت السماء قد صحت، فعادا إلى غرس نصب التوت ووضعا الشمعة على حجر إلى جانب باب المغارة.
ومر بهما الأمير أحمد حينئذ، وكان قد خرج للصيد وحده، فوقفا للسلام عليه فحانت منه التفاتة إلى باب المغارة؛ لأنه لم ينس غرض السر هنري بدمونت، فرأى الشمعة موضوعة على الحجر، فسألهما عنها فارتبكا في الجواب، فوقف مشتبها بأمرهما وطلب منهما أن يصدقاه الخبر، فجعل كل منهما ينظر إلى أخيه، وكانا كلاهما من حزبه يركنان إليه، فلم يريا لهما بدا من إخباره بما رأيا في المغارة الداخلية، فدخل معهما وأزاحا الحجر، وأوقدا الشمعة فرأى ما رأياه وقال: لا بد وأن تكون جثة جد السر هنري بين هذه الجثث، لا سيما حينما رأى الأسلحة قديمة، نعم إن الصدأ كان قد أكلها، ولكن شكلها لا يزال ظاهرا، وهي من الأسلحة القديمة التي كانت تستعمل في عهد الصليبيين.
فأمرهما أن يسدا المغارة ولا يخبرا أحدا أبدا ، ووعدهما بمشتري كل ما وجداه فيها، وعاد إلى داره وهو حائر في أمره: هل يخبر السر هنري بما رأى فيكثر تردده على كفر شيما والشويفات ويرى سلمى فيزيد ميلها إليه وحبها له، أو يكتم الأمر عن كل أحد ويقنع السر هنري أن التفتيش عن جده في تلك الجهات ضرب من العبث، وعليه أن يفتش عنه في جهات أخرى. فقام في نفسه عاملان متنازعان: عامل الشهامة وكرم الأخلاق يقول له: هذا رجل غريب، وقد التجأ إليك واستنجد بك، وقد صار في طاقتك أن ترشده إلى ما استعان بك عليه، فيجب أن تلبي طلبه وترسل تخبره بما اكتشف هذان الرجلان وجزاؤهما عليه، وإلا فأنت لئيم لا نجدة لك. وعامل الحب والأثرة يقول له: هذا مناظرك في حب ابنة خالتك، ويجب عليك أن تبعده عنها بكل طاقتك، ولا تدع له سبيلا للتردد إلى هذه الجهات فتنساه وتعود إليك. فتقول له الشهامة: إن كانت ابنة خالتك قد فضلت هذا الأجنبي عليك فلا خير فيها لك، ويجب عليك أن تسلوها وتنساها. فيقول الحب: هذا اغترار بالظواهر، فقد اغترت به وقد لا تخطر على باله أبدا، فإذا لم تعد تراه نسيته ونجت من ورطة كان يمكن أن تقع فيها، فيجب عليك أن تبذل كل واسطة لنجاتها منها.
وبعد جدال طويل على هذا النمط تغلب عامل الحب على عامل الشهامة، فصمم على أن يحضر الأسلحة إلى داره ويخفيها فيها ويسد المغارة ويطمس معالمها، فاستدعى الرجلين وأمرهما أن يأتياه بكل ما يمكنهما حمله من الأسلحة، ثم يسدا المغارة ولا يخبرا أحدا، وأعطى كلا منهما عشرة ريالات، فقبلا يده وذهبا وجعلا ينقلان الأسلحة في حالك الظلام، واكتفيا بنقل السيوف والخوذ، وأما الدروع فتركاها في مكانها، وسدا باب المغارة جيدا وغرسا شجرة أمام بابها تمنع الدخول إليها.
وفي تلك الليلة جاء كتاب إلى الأمير أحمد من الكولونل روز يدعوه فيه إلى بيروت، فود أن يطلع أولاد عمه عليه، ولكنه خاف من غيرتهم؛ لأنهم كانوا يغارون منه لمكاتبة القنصل له دونهم ، وكان يود أن يشركهم في المسئولية معه، فوقع بين نارين، ونام تلك الليلة وهو على أحر من جمر الغضا؛ لا يستطيع أن يخالف الوالي ولا أن يعادي القنصل، ولا يريد أن يقابل السر هنري؛ لئلا يسأله عما إذا كان قد عرف شيئا عن المغارة أو بلغه شيء عنها؛ لأنه كان قد وعده بمداومة البحث والتنقيب، وكانت الشرور قد تفاقمت، وعزم الناس عزما أكيدا على إيقاد نار الفتنة، وكانوا ينتظرون انقطاع المطر، وأهالي الساحل يودون أن ينتهوا من موسم الحرير قبلما يحدث شيء.
وقام في الشويفات في ذلك الحين شاب من النصارى اسمه كامل؛ جريء الفؤاد، قوي الساعد، لا يخطئ رصاصه من يسدده إليه، اجتمع عليه مرة ستة وحصروه في مطحنة، ففتك باثنين منهم ونجا من يدهم، وانتقل إلى المتن وجعل دأبه ربط الطرق وشن الغارات.
وكان النصارى يحسبون أن الفوز سيكون لهم حتما؛ لأنهم فازوا فوزا مبينا في الحركة الأولى في بيت مري التي حدثت في الصيف الماضي، وأتت الرجال من كسروان وهي بالسلاح الكامل، وأقامت في بعبدا تشجيعا لنصارى الساحل، فخشي الأمير أحمد أن يذهب بطريق الحدث، فيلتقي بكامل هذا أو بأحد من أتباعه، فيحدث ما لا تحمد عقباه، فاختار طريق البرج. ووصل إلى دار الكولونل روز نحو الساعة العاشرة صباحا على جاري عادته، فرحب به الكولونل وأجلسه إلى جانبه، ورحب به السر هنري أيضا، وكان الكولونل قد أرسل واستدعى اثنين آخرين من مشايخ الدروز الذين يثق بهم، فوصلا بعد وصول الأمير أحمد بنحو ربع ساعة، ولما استقر بهم المجلس وشربوا القهوة قال لهم الكولونل: لقد بلغني أن الوالي أبلغكم الأوامر التي وصلته من الأستانة، فأنا أؤكد لكم أن هذه الأوامر غير صحيحة، وأن الذين بعثوا بها إليه غير مسئولين عما يفعلون، أو هم جهلاء يعرفون مصلحتهم ومصلحة بلادهم؛ لأن الحركة التي أمركم بها ستعود عليكم بالوبال وتجر الشر على رءوسكم، فاسمعوا مني وأخبروا عقالكم لينصحوا جهالكم، وإلا فالخطب جلل.
فجعل الشيخان ينظر كل منهما إلى الآخر، أما الأمير أحمد فكان خالي الذهن؛ لأن الوالي لم يعد يأتمنه، فلم يطلعه على تلك الأوامر مع أنه أرسلها إلى أولاد عمه، لكن كبر عليه أن يتظاهر بجهلها أمام الشيخين، واستنتج ماهيتها من كلام الكولونل، فقال: لقد قلنا لسعادتكم قبلا إننا نحن لا نكون البادئين، ولكنهم إذا أحرجونا أخرجونا. فوافق الشيخان على كلامه.
ولحظ القنصل أن الأمير أحمد يتكلم وهو غير عالم بمفاد الأوامر، ولكنه لم يشأ أن يظهر ذلك أمام الشيخين، فقال لهم: إني أنذرتكم وبينت لكم وخامة العاقبة؛ حتى إذا تخلت عنكم دولة إنكلترا لا يكون عليها لوم.
وكان أحد الشيخين كبير السن وقور المنظر، فقال له: اسمع يا سعادة القنصل، نحن نعلم أن دولة إنكلترا تحبنا وتودنا وتدافع عن حقوقنا، ولكن ذلك كله يتوقف على رأي سفيرها في إسطانبول وقنصلها في بيروت، والسفراء والقناصل يتغيرون كل سنة أو كل بضع سنوات، وأما دولتنا فلا تتغير وسياستها معنا صارمة كما لا يخفى، فإذا لم نطع أوامرها أوقعتنا في ألف مهلك، ودولتكم أقوى منا، وكما منعت إبراهيم باشا المصري عن البقاء في هذه البلاد، يمكنها أن تمنع رجال دولتنا عن إلقاء الفتن فيها، فإذا كنتم تريدون أن توقفوا هذه الحركة فلا أسهل عليكم من أن تأتوا بمركبين حربيين وتهددوا بهما بيروت، وترسلوا فرقة من عساكرهما إلى الشام فيقف كل واحد عند حده، ولا يخفى على سعادتك أن الحركات التي تصير في لبنان أكثرها ليس منا، بل من غيرنا، فإذا أوصيتم كل أهالي الجبل حتى يلزموا السكينة، لم يحدث فيه شيء، ونحن قد نزلنا إلى بيروت خوفا من القلاقل، ونؤكد لسعادتك أن البلاد كلها منتظرة الشهر التالي، ولا بد من قومة عامة إذا كانت بقية القناصل لا توجب على النصارى أن يلزموا جانب السكون.
فقال القنصل: وما هي هذه الأوامر التي أطلعكم الوالي عليها؟
فقال أحدهما: يصعب علينا أن نجيب سعادتك على هذا السؤال، ولكن لا بد ما يكون سفيركم في إسطانبول قد وقف عليها كلها.
ولم يكن السفير عارفا بها ولا مهتما بالوقوف عليها، واستحى الكولونل أن يخبرهم بذلك، وكان واثقا أن الأمير أحمد لا يعلم بها والشيخين لا يفشيان سرا اؤتمنا عليه، فلم يلج عليهما، لكنه فهم من مغزى كلامهما أن الأوامر ذات شأن خطير كما قيل له، ورجا أن يأتيه من يخبره بها حرفيا؛ لأنه كان يقول إن السياسة تقضي على المرء أن يعرف مقاصد خصمه بكل واسطة، حتى يتلافى الضرر قبل الوقوع فيه، إلا أنه ود أن يعرفها ذلك اليوم؛ ليكتب مع البريد يخبر وزارة الخارجية، ورأى أن الشيخ مصيب في طلب مركبين حربيين، وعزم أن يكتب بذلك إلى حكومته، ولو وقف على الأوامر السرية التي بلغه خبرها لفعل ذلك حتما.
ولما انتهت المذاكرة نهض الأمير أحمد ونهض الشيخان لنهوضه، فودعوا وركبوا خيولهم، وساروا؛ الأمير أحمد إلى بيت عمه، والشيخان إلى بيتيهما؛ لأنهما كانا قد شتيا في بيروت تلك السنة هما وكثيرون من مشايخ الجبل على خلاف العادة، وكان لا بد لهم من المرور تجاه بيت الشيخ درويش أبي فخر، وكأنه كان جاسوسا عليهم يرقب حركاتهم وسكناتهم فوقف في باب بيته وسلم عليهم، وطلب منهم أن ينزلوا ويشربوا فنجان قهوة، فاعتذروا إليه بضيق الوقت وبقرب آذان الظهر، فمسك بلجام فرس الأمير أحمد وقال: علي الطلاق إن لم تنزلوا وتشربوا فنجان قهوة. فاضطروا أن ينزلوا، فأدخلهم بيته وأجلسهم حيث أجلس الأمير ونادى بالقهوة، وجعل يقص عليهم ما سمعه من الوالي من المدح والثناء على الأمير أحمد وذكائه، قال: وقلت لدولته إن الأمير أحمد ابن أبيه، وأبوه كان صديقي، والصداقة قديمة بيننا، أنتم الآن آتون من عند قنصل الإنكليز، لا بأس؛ فإن الإنكليز أصدقاء لدولتنا العلية هم والفرنسوي حالفوها على حرب المسكوب، ولكن يرى لي أن السياسة انقلبت اليوم؛ فإن أفندينا الوالي ما عاد يركن إلى قنصل الإنكليز، لم يقل لي ذلك صريحا ولكنني فهمت منه، أنا ألقطها طائرة! ونحن ما لنا وللقنصل ولكل الإفرنج ما دام دولتنا في الوجود، ما هو رأي القنصل؟! قل لي يا أمير أحمد، الظاهر أنك لا تستخلصني كما كان يستخلصني المرحوم والدك.
فقال الأمير أحمد: ليس الأمر كذلك يا أبا فخر، ولكنك أنت عارف بكل شيء، والذي لا تعلمه بالسمع تستنتجه بذكاء عقلك.
فضحك أبو فخر وقال: هكذا كان المرحوم أبوك يقول عني، نحن أحباب من زمان طويل، وحضرة الشيخين معرفة مباركة إن شاء الله، تفضلوا خذوا القهوة، هذا بن حجازي يأتيني هدية كل سنة، لا مثيل له في كل بيروت ولا في الشام، وعندي جارية اشتريتها من جواري أسعد باشا كأنها مخلوقة لعمل القهوة فلا أطيب من قهوتها، وهي تدق البن في هاون خشب ولا تدقه في هاون نحاس لئلا يفسد طعمه - كل شيء صنعه - يقال إن قهوة البدو أطيب من غيرها، شربتها في السنة الماضية لما أتى الفضل إلى بلاد الحولة، ذهبت إلى هناك من قبل الوالي لبعض الأشغال، وكنت أشرب من قهوتهم فلا أراها أطيب من قهوة الجارية التي عندي، ماذا تقول يا حضرة الشيخ، هل شربت قهوة أطيب من هذه القهوة؟ والفناجين والظروف الأمير أحمد يعرف قصتها، زارني الوالي في رمضان لكي يشرب من هذه القهوة، ولما رأى الفناجين ابتهج لها، وإلى الآن يقول إنه ما شرب مثل القهوة التي شربها في بيت الشيخ درويش.
فقال أحد الشيخين: نعم القهوة كما وصفت يا حضرة الشيخ، ونحن مسرورون بهذه المعرفة الجديدة والفضل فيها لسعادة الأمير. وصادق الشيخ الآخر على كلامه ونهضوا، وبعد اللتيا والتي تمكنوا من وداعه وركبوا وساروا في طريقهم، والأمير أحمد يقول: لا بد لنا أن نجد طريقا آخر نمر به بعد الآن حتى نخلص من هذا الثقيل.
وسار الأمير أحمد إلى بيت عمه والشيخان إلى بيتيهما، وافترقوا على أن يجتمعوا في المساء في خلوة رأس بيروت، ويتداولوا فيما يجب عليهم عمله في الأحوال الحاضرة.
الفصل السادس عشر
استفحال الخطب
أرى خلل الرماد وميض جمر
ويوشك أن يكون له ضرام
فإن النار بالعودين تذكى
وإن الحرب أولها الكلام •••
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم
وما هو عنها بالحديث المرجم
متى تبعثوها تبعثوها ذميمة
وتضر إذا ضربتموها فتضرم
فتعرككم عرك الرحى بثقالها
وتلقح كشافا ثم تحمل فتتئم
فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم
كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم
فتغلل لكم ما لا تغل لأهلها
قرى بالعراق من قفيز ودرهم
ليقل محبو السلام ما شاءوا في مذام الحرب، وليطنب كتابهم في وصف ويلاتها، فما دام في الدنيا أناس يتجرون بالحروب ويكتسبون بها اسما وجاها أو مالا ومقاما، فهم يوقدون نارها ويذكون أوارها، فهي آلة الملوك والوزراء والقواد والرؤساء والمرابين والموردين وصانعي الأسلحة والمهمات وكل المرتزقين من مال غيرهم، فما دام هؤلاء يجدون فيها مغنما فلن تنطفئ نارها.
وشر الحروب الحرب الأهلية، وشر الناس موقدو سعيرها، ولا سيما إذا لم يكن للمتحاربين مصلحة فيها.
مضى الشتاء وجاء الربيع فانتعشت الطبيعة، ولبست أبهى حللها وحلاها، تفجرت الينابيع، واكتست الرياض والغياض أثوابا سندسية مطرزة بالوشي المعلم، وانحنت الأدواح تحت حملها من تفاح فضي ومشمش عسجدي، والطيور تتغنى في أفنانها، وعبق أريج الأزهار يعطر الآفاق ويسلي النفوس عن أشجانها. أستغفر الله، الطبيعة من نبات وحيوان جذلة طربة، إلا ابن آدم انتظر انقطاع الأمطار لكي يبدلها بوابل من رصاص بنادقه يخطف بها النفوس من الأبدان قضاء للبانات أفراد معدودين.
وصلت الأخبار إلى الكولونل روز أن الرزيئة وقعت والنار اشتعلت، وقد طرح الصوت وأطلق المدفع، وانفض رجال كسروان من الساحل إطاعة لأمر الوالي والمطران وعادوا أدراجهم، واجتمع الدروز حول مشايخهم وهجموا على قرى المتن، فالتقاهم النصارى خائري العزائم؛ لأن الجنود في الحازمية وراءهم، وقد خافوا أن يقعوا بين نارين، لا سيما وأنه كان قد شاع وذاع أن في يد الوالي أوامر سرية باستئصال شأفتهم.
وصعد السر هنري بدمونت إلى سطح القنصلية والنظارة في يده، فرأى كأن ربى لبنان استحالت إلى براكين كثيرة تقذف الدخان والنيران من أفواهها، وقام أبناؤه زرافات زرافات مشاة وفرسانا، وقد نشروا الأعلام وانتشروا حول القرى يهاجم بعضهم بعضا ويترامون برصاص البنادق من وراء المتاريس، ثم يستلون السيوف ويردون الحتوف إلى أن يتغلب فريق على فريق ، فيدحره ويضرب في أقفيته ثم يضرم النار في مساكنه، والتفت إلى كفر شيما حيث دار الأميرة سلمى، فرأى الدخان مسردقا فوقها، فوقعت النظارة من يده وجلس على كرسي، وسند رأسه وقد مر في ذهنه صور الحروب القديمة التي كانت تنشب في تلك البلاد وتنتهي بحرق البيوت وسبي النساء والذراري، فقال في نفسه: ترى ما حل بتلك الأميرة؟ وأي فارس أردفها وراءه الآن وهي تنادي وتستغيث ولا سامع ولا مغيث؟ هل يفعل ما كان يفعله الفرسان في القرون الوسطى، فيتقلد سلاحه ويركب جواده ويبادر لإنقاذها، يهجم على الفارس الذي خطفها ويطعنه طعنة تكون القاضية؟ ولكن أنى له ذلك الآن وهو غريب في بلاد غريبة، وقد قضي الأمر وكادت جموع الفارين تصل أبواب بيروت؟ وهل بقي الأمير عباس وأهل بيته في كفر شيما إلى أن هاجمها الأعداء أو غادرها في الليل الغابر؟ وهل ركب مع أتباعه وقاوم الأعداء، فدارت الدائرة عليه، أو رأى أن المقاومة ضرب من المحال فأركن إلى الفرار؟
وكان الكولونل روز مصابا بزكام شديد وحمى وهو طريح الفراش، فنزل السر هنري وأخبره بما رأى، فتململ في سريره وتحفز للقيام، ولكن أصابته نوبة سعال صرفته عن عزمه، فقال: نالوا بغيتهم، أتوا بالرجال من كسروان لتشديد العزائم ثم صرفوهم لحلها، وأرسلوا الجنود إلى الحازمية لتسكين الخواطر وهم يعلمون مع من ضلعها، وأولئك الحمقى من أمراء ومشايخ مغترون بالمواعيد، ولا يعلمون أن الدائرة ستدور عليهم أخيرا ولو كان النصر لهم، وقد أخلصت لهم النصح فما انتصحوا.
ثم عاودته نوبة السعال فعجز عن الكلام، وحضر الترجمان حينئذ، وقال للسر هنري: إن الفارين من قرى الساحل قد وصلوا إلى بيروت وهم في حالة يرثى لها، وكلهم نساء وأولاد مع بعض العجائز، ولا طعام لهم ولا شراب، ولا يعلمون إلى أين يذهبون، فاتجه فريق منهم إلى دار مطران الموارنة، وفريق إلى دار بطركخانة الروم، وانتشر كثيرون منهم في بساتين التوت في حي المصيطبة وبير النبع، ولا بد لنا من مساعدتهم بما يفرج كربتهم، وإن كنا لا نحمل الوالي تبعة كل ما يحدث في المدينة، فلا أمان عليهم ولا علينا، كيف حال القنصل الآن؟
السر هنري :
القنصل على حاله، وأنت أدرى مني بالخطة التي يجب أن نجري عليها في هذه الحال، فأخبرني بما ترتئيه وأنا أستشير القنصل به، ألم يأت الرجال مع الهاربين؟
الترجمان :
لم أر إلا قليلين منهم والباقون لا يزالون يناوشون خصومهم ويدافعون عن حريمهم، ولا بد أن يبلغ عدد القتلى والجرحى مبلغا كبيرا؛ لأن القلوب ملآنة والناس لا يعرفون نظام الحروب.
ودد السر هنري أن يذهب ويختلط بجموع الهاربين ليفتش عن الأميرة سلمى، ولكنه كان يجهل كل طرق الاستدلال عليها، وخاف أن يسأل الترجمان كما يخاف من يحاول منكرا، ويرى العيون رقيبة عليه، ثم لام نفسه؛ لأنه فكر بأمر خاص وقتما يجب عليه أن يهتم إلا بالأمر العام وبالبلية الكبرى التي تشتمل ألوفا مثل الأميرة سلمى، وقد تكون هي أسعد حالا منهم كلهم، فجلس مشرد الأفكار ينظر إلى السقف مرة وإلى الأرض أخرى.
وسار الترجمان إلى الدار التي يجتمع فيها المرسلون الأميركيون ليستشيرهم في الأمر، وهو عازم أن يذهب بعد ذلك ويرى قنصل فرنسا وقنصل روسيا، ثم يعود ويخبر السر هنري بما وقف عليه.
الفصل السابع عشر
واقعة الساحل
لما كان السر هنري واقفا على سطح القنصلية يرى الدخان يتصاعد عن سفح لبنان من قراه المنتشرة كالحبب على وجه الماء أو كالدراري في كبد السماء؛ كان رجال الساحل قد أحبوا الليل بالاستعداد لمقابلة الأعداء، وانقسموا فريقين: فريقا تولى حماية النساء والأولاد، والذهاب بهم إلى مدينة بيروت مع ما خف حمله وغلا ثمنه من الأمتعة؛ وفريقا تسلح وودع أهله وأقاربه وداعا قد لا يعقبه لقاء، فكنت ترى هنا طفلا متعلقا بثياب أبيه، وهو يقول له: كيف تتركنا يا أبت؟! ومن يبقى مع أمي وأخواتي؟! وأبوه يرفعه بيديه ويقبله، ثم يسلمه إلى أمه ويوصيها به، وهناك امرأة تربط زنار الفشك «الخرطوش» على وسط زوجها، وتناوله بندقيته ويطقانه وهي تنظر إلى وجهه تارة وإلى أطفالها أخرى ، وترفع قلبها إلى الله وقديسيه ليردوا لها زوجها سالما، وهنالك رجلا يودع ابن عمه ويقول له: أودعك يا أخي المرأة والأولاد. فيجيبه ذاك: بأمان الله، كن مستريح البال فهم مثل أولادي وأعز. وأكثر الأولاد نيام يوقظهم أمهاتهم فيفركون عيونهم ثم ينامون، والنساء الجبارات يحملن جرار الماء ليجرين وراء الرجال، والجمال باركة تهدر والناس يحملون عليها أمتعتهم، وهم يتآمرون فيما يجب أخذه وما يجب تركه، والمكارون يسبون ويشتمون وقد علت الجلبة واختلط الحابل بالنابل، ووقف العجائز بعضهن يشير بما يجب عمله وينبئ بحسن المصير، وبعضهن يضرع إلى السيدة ومار إلياس، ومار أنطونيوس، وكانت ليلة صفا أديمها وأغنت دراريها عن بدرها، فأشرقت تقابل بين توحش الناس وأنس الوحوش.
ولما طلع الفجر ركب الأمراء وهم بالعدة الكاملة، مع كل واحد منهم سيف وقربينة وطبنجتان، ومشى الرجال معهم ومع كل منهم بندقية ويطقان أو بالة وطبنجتان أو فردان، وسار حملة البيارق في مقدمة الجمع وهم ينشدون الأناشيد الحماسية، ومشوا فرقا فرقا إلى ظهور الوادي وبعبدا ومترسوا هناك، وأشرقت الشمس حينئذ وصبت أشعتها عليهم فكادت تعمي أبصارهم، وقبل أن يتموا إقامة المتاريس، أقبل الدروز عليهم براياتهم البيضاء وأصلوهم نارا حامية، ومرت ساعتان والحرب سجال بين الفريقين، لكن الدروز كانوا أكثر عددا وأحكم انتظاما وأطوع لقوادهم، فأقام فريق منهم يناوش النصارى، ودار فريق من ورائهم، وكاد يقطع خط الرجعة عليهم، ويئس النصارى من الفوز فجعلوا يرتدون القهقرى، وكلما وصلوا إلى مكان تسهل المترسة فيه وقفوا، وأطلقوا بنادقهم على أعدائهم، حتى إذا لم يستطيعوا قهرهم أخروهم عن بلوغ قراهم إلى أن تخرج عيالهم منها، وتصل إلى بيروت.
ودار الحديث التالي بين اثنين من الدروز:
حامد :
من هذا الخيال الذي ينخي رجاله والسيف مسلول بيده؟
محمود :
أتعني راكب الحصان الأزرق أو راكب الحصان الأشقر؟
حامد :
راكب الحصان الأزرق، فإني أراه لا يخاف الموت.
محمود :
هذا الأمير عبد الله وهذا حصانه الأبجر، وهو مثل الأبجر حصان عنتر بن شداد لا مثيل له بين خيول الشهابيين.
حامد :
إن بندقيتك نظامية فلماذا لا تطلقها عليه؟
محمود :
نيشنت عليه مرتين وأنا أرمي العصفور الطائر ولكني لم أصبه؛ لأن المجال بعيد والرصاص لا يصل إليه.
حامد :
لماذا لا يهجم عليه الشيخ حمدان؟ وما هو نفع كحيلان إن كان لا يلحق الأبجر؟!
محمود :
أخ!
حامد :
مالك؟ قم نتبعهم فقد قاموا من أمامنا.
محمود : «الكاتبه ربك يصير» سلم على أم قاسم، وقل لها: ربي ابنك حتى يأخذ بثأر أبيه - يا حمزة يا سيد عبد الله. وارتمى على الصعيد، فجره حامد إلى وراء صخر، ودنا من الشيخ حمدان، وأخبره أن راكب الحصان الأزرق هو الأمير عبد الله عقيد النصارى.
فقال له: ومن أين تعرفه؟
فقال: من حصانه.
فلما سمع الشيخ حمدان ذلك أغمد سيفه، وصلى قربينته، وأغار على الأمير عبد الله وهو يقول في نفسه: كسرنا القوم وقتلنا عميدهم. حتى إذا دنا من الأمير قال له: خذها ولا تقل إني غدرتك وأطلق القربينة عليه، وكان الأمير عبد الله قد تنحى من وجهه، فلم يصبه شيء من حواشها، ثم ارتد إليه والسيف في يده وأطبق عليه وكاد يوقع به، ولكن رآه أربعة من أتباعه وهجموا عليه ببالاتهم فارتد عنه وهو يقول له: إن كنت راعي كحيلان فابرز إلي وحدك فارسا لفارس.
وكان بعض الدروز قد داروا من وراء النصارى، وأضرموا النار في بيوت الوادي وبعبدا وسبنيه، والتفت النصارى فرأوا الدخان يتصاعد من بيوتهم، فأيقنوا أن الجنود المعسكرة في الحازمية لن تدفع عنهم مكروها خلافا لمواعيد الوالي إن لم تكن ممالئة لعدوهم عليهم، فارتدوا إلى بعض الدور وتحصنوا فيها.
والتفت ميخائيل إلى منصور، وقال له: لقد دخل الأمير داره وتحصن فيها، ويظهر لي أننا لا نستطيع أن نصبر أكثر من ساعة، وربما تتعذر علينا النجاة بعد ذلك، فما لنا ولقلة العقل.
منصور :
أيليق بنا أن نترك الأمير وحده في هذه الساعة؟! لا، أنا لا أذهب من هنا إلا رجلي ورجله.
ميخائيل :
هو فارس وأنت راجل، فإذا حميت الحديدة تركك وهرب.
منصور :
هو وشأنه، أما أنا فقد حلفت لأمه أني لا أتركه.
ميخائيل :
أخ!
منصور :
مالك؟! مالك؟! يا مسكين! الذي تأتي ورقته يذهب غصبا عن رقبته. في رأسك؟! رصاصهم عال، هذه الرصاصة من صاحب اللفة البيضاء خذها يا ملعون.
وسدد إليه بندقيته ورماه فلم يصبه، ثم التفت فرأى الأمير خارجا من باب داره ومعه صندوق صغير فتناوله منه وجرى وراءه.
وكانت الشمس قد تكبدت السماء، ورأى النصارى أن الدروز تكاثروا عليهم، وكادوا يحيطون بهم من كل جهة، فأركنوا إلى الفرار، وتبعهم الدروز إلى قرب الشياح، وقتلوا منهم زهاء ثلاثين نفسا، وفي جملتهم الأمير بشير قاسم الملقب بأبي طحين.
ووصلت العيال إلى بيروت في الصباح بعد شروق الشمس بساعة أو ساعتين، وتفرقت في أحياء المدينة، واضطر الأولاد الصغار من ابن ست سنوات فصاعدا أن يسيروا هذه المسافة كلها مشيا على أقدامهم، والرجال الذين ساروا معهم لحمايتهم لقيهم الخفر عند فرن الشباك والميدان، وأخذوا ما معهم من الأسلحة بأمر والي بيروت، فلم يعودوا يستطيعون الرجوع لنصرة إخوانهم.
الفصل الثامن عشر
التفتيش عن الأميرة سلمى
عاد الترجمان من مقابلة المرسلين والقناصل، واجتمع بالسر هنري وتذاكرا مع القنصل مليا، ثم خرج السر هنري مع الترجمان يتعهدان أحوال النصارى الذين وصلوا إلى بيروت ذلك الصباح فارين من وجه الدروز، وكان الرجال الذين أصلوا نار الحرب، وناوشوا الدروز إلى أن تكاثرت جموعهم، واضطروا أن ينهزموا من وجههم؛ قد وصلوا إلى بيروت، وجعلوا يفتشون عن عيالهم، فكانت المرأة التي ترى أن زوجها أو ابنها أو أخاها لم يعد مع الذين عادوا، توقن أنه بين القتلى، فترفع صوتها بالبكاء والعويل، وتجلس تضرب صدرها وتنوح نوحا يفتت الأكباد، واجتمع كثيرات من النساء زرافات زرافات، وقد أسدلن الشعور وجعلن يلحن بالمناديل ويندبن ويبكين، وسمع أولادهم صوت البكاء والنواح فعلا بكاؤهم وعويلهم، وقام الرجال ينتهرونهم لكي يسكتوا أو يشاركونهم في البكاء، واجتمع عليهم نساء بيروت وأولادها يأتونهم بالخبز والماء ويرثون لبلواهم، وكان لأكابر الساحل أصدقاء وأقارب نزلوا عليهم، فوسع هؤلاء لهم في منازلهم وأحلوهم على الرحب والسعة.
وسار السر هنري والترجمان من محلة إلى أخرى يرون الرجال ويستقصون الأخبار، والسر هنري يكتب في مذكرته كل ما يراه ويسمعه، وكان يعلم اسم الأميرة سلمى، ويعلم أنها شهابية، ولكنه نسي اسم أبيها ولم يكن يدري كيف يسأل عنها، فقضى من العصر إلى قرب الغروب ينتقل من محلة إلى أخرى، ومن حي إلى آخر، فلم تقع عينه عليها ولا على أمها ولا على أبيها، فزاد انشغال باله وكاد يبوح بما في نفسه للترجمان لعله يساعده على التفتيش عنها.
وبينما هو في حيرة ولا حيرة الضب، حانت منه التفاتة، فرأى القزم الذي رآه في كفر شيما لما التقي بالأميرة سلمى وأمها على عين الماء بين كفر شيما والشويفات، ورآه القزم فعرفه وجعل يناديه قائلا: يا خواجه يا قنصل. فهش له السر هنري وأخذ بيده، وكادت الدموع تهطل من عينيه لما قابل الحالة التي رآه فيها أولا، وهو يكاد يكون في مجالس أنس الملوك، والحالة الحاضرة والناس مرتمون على الأرض كالأنعام، وأطفالهم يبكون، ويتخاطفون كسر الخبز، وكأنه كان يرى ألف رقيب عليه، فطلب من الترجمان أن يقول للقزم ليأتي معه إلى دار القنصلية ويقص عليه ما حدث لهم، فقال له الترجمان: إن القنصل يدعوك للذهاب معه إلى دار القنصلية. فقال: حبا وكرامة. وكان القواسة قد أحضروا له فرسا وللترجمان فرسا آخر، فركبا وعادا إلى دار القنصلية، وعاد القواسة بالقزم إليها.
وجعل الترجمان يسأله عن الأمراء واحدا واحدا إلى أن وصل إلى اسم الأمير عباس، فقال: إن الأمير عباسا تخاصم مع الوالي؛ فإن الوالي طلب منه أن يوافق الدروز ويكون معهم لأنه مسلم، فرفض ذلك وذهب بزوجته وأولاده إلى أبناء عمه أمراء حاصبيا منذ أربعة أيام. ثم التفت إلى السر هنري، وقال له: والأميرة سلمى معهم. ففهم السر هنري اسم سلمى، واستفهم من الترجمان عما قاله، فترجمه له، فأظلم الضياء في عينيه، ولم ينتبه الترجمان لذلك، ولكن القزم انتبه له وقال: إني رأيت الأميرة سلمى يوم ارتحلوا، وكانت تشير على أبيها أن ينزلوا إلى بيروت ، وتؤكد له أن قنصل الإنكليز يحميهم، وهو مصر على الذهاب إلى حاصبيا ووادي التيم، ولما فرغت حيلتها جعلت تبكي وتتوسل إلى أمها لكي تقنع أباها بالنزول إلى بيروت أو بالذهاب إلى الشويفات إلى بيت خالتها؛ لأن الأمير أحمد أرسل يدعوهم إليه، ولكن الأمير عباسا رجل عنيد لا يسمع رأي أحد.
ثم قال القزم للترجمان: قل للقنصل إن الأميرة سلمى تحبه وكانت تريد أن تنزل إلى بيروت لأجله. فأبى الترجمان أن يترجم هذا الكلام للسر هنري، لكن السر هنري طلب منه أن يترجمه له فترجمه له فتضاحك، وقال: قل له من أين عرفت ذلك؟ فقال: أجبه أن العصفورة أخبرتني، وأنا وإن كنت صغير الجسم لكن عمري أربعون سنة، وأنا أضحك الناس وأضحك عليهم؛ لأني أعرف ضمائرهم وأقرأ أفكارهم في وجوههم وحركاتهم، فإننا لما كنا على النجمة ورأيته واقفا أمامها، قرأت في عينيها وعينيه رسائل الحب بينهما، وقل له إن الأميرة سلمى في حاصبيا الآن، ولا أمان عليها هناك؛ لأن أمراء حاصبيا مع النصارى، ولا بد ما تدور الدائرة عليهم، وليس لهم هناك مدينة يلجئون إليها مثل بيروت، فإن كان يحبها حقيقة فليبذل جهده في إنقاذها.
ثم نظر إلى السر هنري، وجعل يكلمه بالإشارات، ففهم السر هنري بعض مراده وزاد انشغال باله، وقال في نفسه: إن هذا الرجل المشوه الخلقة أذكى فؤادا من أكثر الذين رأيتهم في حياتي. فطيب خاطره وأخرج من جيبه قبضة من النقود الفضية وأعطاه إياها، وعرض عليه أن يبقى في القنصلية وينام مع الخدم إذا أراد، فقبل ذلك شاكرا، وصار دأبه التردد على النازحين إلى بيروت والمجيء بأخبارهم، فكان من أفضل المخبرين وأذكاهم فؤادا وأكثرهم تدقيقا وأصوبهم رأيا.
وكان السر هنري يسمع ما يأتي به من الأخبار، وهو يفكر في الأميرة سلمى وما يحتمل أن يصيبها في حاصبيا إذا وقع بها ما يخشى وقوعه، أو إذا لجأ بها أبوها إلى عرب البادية فتاهوا في القفار وغزا بعضهم بعضا وأخذت سبية، وقد يراها أمير من أمرائهم فيتزوج بها رغما عنها ، وراجع ما كتبه قنصل صيداء عما بلغه من أخبار حاصبيا، فوجد أن الفتنة ابتدأت فيها، ولا أمان على الأمراء الشهابيين الذين هناك ولو كانوا مسلمين، ولكن الحول والطول في تلك الجهات للست نائفة أخت الشيخ سعيد جنبلاط، فعزم أن يكتب إليها لكي تحمي الأمير عباسا وعائلته، ولكنه عاد وتذكر ما قاله له القزم وهو أن الأمير عباسا عنيد، ولا يرضى أن يحتمي بأحد من الدروز، فرأى أن لا فائدة من الكتابة.
ولا أشد على المرء من أن يرى نفسه مغلول اليدين لدى أمر يسهل عليه عمله ولكن لا سبيل له إليه، فلو جاء الأمير عباس إلى بيروت لكانت حمايته وحماية كل الذين يلوذون به من أسهل الأمور على السر هنري، ولو كان الوالي ضده، ولكنه اختار الذهاب إلى مكان في داخلية البلاد دون الوصول إليه خرط القتاد.
وكانت هذه الأفكار تتردد في بال السر هنري وهو يتناول عشاءه، ولحظ الكولونل اضطرابه، فظن أن ذلك ناشئ عما شاهده ذلك اليوم مما ينفجع له المرء، فلم يشأ أن يسأله عنه، ثم استطرد الحديث إلى أحوال اللاجئين إلى بيروت، فتكلم السر هنري كلاما مجملا دل على أنه كان مشغول البال بأمر آخر.
الفصل التاسع عشر
النار ولا العار
ومن يخش أطراف الرماح فإننا
لبسن لهن السابغات من الصبر
وإن كريه الموت حلو مذاقه
إذا ما مزجناه بطيب من الذكر
وما رزق الإنسان مثل منية
أراحت من الدنيا ولم تخز في القبر •••
ألا ربما كان التصبر ذلة
وأدنى إلى الحال التي هي أسمج
وقد يركب الخطب الذي هو قاتل
إذا لم يكن إلا عليه معرج
لا أثقل على نفس الحر من الصنيعة يسديها إليه من ليس أهلها، ولا من الانقياد لرأي ترى من نفسك بطلانه، هكذا كان شأن الأمير عباس حينما بعث إليه الأمير أحمد يدعوه إلى الشويفات ليقيم في حماه، فإنه لما أخبرته زوجته الأميرة هند بكلام الرسول هز رأسه، وقال: الله الله! صار ابن شهاب يحتمي بابن أرسلان! لا وتربة أجدادي . ثم نادى بغلمانه وقال: استعدوا للسفر فإننا ذاهبون إلى حاصبيا. وقال لزوجته: لا يمكنني الذهاب إلى الشويفات والالتجاء إلى بيت أرسلان ولا النزول إلى بيروت؛ لأن الوالي، على ما تعلمين، قد سفهت رأيه وحذرته عواقبه فحقد علي؛ ولا البقاء هنا؛ لأنه لا بد للدروز من مهاجمة الساحل، ولا يستطيع النصارى أن يثبتوا في وجههم بعد أن كفل الوالي لهم الفوز، فقولي للأولاد أن يكونوا على استعداد، فنذهب إلى أولاد عمنا في حاصبيا ووادي التيم، فإنهم بعثوا يلحون علينا بالذهاب إليهم، وربما ذهبنا من هناك، ونزلنا على عرب الفضل، فإن الأمير عمر الفاعور أرسل إلي مرتين لنذهب إليه، ونحن باختيارنا منازل البدو على غيرهم نكون قد عدنا إلى أصلنا، أو كما يقول المثل أكلنا الفول وعدنا إلى الأصول.
وكان الشهابيون في كفر شيما والحدث وبعبدا مرتابين في أمره؛ هل ينتصر للدروز أو ينتصر للنصارى. ولكنهم لم يكلموه في هذا الموضوع، وهو كان يعلم أن الحرب الأهلية تئول إلى إضعاف أهالي لبنان كلهم، فيتمكن ولاة الدولة من إذلاهم، وكان يسفه رأي القائلين بها والحاثين عليها، وأفضى الجدال بينه وبين والي بيروت إلى المغاضبة، لكنه طلع بسواد الوجه مع الفريقين، فلا هو أرضى الدروز ولا هو أرضى النصارى، وارتاب كلاهما في إخلاصه، وأقام يرقب تغير الأحوال، وتفاقم الخطوب، وكلما حانت له فرصة وبخ القائمين بهذه الفتنة وسفه رأيهم، وهو لا يوقر كبيرا، ولا يحترم ذا مقام، حتى مطران الموارنة صديقه الحميم اغتاظ منه وكف عن زيارته، وبقي يحسب أن الوالي يرى وخامة العاقبة، فيأمر الفريقين بالتزام جانب السكينة، أو يكون على المعتدي مع المعتدى عليه، إلى أن جاء الرسول من عند الأمير أحمد يطلب منه أن يلجأ إلى داره ليحتمي فيها، وكان يعلم أن الأمير أحمد رجل جد لا يقول إلا ما يعني، ولا يكلمه إلا بالوقار التام، فثبت له حينئذ أن الشر واقع لا محالة، وأن الدروز واثقون بالفوز في هذه النوبة، وهم لا يثقون هذه الثقة إلا وقد أكد لهم الوالي أنه ينصرهم بالجنود، وترجح له حينئذ ما كان قد سمعه، ولم يصدقه؛ وهو أن الوالي اشترى رؤساء الدروز بالأموال الطائلة، واستأجرهم لهذا العمل استئجارا، ولما رآهم ممتنعين عن إجابة طلبه برأي بعض عقالهم، حذرهم سوء العاقبة، وقال لهم: إن الأموال التي عرضتها عليكم أعطيها لخصومكم، وأساعدهم عليكم إن أنتم أصررتم على رفض طلبي. لأن غرضه كان إثارة الفتنة على كل حال عملا بمشورة الحزب الناقم على الحكومة في الأستانة، وقد عمل بعض الدروز برأيه مكرهين؛ لأنهم رأوا أنفسهم بين نارين، فاختاروا أخف الشرين، وما هذه أول مرة استحل فيها رجال السياسة إثارة الحروب والفتن لأجل أغراضهم السياسية.
فقال الأمير عباس حينئذ: لقد قضي الأمر، واتفق الدروز مع الوالي، ووافقهم الأمير أحمد وما كان أغناه عن أمر يجر عليه البلاء، فقوي الميل في نفسه إلى نصرة أبناء عمه؛ لأنه الفريق المعتدى عليه، ولكن أبناء عمه في لبنان لا يأتمنونه، فقال: لا بد من الرحيل إلى حاصبيا؛ لأن أمراء حاصبيا لا يزالون على الإسلام مثله وهم من حزب النصارى.
وشاع في كفر شيما أن الأمير عباسا عازم على الارتحال إلى حاصبيا، فلم يعبأ أهلها بارتحاله؛ لأنهم كانوا غير عارفين إلى أي حزب ينتمي، وكانوا يحسبون أن الفوز سيكون لهم إذا اتقدت نار الحرب؛ لأن رجال كسروان كانوا في بعبدا وهم أبطال مشهود لهم، والدروز يخشون بأسهم ووراءهم بلاد كسروان كلها.
ولم يخطر على بال الأميرة سلمى أن أباها يفضل الذهاب إلى حاصبيا على البقاء في كفر شيما أو النزول إلى بيروت، وكانت تتبع حوادث الجبل، وتعلم أن أهاليه يستعدون لحرب أهلية، وكثيرا ما سمعت أباها يتكلم عن رعونة القائمين بهذه الحركة، وأنها ستعود عليهم بالضعف غالبين كانوا أو مغلوبين، مستشهدا بالحروب الأهلية الماضية ونتائجها الوخيمة، وحسبت كل حساب الأحساب الذهاب إلى حاصبيا والابتعاد عن بيروت، فإنه لم يخطر لها ببال، فلما جاءتها أمها تقول لها «إن أباك عازم على الذهاب بنا إلى حاصبيا ووادي التيم»، نظرت إلى أمها نظر المستفهم المرتاب، وقالت : حاصبيا ! أإلى هناك؟! ثم صمتت وكانت آخذة في كتابة كتاب إلى ابنة عمها الأميرة صفا، فوقف القلم في يدها ولم يعد يجري، وقالت لها أمها: إن أحمد أرسل يدعونا لنذهب إلى داره، فرفض أبوك ذلك واغتاظ من دعوته لنا. فقالت سلمى: إذا قال أبي قولا لا يرجع عنه، وأنت تعلمين طبعه، فليس لنا إلا التسليم لإرادته.
قالت ذلك لأنها رأت اضطراب أمها فأرادت أن تخفف عنها، أما هي فكانت كارهة لهذا السفر نافرة منه أشد النفور، ثم مضت إلى غرفة أبيها وكلمته على انفراد مبينة له أن قنصل الإنكليز يحميهم إذا نزلوا إلى بيروت، ولما قال لها: من أين تعلمين ذلك؟ أسقط في يدها، ولكن بداهتها كانت قوية، فقالت له: إني أشعر بهذا الأمر من نفسي، وقد سمعت أحمد يقول غير مرة إن قنصل الإنكليز مضاد للوالي، فإذا عرف ما بينك وبين الوالي فلا بد من أن يحميك منه.
فقال أبوها: هذا قد يكون وقد لا يكون، والمسألة مسألة حياة وموت وعار وشماتة، فلا ألقي بيدي إلى التهلكة. وكانت تعلم أنه إذا قال كلمة لا يعود عنها فتركته، وعادت إلى الكتاب الذي كانت تكتبه لابنة عمها، وهي تقول في نفسها: لعل صفا أحكم مني، ولو ذهبت وترهبت مثلها لخلصت من كل هذه الهموم. وتجلت أمام عينيها حينئذ صورة السر هنري بدمونت، وكانت قد مضت أيام كثيرة لم تره فيها، ولا سمعت عنه شيئا ولا سمعت اسمه بلسان أحد، فجالت الدموع في عينيها، وهي تقول: ما أشقى المرأة؛ تحب فتضطر إلى الكتمان، وتميت قلبها وعواطفها لكي تحافظ على عادات قومها! ولقد طالما عللت نفسي بأني أسلوه، فمضت الأيام وأنا لا أزيد إلا شوقا إليه، فماذا يصيبني إذا أبعدت عنه ولم يبق لي أقل أمل أن أراه؟! ورآها القزم وهي على تلك الحال، ورأى آثار الدموع في عينيها، فلم يخف عليه أمرها.
ومضي النهار وهي سكرى لا تدري ماذا تفعل، وكان الخدم يهيئون ما يلزم أخذه من الأمتعة، ونهضوا في الصباح، وركب الأمير عباس وزوجته وأولاده خيولهم، وحملوا الأمتعة على ستة بغال ركب عليها بعض الخدم أيضا، وأم يوسف معهم أخذتها معها الأميرة هند لتسليتهم، حتى إذا بلغوا نهر الدامور وجدوا الماء فيه غزيرا إلى بطون الدواب، وكاد يحمل واحدا من المكارين، فعلا صياح الجواري، واضطر الأمير عباس أن يعود إليهن ويتهددهن بالضرب إن لم يصمتن، أما الأميرة هند والأميرة سلمى، فكانتا معتادتين ركوب الخيل، فخاض فرساهما الماء بهما من غير أن توجسا شرا، وتغدوا في النبي يونس، ووصلوا صيداء بعيد الظهر، فباتوا فيها في بيت قاضيها وهو من أصدقاء الأمير عباس ومن أهل التقى، وقاموا منها قبل الفجر قاصدين حاصبيا فوصلوها عند الغروب، وخرج الأمراء الشهابيون للقائهم ومعهم جماعة من أهالي حاصبيا، فرحبوا بهم وأنزلوهم على الرحب والسعة، وأنست الأميرة سلمى بمن رأت هناك من بنات أعمامها، لا سيما وأن بعضهن كن متعلمات في المدارس الإنكليزية، وآباؤهن على واسع علم وحسن محاضرة، ورأت عندهم كثيرا من كتب الأدب، فأخذت تطالع فيها لتسلي نفسها وتنسى ما مر بها في الشتاء الماضي مما شغل بالها ولا يرجى تحققه في زمن من الأزمان.
ولكن لم يكد يستقر بهم المقام حتى وردت الأخبار أن الدروز هاجموا ساحل بيروت، وحرقوا قراه وقتلوا كثيرين من سكانه، فعلا البكاء والنواح في دار الخدم، وقامت أم يوسف تطالب الأميرة هند بزوجها، وتطلب منها أن ترجعها إلى كفر شيما، وهي تقول: خرجنا يوم الجمعة وهو يوم نحس ما أقل عقلي! وقلق الأمراء؛ لأنهم رأوا أن الفتنة أوقظت ولا بد ما ينتشر سعيرها في البلاد كلها.
الفصل العشرون
شكوى الحب
قام السر هنري عن العشاء، وأتم التقرير الذي شرع في كتابته للسفير، وأرسل صورته إلى نظارة الخارجية بعدما قرأها للقنصل، ثم دخل غرفته وأخذ قلما وقرطاسا وجعل يكتب لأمه، وكان كلام القزم لا يزال يرن في أذنيه، ولا سيما قوله إن الأميرة سلمى تحبه كما يحبها، فأخذ يصف لأمه ما شاهده من احتراق قرى لبنان وما رآه من أحوال سكانه الفارين منه ، وما سمعه عن الحرب التي نشبت ذلك اليوم.
ومما قاله لها: مهما أطنبت في جمال هذه البلاد لا أوفيها حقها من الوصف، فقد طفت اسكتلندا في أجمل فصول السنة، ورأيت بحيراتها وجداولها وجبالها ووهادها، ومررت على سويسرا في فصل الصيف وأقمت فيها نحو شهرين، ولكني لم أر أجمل من ربى لبنان وساحل بيروت في فصل الربيع، والناس هنا أهل جد ونشاط؛ الرجال يحرثون الأرض ويغرسون الأشجار، والنساء يغزلن ويحكن، وكلهم يربون دود القز ويستخرجون منه الحرير.
وأمراؤهم ليسوا على ثروة طائلة مثل أمرائنا، ولا قصورهم فخيمة مثل قصورنا، ولكنهم متمتعون بشيء من أبهة السيادة والاستقلال، وعندهم الخدم والحشم من العبيد والجواري والخيل والبغال، ويركب الأمير منهم ومعه خدمه بالسلاح الكامل، ويظهر لي أن البلاد غنية - على ما فيها من سوء الإدارة - ولكن مهما بالغت في قولي «سوء الإدارة»، فلا تفهمين مرادي؛ لأنك لا تستطيعين أن تتصوري أن حكومة تقسم شعبها قسمين، وتحرض القسم الواحد على الآخر لكي يفتك به ويخرب دياره، هذا هو الأمر الواقع الآن، وقد بذل الكولونل جهده لكي يمنعه، فما استطاع؛ لأن المغرين بالشر أقوى منا.
ومما يسوءني ذكره أن جيراننا عبر البحر مساعدون على هذا التحريض لكي يحتلوا البلاد، وقد ذهبت نصائحنا سدى، وكان اليوم يوما مشهودا رأيت فيه الدخان صاعدا من منازل السكان إلى عنان السماء، وشاهدت بالنظارة البحرية التي عندنا جماهير الأهالي بأثوابهم البيضاء والزرقاء وأعلامهم الحمراء والبيضاء ومعهم قليلون من الفرسان، وهم أمراؤهم ومشايخهم يجتمعون ويفترقون ويترامون بالرصاص ويتضاربون بالسيوف، ثم يهجم بعضهم على بعض، ويندحر بعضهم من أمام بعض، وجنود الحكومة معسكرة في الطريق تصد الفارين عن الفرار، وضلعها مع أحد الفريقين على الآخر، وهي لو أرادت لأطفأت هذه الحرب بكلمة يقولها قائدها أو مدفع يرمي به المعتدين.
ونزلت بعد الظهر إلى شوارع المدينة وأحيائها، فرأيت ما تتفتت له الأكباد؛ رأيت النساء جالسات تحت أشجار التوت أو في عرصات البيوت يندبن وينحبن، وأولادهن يبكون طالبين ما يسد الرمق. ورأيت بعض الرجال واقفين حيارى لا يدرون ما يفعلون، ولا كيف يعولون عيالهم وعيال الذين قتلوا من إخوانهم، وقد نهبت أمتعتهم وحرقت منازلهم. ورأيت امرأة بديعة الجمال ومعها ولدان كأنهما بدران، وهي تندب ندبا أبكى الترجمان، فترجم لي كلامها، فإذا هي تقول «إنها ذهبت إلى القبر تطالبه بحبيبها، فأجابها أن حبيبها ملقى على الطريق تأكله طيور السماء وتنهشه وحوش البرية.»
نحن باذلون جهدنا الآن لنجمع من المال ما يخفف بعض الكرب عن هؤلاء المساكين، ولو بتقديم الخبز لهم، فابذلي جهدك لتجمعي لنا ما يمكن جمعه من إحسان المحسنين، وقولي لإفلين إن هذا يومها، فأرسلوا لنا نقودا وثيابا إن أمكن، والنقود أحسن؛ لأن إرسالها أسهل بتحاويل على الصيارفة، ولا بد ما تزيد الحاجة؛ لأنه يبلغنا أن الأوامر صدرت بقتل كثيرين في أنحاء سورية، أو حيثما يمكن الإيقاع بهم، ويصعب علينا أن نصدق هذا الخبر لغرابته، ولكن ما حدث اليوم يدل على صحته وسنرى ما تفعله حكومتنا في هذه الحال.
أخبرتك في تحرير سابق عن الأميرة سلمى التي رأيتها في بلدة قرب بيروت، وقد رأيت اليوم النار مضطرمة في دار أبيها، ثم بلغني أن أباها ارتحل بها إلى بلدة تبعد نحو يومين عن بيروت، ولا أظن أنها في مأمن هناك، ولا أخفي عليك يا أماه أن لهذه الفتاة في نفسي منزلة لا أراها لغيرها، نعم، إني لم أنس إفلين وحبها لي، ولكنني كنت أشعر دائما أنها لا تنظر إلي كما أنظر إليها، وقلبي يحدثني أنها نسيتني الآن، أو أنها كانت تحبني محبة الصداقة أو محبة الأقرباء بعضهم لبعض، وهذه الأميرة لم تكلمني كلمة تدل على الحب، ولا أنا ذاكرتها في هذا الموضوع لا صريحا ولا تلميحا، ومع ذلك كنت أشعر من قلبي أني وقعت في نفسها كما وقعت في نفسي، وبقي هذا الاعتقاد في مبنيا على التصور لا غير إلى اليوم، فسمعت اليوم ما حقق لي ظني؛ وذلك أنني عثرت على القزم المهرج الذي رأيته في دارهم، فأخبرني بأمور وفي جملتها أنه عارف عن ثقة أن هذه الأميرة تحبني، وأن ابن خالتها طلب الاقتران بها فرفضته، وهو الأمير أحمد الذي أخبرتك عنه قبلا، فهذا الخبر وذهابها مع أهلها إلى حاصبيا في هذه الأوقات بلبلا أفكاري ولا أعلم ما يأتي به الغد، لا داعي لإخبار إفلين بشيء من هذا القبيل، بل يكفي أن تخبريها بحاجة الناس هنا إلى مساعدتها وكرمها، ولقد أعطاها الله ثروة وافرة لتساعد بها المحتاجين، فلجي عليها لتتصدق بكل ما يمكنها التصدق به، وأنا أراقب توزيعه على مستحقيه بنفسي، ثم التفت إلى أمور أخرى خصوصية من حيث أملاكهم وريعها وراتبه، وطلب في الختام رأيها في أمر الأميرة السورية.
الفصل الحادي والعشرون
الشهابيون في بيروت
وصل الأمراء الشهابيون إلى مدينة بيروت بخدمهم وحشمهم، واستأجروا بيوتا نزلوا فيها، فرأوا أن نفقاتهم اليومية زادت عما كانت وهم في دورهم؛ لأن أكثر مواد الطعام لهم، والعلف لخيلهم ودوابهم؛ كانت تأتي من أملاكهم فلا يدفعون ثمنها، أما الآن فاضطروا أن يشتروا الحنطة واللحم والسمن والزيت والزيتون والحبوب على أنواعها والشعير والتين، وكان لا يزال عندهم قليل من النقود من ثمن الحرير الذي باعوه أو أنزلوه معهم إلى بيروت، فأنفقوه في أيام قلائل وجعلوا يستدينون ممن اعتادوا الاستدانة منهم من تجار بيروت وصيارفتها، فاعتدل الدائنون أولا في معدل الربا، ثم زادوا رويدا رويدا يوما بعد يوم.
والتقى اثنان من التجار ودار بينهما الحديث التالي:
نقولا :
هذه فرصة نادرة يا مارون إذا لم نستغنمها سبقنا إليها بخور.
مارون :
وما هي هذه الفرصة النادرة؟ عسى أن لا تكون مثل فرصة الصوف التي خسرنا بها عشرة آلاف ليرة.
نقولا :
من كان يعلم أن أستراليا تمتلئ غنما في سنة واحدة وتملأ الدنيا صوفا، ومع ذلك فالتورط إلى هذا الحد في المشترى والتخزين كان رأيك ورأي عمك، وجهد ما هنالك أنني أرشدكم إلى الصنف، وقلت إنه ينتظر الصعود في ثمنه بناء على ما كنت أقرؤه في الجرائد التجارية، وبناء على ما كتب به إلي عميلي من بلاد الإنكليز.
مارون :
ما علينا من مسألة الصوف ، فما هي هذه الفرصة النادرة؟
نقولا :
الشهابيون في بيروت، وقد صاروا على الأرض، فقد باعوا كل حريرهم وصرفوا ثمنه، ولا أمل لهم بشيء من مواسم الغلال، وهم يستدينون المائة الآن بعشرين وبثلاثين، وبخور ورفاقه عازمون أن يسلخوا جلدهم، أما أنا فلا رأي لي أن ندينهم؛ لأني لا أستحل أن ندين بعشرين وبثلاثين، بل أن نشتري منهم أملاكهم في سقي بيروت ووطأ نهر الكلب، فإن كل بساتين التوت هناك لهم، ويمكننا أن نشتريها منهم الآن بأرخص ثمن.
مارون :
أتعرف كم إيراد الملك الآن؟
نقولا :
أظن أن الإيراد قليل لا يزيد على أربعة أو خمسة في المائة، ولكن أسعار الحاصلات ستزيد فيزيد معها ثمن الملك.
مارون :
كيف عرفت أن الأسعار الحاصلات ستزيد وما أدرانا أنها لا تنقص؟!
نقولا :
إني أعرف ذلك لسببين: السبب الواحد يمكنني أن أخبرك به، وهو أن دود الحرير مضروب في فرنسا وإيطاليا، وقد اجتهد الفرنسويون كثيرا في علاج الضربة فلم يجدوا لها علاجا، ولا بد ما يرتفع ثمن الحرير فيرتفع ثمن بساتين التوت، هذا هو الأمر الأول؛ والأمر الثاني أخبرك به على شرط أن تعدني أنه يبقى الآن في سرك.
نقولا :
إذا كان الأمر يحتاج إلى كتمان فأعدك بكتمانه.
مارون :
لو ما كان يحتاج إلى الكتمان ما كنت أطلب منك كتمانه.
نقولا :
قل لي ما هو وأنا أعدك بكتمانه.
مارون :
إني أعلم عن ثقة أن عساكر فرنسا ستحتل سوريا، والمرجح أنه لا يمضي شهران حتى يكونوا هنا.
فلما سمع نقولا هذا الكلام أبرقت أسرته، وقال: إذا كان الأمر كذلك فستتضاعف قيمة الأملاك حتما، فما العمل؟ ومن يطلبها لنا من الشهابيين؟
مارون :
ليس لنا إلا السمسار غنطوس، فهو يدخل فيهم مثل النعس، ويلبص عليهم مثل الباطلينوس.
ثم استدعياه وسألاه عن الشهابيين، وتدرجا معه في الحديث إلى مشترى الأملاك؛ أي الأراضي المزروعة توتا، وجنائن في ساحل بيروت ووطأ نهر الكلب، فوجداه على تمام الخبرة بأحوال الشهابيين، واتفقا معه على السمسرة وعلى أن يذهب ويعاين الأملاك ويأتيهما بوصفها.
وقام من ساعته لهذا الغرض، فاجتمع برجل اسمه عبد الله كان مستلما أشغال أمير من أغنى الأمراء وأكثرهم إسرافا، ويحكى عن هذا الرجل أنه تورط في اختلاس أموال مولاه، حتى اغتنى واقتنى أملاكا وبنى دورا فاشتكى منه أولاد مولاه لأبيهم، وقالوا له: إن عبد الله نهبك، والناس كلهم يلوموننا؛ لأننا أبقيناه عندنا كل هذه المدة. فقال لهم: إن هذا الرجل كان جائعا فشبع الآن، فإذا عزلناه وأتينا بإنسان آخر يكون جائعا، فيضطر أن ينهب لكي يشبع؛ فخير لنا أن نبقي الشبعان من أن نستخدم رجلا جوعان.
وكان عبد الله هذا على ما يطلب من اتساع الذمة، فساره غنطوس واتفق معه على قسمة السمسرة مناصفة، وكان الأمير قد فوض إليه عقد سلفة بألفي ليرة، فجاءه في المساء بعد العشاء، وجعل يشكو من ارتفاع الفائدة وأن المداينين ماسكون السكين ليذبحوا ذبحا، فلا يعطون المائة بأقل من خمسة وعشرين في السنة، وبعد كل جهد أنزلهم إلى اثنين وعشرين.
وكان الأمير أكولا يأكل دجاجة أو دجاجتين على عشائه، ومتى شبع اتكأ على مسند إلى أن ينام، فيقلب إلى فراشه قلبا، وينزل دمه إلى معدته، فلا يبقى منه في رأسه ما يكفي لتوليد الأفكار أو لتشغيل العقل، فقال لعبد الله: وما رأيك؟ ولا أظن أن أحدا يدينا بأقل من ذلك في هذه الضيقة. فقال عبد الله: إنني اهتديت إلى طريقة أخرى لأخذ المال المطلوب من غير أن نخسر خسارة تذكر، وهي أن الأملاك التي تحت قناطر زبيدة لا يبلغ إيرادها مائة ليرة في السنة، ويمكننا أن نبيعها بألفي ليرة وفائدة الألفي ليرة 440 ليرة على الأقل، فإذا بعناها نكون قد وفرنا 340 ليرة في السنة، وعندي سمسار يمكنه أن يبيعها لنا بهذا الثمن إذا أعطيناه سمسرته.
ففتح الأمير عينيه وقال له: أعد لي ما قلته ثانية. فكرر له الكلام الأول بالتأني، فقال: فهمت فهمت، نبيع العلقة التي تحت القناطر بألفي ليرة هي والمطحنة، طيب بعت، اكتب الحجة حتى أمضيها لك.
وفي أقل من خمسة أيام اشترى غنطوس للخواجه نقولا والخواجه مارون أملاكا بنحو عشرة آلاف ليرة، وهي تساوي عشرين أو ثلاثين ألف ليرة، ودرى غيرهما من التجار بذلك فجعلوا يتسابقون إلى مشترى الأملاك، وهي من جنى الشهابيين؛ لأنهم هم استخدموا الفلاحين لنقب الأرض وحرثها وغرسها، ولكن الذين تعبوا على إنشائها ماتوا وأورثوها أناسا لم يتعبوا بها، فسهل عليهم بيعها، وهكذا انتقل جانب كبير من أملاكهم إلى تجار بيروت، ولقد أحسنوا فيما فعلوا من بيع الأملاك بدل استدانة الأموال ورهنها؛ لأنهم لو استدانوا ورهنوا أملاكهم لتضاعف الدين في ثلاث سنوات، فالذين أشاروا عليهم بالبيع لم يضروهم، ولكن جاءهم الضرر من جهة أخرى، وهي أن كثيرين منهم رأوا نجاح التجار ومكاسبهم الكثيرة، فسولت لهم النفس أن يبيعوا أملاكهم ويتجروا بثمنها، وفاتهم أن التاجر يمارس التجارة ولدا ويربى فيها من صغره حتى يتمرن عليها ويعرف أساليبها وأسرارها، وبغير ذلك تكون التجارة خاسرة، فلم يمض عليهم وقت طويل حتى خسروا كل الأموال التي وضعوها في التجارة، وهذا شأن كل من يستسهل الأعمال ويتعاطاها قبلما يتمرن عليها.
الفصل الثاني والعشرون
المذاكرات السياسية
اجتمع مجلس الوزراء في بلاد الإنكليز للنظر فيما سيطرح على البارلمنت من المسائل، ومنها مسألة عن جبل لبنان والفتنة التي اتقدت نارها فيه، فقال وزير المستعمرات: هذا هو الأمر الذي كنت أخشاه من حين شرعت الشركة الفرنسوية في إنشاء سكة المركبات من بيروت إلى دمشق، فقد أخذت الآن تقول إن لها مصالح مالية في سورية لا يمكنها الإغضاء عنها، وإنه لا بد لها من إرسال جنودها لحماية مصالحها هناك.
فقال وزير المالية: إلى أين وصلوا في إنشاء ذلك الطريق؟ قال ذلك موجها خطابه إلى ناظر الخارجية.
فأجابه وزير الخارجية: لا يمكنني أن أقول بالتأكيد إلى أين وصلوا؛ لأنهم ابتدءوا من أماكن مختلفة في وقت واحد على ما كتب به إلي قنصلنا في بيروت؛ لأن البلاد جبلية وفيها كثير من الآكام والأودية والغدران، ولا بد من بناء جسور كثيرة في أماكن مختلفة، فبنوا هذه الجسور، ومهدوا الطرق بين جانب كبير منها على ميول معتدلة ، ولا يسعنا أن ننكر أنه صار لهم مصلحة مالية ثابتة في البلاد ولنا نحن أيضا مصلحة مالية بسبب تجارتنا الواسعة، وهي أوسع من تجارة فرنسا، بل مثل تجارة أوروبا كلها، ولكن ليس لنا رأس مال موضوع في البلاد مثل فرنسا إلا إذا اشترينا الشركة الفرنسوية، وقد خابرت بعض الماليين في مشتراها فلم أر منهم رغبة في ذلك؛ لأنهم يظنون أن ترعة السويس ستبطل طريق التجارية البرية بين بيروت وبلدان المشرق، وليس الاعتماد على تجارة دمشق نفسها بل على البلدان الشرقية التي تصل تجارتها إلى دمشق.
فقال وزير الحربية: وهل تظن أن الفتنة خمدت واكتفى الفريقان بما حدث؟
فأجابه وزير الخارجية: كلا، بل يظهر من تقارير قناصلنا أن النار لا تزال مخبوءة تحت الرماد، وأنه لا بد من امتداد الفتنة إلى المدن الكبيرة في داخلية البلاد، ودمشق نفسها ليست بمأمن من ذلك، والقناصل باذلون جهدهم لإخماد الفتنة وحماية النصارى، ولكن الأمر ليس في يدهم؛ لأنه يظهر أن أوامر سرية وردت من الأستانة إلى رجال العسكرية لإيقاد نار الفتنة، وليس المراد بها الفتك بالنصارى دون الدروز، بل مساعدة فريق على فريق، فيصح أن يساعدوا الدروز على النصارى، ويصح أن يساعدوا النصارى على الدروز، والمراد إثارة الفتنة على كل حال وتضحية بعض النفوس لغرض سياسي، وهو تحريك أوروبا لإلقاء المسئولية على الحكومة الحالية، هذا هو الغرض الذي يرمون إليه على ما اتصل بنا وإخواننا عبر الخليج، يرمون إلى غرض آخر، ولكنهم يتوسلون إليه بالطريقة نفسها؛ أي بإيقاد نار الفتنة في البلاد، ونحن نكاد نكون مغلولي الأيدي، وقد كتب إلينا قنصلنا في بيروت أنه باذل قصارى جهده لإيقاف الفتنة عن هذا الحد وإطفاء نارها، ويساعده على ذلك صديق قديم لنا من مشايخ الدروز له أكبر سلطة على جماعته، فإذا نجح في سعيه ووقفت الفتنة عند هذا الحد، فلا أظن أن جيراننا يصرون على إرسال جنودهم إلى هناك، وإذا لم تقف عند هذا الحد بل شملت البلاد كما يخشى، فلا بد لنا حينئذ من تدبير آخر .
فقال وزير الحربية: إننا نطلب حينئذ أن يكون الاحتلال مشتركا ونرسل فرقة من جنودنا.
فقال وزير المالية: وهل في الإمكان إرسال جيش الآن مع ما نحن فيه من الضيق المالي؟ ولا أرى أن الميزانية تساعدنا على ذلك.
ونظروا إلى رئيس الوزراء كأنهم يطلبون رأيه، فقال: ليس من الحكمة أن نرسل جنودنا مع جنود فرنسا؛ لأنه قد يتولد من وجود الجيشين مشاكل ليست في الحسبان، وفوق ذلك فإن جيراننا يستسهلون أن يرسلوا عشرة آلاف مقاتل إلى هناك ونحن لا نستطيع أن نرسل هذا العدد، ولا يلبق بكرامتنا أن يكون عدد جنودنا أقل من عدد جنودهم، فيضعف نفوذنا حيث نريد أن يقوى، ولكنني أرى أنه يسهل علينا أن نقنع فرنسا بأن يكون إرسال جنودها باسم أوروبا كلها، وحنيئذ يسهل علينا أيضا أن نطلب منها إرجاعهم باسم أوروبا حينما يتيسر الاستغناء عنهم.
فاستصوب الجميع هذا الرأي، وطلبوا من ناظر الخارجية أن يكلم سفير روسيا به، وسفير بروسيا قبلما يكلم سفير فرنسا.
واجتمع البارلمنت في المساء فقال أحد الأعضاء: قرأنا في جرائد الصباح أن حربا أهلية نشبت في سورية، وأن لبعض الدول الأوروبية يدا في ذلك، فما هي الأخبار التي عند الحكومة؟ وما هي التدابير التي عزمت على اتخاذها لإخماد الفتنة؟
فأجابه رئيس المجلس: إن ما قرأه حضرة العضو المحترم صحيح بوجه الإجمال، والحكومة تنظر الآن في التدابير التي يجب اتخاذها، ومتى أقرت عليها لا تتأخر عن إخبار المجلس بها.
فقال عضو آخر: إن لنا مصالح مالية كبيرة في مدينة بيروت، فهل يخشى على تلك المدينة؟ وما هي التدابير التي اتخذتها الحكومة لوقاية مصالحنا هناك؟
فأجابه الرئيس: إن الأخبار التي وردت إلينا حتى الآن لا يظهر منها أنه يخشى على مدينة بيروت، وعلى ذلك فقد أمرت نظارة البحرية بارجة من أسطول البحر المتوسط بالذهاب من مالطة إلى سواحل بيروت وسواحل سورية.
وقال عضو ثالث: إن جماعة من المبشرين الإنكليز منتشرون في مدن سورية، فهل أخذت الاحتياطات اللازمة لوقايتهم؟
فقال الرئيس: يظهر أن قناصلنا لم يغفلوا عن ذلك، ولا عن حماية المرسلين الأميركيين، والمرجح أن المتحاربين يحترمون الراية الإنكليزية مهما كانوا؛ لأن أعمال بحريتنا المجيدة في سورية - ولا سيما في بيروت وعكاء - لم تنس من تلك البلاد حتى الآن.
ثم دارت المناقشة في مواضيع أخرى داخلية وخارجية.
أما في فرنسا فلم تدخل المسألة مجلس النواب، بل اكتفت الوزارة بالمداولة فيها، وبين ناظر الحربية أن الجنود مستعدة للسفر عند أول إشارة، وأن معارضات إنكلترا على ما جاءهم في التقارير السرية لا يعبأ بها؛ لأن إنكلترا لا تستطيع أن ترسل جيشا مثل جيش فرنسا، ولا تستطيع أن تمنع إرسال الجيش من فرنسا بعد أن يتفاقم الخطب في سورية، ويتحفز نصارى كسروان للأخذ بثأر إخوانهم.
الفصل الثالث والعشرون
استفحال الفتنة
سر الدروز بالفوز المبين الذي فازوه في ساحل بيروت، وودوا الاكتفاء به حاسبين أنهم قهروا الشهابيين، وهم عمدة النصارى، إلا أن والي بيروت لم يكن من رأيهم، فجمع بعض أمرائهم إلى الحازمية خارج بيروت، وقال لهم: إنكم لم تفعلوا شيئا حتى الآن، ولم يزل النصارى أقوى منكم كثيرا، ولا بد لهم أن يأخذوا بالثأر، ولا سبيل لإضعافهم حتى تأمنوا شرهم إلا بتخريب مدنهم الكبيرة: زحلة ودير القمر وجزين وحاصبيا وراشيا، فازحفوا عليها والفوز لكم.
فدبت النخوة في رءوس البعض منهم وقالوا له سمعا وطاعة، وخاف البعض الآخر سوء العاقبة، ولا سيما لأنهم كانوا يعلمون أن دول أوروبا لا يمكن أن تسكت عن ذلك، فقالوا له: إننا في المتن والشوف والعرقوب ووادي التيم كثار، ولا يعسر علينا التغلب عليهم، ولكن لا يخفى على دولتكم أن نصارى كسروان أكثر منا كثيرا، فإذا جاءوا لنصرة إخوانهم فلا طاقة لنا بهم.
فقال لهم: إننا احتطنا لذلك ونصارى كسروان لا يحركون ساكنا، ولو تظاهروا بمساعدة إخوانهم، ألم تروا كيف انفض جمعهم من بعبدا حالما أمرناهم بذلك؟ ثم انصرفوا من لدنه وأكثرهم واثق أنه يفعل ما وعدهم به.
ووصل إلى دمشق في تلك الأثناء رجل اسمه صادق أفندي، وجعل يجتمع بمشايخ الدروز من حوران وببعض مشايخ لبنان، حتى إذا أتم عمله الذي حضر لأجله أمر بالعودة إلى الأستانة بعد أن أسر إلى الوالي بما جاء لأجله، ويقول أهالي دمشق إن سلوك الوالي تغير معهم بعد سفر صادق أفندي.
ثم اجتمع الدروز وحاربوا أهالي جزين وبكاسين وحرقوهما وقتلوا كثيرين من سكانهما، وزحفوا بعد ذلك على زحلة، وكان كثيرون من نصارى العرقوب، قد قاموا لمعاونة أهاليها، فالتقوا بالدروز عند ظهر البيدر، وكادت الدائرة تدور على الدروز، وقتل هناك ابن عقيدهم علي بن خطار العماد، وكان الشيخ إسماعيل الأطرش قد جمع دروز حوران وعربها عملا بأمر والي دمشق، وقام بهم لنجدة دروز لبنان، حتى إذا دخل وادي العجم، وجد فيه بعض النصارى من إقليم البلان، فقتلهم وهم 135 نفسا وسار برجاله إلى أن وصل إلى زحلة، وفي أثناء ذلك وصلت إليها فرقة من الجنود العثمانية، وعسكرت أمامها وحينئذ هجم الدروز عليها من الجنوب والغرب فصد أهاليها هجماتهم، وهم مشهورون بالشجاعة والفروسية، وظلت الحرب سجالا إلى أن قدم عليها رجال من الدروز من الجهة الشمالية، وكان الأهالي ينتظرون نجدة من يوسف بك كرم فظنوهم النجدة المنتظرة، ولكنهم ما لبثوا أن وصلوا حتى أخذوا يطلقون النار على الحامية، فانهزمت من أمامهم ورأى أهالي زحلة أن الدروز دخلوا مدينتهم من ورائهم، فارتدوا رويدا رويدا وظلوا يناوشون من أمامهم إلى أن خرج أكثر الذين في زحلة، وساروا إلى جهة بسكنتا، والظاهر أن الخوف من العرب وجنود الدولة كان مالئا القلوب، ولولا ذلك لتعذر أخذ تلك المدينة.
وكان في زحلة رجل من أهالي دير القمر رأى ما جرى وتدبره، فعلم أن الحركة مدبرة وأن لا بد من الزحف على دير القمر، فكتب إلى ترجمان قنصل الإنكليز في بيروت يخبره بما جرى في زحلة وبما يوجس منه، وتوسل إليه لكي يبذل كل ما في وسعه لحمل القناصل على الذهاب إلى دير القمر بأنفسهم؛ لأنه إذا أحاط الدروز بها لم يبق لأهلها مهرب منهم.
فسعى الترجمان مع غيره من وجوه دير القمر المتوطنين بيروت لدى قناصل الدول فلبوا طلبهم، واتفق قنصل إنكلترا مع قنصل فرنسا على الذهاب إلى دير القمر، ولو ذهبا ما حدث شيء مما حدث فيها ومما حدث في غيرها بعدها، ولكن والي بيروت أقنع قنصل فرنسا بأن لا داعي لذهابه، وإنه هو؛ أي الوالي، يرسل قومندان مركز الولاية لوقايتها، وقال مثل ذلك لقنصل الإنكليز وأقنعه بأن لا داعي لذهابه، ثم أرسل القومندان فذهب واجتمع بمشايخ الدروز وحرضهم على الفتك بالنصارى. قيل ولما رأى سعيد بك جانبلاط منه ذلك، بعث اثنين من خواصه إلى أهالي دير القمر يطلب منهم أن ينزحوا إليه إلى المختارة إذا فارقها القومندان، فصدق بعضهم كلامه وساروا إليه فحماهم، وأما الباقون فجمع أميرالاي العساكر العثمانية سلاحهم بعد أن تهددهم بأن لا أمان لهم إن لم يعطوه السلاح، وكانوا قد أفنوا كل ما عندهم من البارود والرصاص، فسلموه أسلحتهم فأدخل الدروز إلى مدينتهم فنهبوها، ثم ذبحوا كل الذين التجئوا من الأهالي إلى سراي الحكومة. قيل وكان متسلم دير القمر مخالفا للأميرالاي في هذا العمل الوحشي، وحمى كل الذين التجئوا إلى داره من الأهالي لكن الأميرالاي أمر الجنود والدروز أن يدخلوا دار المتسلم عنوة، ويقتلوا كل من لجأ إليها ففعلوا، ثم إن المتسلم نفسه جرع غصص المنون بعد أن عاد إلى بيروت.
هذا بالاختصار التام أما التفصيل فتقشعر منه الأبدان وتذوب له النفوس أسى؛ فإنهم كانوا يذبحون الولد على ركبة والدته، وينزعون الطفل من يد أمه، ويضربونه بالسيف فيشطرونه شطرين، ويردونه إليها قائلين: خذيه فقد أسكتناه لك. ويقطعون أوصال الرجل قبل أن يذبحوه، ولم يبقوا على أحد من الذكور، وقد جن بعض النساء مما رأين من الفظائع.
ما أشد توحش الإنسان إذا أطلق العنان لشهوة الغضب! وما أقبح التعصب الديني إذا حمل أصحابه على الانتقام من الذين يخالفونهم دينا! وأقبح من هذا وذاك تدبير المذابح وتنظيمها لغرض في النفوس؛ كما فعل ذلك الوالي وزبانيته وتلك الفئة الطاغية في الأستانة، فإنه كان يجب عليهم أن يعرفوا ما ستئول إليه الحال، ولكنهم أغمضوا عيونهم لكيلا يروا، وصمموا أذانهم لكيلا يسمعوا.
ووصل تفصيل هذه الحوادث إلى الكولونل روز قنصل الإنكليز الجنرال في بيروت، ووصله أيضا تفصيل ما جرى في حاصبيا وراشيا، وخلاصته أن الأمير سعد الدين كان في دمشق، وقد استعفى من الولاية على بلاد حاصبيا، فأعطيت لابنه الأمير أحمد، وكان أحمد باشا والي دمشق يتودد إليه، فطلب منه أن يعود إلى حاصبيا مع فرقة من الجنود العثمانية؛ لتحصيل الأموال الأميرية من دروزها، واستشار الأمير سعد الدين صديقا له من النصارى، فأشار عليه أن لا يذهب؛ لئلا يغتاظ الدروز من مطالبتهم بالأموال في ذلك الوقت ويثوروا عليه، فاستعفى من الذهاب لكن الوالي لم يعفه، بل اضطره اضطرارا وأرسل معه فرقة من الجند، حتى إذا وصل إلى حاصبيا وطالب الدروز بالأموال الأميرية ثاروا عليه، واجتمعوا على حاصبيا من كل الجهات المجاورة لها، فخرج النصارى منها لمناوشتهم، ثم تقهقروا وتحصنوا في السراي، فهجم الدروز على بيوتهم وسلبوها ثم حرقوها، وقال أميرالاي العسكر للنصارى إنه لا يستطيع أن يحميهم ما لم يسلموه أسلحتهم فسلموه إياها، فبعث بها إلى الدروز، وسد منافذ السراي ليمنعهم من الهرب منها، وبلغ القناصل في دمشق ما حدث، فطلبوا من الوالي أن يرسل ضابطا كرديا من دمشق ليأتي بنصارى حاصبيا إليها.
وقر القرار على إرسال أحمد بك أجليقين، فطلب أن يؤذن له بضرب الدروز إن هم منعوه من جلب النصارى، فلم يأذن له الوالي في ذلك، فرفض الذهاب على هذه الصورة، فاستدعى الوالي الشيخ كنج العماد، وأرسل معه ياورا إلى حاصبيا ومعه الأوامر اللازمة لأميرالاي الجنود العثمانية التي هناك، وبعد وصولهما بيوم واحد أدخل الدروز إلى السراي التي فيها النصارى، فقتلوهم عن بكرة أبيهم، ذبحوهم ذبح الغنم ومثلوا بهم تمثيلا، ثم صعدوا إلى دار الأمير سعد الدين في أعلى السراي، فقتلوه وقتلوا صهره الأمير جهجاه وأربعة آخرين من الأمراء الشهابيين؛ ظنا منهم أنهم من النصارى، وهجم دروز حوران على راشيا، فأدخلهم الجنود إلى سراي الحكومة، وقتلوا كل من التجأ إليها من النصارى ، وبلغ قتلى حاصبيا نحو 700 نفس، وقتلى راشيا 500، وقتلى دير القمر وما جاورها نحو 1500 نفس؛ قتلوا كلهم في الدم البارد بعد أن سلموا أسلحتهم لرجال حكومتهم.
ولا تحسبن الدروز كلهم اشتركوا في هذا العمل الفظيع خاصتهم وعامتهم، كلا فإن بعض العامة وكثيرين من الخاصة كانوا أشد الناس مردة للنصارى، فدافعوا عنهم وحموهم في بيوتهم من كل اعتداء، ولولاهم ما نجا أحد.
ولما اطلع السر هنري بدمونت على ما حل بحاصبيا حيث كانت الأميرة سلمى ووالداها؛ رجفت شفتاه واصطكت ركبتاه، وكاد يغمي عليه، ثم غلى الدم الاسكتسي في عروقه، فاحمرت وجنتاه، ونهض وجعل يمشي في غرفته ذهابا وإيابا، بل يركض فيها ركضا كمن يطارده عدو، ودخل الكولونل روز عليه وهو على تلك الحالة، وكان قد قرع الباب مرارا، ولم يسمع مجيبا، ففتحه خائفا أن يكون السر هنري مريضا، فلما وقعت عينه عليه، قال له السر هنري: قرأت تواريخ البشر الحاضرين والغابرين، فلم أر ولم أسمع أن دولة تقتل رعاياها لغير إثم ولا حرج قضاء لمآرب شخصية، كيف صبرنا على هذا الجور وكيف نصبر عليه؟ إذا رأينا رجلا يعذب نعجة أو عصفورا بغير سبب، ألا نتعرض له؟! فهب أن هؤلاء المساكين نعاج أو عصافير، أفلا تقضي الشفقة علينا أن نتعرض لمن يمسك الرجل منهم ويقطع أذنيه ويديه ثم يذبحه ذبحا؟! ألا نتعرض لمن يلقي رأس الولد على ركبة أمه ويذبحه عليها؟! ألا نتعرض لمن يأخذ الطفل الرضيع من يدي والدته ويطعنه بخنجر ثم يرده إليها والدم يسيل من صدره؟! ما هذا التوحش وما هذا الجمود الذي نحن فيه؟! أين الشهامة؟! أين المروءة؟! ثم ما حال أولئك الأرامل الثاكلات النائحات النادبات؟! وما حال بناتهن إذا كن قد تركن لهن؟! وأين مقرهن الآن؟!
وفي تلك اللحظة عينها خطرت بباله صورة سلمى ممزقة الأذيال، تجري بين الصخور والأدغال، ووراءها وغد يجد في أثرها، فجمد الدم في عروقه، ثم انتفض كما انتفض العصفور بلله القطر، وقال للكولونل روز: ألا تظن أنني أستطيع أن أقوم ببعض ما يجب علينا إذا ذهبت إلى صيداء واستصحبت قنصلنا أو بعض القواسة، ومضينا إلى جهات حاصبيا ووادي التيم نفتش عن الذين سلموا من القتل والموت؛ فنغيثهم ونأتي بهم إلى بيروت؟!
وقبل أن يجيبه الكولونول على ذلك، شعر أنه أخطأ فيما قال؛ لأن غرضه الأكبر من هذا الذهاب شخصي، وقد عبر عنه على أسلوب يفهم منه أنه مجرد عن كل غاية شخصية، فلام نفسه على ما فرط منه، واستدرك قائلا: ولي في ذلك مأرب شخصي لا أخفيه عن الكولونل. ثم قص عليه قصته مع الأميرة سلمى من أولها إلى آخرها.
وكان الكولونل يعرف الأمير عباسا ويوده لإخلاصه، ويعلم أنه على خلاف مع الوالي، وأنه غير راض بما حدث من الفتن، ولكنه لم يكن يعرف شيئا عن ابنته، ولا عن علاقة السر هنري بها، فتحركت في نفسه عوامل الشهامة، وشعر بسلطة الحب شعور من نسي صديقا عزيزا، ثم التقى به فرثى لحال السر هنري، وقال له: قم ولا تتأخر ساعة، وإني لاستغرب سكوتك عن ذلك إلى الآن، نعم إنك غير واثق بحب هذه الأميرة لك، ولكن مهما كان شأنها، فليس من الشهامة وعزة النفس أن تتركها في هذا الوقت وأنت قادر على مساعدتها، لو كنت مكانك لذهبت الآن ولم أتأخر ساعة.
فشكره السر هنري على ذلك وقال له: يشق علي جدا أن أتركك في هذا الوقت مع تراكم الأشغال عليك، واشتداد هذا الحر الذي يكاد يزهق النفوس، ولكن ما دام الذهاب فرضا علي فأنا ذاهب.
وقام من ساعته وأمر أحد القواسة أن يعد ما يلزم لذهابهم إلى صيداء وجهات مرجعيون وغيابهم شهرا من الزمان، وكتب إلى أمه بخلاصة ما بلغهم من أخبار المذابح، وطلب منها أن تبذل كل ما في وسعها لجمع الصدقات من أهل البر والإحسان، وقال لها: إن ما ترسلونه من نقود وأحرمة وأقمشة تشكرون عليه أعظم شكر؛ لأن علينا أن نطعم ألوفا من النساء والأطفال ونكسوهم. وختم الكتاب بالسلام لإفلين وبالالتجاء إلى كرمها وحنانها.
الفصل الرابع والعشرون
حادثة دمشق
لا أعدى من الحمس الديني، ولا أشد منه خطرا على البلاد، لا سيما وأنه سلاح الرعاع الذين إذا ثار ثائرهم أمسوا وحوشا ضارية لا تأخذهم شفقة ولا رحمة، ويا ويح بلاد يطلق العنان لرعاعها، ويحرضون على الانتقام من مخالفيهم مذهبا، فإن التاريخ يشهد أنهم كانوا يفتكون بالألوف ولا يملون، ويرتكبون أقبح الموبقات مع أسيادهم الذين هم غرس نعمتهم، وأي عمل أقبح من أن تربي ولدا مسكينا في بيتك، وتأتمنه على أولادك وأموالك، ثم تراه وقت الشدة مقبلا إليك كالوحش الضاري والخنجر في يده يغمده في صدرك وصدور أولادك لكي يغتنم أموالك، الوحوش الضاربة لا تصل إلى هذه الشراسة، ولكن ابن آدم يقدم عليها عفوا إذا ثار في صدره ثائر الحمس الديني، كذا فعل اليهود بالنصارى والنصارى باليهود، وأهل الشيعة بأهل السنة وأهل السنة بأهل الشيعة، ولا تزال أمثال هذه الفظائع تجري في بلدان المشرق، وإن زالت الآن من بلدان المغرب حتى لقد يقف المرء حائرا بين فوائد الأديان ومضارها، وأيها أكثر لنوع الإنسان، وإن شئت فقل المتنطعين في الأديان؛ لأن الدين بريء مما يفعله المتنطعون فيه باسمه.
أهالي دمشق من مسلمين ونصارى من ألين الناس عريكة، وأكثرهم وداعة، وقد عاشوا السنين الطوال متآلفين متحابين والنصارى قلال العدد جدا، وكأنهم عائشون في حمى المسلمين، وهؤلاء أهل تقى ومسالمة ولا سيما الكبراء منهم، ولكن لما أراد ذوو الشأن أن يوقعوا الجفاء بينهم وبين المسيحيين لأغراضهم، لم يتعذر عليهم أن يجدوا من يجيب نداءهم من العامة، فحرضوهم وأطلقوهم فانطلقوا كالنار في الهشيم يذبحون ويفتكون إلى أن جرت الدماء أنهارا، وحل بالمسيحيين هناك ما لم يحل بهم مثله من زمن الفتح إلى الآن، ولولا بعض الصلاح ذوي الشهامة والنجدة لما أبقى الأشرار على أحد. كل ذلك، والوالي متسلح بالأوامر السرية التي في يده وغير خائف أن يطالب بشيء مما فعل.
ووصلت أخبار هذه المذابح إلى بيروت، وهاجر إليها من بقي حيا من نصارى دمشق وسائر مدن الشام التي أصابها ما أصاب دمشق، فازدحمت بهم منازلها وشوارعها وبساتينها ، حتى كنت ترى عائلتين أو ثلاثا في غرفة واحدة، بل أخرجوا الدواب من مزاربها وسكنوها، والأولاد المعتادون رفاهة العيش كانوا يفتشون عن أوكار النمل ليأكلوا ما فيها من الحبوب، وإذا أصاب أحدهم رغيفا اجتمع حوله عشرون من أمثاله يقاسمونه إياه.
وبادر أهل البر والإحسان في أوروبا إلى معونة أولئك المنكوبين بسخاء حاتمي، فأرسلوا إليهم أكياس الدقيق وأثواب القطن والصوف وكثيرا من النقود، وأقيمت اللجان في بيروت لتوزيع الإحسان، ولولا ذلك لمات كثيرون جوعا.
وظل المنكوبون في بيروت يتقلبون على مثل جمر الغضا، ويبحث بعض النساء عن أزواجهن وأولادهن، وهن لا يعلمن أفي عداد من قتل هم أو لم يزالوا في قيد الحياة. وكل يوم يصل جريح لم يجهز الأعداء عليه، فبقي مغطى بالقتلى مغمى عليه من كثرة ما نزف من دمه، إلى أن أفاق ودفعته بقية الحياة الكامنة فيه إلى الهرب، فجعل يسري ليلا ويختبئ نهارا، وهو يسد رمقه بأعشاب الأرض إلى أن بعد عن مواقع الخطر، والأطفال الذين أرضعتهم أمهاتهم لبن الحزن يموت الواحد منهم بعد الآخر، وقناصل الدول يكتبون إلى دولهم يشرحون لها وقائع الحال وهم مجمعون على استقباح ما جرى واستفظاعه، ورجال الدولة متربصون ليروا ماذا تكون العاقبة، وهم يكذبون تارة ويشمخون أخرى قائلين أن لا شأن للدول الأجنبية، حتى تطالبهم بما يجري بينهم وبين رعاياهم، ووحوش البر وطيور السماء قزت نفوسها من أكل لحوم القتلى، فجلست أمامها يدفعها الطبع إليها، ويبعدها الشبع عنها، وهو شعور جديد لم تعرفه من قبل، والشمس تشرق على منازل أكلتها النار، والنجوم تتطلع عليها فلا ترى فيها غير الضباع وبنات آوى، وقد ندم الله على خلق الإنسان كما ندم في عهد نوح وود ملائكته أن تصاب الأرض بطوفان آخر يطهرها من الأشرار.
أيعجب أحد بعد هذا إن كانت أرض الموعد جنة الله في خلقه، الأرض التي كانت تفيض لبنا وعسلا، الأرض التي نشأت فيها دمشق وصور وصيداء وأورشليم وبيروت وعكاء وعسقلان، أرض حكمة اليهود وصناعة الفينيقيين، التي طمع فيها الفاتحون من كل الأقطار لكثرة خيراتها وتوسط موقعها، بلاد الضيافة والشهامة وعزة النفس، هذه البلاد أوصلها سوء السياسة إلى أن صار أبناؤها يحرش بينهم ليفترس بعضهم بعضا.
قدورا :
من أين يا أبا فخر؟ وإلى أين؟
أبو فخر :
صليت الجمعة وأنا راجع إلى البيت، والله ما عاد لي نفس أجلس في القهوة.
قدورا :
ولماذا؟ ماذا جرى؟
أبو فخر :
أما سمعت؟ قال إن السفرا والقناصل طلبوا مسك كل مشايخ الدروز وشنقهم. الصبح كنت عند الوالي، لا تقل هو خبرني، أنا ألقطها طائرة من هنا كلمة ومن هنا كلمة، والله العظيم لو سلح رجال الباشوره لطلعوا مقابل كل الإفرنج.
قدورا :
ولكن أنا سمعت أن فرنسا عازمة أن ترسل عسكرا كبيرا إلى هنا.
أبو فخر :
هل هذا صحيح؟ من قال لك ذلك؟ فرنسا كانت مع مولانا السلطان وقت حرب المسكوب هي والإنكليز، ولكن - الكلام بسرك - زادوها. قال قتلوا كل النصارى في الشام، هذا حرام! الله وصانا بالذمي وبالجار، الله يساعدنا، قل آخر زمان قرب وقت المهدي، ما سمعت ولا كلمة عن بيت رسلان، الأمير أحمد أنا ربيته، وبالي مشغول عليه، سألت الوالي عنه قال سمع أنه ترك البلاد وقصد حوران، الله يهونها، آخر زمان آخر زمان.
وبينما كان أبو فخر يتذاكر مع قدورا أفندي على ما تقدم، كان الخواجه بخور والخواجه شمعون يتذاكران في الأخبار التي بلغتهما من دمشق وفيما يخشى منه على بيروت.
فقال بخور: كانت المذبحة هائلة، وقد انتقمنا منهم على ما جرى لنا في مسألة البادري توما، واشترى يوسف كل الصيني الذي كان في بيت الخوري وكل شيلان الكشمير.
فقال شمعون: وما أدرانا أنهم لا يرتدون إلينا بعدما يخلصون منهم؟
بخور :
كان بالي مشغولا من هذا القبيل في أول الأمر، أما الآن فقد اطمأن، فإن أصحابنا دبروها في إسطانبول، وأتت مكاتيب توصية للوالي بنا في الشام وفي بيروت، حتى إخواننا الذين في دير القمر ما أصابهم شيء، الله يهونها على البرطيل فهو يحل شاشة القاضي.
شمعون :
والصيني الذي اشتروه هل هو شيء يحرز ؟
بخور :
شيء لا مثيل له في قصور الملوك، فإنهم كانوا يتوارثونه أبا عن جد؛ صحون وزبادي وقوارير كبيرة وصغيرة من كل الأشكال، وبعضه قديم جدا عمره أكثر من ألف سنة، وكان الناهبون عازمين على تكسيره، ولكن ربك الحميد وصل يوسف إليهم قبلما كسروا شيئا منه، واشتراه كله بليرتين، وإذا كان هو كل الصيني الذي أعرفه فيساوي خمسة آلاف ليرة، واشترى أيضا من شيلان الكشمير ما يساوي ألفي ليرة على قوله، ولم يدفع ثمنه إلا نحو عشرين ليره، أما الفضيات والنحاس فلا تسأل عنها؛ لأنها كثيرة جدا وتسابق الناس إلى مشتراها.
شمعون :
إذن سنة مباركة، وهل تظن أنه يحدث شيء هنا؟
بخور :
لا يبعد، فإني كنت عند الوالي أمس، فكلمني بالتلميح ولم يصرح، أما أنا فأخاف من المراكب الحربية؛ لأنه إذا جاء مركب واحد حربي لا يعود أحد يجسر على شيء.
شمعون :
والأخبار من لندرا.
بخور :
الدنيا قائمة قاعدة هناك. الأعضاء في مجلس النواب يسألون الوزارة مائة سؤال كل يوم، والقسوس يعظون في الكنائس ويحرضون الناس على الدولة، والنتيجة طيبة على كل حال؛ لأنهم يجمعون الأموال ويرسلونها إلى هنا، هذه خلاصة آخر مكتوب وصلني اليوم.
يوسف :
الله يصرفها على سلامة، أقول لك مال الدنيا يبقى في الدنيا، وأنا قلبي رقيق فإني حينما أرى هؤلاء الأرامل والأطفال يتفتت قلبي، وأتذكر الأيام التي كان يصير فيها بنا مثل ذلك، وأخاف أن ينقلب الدهر، والدهر دولاب فيصيبنا كما أصابهم، إله إسرائيل حي لا يموت، الله ينجينا من أولاد الحرام.
بخور :
الحق معك، مال الدنيا يبقى في الدنيا، هذا سلمون مات، وماذا أخذ معه؟! ولكن الله أوصانا أن نجمع مال الأمم، ألا تتذكر ماذا قال لنا لما أمرنا بالخروج من مصر، والمال قوة كما يقول الإنكليز.
ودخل ثالث فانقطع الكلام في هذا الموضوع.
الفصل الخامس والعشرون
توقع القضاء
كانت البيوت في حي مارمتر، أحد أحياء بيروت، قليلة صغيرة متفرقة بين بساتين التوت، وقد لجأ إليها كثيرون من النصارى الذين سلموا من المذابح، فكنت ترى البيت الذي فيه أربع غرف تسكنه أربع عيال، ولم يكد يستقر بهم المقام حتى أخذ الرجال منهم يفتشون عن أعمال يعملونها، وشارك النساء نساء الحي في تسليك الحرير وكبه، فاكتسبن ما ساعدن به رجالهن على نفقات بيوتهم، ولم يترك الأولاد يلعبون في الشوارع، بل أرسلوا إلى المدارس؛ لأن أهالي سورية يحسبون تعليم أولادهم من الضروريات التي لا بد منها، فترى الرجل يقتصد في نفقاته لأجل تعليم أولاده، والمرأة تبيع حلاها وتعلم أولادها ولا يكتفون بتعليم الصبيان، بل يعلمون البنات أيضا.
في مدرسة من هذه المدارس، وهي غرفة واحدة على دائرها مقاعد من الخشب، والأولاد جلوس عليها مرصوصين رصا، والمعلم جالس على كرسي إلى جانب الباب، وأمامه مائدة صغيرة عليها جرس ودواة وفي يده قضيب من الرمان؛ وقف ثلاثة أولاد أمام المعلم وجعلوا يقرءون في كتاب طبع حديثا في المطبعة الأميركية، وبينما هم يقرءون والمعلم يصلح أغلاطهم، ويأمر المجتهد بشد أذن الكسلان دخل رجل طويل القامة، أسمر اللون، عابس الجبين، لابس دامرا مرخي الأكمام، دخل يتهادى في مشيه لطول قامته، فنهض المعلم واقفا إكراما له ووقف التلامذة كلهم لوقوفه، فأمسك بيد المعلم وأسر في أذنه كلمتين، ثم خرجا من المدرسة ووقفا أمام الباب يتحادثان، وبعد هنيهة عاد الرجل من حيث أتى، ودخل المعلم وقرع الجرس، وقال للتلامذة: اذهبوا كل واحد إلى بيته، لا تحيدوا يمنة ولا يسرة، ولا تتأخروا في الطريق، وقولوا لأهاليكم: إن المعلم صرفنا وستقفل المدرسة بضعة أيام. وخذوا كتبكم معكم.
فقام التلامذة وتأبط كل كتابه أو كراسته، وتكتفوا وخرجوا في صف واحد، ثم تفرقوا وسار كل منهم في طريقه، ولم يكادوا يصلون إلى بيوتهم حتى وجدوا فيها حركة غير عادية، وبعضهم التقوا بآبائهم ذاهبين للمجيء بهم، وقابلهم أمهاتهم بلهفة وأدخلنهم حالا إلى داخل البيوت، وكن قد أخذن يجمعن القليل من ثيابهم ويرزمنها.
فدهش الأولاد من ذلك، وسأل الكبار منهم آباءهم وأمهاتهم عن سبب هذا الاضطراب، وأقبلت حنة وأصبعها على فمها وهي تقول لأخيها: «هس، قتل مسلم وبدهم يقتلونا كلنا .» فأمسكت أمها بكتفها وهزتها، وقالت لها: «اسكتي يا مضروبة.»
ما أرهب تلك الساعة! وما أثقلها على النفوس! ألوف مؤلفة من الأرامل والأيتام الذين نجوا من المذابح وقصدوا بيروت للاحتماء بها، ألوف من النساء اللواتي ذبح رجالهن وأولادهن أمام عيونهن، ألوف من الصبيان والبنات الذين نجوا مع أمهاتهم وساروا يوما بعد يوم مشيا على أقدامهم إلى أن بلغوا بلاد الأمان، مئات من الرجال الذين ساعدتهم التقادير على النجاة، وعلى كل منهم أن يعول عائلتين أو ثلاثا من عيال إخوته الذين ذهبوا شهداء السياسة والطمع؛ كل هؤلاء التجئوا إلى مدينة بيروت، وهم يحسبون أنهم نجوا من كل خطر، وفي ساعة واحدة رأوا سيف النقمة مسولا فوق رءوسهم، فتصوروا المشاهد الفظيعة التي مرت بهم منذ شهر أو شهرين، ورأوا فيها أشلاء القتلى لم تزل تتحرك والدم يفور من جراحها، وأيقنوا أن نجاتهم كانت حلما مر وانقضى، وأن السيف تابعهم لا محالة، ولم يبق لهم مهرب ولا نصير، الجبل وراءهم محروق القرى، والبحر أمامهم يرغي ويزبد.
مضى العصر ومالت الشمس إلى المغيب، وطالت ظلال البيوت والأشجار واكدر ماء البحر بعد صفائه، وبدت تباشير الشفق فوق جبال لبنان، وامتدت أصابعه من الشرق إلى الغرب، الطبيعة ساكنة جامدة، ولكن النفوس جائشة مضطربة.
ماذا نعمل يا رجل؟ وإلى أين نذهب بهؤلاء الأولاد؛ أولادنا وأولاد أخيك وأولاد صهرك؟ ليس لنا مهرب إلا إلى بيت إبراهيم، فإنه واسع وله بوابة كبيرة متينة، ولا بد ما يجتمع فيه كثيرون من أهالينا وأقاربنا، فندافع عن أنفسنا إلى أن يفرجها ربنا.
وبعد قليل جمعوا ثيابهم وساروا هي وزوجها وسلفتها وابنة حميها وأولادهم إلى أن وصلوا إلى بيت الخواجه إبراهيم، وهو من وجوه بلدهم، وكان قد نجا مع الذين نجوا، احتمى ببيت الست نائفة، ثم هرب بعد المذبحة، ورحل إلى بيروت واستأجر بيتا كبيرا فيها؛ لأنه كان على شيء من الثروة، ولما أتت أموال الإحسان جعل وكيلا على توزيعها، فخص نفسه بجانب كبير منها، أما الآن فهرب من بيته إلى بيت رجل من وجهاء بيروت، له بوابتان؛ الواحدة داخل الأخرى، وهو أحصن من بيته، وكان صاحبه مشهورا بشجاعته وبأنه من أمهر الرجال بلعب السيف، ولكنه كان قد هرب من بيته والتجأ إلى دار وجيه كبير من أكبر أغنياء بيروت، فلما وصلها وجدها مملوءة بالناس الذين التجئوا إليها من النازحين ومن أهالي بيروت أنفسهم، والدار كبيرة ساحتها مرصوفة بالحصى الملونة ولها سور عال على دائرها، وفي وسطها حديقة غناء فيها من أنواع الأزهار والرياحين وفسقية كبيرة يتدفق الماء منها، وعلى جانبي الحديقة بناءان فخيمان، كل منهما طبقتان فيهما الغرف الكبيرة الدالة على غنى وافر، ولا عجب؛ فإن صاحبها جمع ثروة طائلة من مصر وبر الأناطول من التجارة والمرابحة، لكنه شعر الآن بالخطر كما شعر غيره، فأخذ زوجته وأولاده وأمواله ونزل إلى سفينة بخارية كانت راسية في المرفأ، ووافاه إليها أولاد عمه وكثيرون من أغنى أغنياء المدينة، وعزموا على السفر تلك الليلة تاركين الدار تنعى من بناها.
وغابت الشمس وخيم الليل، والرجال يعدون ما وجدوه من الأسلحة ليدافعوا بها الدفاع الأخير، والنساء يضرعن إلى الله وإلى السيدة، والأولاد سهروا مع والديهم إلى أن غلبهم سلطان الكرى، فانطرحوا في أماكنهم، وجالت نفوسهم في فردوس الأحلام، يحلمون بألعابهم تارة وبدروسهم أخرى، ولم تغمض في تلك الليلة إلى عيونهم.
وجلس اثنان من الشيوخ يحدث أحدهما الآخر عن حركة الأمير بشير الأولى والثانية، وعن خروج إبراهيم باشا، ويقول: مرت بنا التباريح ولكن لم يحل بنا مثل هذا الضيق، أيذبحوننا ذبح الغنم برجل واحد؟! ولا أحد يشفع ولا أحد يدفع، وقد تخلى الله عن شعبه وأسلمنا إلى يد الأعداء.
فقال الآخر: هذه آخر الأيام كما أنبأنا الجفر، ولكن لا بد ما يأتي المسكوب من أقصى الشمال كما قال النبي دانيال.
فقال الأول: يأتي ولكن بعد خراب البصرة، وما نفع مجيئه الآن وقد اجتمعت طوائف الدروز وقبائل العرب في حرش بيروت؟!
فأجابه الثاني: ولكن لماذا لا ينزل رجال كسروان لخلاصنا؟ أين يوسف كرم؟ وأين البطرك؟ لم نر منهما إلا المواعيد .
فقال الأول: سمعت أن يوسف كرم مخاوذ معهم، ولكني لا أحط بذمتي، وعلى كل حال آخر زمان يا أبا نهرا.
الثاني: آه على أيام الصبا! رزق الله على تلك الأيام! ولكن ما العمل والسن له حق، انظر كيف ترتجف يدي، فلا أستطيع رفع البندقية ولا يزال الرصاص في فخذي من أيام إبراهيم باشا، هذا الذي كتبه الله علينا، ولكن لا بد ما يجيء المسكوب، قلبي يقول لي إن مراكبه الآن في البحر ولا بد ما نراها غدا.
والتقى نقولا بمارون هناك، وقال له: أين عساكر فرنسا التي وعدتنا بمجيئها؟! فإننا لم نسمع عنها كلمة، والأمر كما ترى، وكنت عازما على النزول في البحر مع الذين نزلوا، ولكننا لم نكتب حتى الآن حجج الأملاك التي اشتريناها أخيرا من الشهابيين، وأخاف أن يصيبهم شيء وينكر أولادهم المشترى.
مارون :
الحق بيدك، ولكن إذا أصابهم شيء وكنا باقين معهم أصابنا كما يصيبهم، فماذا تنفع الحجج؟!
نقولا :
صحيح ولكن المال أعز من الروح، وأنا تأخرت في المخزن حتى صفيت أشغالي، وما وصلت إلى البيت إلا منذ ساعة، ولولا ذلك لألزمتني أم منري أن ننزل إلى البحر مع الذين نزلوا.
مارون :
هل تظن أن فرنسا عدلت عن إرسال عساكرها؟
نقولا :
كلا ما عدلت، ولكن الإنكليز وضعوا لها ألف عرقولة؛ لأنهم لا يريدون أن تأتي وتأخذ البلاد وحدها.
مارون :
الله ينجينا من مناظراتهم ويصرفها على سلام.
نقولا :
أظن أنها تنصرف، فإن القناصل اجتمعوا كلهم وذهبوا إلى الوالي ودركوه بالمسئولية، واجتمع عقلاء المسلمين، ونبهوا على الجهلاء في الجوامع أن لا يفعلوا شيئا، وقد سمعت الآن وأنا داخل أنهم قبضوا على القاتل وقتلوه، ولكن الأشرار كثار، ويقال إن العسكر معهم، وهذا الذي يخوفنا، وأرسل القناصل يطلبون مراكب حربية، فإذا وصل ولو مركب واحد لزم الأشرار حدهم.
مارون :
الله كريم، وكيف حال بخور وشمعون وإخوانهم؟
نقولا :
ما على قلبهم، فإن الوالي طمنهم بنفسه.
مضى الليل بتباريحه، وأشرقت الغزالة وانعكست أشعتها عن وجوه صفراء لم تغمض لها عين، وعيون غائرة لم يغمض لها جفن، وأطفال يبكون وينتحبون طالبين كسرة خبز أو شربة ماء، ولم يكن إلا القليل حتى اهتزت تلك النفوس طربا، كأنه بسلك كهربائي، وجعل الألوف يستشرفون البحر، أو يصعدون على السطوح ليتمكنوا من رؤيته، وهم يقولون: أتى أتى، الله ينصره، الله ينصره!
في أقصى الشمال بارجة تشق سطح الماء، وقد رفعت شراعها للنسيم، واستعانت بما فيها من البخار، يقودها الأمل ويسوقها الواجب، وكأن إله السلام أوحى إلى ربانها أن قم على عجل، واقصد مدينة بيروت، فهناك مائة ألف نسمة حياتهم معلقة بخيط من العنكبوت، فقام لا يلوي على أحد، واستعان بالرياح والبخار حتى إذا أشرف على المدينة جعل يطلق أكبر ما عنده من المدافع، فاهتزت المنازل وتكسر زجاج الشبابيك، وأخذت الدهشة قوما والفرح آخرين، أخذت الدهشة رعاع القوم الذي يتوقعون الفتن والثورات؛ لكي يطلقوا لنفوسهم المنحطة عنانها، ويأتوا من الشر ما فطروا عليه، وأخذ الفرح العقلاء والفضلاء الذين يعلمون أن الفتن تفضي إلى خراب البلاد وتضييع مصالحها.
والتقى أحمد بمصطفى بعد ساعة من الزمان، وقال له: الحمد لله على انفراج الأزمة. فقال مصطفى: الحمد لله على كل حال، فقد أويت في بيتي ثلاثين عائلة من هؤلاء المساكين، وكنت حائرا كيف أدافع عنهم وأدفع عنهم الأشرار، أنا لا أفهم هذه السياسة؛ سياسة والينا، وستأتي كلها على رأسه، بأي شرع وفي أي سنة تحرض الرعية بعضها على بعض، الله ينجينا من القوم الظالمين، ليأخذوا الآن على أيديهم، فقد جاء المسكوب وسبع دول ما وقفت في وجهه، أسمعت صوت مدافعه؟ كسر نصف الزجاج في شبابيك بيتي.
فقال أحمد: نعم قبق كبير لم أر مثله في حياتي، مع أني سافرت إلى قبرص وإلى الإسكندرية، ولكن ماذا فعلوا بالقاتل؟
مصطفى :
مسكوا واحدا وقتلوه.
أحمد :
هل هو القاتل؟
مصطفى :
لا أظن ولكنه لم ينكر أنه هو القاتل، على كل حال انقضى الإشكال، ولما كنا في المجلس عند الوالي سفهت رأيه، ووافقني أكثر إخواننا، ولكن هذا الثرثارة أبا فخر كان حاضرا ولا أعلم بأي صفة يحضره الوالي في مجلسه، وقال إن عنده كتابات من كل مشايخ الدروز، وإنهم كلهم مستعدون لأول إشارة حتى ينزلوا على بيروت، فقلت للوالي: سلمنا أنهم نزلوا وأنه تم كل شيء على حسب رغبتك، فمن ينجينا بعد ذلك من الفرنسوي والإنكليز والمسكوب؟! والله، نحن غير قادرين على الأروام. فقال لي: حلمك يا حاج مصطفى حلمك، أما دول أوروبا فأنا عالم أنها لا تحرك ساكنا، نعم إن أهاليها ترسل الصدقات، ولكن رجال الحكومة لا يفعلون شيئا، ومهما جرى فالحالة الحاضرة لا بد من تغييرها. وقد انصرفنا من عنده وأكثرنا غير موافق له على رأيه، ونبهنا في الجوامع حتى لا يصير شيء، وقد أتت هذه الفرقاطة فحلت عزائمه وستراه الآن يحاسن ويجامل ويقول إنه كان باذلا غاية جهده في حفظ الأمن وسينزل الآن للتسليم على الأميرال.
أحمد :
هل ردت القشلة السلام للفرقاطة؟
مصطفى :
نعم ردت ولكن كان صوت مدافعنا مثل صوت الفقاعة.
أحمد :
أتظن إذن انقضى الإشكال؟
مصطفى :
انقضى وقتيا، ولكن الله يسترنا من عواقبها.
وانفرجت قلوب الألوف من سكان بيروت واللاجئين إليها على أثر مجيء البارجة الروسية، وجعلوا يعانق بعضهم بعضا، ويهنئ بعضهم بعضا بالسلامة وعاد كل إلى منزله.
الفصل السادس والعشرون
الذهاب إلى العرب
وصل الأمير عباس وزوجته وأولاده إلى حاصبيا كما تقدم، وخرج الأمراء الشهابيون ورجالهم للقائهم إلى سوق الخان، ولم يقابلهم بإطلاق البنادق على جاري العادة؛ لأن الأمير عباسا أرسل ينهاهم عن ذلك، وأمراء حاصبيا أنفسهم كانوا يخافون إيقاظ الفتنة بأية وسيلة كانت، لكن حذرهم لم يجدهم نفعا، ولما وصل الأمير سعد الدين إلى حاصبيا مرسلا من قبل والي دمشق ليجمع الأموال الأميرية من الدروز؛ قص على الأمير عباس ما أشار عليه به أحد أصدقائه في دمشق، وكان الأمير عباس يعرف هذا الرجل، ويعرف أنه واسع الخبرة شديد الفراسة، فقال للأمير سعد الدين: لا رأي لي بالإقامة بينكم بعد الآن، ولا أظن أنهم يضمرون لكم إلا الشر، وقد دعاني الأمير عمر الفاعور، أمير عرب الفضل، إليه فأرى في تلبية دعوته السلامة . ثم أخبر زوجته وأولاده بما عزم عليه، فوقع الخبر على زوجته وقع الصاعقة؛ لأنها كانت ترى البدو الذين يشتون في ساحل بيروت وهم في حالة من القذر تشمئز منها النفوس، فظنت أن كل البدو مثلهم، أما الأميرة سلمى فطربت أولا لهذا الخبر؛ لأنها كانت تود أن تقف على حال البدو في قفارهم، وترى معيشة نسائهم وبناتهم، وتحقق بالخبر ما قرأته عنهم بالخبر، وكانت تحب ركوب الخيل فتصورت نفسها راكبة مع أميرات العرب يجبن القفار وينشدن الأشعار فطربت نفسها لذلك، ثم تذكرت أنها تبعد عن السر هنري، وقد لا تعود تراه، فخفق فؤادها وصعد الدم إلى وجهها، ثم تقلص عنه فاصفرت وجنتاها وارتجفت شفتاها، وجالت الدموع في عينيها، فألقت جبينها على يدها، وحاولت أن تنسى كل شيء حتى وجودها.
وسر أخواها بهذا السفر؛ لأنهما كانا يحبان ركوب الخيل أيضا ولم، يغتظ منه إلا أمها وأم يوسف، وكادت أم يوسف تعدل عن الذهاب معهم، وودت أن ترجع إلى كفر شيما أو بيروت، ولكنها لم تجد من يوصلها إليهما، فعادت تندب زوجها وأولادها، وسلمت بالذهاب مع الأميرة هند مكرمة وهي لا تنشف لها دمعة.
وكان الأمير عباس على وفاق مع الست نائفة أخت سعيد بك جنبلاط، فأرسلت معه اثنين من رجالها ليوصلاه إلى عرب الفضل، ويخبرا الدروز الذين يلتقي بهم في الطريق أنه من أصدقائهم، ولم يكن السير شاقا كما ظنت الأميرة هند، ونزلوا في الطريق على مشايخ الدروز والعرب إلى أن وصلوا المزار في جبل عجلون، فالتقاهم الأمير عمر بخمسمائة فارس رامح على بعد ساعتين من مضاربه، وكانت عيونه مبثوثة في البلاد، فأوصلت إليه أخبارهم قبل وصولهم بيومين، ولما دنا من الأمير عباس ترجل الأميران وتصافحا، فترجل الفرسان كلهم في أقل من طرفة عين وعلا صهيل الجياد، ثم دنا الأمير عمر من الأميرة هند، وقبل يدها وعاد إلى الأميرة سلمى، فطارحها السلام مصافحة، وقبل يده بعد أن صافح بها يدها، وكانت مسفرة عن وجه يخجل البدر، فوقه عينان تفتنان الظبي، وقد توردت وجنتاها من هواء الصحراء ومما جاش في صدرها من الفخار لما رأت الجياد تتدفق كالسيل المنهمر، كأن الأخلاق التي غرست في نفوس أسلافها، وهم في بطحاء مكة وجبل كامل، لم تزل من خلفائهم، بل بقيت آثارها فيهم تظهر كلما حانت لها الفرص ونبهتها العوامل.
وكان الأمير عمر شابا في نحو الخامسة والعشرين طويل القامة، أبيض الوجه، أسود العينين، ولم يطلق العنان لعارضيه على جاري عادة العرب، ولا جدل شعر رأسه كما يفعلون؛ لأن أباه أحضر له معلمين من دمشق، فعلموه مبادئ العلوم، وزار دمشق غير مرة، وتزيا بزي أهلها، وكان لابسا قفطانا من الأطلس الأحمر، فوقه رداء من الجوخ الرصاصي، وعلى رأسه كوفية وعقال من الحرير والقصب، وتدل ثيابه ورائحته على أنه عائش في نعمة ونعيم، فسرت الأميرة سلمى بمنظره وطلاقة وجهه.
ثم ركب الأميران وركب الفرسان لركوبهما، وانشقوا شطرين؛ فسار الأمير عباس والأميرة هند في المقدمة، والأمير عمر والأميرة سلمى وراءهما وأخواها وراءها، ثم سائر الخدم والحشم، إلى أن بلغوا مقدمة الفرسان، وكان السهل قد لثم الجبل، فصعدوا فيه بين المناهل والغدران، وواصلوا السير على هذا النمط إلى أن وصلوا إلى مضارب الأمير عمر، فلقوا مئات من النساء بالمزاهر والدفوف قد خرجن للقائهم، وهن ينشدن نشيد الترحيب ويقلن:
هلا بالضيف هلا بالضيف
أمير شهاب عزيز ومهاب
وآل الفضل ضيوف الفضل
وكل الفضل لآل شهاب
وكانت واحدة منهن تقول الدور، والباقيات يرددن عليها على نقر الدفوف والمزاهر، فطربت الأميرة هند والأميرة سلمى، ووقفتا هنيهة تسلمان عليهن وتقولان: مرحبا بالزينات، مرحبا بزينات الدار ربات الفخار. حتى إذا دخلتا الحلة وجدتا الأميرة عاتكة أم الأمير عمر واقفة في باب خدرها، فسلمت على الأميرة هند مصافحة، واعتنقت الأميرة سلمى وقبلتها في وجنتيها، وجلس الأمراء وحدهم في مضرب كبير والأميرات وحدهن، وقدمت لهم كلهم القهوة الجديدة وكئوس الشراب، ثم مدت أسمطة الطعام وعليها الخرفان المحمرة، وكان عند الأميرة عاتكة جارية تحسن الطبخ التركي، فطبخت للأميرات ألوانا من الطعام والحلوى لم يأكلن أطيب منها .
ولم يكن الأمير عباس ضعيف البنية، ولكن الترفه الكثير والانقطاع للمطالعة أضعفا جسمه، فصار لا يقوى على عوادي الأدواء، وكأنه أكل طعاما غير صالح أو شرب ماء تطرق إليه الفساد وهو آت في الطريق، أو أثرت فيه حرارة الشمس، أو أصابه أمر آخر، فلم يكد يتم عشاءه حتى أصابه صداع شديد، وكانوا قد أعدوا له مضربا خاصا، فقام إليه وجاشت نفسه فتقيأ ما أكله وحم وأصابه شيء من الهذيان، وأخبرت زوجته وأولاده فأتوا مضربه وقد تولاهم القلق، ولما رأت أم يوسف القيء قالت: إن سيدي مسموم. قالت ذلك همسا في أذني الأميرة هند، وخرجت تدعو الخدم ليأتوها بكثير من اللبن حتى تسقيه، وفهم الأمير عمر مرادها فاسودت الدنيا في عينيه، وقال لها: إننا أكلنا معا من خروف واحد وعن سماط واحد، وشربنا القهوة من غلاية واحدة، وأنا شربت قبله. فأخذت تعتذر عن نفسها، وقالت: ربما يكون سيدي قد شرب شيئا أو أكل شيئا في الطريق. وأتوها بكثير من اللبن لكن الأمير أبى أن يشربه.
وأرسل الأمير عمر أربعة فرسان إلى دمشق يستدعي طبيبا من أمهر أطبائها.
واشتدت الحرارة على الأمير عباس إلى درجة لا تطاق، حتى كاد يشتعل ثم انحطت سريعا، وجعل يشكو من ضيق النفس والعطش الشديد، وجعل جلده يجف ثم يتندى بالعرق دواليك، ونبضه يسرع ثم يبطئ، وازرق وجهه وعنقه، وانقبضت حدقتاه ثم اتسعتا، وأصابته تشنجات صرعية وعقب ذلك سبات عميق.
وكان في القبيلة شيخ كبير مارس صناعة التطبيب من غير معلم ومن غير كتاب، ناقلا ما يعرفه عن أبيه وجده، ومضيفا إليه ما عرفه بالاختبار، فاستدعاه الأمير عمر حالا، فأمر بصب الماء الكثير على رأس الأمير عباس قائلا إن ما أصابه ضربة شمس، ورأت الأميرة هند أن ما قاله الرجل صواب؛ لأن الشمس كانت حارة، وكان نورها ساطعا جدا حتى اضطرت أن تسدل نقابها على وجهها أكثر الطريق، ولم تخف حرارتها بعد غيابها، فأذنت لهم في صب الماء على رأسه، وخالفتها أم يوسف في ذلك، وهي تقول : «سموه يا ستي سموه، اسمعي مني واسقوه اللبن وزلال البيض.» لكن الأميرة هند لم تصغ إليها بل أمرت بصب الماء، وكان ماؤهم باردا؛ لأن الأرض جبلية؛ فانتعش الأمير عباس قليلا ثم عاودته الحمى وأسلم الروح.
الفصل السابع والعشرون
المأتم
تمر الرزايا بالمرء فيراها عن بعد، ويستعظمها قبلما تصل إليه، ويظن أنها إذا وقعت به ضاق بها ذرعا، لا سيما وأنه يعظم أمرها في غيره، ويعجب من صبرهم عليها، ثم إذا حلت به فالغالب أنه يصبر عليها ويجري معها كأنها أمر عادي وقع له؛ لأن الأمل بالنجاة منها يخفف وطأتها ويحلي مرارتها، ولكن إذا جاء المصاب الأكبر ونفذ سهم القضاء، وانقطع الأمل من البقاء، وخطف الموت عزيزا، ورأى المرء أمامه رزيئة لا يمكن دفعها ولا منعها؛ نفد صبره وغاض ينبوع أمله وضاقت به الحيل وارتد دمه إلى قلبه، فلم يعد يغذي دماغه لتذكيره بالمواعظ والحكم، فيسمع منك أقوال التعازي ويقول: «سمعت وفهمت» ويكون قد سمع وفهم، ولكنه لم يع شيئا، حالة لا يتصورها إلا من وقع فيها ورزئ بفقد عزيز، ولا سيما إذا كان سنده الوحيد ومدبر أمره.
هذا ما أصاب الأميرة هند وأولادها، وهي غريبة نزيلة على قوم من البدو في بلاد لم تطأها قدماها من قبل وبين أقوام لا تعرف أحدا منهم.
كان زوجها يعرف الأمير عمر ويعرف أباه، وقد حارب معه كتفا لكتف في عهد إبراهيم باشا، لكن ذلك كان قبل أن اقترنت به، وكان الأمير عمر يواصلهم بالهدايا، ولكنها لم تر صورته إلا ذلك اليوم، فلم تكد تأنس به وبأمه حتى وقعت بها هذه الضربة الأليمة.
وقد عاشت مع زوجها نحو عشرين سنة على تمام الهناء والصفاء، وكانت تهتم به أكثر مما يهتم النساء بأزواجهن عادة؛ لأن معرفيها غرسوا في ذهنها أنه هالك، ولا بد لها من أن تجاهد جهادا مستمرا في الصلاة لأجله، فأكثرت من الصلوات والنذور في السنة الأولى والثانية، ثم رأت أن زوجها أفضل سيرة وسريرة من كل الذين تعرفهم حتى من رجال الدين ، وسمعت مرة واحدا يتلو آية من التوراة مفادها أن كل من يعمل البر فهو مقبول لدى الله مهما كانت أمته، فانجلى لها وجه الصواب، وقالت: إن الله لا يأخذ بالوجوه، بل الناس لديه حسب أعمالهم ونياتهم. وكانت لا ترى من زوجها إلا العمل الطيب والنية الصالحة على ما فيه من الرزانة والوقار ومجادلة الناس بالحسنى، حتى إن المطران كان يسر بحديثه ولا يسمعه كلمة تغيظه، فزالت الشكوك من نفسها، ومنعت القسوس عن الكلام معها في أمر زوجها، ثم لما كبر أولادها اتجه همها كله إلى تعليمهم وتهذبيهم، فلم تعد تهتم بالخلاف الديني الذي بينها وبينه، ولم يخطر لها ببال أنه يمكن أن يموت قبلها؛ لأنه لم يمرض قط مدة اقترانها به، فلما رأته الآن مطروحا على فراشه لا حراك به، لم تصدق أنه ميت، بل أخذت يده وجعلت تناديه وتكنيه، ثم غلبتها عواطفها واسودت الدنيا في عينيها فأعولت بالبكاء.
وغلب الحزن الأميرة سلمى وجفف دموعها، فوقفت شاخصة، ولكنها لم تكد تسمع بكاء أمها حتى وقعت على الأرض وطرحت رأسها على صدر أبيها وهي تبكي وتقول: يا أبي يا أبي. وفاضت الدموع من عيون أخويها وجعلا يبكيان وينتحبان، وقد قام كل منهما في زاوية من المضرب.
ووقف الأمير عمر حائرا في أمره، رأى هذا المشهد وسمع نواحا يفتت الأكباد فاغروقت عيناه بالدموع، ولكنه لم ينس هول الموقف وما يطلب منه ويطالب به فوقف يفكر في أمره، وجلست أم يوسف على الأرض وقد غلبها الحزن فلم تحاول الندب على جاري عادتها، فإنها كانت من النادبات الشهيرات ولكن الحزن الشديد يبكم الألسنة.
وعلا البدر فقصرت ظلال المضارب، واشتد حلكها بالنسبة إلى النور الذي حولها، ونبحته الكلاب من كل ناحية، فانقطع عواء الذئاب خوفا ورهبة، وبركت الجمال وربضت الثيران، والأغنام تجتر وتلوك جرتها على مهل، ووقفت الصافنات الجياد تغمض جفونها ثم تفتحها كلما مر خفاش من أمامها، وخمدت النيران أمام المضارب، وعلا نقيق الضفادع من جوانب الغدران، حيث تظللها أغصان الصفصاف والبان، فامتزج به خرير الماء امتزاج الحسيني بالعشيران، واجتمعت الخفافيش على أشجار الإجاص والزعرور تختصم وتصيح، ولكنها لا تنتقل من الحجاج الشجاج؛ لأنها تكتفي بالكفاف من الطعام، ولا تفعل فعل ابن آدم الذي لا يكفيه شيء يلهمه، فيطمع بما في يد غيره ويجور على أبناء نوعه.
ودخل الأمير عمر مشوره، وجمع رؤساء عشيرته الأدنين وقص عليهم ما حدث بالاختصار، فقال إن أباه كان متآخيا مع الأمير عباس من عهد إبراهيم باشا إخاء الدم،
1
وقد أوصاه أبوه قبل وفاته أن يحسب الأمير عباسا عما له، ويبر به بر الأب بابنه، وأنه استدعاه إليه إلى جبل عجلون لما علم أن في النية قتل أمراء حاصبيا واللاجئين إليهم، ولكن يظهر أنه كان مريضا، فأثرت فيه الشمس وقتلته، والطبيب يقول إنه مات من ضربة الشمس، ولا بد من أن يطالبه الشهابيون والحكومة بدمه قبلما تنجلي لهم الحقيقة، ولكنه واثق أن الأميرة هند وابنتها الأميرة سلمى تقرران الحقيقة، وهي أنه وصل المضارب متعبا، ثم أكل من الطعام الذي أكل منه ولداه وأصحاب المنزل، وأصيب بعد ذلك بصداع شديد وحمى، وقضى نحبه قبل أن يشرب دواء، قال: وقد أحضرتكم الآن لأستشيركم في أمرين؛ الأول: أن الأمير عباسا كان مسلما، فهل ندع الإمام يغسله وندفنه مسلما؟ والثاني: هل ندعو رؤساء العشائر كلهم ونقيم له مأتما يليق به؟ قال ذلك وأومأ إلى شيخ كبير السن شيبت الأيام رأسه، ولكنها لم تحن ظهره كأنه يطلب منه الجواب على سؤاليه.
فقال هذا الشيخ: أما عن الأمر الأول، فالرأي عندي أن نستشير زوجة الأمير، ونعمل بقولها، ولاسيما إذا وافقها عليه أولادها، وأما الأمر الثاني فواجب الضيافة وعهد الأخوة بين الأمير المتوفى وبين المرحوم أبيك؛ يقضي علينا أن نحتفل بمأتمه كما احتفلنا بمأتم أبيك.
ووافقه سائر الرؤساء والمشايخ على ذلك، وللحال نادى الأمير عمر بالسعاة وبعث معم إلى كل أحياء قبيلته، وعين وقت الدفن عصر اليوم التالي، وأعطى الطبيب حنجرا من عطر الورد حتى يصبه في الماء الذي يغسل الميت به فيمنع فساده، وأوصى مدير بيته أن ينحر مائة خروف وعشرة جمال، ويطبخها كلها غداء للجموع التي تحضر المأتم، وأن يطبخ معها عشرين قفة من الأرز، ويخبز ما يكفي ثلاثة آلاف نفس، ويفعل كما فعل في مأتم أبيه، بحيث تكون مضارب طبخ الطعام مفصولة عن المضارب التي يقام فيها المأتم، ولو لم تكن الأرض سهلا كما كانت حينئذ.
وأتم هذه المهام كلها بما لا مزيد عليه من السرعة، وعاد إلى المضرب الذي فيه الميت، وكانت أمه قد جلست إلى جانب الأميرة هند تشاركها في البكاء والنوح، ووقف خدم الأمير خارجا يبكونه ويندبونه، ولا سيما مربي أولاده، وكان رفيقا له في صباه وشبابه، وشهد معه المواقع التي حضرها، وقضى عمره عزبا منقطعا لخدمته وخدمة أولاده، فشعر الآن كأنه فقد ركنه الوحيد في الدنيا، وجلس عند باب الخيمة يبكي سيده، ويعدده ويلوم الموت لأنه لم يأخذه بدلا منه، وجلست أم يوسف إلى جانب الأميرة سلمى وهي تندب مرة وتنوح أخرى، وبات الجميع على هذه الصورة إلى أن ثقل سلطان الكرى على الأجفان، ولج الأمير عمر على الأميرة هند وأولادها لينهضوا ويناموا في مضاربهم، مؤكدا لهم أنه يتولى حراسة الميت بنفسه.
وقد يظن لأول وهلة أن مضارب البدو خالية من كل وسائل الراحة والرفاهة، ولكن ليس الأمر كذلك؛ لأن أمراءهم على ثروة واسعة، وهم يترددون على المدن القريبة منهم، ويقتبسون ما فيها من الكماليات، لا سيما وأنه يزورهم رجال الحكومة أحيانا، وينزل بعض السياح عليهم ضيوفا، فيضطرون إلى اقتناء الأمتعة الفاخرة مما يلزم لراحتهم، ولذلك تجد عندهم الفرش الوثيرة مهيأة للضيوف، ويقتنون الجواري المعتادات على خدمة أهل الرفاهة، فنامت الأميرة هند وابنتها في مضرب مبطن بالحرير على فرش وثيرة تغطيها دثر من الحرير والكتان، ونام ولداها في مضرب آخر متصل به، والمضربان إلى جانب مضرب أم الأمير.
وأصبح الصباح وسومت الانعام، واجتمع الخيامون فخاطوا مضربا كبيرا من مضارب كثيرة لفقوها معا وسمكوه على عمد عالية وشدوا أطنابه، فكان منه قبة واسعة كقبة نجران، ووضعوا الميت في نعش كبير مجلل بشالات الكشمير، ونصبوا له دكة في وسط القبة وسرجوا أربعة من الخيول المطهمة، ووقف السياس بها أمام المضرب.
ولم يمض ساعتان أو ثلاث من النهار حتى انتظم عقد النائحات حول النعش وهن مسدولات الشعور، وقص بعضهن شهورهن وطرحنها عليه إكراما للميت، وجعلت أم يوسف وامرأة من البدو تتباريان في إنشاد أبيات الندب والرثاء، والنادبات يرددن أقوالهما، والأميرة هند والأميرة سلمى لا تكفان عن البكاء حتى تقرحت آماقهما.
وأعدوا نعشا آخر يمثل نعش الميت، وجعلوا فيه حجارة كبيرة وجللوه بشيلان الكشمير، وجعلوا يحملونه ويرفعونه فوق رءوسهم ويطوفون به حول قبة المأتم، والجياد الأربعة ماشية أمامه، وعلى جانبي كل جواد رجلان معهما سيفان مسلولان فوق ظهر الجواد، ورجل ثالث يقوده، ووراء النعش شاعر يعدده وباقي الرجال يرددون ما يقول، ومن ذلك قولهم:
يا سيدي ويا سنجق
كل القول لك يلبق
لما شاعت أخبارك
الشركا لبست الازرق
وقولهم:
يا سيدي ويا ابن دلال
يا رمح انشكل بالمال
قال السيف خبوني
لغير سيدي لا تعطوني
أين الكان ينقلني
ويرخي بنودي عالشروال
وكلما أقبل فريق من قبائل العرب وقف في أول الميدان هنيهة، ونادى بصوت جهوري معددا مناقب الميت، ثم تناول النعش من حامليه وطاف به حول القبة على ما تقدم، واستمر على ذلك إلى أن يصل فريق آخر ويتناول النعش منه ودام الحال على هذا المنوال إلى أن تكبدت الشمس السماء.
وكان رؤساء القبائل جلوسا مع ولدي الأمير في مضرب كبير تجاه قبة النعش، يدخنون التبغ ويشربون القهوة، فلما بلغت الشمس الهاجرة جاء الخدم وأخبروا الأمير عمر أن الأسمطة مدت للطعام في مضارب الرجال، وجاءت الجواري فأخبرن أمه بمدها في مضارب النساء، فنهض الأمير ودعا رؤساء القبائل وسار أمامهم، فجلس نحو مائتي نفس من الرؤساء دفعة واحدة، ولما شبعوا جلس مائتان غيرهم وهلم جرا، إلى أن بلغ عدد الآكلين أكثر من ألفي نفس. وأكل النساء في مضربهن، أما الأميرة هند والأميرة سلمى، فأكلتا مع أم الأمير عمر في مكان منفرد ومن طعام خاص ولم يكدن يذقن طعاما.
حمل النعش بعيد العصر وسير به إلى مدفن عائلة الأمير عمر في سفح ذلك الجبل ودفن فيه، ونحرت على القبر النياق، وألقيت عليه الحجارة الكبيرة وودعت الجماهير الأمير عمر وابني الفقيد، وعادت إلى أحيائها وصعد هو مع رجاله إلى مضاربه مضيع الرشد لا يعلم ماذا يفعل.
ودام المأتم ثلاثة أيام، والعرب يفدون أفواجا أفواجا كل يوم يعزون ولدي الأمير، لكنهم يقتصرون على المجيء نهارا ولا يبقون إلى الليل، ولما انقضت الثلاثة الأيام وثلاثة بعدها، جلست الأميرة هند وابنتها وابناها واستدعت صبي
2
أولادها، وجعلوا ينظرون فيما يحسن بهم عمله في تلك الأحوال: هل يعودون إلى بلادهم بخفارة الأمير عمر ورجاله، أو يبقون عندهم إلى أن تنجلي تلك الغياهب وتطمئن الخواطر. فقالت الأميرة سلمى وكان لها الرأي المعلى: إن الفتنة لا تزال قائمة في بلادنا، فلا نكون بمأمن فيها، ولا يليق بنا أن نكلف الأمير عمر الذهاب إليها في هذه الأوقات، ورأيي يا أماه أن نبقى هنا إلى أواخر فصل الخريف، وحينئذ يرحل الأمير عمر من هذا الجبل إلى بلاد الساحل فنطلب منه أن يوصلنا إلى دمشق، وقلبي يحدثني أن قنصل الإنكليز في بيروت سيبحث عنا ويعرف مقرنا، ويرسل إلينا من يردنا إلى بيروت إن لم يأت هو بنفسه إلينا، والعرب على تمام الوفاق مع الإنكليز؛ لأنهم ينقلون لهم البريد بطريق البر إلى خليج العجم، وقد سمعت تشرشل بك يتكلم مع أبي في هذا الموضوع لما زارنا آخر مرة.
فقالت الأميرة هند: فهمت مرادك، فأنت تعنين السر هنري الذي زارنا مع ابن خالتك لا قنصل الإنكليز نفسه، لماذا تظنين أنه يبحث عنا؟ وكيف يستطيع أن يهتدي إلينا إذا كانت حاصبيا قد احترقت الآن كما يظن؟ ولنسمع ما يقوله أخواك وصبيهما.
فقال الأخوان إنهما يفضلان البقاء عند الأمير عمر إلى أن يفرجها ربنا، وأما صبيهما فارتأى أن يرسل رسول من العرب لأخبار الأمير أحمد وهو يدبر طريقة لحمايتهم، وكادت الأميرة هند توافق على هذا الرأي، ولكن الأميرة سلمى رفضته ووافقها أخواها؛ لأنهما كانا يكرهان ابن خالتهما ويقولان إنه متكبر مدع.
واشتد الجدال بين الأميرة هند وأمها وبين الأخوين وصبيهما، وأخيرا قالت الأميرة سلمى: ما ضرنا يا أماه لو انتظرنا شهرا من الزمان إلى أن يفرجها الله؟! فإننا لم نر من الأمير عمر وأمه وأهل قبيلته كلهم إلا كل إكرام، ولا أظن أنهم يسمحون لنا بالرحيل عنهم الآن ما دامت القلاقل قائمة في جبل لبنان وكل البلاد المجاورة له.
ودنا أخواها من أمهما وأخذا يديها يقبلانهما، ويقولان: نعم يا أماه مثل ما تقول سلمى، نبقى هنا، ونحرس تربة والدنا إلى فصل الشتاء ثم نرحل مع الأمير. ففاضت الدموع من عيني الأميرة هند لما قال ولداها ذلك وصمتت هنيهة، ثم قالت: مثلما يريد الله. ولم يقل صبيهما شيئا بل عزم أن يرسل رسولا يخبر الأمير أحمد كيفما كانت الحال، وكان الأمير أحمد يكرمه ويواصله بالهدايا، وأعطاه مرة خنجرا محلى بالذهب وملقطا من الفضة لمسك السيكارة قصد استمالته إليه؛ حتى يمدحه أمام الأميرة سلمى كلما ذكر اسمه، ولما رآها الآن تشير إلى السر هنري أوجس شرا، وكانت الظنون قد خامرت نفسه قبل الآن، واطلع الأمير أحمد عليها، لكنه خاف أن يطلب من الأمير عمر إرسال الرسول لئلا يرفض ذلك ويعاتب الأميرة هند، فعزم أن يتصاحب مع غيره من الأمراء، ويرسل رسولا من رجالهم.
وألفت الأميرة سلمى الأميرة عاتكة أم الأمير عمر، وجعلت تجلس في مضربها ساعة بعد ساعة تسمع منها أخبار العرب وقصصهم عن الجن والغيلان والحروب والغزوات، وأخذ أخواها يخرجان مع الأمير عمر للصيد والقنص، وطابت لهما الإقامة هناك، أما الأميرة هند فاستوحشت كثيرا لبعد كل أقاربها عنها.
الفصل الثامن والعشرون
خطر غير منتظر
مضى على قبائل العرب أكثر من أربعة آلاف سنة من حين ورد ذكرهم في التاريخ المكتوب والمنقوش، وهم رحل يعيشون بالغزو والنهب وتربية المواشي وحمل بضائع التجار ولم تتغير حالهم.
قامت ممالك آشور وبابل وصور وصيداء ومصر والنوبة، وأينعت ثم انحطت وانقرضت، وقام اليونان والرومان ودوخوا المعمور ثم زالت دولهم، وخرج من العرب أناس بلغوا في فتوحهم قلب الهند والصين شرقا وأطراف أوروبا وإفريقية غربا، ولكن أبناء البادية المقيمين فيها بقوا على بداوتهم لهذا العهد، يعيشون في الخيام ويضربون في انتجاع الرزق ويغزو بعضهم بعضا، كما كانوا يفعلون منذ ألف سنة وألفي سنة، وقد يظن أن بداوتهم هذه على تأصلها فيهم وتمكنها من عروقهم؛ تفارقهم إذا خالطوا أهل الحضارة ورأوا فيها من الرفاهة ما ليس في البداوة، لكنهم لم يروا في البلاد التي حولهم لهذا العهد ما يرغبهم في الحضارة، فبقوا بعيدين عنها ما أمكن.
ولما لم يكن لقبائل العرب وازع عام يقضي بينهم تراهم يلجئون دواما إلى أخذ ثأرهم بيدهم، وهذا هو السبب الأكبر لما يقع بينهم من العدوان.
وكان بين عرب الفضل وعرب بني صخر ثارات قديمة، واتفق أن عرب بني صخر آنسوا الضعف من عرب الفضل، أو حرضهم محرض على غزوهم لكي يضعف الفريقان معا فشنوا الغارة عليهم، وبلغ الأمير عمر أن بني صخر زاحفون عليه، فجمع رجاله في سفح جبل عجلون، وكان هناك سهل فسيح يبتدئ بواد عند أسفل الجبل، ثم ينتشر شمالا وجنوبا وشرقا، وكانوا نحو ثلاثة آلاف فارس، وترك النساء والأولاد في الجبل ومعهم نحو ألفين من الرجال لحمايتهم، وأراد ابنا الأمير عباس أن يخرجا معه للقتال فمنعهما وأوصى أمهما أن لا تدعهما يخرجان من مضربها، وأكد لها وللأميرة سلمى أنه يعود فائزا مساء ذلك اليوم؛ لأن رجال بني صخر لا يقاسون برجاله.
وخرج هو في مقدمة جيشه وكان رجاله مسلحين بالسيوف والرماح، ومعهم نحو مائتي بندقية من البنادق القديمة ذات الزناد، فلما توسطوا السهل رأوه يموج بفرسان العدو، فتقدم فارس منهم براية بيضاء، ومعه رسالة إلى الأمير عمر مفادها أن يسلم للأمير حسان أمير بني صخر الرجلين اللذين قتلا ابن خالته، ويرد له أحمال البن التي نهبها رجاله من قافلة كان فيها عشرون جملا لبني صخر على كل جمل منها نصف قنطار من البن، ويسلم له الأمير عباسا وأهله ليحميهم عنده ؛ لأن بني صخر أولى بحمايتهم من عرب الفضل.
فقرأ الأمير عمر الرسالة وقال للرسول: قل لمولاك إن الرجلين اللذين قتلا ابن خالته إنما قتلاه بثأر قديم لهما عنده، وإن العرب الذين نهبوا القافلة لم يكونوا كلهم من عرب الفضل، ولا هم فعلوا ذلك بأمره، ولا رأى البن الذي يقال إنهم نهبوه، وإن الأمير عباسا - رحمة الله عليه - لجأ إلى حماه، وأوصاه بزوجته وأولاده قبل وفاته، وهو وحده حامي الذمار في تلك الديار، وعرب صخر معتدون عليها وأوطانهم بعيدة في البلقاء، وهو يطلب منهم أن ينكصوا على أعقابهم ويعودوا إليها، فيعود عنهم، وإلا أشبع غربان الجو ووحوش البر من لحومهم.
فرجع الرسول وأخبره مولاه بما سمع، فالتفت إلى الذين حوله وأخبرهم بمفاد الجواب، فأشرعوا رماحهم، وقالوا له: مرنا بالهجوم عليهم. فقال: هلموا يا شجعان العرب! واستل سيفه وهم بالهجوم معهم فمنعه رجاله، وأقسموا عليه أن لا يهجم ما لم يبرز له الأمير عمر، لكن رجاله قوموا الأسنة وأطلقوا الأعنة، فالتقى الجيشان كأنهما جبلان، ودار الطعن والضرب، وكانت الشمس قد علت عن الأفق، وأرسلت أشعتها في وجوه عرب الفضل، فكادت تعمي أبصارهم، وانفصلت كتيبة من بني صخر ودارت وراء عرب الفضل، وربطت عليهم المضيق المؤدي إلى جبلهم، واحتر القتال، واشتدت حمارة الصيف، وتعثرت الجياد بجثث القتلى، وبرز الأمير عمر للأمير حسان، فتنازلا ساعة زمانية على ميمنة الجيش حتى تكسر رمحاهما وتثلم سيفاهما، وكاد فرساهما يسقطان تحتهما، ثم افترفا للم شعث رجالهما.
وكان بنو صخر قد فازوا على عرب الفضل وأثخنوا فيهم؛ لا لأنهم أشد منهم بأسا وأمهر في الكر والفر والضرب والطعن، بل لأن أشعة الشمس كادت تعمي أبصار عرب الفضل، فسقط منهم مئات من القتلى، ولما حاولوا الفرار رأوا فرسان بني صخر تفصل بينهم وبين جبلهم، فانتشروا في عرض البر، وبنو صخر يجدون وراءهم ويضربون في أقفيتهم، وصعد فريق منهم إلى الجبل وهجموا على خيام الأمير عمر، فنهبوها وسبوا من فيها وفي جملتهم أمه والأميرة هند وأولادها، واحتملوهم وعادوا بهم يجدون السير إلى جهة البلقاء.
ولما بلغوا السهل التف حولهم فرسان بني صخر يخفرونهم، وكان الأمير عمر قد سعى وراء رجاله يلم شعثهم وينخيهم ليعاودوا الكرة، فجمع نحو ألف منهم وعادوا إلى السهل، وبلغه حينئذ أسر أمه والأميرة هند وأولادها، فصار الضياء في عينيه ظلاما، والتفت إلى رجاله وقال لهم: هذا يومكم يا عرب الفضل، النار ولا العار، من منك أخو أخته يرضى بهذه المذلة؟! افتضحنا والله بين العرب إلى آخر الدهر، وقد مالت الشمس الآن ولم يبق لنا عذر، فهلموا يا أبطال الحرب والطعان. ثم أشار بيديه إلى الأعداء، وهجم عليهم هجمة منكرة وأخذ يجندل الأبطال يمنة ويسرة، حتى دنا من الفرس الذي عليه أمه وكاد يخطفها من سرجها، ولكن عثر جواده حينئذ فسقط، واجتمع رجاله حوله يدافعون عنه، فأسرع الفارسان اللذان معهما الأميرة سلمى وأمها وأبعدا عنه، ولم يكن إلا دقائق قليلة حتى عاد إلى صهوة جواده، واقتحم فرسان العدو بصدره وكانوا قد أطبقوا عليه من كل ناحية وسدوا في وجهه منافس الفضاء.
ومضت ساعة من الزمان بيعت فيها الأرواح بيع السماح، وفعل الأمير عمر فعالا تشيب الأطفال، وكان معه فارس أسود يحمي ظهره لكنه لم يستطع استرجاع الأسرى مع كل ما بذله من الجهد، ورأى رجاله استبساله فزادت نخوتهم واستقتلوا كلهم، ولكن اجتمع عليهم نحو ألفين من الفرسان الأشداء، ومضت ساعة لم تر تلك البطاح مثلها من عهد الصليبيين، وأخيرا رأى الأمير عمر أن الكثرة غلبت الشجاعة، وأن شمل رجاله قد تمزق، فعزم أن يرجع ويجمعهم ثانية ويبيت بني صخر بهم تلك الليلة.
الفصل التاسع والعشرون
خيبة الأمل
وصل السر هنري إلى صيداء، وبات عند قنصل الإنكليز وأخبره أنه ذاهب إلى حاصبيا، فقال له القنصل: إن حاصبيا والقرى المجاورة لها أمست رمادا، وقتل أكثر رجالها ووصل الفارون من النساء والعجائز إلى هنا وهم في حالة يرثى لها.
فطلب منه السر هنري أن يريه بعضهم، فأرسل القنصل قواسا من قواسته، فجاءه بشيخ طاعن في السن، فقص عليه ما جرى من أول الفتنة إلى أن جمع الرجال في السراي وذبحوا ذبح الغنم، فسأله السر هنري عن الأمراء الشهابيين، فقال له إنهم قتلوا أيضا، فسأله عن الأمير عباس، فقال له إنه رحل إلى عرب الفضل في جبل عجلون منذ عشرين يوما أو أكثر.
وطلب السر هنري من القنصل أن يسير به إلى حيث يقيم المهاجرون من أهالي حاصبيا والقرى المجاورة لها لكي يراهم، فسار به إلى الخانات التي كانوا مقيمين فيها، فقابله النساء بالبكاء والعويل ورأى مناظر تفتت الأكباد، فتداول مع القنصل في أمرهم، ثم مضى وقابل المتسلم، وأسمعه من الكلام أمره، واستأجر سفينة كبيرة ليرسل بها المهاجرون إلى بيروت، وأرسل معهم القواس الذي أتى معه، وكتب إلى الكولونل روز يخبره بما سمع ويستأذنه في السفر إلى جبل عجلون، وأرسل الكتاب مع رسول، وقام يطوف في صيداء ليرى مبانيها القديمة، فرأى خان الإفرنج وقلعة البحر، وصعد إلى قلعة الملك لويس، ورأى أبراجها وما فيها من المدافع المصرية الباقية فيها من عهد إبراهيم باشا، فأعجبه منظرها، وخرج إلى خارج المدينة من عند الميناء القديم، ورأى أكمة الحلازين البحرية التي كان الصيدونيون يستخرجون الأرجوان منها، وركب في اليوم التالي وذهب إلى ضواحي المدينة، وزار بيت لادي إستيرستانهوب، واستقصى أخبارها من بعض الذين يعرفونها، وعاد عند الظهر إلى المدينة، فوجد الجواب من الكولونل روز ينصح له فيه أن لا يوغل في البلاد ما دامت الفتنة قائمة قاعدة، ويؤكد له أن الأمير عباسا فعل عين الصواب برحيله إلى عرب الفضل، ولا بد ما ينزل هناك على الرحب والسعة؛ لأن الأمير عمر أميرهم من أكرم أمراء العرب ووسائل الراحة والرفاهة متوفرة لديه.
قال الكولونل: وقد زرته منذ سنتين وأقمت عنده ثلاثة أيام، فرحب بي وأكرمني غاية الإكرام، ووجدت عنده كل وسائل الراحة التي يمكن أن توجد خارج المدن، ولو كنت أعلم أن الوصول إليه سهل لأشرت عليك بالذهاب إليه من غير تردد، أما والأحوال كما ترى فليس من الحكمة أن تخاطر بنفسك، لا سيما وأن خصومنا قد ينسبون ذهابك لغاية سياسية، ولا يخفى علي انشغال بالك، ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه، والصبر مر ولكن ثمرته حلوة كما يقول المثل الفرنسوي، وما دام الأميرة سلمى وأهلها في حمى عرب الفضل فلا خوف عليهم، وبعد شهر أو شهرين نرى كيف تتصرف هذه الأمور؛ لأن دوام الحال من المحال، ولقد أسفت جدا لما أصاب هؤلاء المساكين على ما وصفت لي، ولا بد من أن تصل السفينة التي أرسلتهم بها اليوم أو غدا فيجدوا هنا بعض الراحة وكل مساعدة ممكنة.
لما قرأ السر هنري هذا الكتاب رأى أن رجوعه إلى بيروت أجدر به في الأحوال الحاضرة، فاستدعى الشيخ الذي رآه قبلا، وكان لا يزال باقيا في صيداء عند أقاربه، وسأله عن عرب الفضل ومنازلهم وعدد رجالهم وأوصاف أميرهم، فقص عليه الشيخ ما يعلمه من أمرهم، وقال: إنهم بطون كثيرة تنزل جبل عجلون والسهول المجاورة له، فتقيم في الجبل صيفا وفي السهول شتاء، وهم نحو ستة آلاف بيت، وإذا خرج أميرهم الأمير عمر الفاعور للغزو خرج معه أربعة آلاف فارس، وقد حاولت الدولة إدخالهم في طاعتها مرارا فأخفقت، لكنهم لا يضمرون العداء لها على ما يظهر، بل يكرمون رجالها ويهادون الولاة بالهديا، ويقصدهم التجار ويشترون منهم السمن والصوف والغنم والجمال والخيل إذا لم تكن كريمة، وقد يبيعون الفرس الكريم بألف ريال أو أكثر، ويشترون من التجار الأقمشة المختلفة والتبغ والرز والبن والسكر والطيوب والآنية النحاسية والحلى والأسلحة، ويقيم إلى جنوبيهم بنو صخر وهم لا يقلون عنهم عددا وعددا، وقد ذهبت إليهم في تجارة منذ عشر سنوات، وكان معي ولداي.
ولما نطق بهذه الكلمة اغرورقت عيناه بالدموع وألقى رأسه على عصاه وجعل يبكي كالطفل الصغير، ثم كفكف دموعه وعاد إلى الحديث، فقال: نعم ذهبت مع ولدي، وكانت الحرب ناشبة بين عرب الفضل وبني صخر، لكن العدول من الطرفين اجتمعوا يوم وصولنا ووقعوا شروط الصلح، فاستبشر العرب بنا واشتروا كل ما معنا من البضائع، وأعطونا غنما بدلا منها فرجعنا راكبين على دوابنا، ومعنا قطعان كبيرة من الغنم، رزق الله على تلك الأيام! يا ليتني مت فيها.
فسأله السر هنري عن حال المعيشة في بيت أمير عرب الفضل. فقال الشيخ: العرب عرب أينما كانوا، وقد ضافنا أمير عرب الفضل في بيته فأكلنا وشربنا مع رجاله، وهو وبعض الأمراء يأكلون وحدهم، وطعامهم الرقاق والرز المفلفل والخرفان، والأمير متأنق في طعامه، فيصطادون له الحجال ويطبخون له أحيانا مآكل تركية؛ لأن عنده الجواري السود المعتادات على طبخ المآكل التركية وعمل الحلويات، وهم يكثرون من أكل الحلوى، وعندهم العسل البري يشتارونه من الجبل ويكون في شقوق الصخور العالية، وقد أكلت منه وهو أطيب من العسل الشبعاوي.
فقال له السر هنري: وكيف ينامون؟ هل عندهم فرش مثلنا؟
فقال: نعم عندهم فرش كبيرة محشوة بالصوف الناعم، وكثيرا ما يزورهم كبار رجال الحكومة وينامون عندهم، والهواء هناك طيب منعش، فينام الإنسان ساعتين كأنه نام الليل كله، فإن كنت عازما على الذهاب إلى هناك فاذهب ولا تخف، فإن كثيرين من السياح قد ذهبوا إلى هناك، وأنا ذهبت مع جماعة من الإنكليز إلى مصر بطريق البر، ومررنا على عرب الفضل وعلى كل العربان الذين في الطريق من هنا إلى عريش مصر، نعم إن السياح كانوا ينامون في خيامهم، ولكن أمراء العرب كانوا يدعونهم للأكل عندهم فيجدون ما يسرهم.
فاطمأن بال السر هنري من هذا الحديث، وسلم أمره لله، وصرف الشيخ بعد أن ناوله صرة من النقود، وقام في اليوم التالي وعاد راجعا إلى بيروت.
الفصل الثلاثون
البحث والتحقيق
لم يكد السر هنري يصل إلى بيروت، حتى وصل إليها فؤاد باشا الصدر الأعظم، جاء ليصلح الحال من أقرب الطرق خوفا من مداخلة أوروبا، وقد فوض إليه أن يفعل ما يرى فعله لازما لاطمئنان الخواطر وإرجاع الأمن إلى البلاد، فقبض على والي بيروت وألقاه في السجن، وسجن معه بعض رجال الحكومة، لكنه لم يفعل ذلك إلا بعد أن جاءه كتاب قوي اللهجة من أميرال الأسطول الإنكليزي الذي كان راسيا تجاه بيروت، وصف له فيه الفظائع التي جرت، وأبان له أن الأمم الأوروبية لا تستطيع السكوت عنها، وأنه إذا لم تبادر الدولة إلى الاقتصاص من المرتكبين، فالدول الأوروبية متفقة على أن تتولى هي بنفسها الاقتصاص منهم وإرجاع الأمن إلى نصابه، وأشار في هذا الكتاب إلى أن اللوم الأكبر واقع على كبار رجال الحكومة الذين أمروا بهذه الفظائع وتولوا إجراءها.
فوقع هذا الكتاب وقعا شديدا في نفس الوزير، وصعد إلى دمشق وقبض على واليها وأمر بقتله، وقتل معه المأمور الذي كان في حاصبيا وثلاثة من ضباطه ومائة وسبعة عشر جنديا ونحو خمسين أو ستين من الأهالي، وكان الذين قتلوا من دمشق وضواحيها نحو ستة آلاف نفس.
وسئل أحد وجوه دمشق ليكتب محضرا يصف فيه ما جرى له، وكان قد نجا من المذبحة، فكتب ما خلاصته.
لما فشت الفتنة في لبنان والبلاد المجاورة له اضطربت الأفكار في دمشق، حتى إذا ورد الخبر بالاستيلاء على زحلة كان فرح عظيم وزينت الأسواق بالأنوار، فزاد الخوف وهرب كثيرون إلى دمشق من البلاد المجاورة لها فامتلأت بهم الكنائس والأزقة، وكانت الآمال معقودة بأن الأمير عبد القادر الجزائري يستطيع منع الفتنة، وقد بذل جهده في هذا السبيل، فاطمأنت الخواطر وعاد الناس إلى أعمالهم في السابع والثامن من شهر يوليو، وفي التاسع منه استبيحت الأرواح، ودخل الأشقياء البيوت والأديرة والكنائس، وقتلوا من فيها حتى العاجز والأعمى من السكان ومن اللاجئين إليهم، بل قتلوا المجذومين الذين يقصدون دمشق للتداوي فيها وحرقوا مكانهم.
وكما فعل هؤلاء الأشقياء المنكرات فعل الفضلاء الصالحات؛ فالأمير عبد القادر، والشريف أسعد حمزة، والشيخ سليم العطار، والشيخ عمر العابد، وأمثالهم؛ طافوا أحياء المدينة برجالهم ينقذون الناس، ويمنعون الاعتداء عليهم، فخمدت الفتنة في اليوم الثاني، ثم اشتدت في اليوم الثالث، ودامت الشدة إلى أن وصل إلى دمشق وال جديد وأمن من بقي حيا.
وأنا كنت نائما في بيتي فأيقظوني صباح الاثنين في 9 يوليو، وأخبروني أن الفتنة فشت في المدينة، فخرجت إلى باب داري لأتحقق الخبر، فرأيت الناس يتراكضون فأقفلت بابي منتظرا قدوم قواس من قنصلاتو الإنكليز؛ لأني تابع لها، وبعد قليل حضر قواس، فأرسلته إلى الأمير عبد القادر أطلب منه رجالا يوصلونني إليه، فرجع القواس وحده بعد برهة قائلا إن الأمير أعطاه ستة رجال، ولكن لم يمكنهم الوصول إلي؛ لشدة الازدحام ولأنهم غير مسلحين، فانتظرت آملا أن يتسلحوا ويعودوا إلي، وبينما أنا جالس في انتظارهم هجم جماعة على باب داري وكسروه بالبلطات ودخلوا الدار الخارجية، وجعلوا يطلقون الرصاص على غرف البيت، فخرجت من باب صغير خارجي ومعي ابني وعمره تسع سنوات وابنتي وعمرها ست سنوات والقواس، وأخذت معي مبلغا من النقود لأستعين به بدل السلاح، وكنت كلما التقيت بجمهور من الثائرين ورأيتهم هاجمين علي أرميهم بقبضة من النقود فيلتهون بها عني، إلى أن وصلت إلى زقاق ضيق ظننت أني لا أجد فيه أحدا فأصل منه إلى دار الأمير عبد القادر، ولكن خاب ظني وهجم علي رجاله ليقتلوني، وضرب واحد منهم ابنتي ببلطة على رأسها، فأسال دمها، وأطلق آخر علي الرصاص مرتين فأخطأني، وبادرني واحد ببلطة على رأسي فشق جبيني، وأصبت بضربات كثيرة في جنبي الأيمن، ولم يعد الذين حولي يستطيعون إطلاق الرصاص علي لئلا يصيب بعضهم بعضا، فقلت لهم: إني ذاهب لأقابل حضرة البك محافظ المحلة في شغل له فيه مصلحة كبيرة.
فقال بعضهم: هلم نأخذه إلى البك. فأخذوني إليه بعدما سلبوا مني ساعتي وكل ما معي من النقود، وبينما نحن سائرون لحقنا درويش بعمامة خضراء وشعر مسدول، وبيده عصا طويلة في رأسها منجل كبيرة، وكان يمدها من فوق رءوس الرجال لينخر بها رأسي، حتى إذا وصلت إلى بيت المحافظ أخذني بيده وصرف الناس عني ووضعني في بيت أحد أتباعه مع القواس، وكان قد صار العصر وليس في البيت إلا امرأة عجوز، والتفت فلم أر ولدي ولا كنت أعلم ماذا جرى لزوجتي وطفلها الرضيع ووالدتها وخالتها، وكنت قد فارقتهم في البيت، أما ولداي الكبيران فكان أولهما عند قنصل الإنكليز والثاني في مدرسة الروم البطريركية، ولم أكن أعلم أيضا ماذا جرى لهما ، وأصعدوني إلى غرفة عالية «قصر» تطل على الشارع، فرأيت منها المحافظ آتيا إلى بيته بأناس كثيرين وعيالهم، فاستغربت كيف يحمي هؤلاء في بيته ولا يحميني أنا فيه، بل يضعني في بيت أحد أتباعه، وترجح عندي أنه يقصد الإيقاع بي ليلا، ولا يريد أن يقتلني في بيته أمام الجمهور، فأخبرت القواس بذلك، وقلت له: الأجدر بك أن تنجو بنفسك. فقال: وأنت ماذا تفعل؟ فقلت له: إني أنتظر حتى يخيم الليل، وأدخل بيت المحافظ، فلا أظن أنه يتجاسر على قتلي في بيته وبيته مملوء بالناس. فقال: هذا هو الصواب ولكني لا أفارقك إلا بعد أن تصل إلى بيت المحافظ، وحينئذ أذهب وأخبر الأمير عبد القادر، فاستحسنت رأيه وانتظرنا إلى أن خيم الظلام.
وحينئذ رأينا سبعة رجال جاءوا وقرعوا الباب بعنف، ففتحت لهم العجوز فسألوها: هل فلان هنا؟ فقالت: نعم هو في القصر «الغرفة العليا». فقلت: دنت الساعة! وأشرت إلى القواس لينجو بنفسه ويخبر عما حل بي، وبينما أنا أكلمه بذلك صرخ واحد من الرجال قائلا: انزل يا فلان فأنا صديقك السيد محمد السوطري، جئت برجال الأمير عبد القادر لكي أنقذك، فلا تخش بأسا. فنزلت إليه، وألبسوني برنسا كالمغاربة، ومشيت بينهم وسرنا ندوس على القتلى في الأزقة حتى وصلنا إلى بيت الأمير، وكان مزدحما باللاجئين إليه؛ لأن الأمير بقي ثمانية أيام متسلحا يطوف في الشوارع وينقذ الناس من القتل، ولما رأى السيد محمد السوطري أن بيت الأمير مزدحم إلى هذا الحد طلب منه أن يسمح له بأخذي إلى بيته وهو قريب من بيت الأمير فسمح له، ومضى بي إلى بيته وسألني عن عائلتي، فقلت له: إن ابني الكبير في قنصلاتو الإنكليز، والثاني في مدرسة الروم، وكان معي ولدان ففرقوا بيني وبينهما ولا أعلم ماذا جرى لهما، وقد تركت زوجتي وطفلها في البيت. فقال: أما ابنك الكبير فلا خوف عليه؛ لأنه لم يدن أحد من قنصلاتو الإنكليز، وأما الباقون فأنا أمضي الآن أفتش عنهم، وهم لا يعرفونني فقد يمتنعون عن المجيء معي، فدع القواس يذهب برفقتي لاطمئنانهم.
ومضى هو والقواس فوجدوا زوجتي وأولادي كلهم ما عدا الثاني الذي كان في المدرسة، وسألت السيد محمدا كيف عرف أني في البيت الذي كنت فيه، فقال إنه لما بلغه ما حصل بباب البريد ظن أن الأمر طفيف وأن الحكومة تتلافاه حالا، فأقفلوا الباب الواصل إلى حارة النصارى لمنع أولاد محلتهم من الاشتراك مع الثائرين، فأتى جمهور من أكراد الصالحية، وخلعوا الباب فخاف حينئذ على بيتي، وأتاه واحد فأخبره بما أصابني وبوصولي إلى بيت محافظ الحارة، فتوجه إليه وطلبني منه فأنكرني، فرجع وأخبر الأمير عبد القادر، فأعطاه ستة من المغاربة المتسلحين ليطلبوني من المحافظ، فذهب معهم وطلبوني منه وشددوا عليه، فاضطر أن يرسل ابن أخيه معهم ليدلهم على مكاني.
وفي تلك الليلة زارني المستر برانت قنصل الإنكليز وطمنني عن ولدي الأكبر، أما ولدي الثاني فمضى ثلاثة أيام، ولم أقف له على خبر ولا وجد بين القتلى المطروحة في الأزقة.
ثم أتى رجل تركي إلى قنصل الإنكليز، وأخبره أنه متزوج ابنة علي آغا كاتب الخزينة - وكنت قد أسكنت المستر روبنصن المرسل الإنكليزي في بيته - فلقيت زوجته ابني المفقود وأخفته في بيتها، فللحال أرسل القنصل رجالا من المغاربة فأحضروه إليه.
وبقيت شهرا في بيت السيد محمد السوطري حتى شفيت من جراحي، ثم دعاني الشريف محمود أفندي حمزة إلى داره فانتقلت إليها؛ لأن الأشقياء خربوا بيتي، ونزعوا خشبه وبلاطه، وبقيت في بيت محمود أفندي إلى أن حضر فؤاد باشا.
وعادني السيد محمد الأمين الشاعر المشهور مفتي بلاد بشارة وقال لي: ماذا أصابكم؟ فقلت: الذي تراه. فقال: سفكت دماؤكم وسبيت نساؤكم وهدمت بيوتكم، ولكن عليكم أن تتأسوا بمصاب غيركم، فإن أهالي دمشق الذين فعلوا بكم هذه الفعال قتلوا أولاد نبيهم وسبوا نساءهم وهدموا الكعبة المشرفة.
الفصل الحادي والثلاثون
مؤتمر باريس
ما هذا الحر الذي يزهق النفوس؟! حقا إن باريس لا تطاق في شهر أغسطس. (المتكلم مندوب روسيا والمخاطب مندوب إنكلترا.)
فقال مندوب إنكلترا: والحر عندنا شديد أيضا على خلاف المعتاد، وقد بلغت درجة الحرارة التسعين أمس.
مندوب روسيا :
التسعين! ما هذا؟! وكيف تحسبون درجات الحرارة؟!
مندوب إنكلترا :
نسيت أنكم لا تحسبون الدرجات مثلنا، إن التسعين بميزان فارنهيت تقابل نحو 32 بميزان سنتغراد، ولكنني أشعر برطوبة هنا لا نشعر بها عندنا، وعلى كل حال الحر شديد هنا، ولا أظنه شديدا في بطرس برج.
مندوب روسيا :
كلا ولكنه يشتد أحيانا كثيرة في فصل الصيف. الظاهر أن فرنسا تريد أن تفتح المسألة الشرقية من جديد.
مندوب إنكلترا :
هل أنتم من رأيها؟
مندوب روسيا :
أنتم تعلمون أنه لا يمكن أن نكون من رأيها، ومولاي الإمبراطور مستاء جدا مما حدث في سورية، ولكنه يقول إنه إن كان الحق في المداخلة لدولة واحدة، فذلك الحق هو لروسيا لا لغيرها، وقد وصلت بارجة من بوارجنا إلى مدينة بيروت في الوقت اللازم فمنعت حدوث مذبحة فيها.
مندوب إنكلترا :
نعم بلغنا ذلك، ومولاتي الملكة شكرت لسفيركم لما بلغها الخبر؛ لأنها مستاءة جدا من هذه الحوادث، وأنتم مصيبون في قولكم إنه لا يحسن بدولة واحدة أن تنفرد بالمداخلة؛ أي بإرسال جنودها إلى تلك البلاد، ولكن هل ترون من الحكمة أن ترسل كل دولة من الدول المتحابة فرقة من جنودها.
ففكر المندوب الروسي هنيهة، ونظر في وجه المندوب الإنكليزي لعله يقرأ فيه ما يضمر، ثم قال له: كلا، ولكن لماذا نفضل فرنسا على غيرها إذا فضلنا أن تنفرد دولة واحدة بإرسال جنودها؟!
فقال المندوب الإنكليزي: نحن لا فرق عندنا؛ فإذا أردتم فنحن نرسل جنودنا، أو أنتم ترسلون جنودكم، أو ترسل جنود نمسوية.
فلم يجب المندوب الروسي على هذا الكلام، بل بقي صامتا يفكر في إرسال الجنود الروسية إذا أمكن، ولكنه يحسب ذلك ضربا من المحال.
وتكامل الأعضاء حينئذ، ودارت المذاكرة بعد أن تليت عليهم تقارير القناصل كلهم، وكان حاضرا في ذلك المؤتمر: معتمد بريطانيا، ومعتمد روسيا، ومعتمد تركيا، ومعتمد فرنسا، ومعتمد النمسا، ومعتمد بروسيا، ولم يسع مندوب تركيا أن ينفي شيئا مما ذكره القناصل.
وبعد بحث طويل أقرت الأكثرية على أنه لا بد من إرسال جنود أوروبية لإرجاع الأمن إلى البلاد، وتبرعت فرنسا بإرسال ستة آلاف من جنودها، وكانوا مستعدين للسفر عند أول إشارة، فشكرها المندوبون على هذه المروءة. وقال مندوب إنكلترا: يجب أن نقرر أيضا أن هذه الجنود ذاهبة باسم أوروبا كلها لا باسم فرسنا وحدها. فبهت المندوب الروسي والبروسي من هذه السياسة الرشيدة وقالا: نعم، هذا هو الصواب. ووافقهما المندوب النمسوي، فلم يسع المندوب الفرنسوي إلا القبول بذلك، وقال: هذا هو غرض مولاي الإمبراطور، فإن الذي دفعه إلى إرسال جنوده إنما هو الشفقة والحنان، وليس له أقل مأرب سياسي، فباسم أوروبا كلها نرسل جنودنا إلى سورية.
فقال المندوب الإنكليزي: والمفهوم أيضا أن هذه الجنود ذاهبة لغرض مخصوص، وهو توطيد الأمن، فمتى توطد تعد مشكورة كما ذهبت مشكورة. فأبرقت أسرة مندوب الدولة العلية حينئذ، وكان قد أوجس شرا لما طلب مندوب إنكلترا أن يكون إرسال الجنود باسم أوروبا كلها قائلا في نفسه: إن هذا يدل على اتفاق أوروبا كلها علينا. فلما سمع القول الثاني، وهو أن الجنود تخرج من سورية حالما يتوطد الأمن فيها سري عنه، ووافق على ذلك ووافق سائر المندوبين، ولم يقل مندوب فرنسا شيئا؛ لأن كلمة توطيد الأمن واسعة المعنى تحتمل التعليل الكثير والمطل الطويل.
وتذاكر أعضاء المؤتمر في أمور شتى تتعلق بهذا الموضوع، وعادوا إلى معاهدة باريس التي عقدت بعد حرب القرم سنة 1856، وألحوا على مندوب الباب العالي بوجوب العمل بها، من حيث المساواة بين كل أصناف الرعية فقال لهم: إن الباب العالي قد بذل أقصى جهده للقيام بتلك المعاهدة، وسيبقى باذلا أقصى الجهد للقيام بها.
وختم المؤتمر وكان ابتداء اجتماعه في الثالث من أغسطس سنة 1860، ووصلت الجنود الفرنسوية إلى بيروت في السادس عشر منه؛ أي بعد وصول فؤاد باشا بشهر كامل، وعسكرت في حرش بيروت نصبت خيامها هناك وانتظرت الأوامر، وحالما وصلت سادت السكينة في كل مكان، واطمأنت القلوب وراجت الأعمال، لاسيما وأن أموال المحسنين من أوروبا وأميركا كانت تتدفق لإعانة المنكوبين، وجعل كثيرون منهم يعيشون من بيع الأطعمة للجنود، وتصرف الجنود تصرف الكرام، فكانوا يدفعون كل ما يطلب منهم، ويعطون الباعة شيئا من طعامهم، حتى إن الفقراء الذين كانوا لا يأكلون إلا الخبز الحاف ولا تصل يدهم إلى شيء من الأدام؛ صاروا يأكلون اللحم الغريض مما يعطيهم إياه الجنود، واكتسى كثيرون من الثياب القديمة التي أعطوهم إياها، وظهر كأن البلاد انتعشت بعدما خيم عليها ظل الموت.
الفصل الثاني والثلاثون
الخيبة والفشل
رجع الأمير عمر إلى مضاربه كاسف البال، يكاد يشتعل غيظا، وكانت الشمس قد آذنت بالمغيب، فترجل عن جواده، واجتمع حوله شيوخ قبيلته، وكان قد أصيب بجرح في ذراعه اليسرى، فأتى المتطبب وغسل الجرح بالماء، وحمى أداة من الحديد، وكواه بها كأنه يميت ميكروبات الفساد، ورش على الجرح رماد خرقة محروقة وربطه، والأمير رابط الجأش لا يتألم ولا يتكلم، ثم سأل الذين حوله عن عدد القتلى، فقالوا له: زهاء مائتين، وقد أبلينا بلاء حسنا فقلتنا أكثر من ذلك. فأمر أن يرسل من يهتم بحمل الجرحى ودفن القتلى، وأن يستريح الرجال ساعتين من الزمان، ثم ينهضوا ويلحقوا بالعدو حيث يبيت تلك الليلة.
فقال له رجل شيخ من رجاله: ليس تبييتهم من صواب الرأي؛ لأن الليل حالك الظلام، وقد نصيب أحدا من أولاد الأمير عباس، والرأي عندي أن ترسل نستنجد عرب عنزه، فأنهم استنجدونا مرتين في حياة المرحوم والدك، فأنجدناهم، ونضرب موعدا نهجم فيه على بني صخر من جهتين مختلفتين، فإما أن يثوبوا إلى رشدهم ويردوا الأسرى ويصالحونا، وإما أن نخرب ديارهم ونمحو آثارهم.
فقال رجل آخر: وهذا ليس من صواب الرأي؛ لأن عرب عنزه ارتحلوا إلى جهات الجزيرة، أو هم على أهبة الارتحال، ورأيي أن ترسل إلى بني صخر نعرض عليهم افتداء الأسرى، ثم نترقب الفرص للأخذ بالثأر. وقال ثالث: إن الأمير حسانا إن قبل بافتداء أسرانا لا يقبل بتسليمنا الأميرة هند وأولادها، ولا بد ما يكون قد كتب كتابه الآن على الأميرة سلمى على جاري عادته.
ولما سمع الأمير عمر هذا الكلام صار الضياء في عينيه ظلاما ، فنهض واقفا وقال: من منكم أخو أخته يسير ورائي ويحمي ظهري، وعلي أنا وحدي ببني صخر كلهم!
ولكنه كان خائر القوى لكثرة ما نزف من دمه، فارتجفت ركبتاه وكاد يغمى عليه، فقال له الطبيب: تناول الآن شيئا من الطعام حتى تسترد قوتك وبعد ذلك تنظر في الأمر. وشعر هو بخوران قوته فاتكأ على عمود الخيمة، وأطرق وهو يكاد يتميز غيظا من نفسه ومن سوء طالعه؛ لأنه لو لم يعثر جواده لرد الأسرى وقهر الأعداء، ولولا أشعة الشمس التي أعمت أبصار رجاله لما دارت الدائرة عليهم، فكأن التقادير كلها كانت معاندة له، فالتفت إلى الذين حوله وكادت دموع الغيظ تنفجر من عينيه، وقال لهم: لا بد لنا من الراحة على كل حال، فعلقوا لخيلكم واستريحوا قليلا.
ثم أمر خدمه أن يقدموا لهم ما حضر من الطعام ودخل خباءه، وانطرح على بساط وحاول جمع أفكاره المتشتتة فلم يستطع، وشعر كان رأسه يكاد يشتعل، فنزع كوفيته وعقاله، واتكأ على مسند وجعل يغمض عينيه ليزول من أمامه شبح أمه وشبح الأميرة هند وأولادها، فزادت تلك الأشباح تجسما، وكأنه كان يسمع أصواتهم ترن في أذنيه وتناديه ليسرع إلى نجاتهم، وخيل له أنه سمع الأميرة سلمى تناديه وتقول له: نزلنا عليك ضيوفا لتسلمنا إلى هذا الوغد الزنيم! ما كذا تفعل العرب الكرام. وسمع الأمير حسانا يعرض عليها الزواج به ويهددها بقتل أخويها إن أبت، فارتعدت فرائصه وحاول النهوض، ولكنه لم يستطع؛ لأن الحمى كانت قد تمكنت منه وجعلت الأخيلة تتراءى أمام عينيه، وخيل له أنه عاد إلى ميدان القتال فجعل ينخي رجاله ويحرضهم على الهجوم، وكان صوته يرتفع أحيانا حتى يسمعه فيستيقظ وفي أقل من لحظه يعاوده البحران.
وسمع خدمه هذيانه فخافوا ونادوا الطبيب، فدخل وجس نبضه وغلى بعض الأعشاب وسقاه غلايتها، ونزع جزمته من رجليه وغطاه، فعرق عرقا غزيرا، ثم نهض وخلع ثيابه وشرب قليلا من اللبن فانتعشت قواه، ولكنه لم يستطع أن يصرف عن ذهنه التفكير بأمه والأميرة هند وأولادها، لا لأنه كان يخشى عليهم شرا؛ لأن العرب لا يسيئون إلى أسراهم، ولا سيما إذا كانوا من كرام القوم، بل يحتفظون بهم ليأخذوا فكاكهم؛ ولكن لأن الكلام الذي سمعه عن الأمير حسان كان أوقع في نفسه من ضرب الحسام، فجعل يضرب أخماسا لأسداس ويوازن بين الأساليب التي يمكن أن يسترد الأسرى بها ويقهر عدوه من غير أن يقع بهم ضرر، فلم ير أسلم عاقبة من افتكاكهم ولو بكل ما يمتلكه. وقال في نفسه: إن حسانا وإن كان زير نساء إلا أنه يفضل المال على كل شيء، فإن أنا أعطيته مائة جمل أو مائتي جمل أو خمسمائة جمل، فعل ما أريد، فأشتري شرفي الآن بالمال القليل، ومتى انفرجت هذه الأزمة يدبرها الله، ثم استدعى رجاله وقال لهم: ما قولكم لو عرضنا الفداء على الأمير حسان وأجزلنا له العطاء؟ فاجمعوا على أنه ممن يشترى بالمال، ولكنهم خافوا أن يصر على بقاء الأميرة هند وأولادها عنده؛ إما رغبة في الأميرة سلمى، وإما طمعا بأن بني شهاب يفتدونها بالأموال الطائلة.
وبينما هم في الحديث دخلت أم يوسف، وهي تصيح وتقول: أين شهامة العرب يا أمير عمر؟! أتترك ستي وأولادها في السبي؟! أرسلني إلى بيروت حتى أخبر قنصل الإنكليز، فإن الست سلمى مخطوبة لأمير إنكليزي، وإذا عرف ما أصابها أتاكم بألف عسكري إنكليزي.
فكان لكلامها وقع عظيم في نفوسهم فأجلسوها وسكنوا روعها، وسألوها عن قصة الأمير الإنكليزي، فأكدت لهم أن في دار قنصل الإنكليز في بيروت أميرا إنكليزيا من أولاد عم ملكة الإنكليز، وهو خطيب الأميرة سلمى، وقد سافر أبوها بها على غير علمه، وأنه لا بد وأن يكون آتيا الآن بالعساكر للتفتيش عنها، فطيبوا خاطرها وجعلوا يتداولون في إيصال هذا الخبر إلى الأمير حسان.
أما الأمير عمر فصمت ولم يعد يتكلم؛ لأنه رأى أنه إن كان ذلك ينجيه من خصم يكرهه هو وتكرهه الأميرة سلمى أيضا، فهو يوقعه في خصم آخر تحبه الأميرة سلمى، ولا يمكن نجاتها منه، فرأى أن الآمال التي أحياها في فؤاده أماني فارغة وأضغاث أحلام، فلم يعرف كيف يتقي النبال؛ فشل وخذلان وأسر وذل، ثم هو مضطر أن يحمل العار لينقذ فتاة تكون لغيره ولا يعود يراها في حياته، فوجم ولم يعد يتكلم، وظن رجاله أنه كان يفكر في طريقة لإنقاذ الأسرى من غير فكاك فصمتوا هم أيضا، ثم نظروا إليه يستوضحونه رأيه، فقال وهو لا يدري ما يقول: أرسلوا اعرضوا عليه الفكاك، وخذوا من مالي خمسمائة جمل أو أكثر، حسب دواعي الحال، وأخبروه أن الأميرة سلمى مخطوبة لأمير إنكليزي، وأنه لا بد وأن يكون آتيا الآن بعساكر الإنكليز ومدافعهم، وهو يعلم ما حل به وبرجاله يوم خربوا عكاء، وإن فسح الله لي في الأجل أخذت ثأري بيدي، وإلا تركت ثأري لكم لتأخذوه بعدي، وقد عاودتني الحمى الآن ولا أدري ماذا أقول. ثم اتكأ على ذراعه وأسند رأسه إلى كتفه. وقام رجاله وتشاوروا ساعة من الزمان، ثم أرسلوا ثلاثة منهم ومعهم رايات بيضاء ليعرضوا الفكاك على الأمير حسان ويخبروه بقصة الأمير الإنكليزي.
وكان قد وصل إلى القبيلة شاعر دمشقي، فنظم أبياتا في واقعة الحال وأنشدها الأمير عمر يعزيه بها عما حل به ومنها قوله:
تعز فإن الصبر بالحر أجمل
وليس على ريب الزمان معول
فلو كان يغني أن يرى المرء جازعا
لحادثة أو كان يغني التذلل
إذن فالتعزي عند كل مصيبة
ونائبة بالحر أولى وأجمل
فكيف وكل ليس يعدو حمامه
وما لامرئ عما قضى الله مرحل
فإن تكن الأيام فينا تبدلت
بئوسا بنعمى والحوادث تفعل
فما لينت منا قناة صليبة
ولا ذللتنا للذي ليس يجمل
ولكن رحلناها نفوسا كريمة
تحمل ما لا تستطيع فتحمل
فشكره الأمير وأمر له بصلة سنية وفرس كريم.
الفصل الثالث والثلاثون
البطر بعد الظفر
عاد الأمير حسان ورجاله وهم لا يصدقون بما نالوه من الفوز المبين، فإن غاية ما رجوه أن يأخذوا بثأر رجالهم من عرب الفضل، ويكشفوا عنهم العار ويستردوا ما نهب من قافلتهم، ففازوا بأكثر مما أملوه؛ قتلوا مائتي رجل أو أكثر، وأسروا أم الأمير عمر وضيوفه ، واستافوا قطيعا كبيرا من الماشية وجدوه في طريقهم، وانتظروا الفكاك الكبير للأسرى، فواصلوا السير بالسرى إلى أن أبعدوا مرحلة كبيرة عن منازل عرب الفضل، ونزلوا في آخر الليل واستراحوا قليلا، ثم قاموا في الصباح وساروا وئيدا ثلاثة أيام إلى أن وصلوا إلى محلتهم في البلقاء، والأمير حسان لا يصدق ما يرى، بل يحسب أنه في حلم، وكانت أخبارهم قد بلغت من بقي في المحلة، فخرجت النساء للقائهم بالدفوف والمزاهر والأناشيد الحماسية، وذبحت الذبائح في اليوم التالي وأولمت الولائم وأديرت الخمور، وأنزل الأمير حسان الأميرة هند والأميرة سلمى وأم الأمير عمر في مضرب كبير قرب مضرب زوجته، وأقام جاريتين على خدمتهن، وأنزل ولدي الأميرة هند في مضرب آخر، وكان في بني صخر شاعر من مثاولة جبل عامل، فنظم له قصيدة يمدحه بها، ويذكر مناقبه الحسان وبلاءه بالأعداء، ويحذره من التمادي في عدائهم ومما قاله فيها:
تجاف عن الأعداء بقيا فربما
كفيت ولم تجرح بناب ولا ظفر
ولا تبر منهم كل عود تخافه
فإن الأعادي ينبتون مع الدهر
إذا أنت أفنيت النبيه من العدى
رمتك الليالي عن يد الخامل الذكر
وهبك اتقيت السهم من حيث تتقي
فكيف بمن يرميك من حيث لا تدري؟!
ففطن الأمير حسان إلى مراده، وظن به السوء فلم يصله بشيء بل أمر أحد أعوانه أن يأخذه إلى خيمته ويحتفظ به إلى أن ينظر في أمره، وشرب من معتقة الدنان إلى أن امتلأ رأسه ببخارها، فذهبت بعقله وقام قاصدا مضرب الأميرة هند، فالتقت به زوجته، ولم يخف عليها أمره، فقالت له: إلي أين يا سيئ الفعال؟! أتريد أن تتركنا عارا بين قبائل العرب؟! وأمسكت به وردته من حيث أتى، وكان يخشى صولتها وقد طلق نساء كثيرات قبلها، أما هي فملكته وكان يجلس أمامها كالعبد الذليل، فعاد إلى مضربه سكران بخمرتين: خمرة الظفر وخمرة العنب، فخيل له أنه راكب على جواده، والفرسان تتسابق بين يديه، فجعل يضرب يمنة ويسرة، كأنه يجندل الأقران، ويصيح مرة بعد أخرى، ثم يضحك حتى يستلقي على ظهره، ويقوم ويسير مهرولا طالبا الخروج من المضرب، فيمسك به عبده ويرده إلى مكانه، وإذا أكثر من الجلبة والعربدة أتت زوجته إليه وتهددته، فيضحك لها أولا، ويحاول القبض عليها ثم يقول لها: أنا الفارس المغوار، أنا قاهر عرب الفضل هه هه، من أنت حتى تقفي في طريقي؟! تعالي يا حبيبتي هه هه هه، ألا تأتين؟! اذهبي عني يا لكاع، اغربي من وجهي، لا بد ما أطلقك وآخذ الأميرة هند لا لا، بل الأميرة سلمى هه هه هه، أين الأميرة سلمى؟ اذهب يا لعين وائتني بها، اذهب وإلا قطعت رأسك بهذا السيف. ثم يلوح بيده كمن يستل سيفا من غمده.
ولم يهتم الخدم بسكره؛ لأنهم كانوا معتادين أن يروه سكران، أما زوجته فخافت أن يسمع أحد من الأميرات الأسيرات صوته، وحاولت وضعه في فراشه، فدفعها عنه وأراد الخروج لكن السكر كان قد أضعفه، فتغلبت عليه هي والعبد وأجلساه على فراشه، ولم يعد يستطيع القيام لكنه بقي يعربد ويهذي ساعة من الزمان، ثم جاشت نفسه فاستفرغ بعض ما في معدته، وانطرح في فراشه كالميت إلى أن أصبح الصباح.
الفصل الرابع والثلاثون
التزلف والنفور
الأميرة هند وابنتها وولداها في خيمة سوداء من الشعر، مرفوعة العماد، مبطنة بشقق الحرير الدمشقي المخطط بالأصفر والأزرق، وهي جالسة على أريكة متكئة على مسند عابسة الوجه مقطبة الجبين، والسيكارة في يدها والأمير حسان واقف أمامها يكلمها بصوت منخفض، ويسترق اللحظ إلى الأميرة سلمى وهي جالسة إلى جانب أمها مستندة إلى مسند آخر لكنها صامتة لا تتكلم، وحاول الأمير حسان جهده لكي يصلح منطقه حتى يكون بلغة مفهومة لدى الأميرة هند، فقال: لقد أبنت لحضرتك أننا لم نقصدك أنت وأولادك بسوء على الإطلاق، ولم يكن لنا غرض إلا عرب الفضل لأخذ الثأر وكشف العار، وأنتم آل شهاب من العرب الكرام الذين يعرفون عادات القبائل ولا يرضون لنا بمذلة إذا أمكننا أن نرفعها عنا.
الأميرة هند :
أنا لا أجادلك في ذلك، ولا أقول لك أن لا تأخذ بثأرك من أعدائك ، ولكن كان في إمكانك أن تخبرنا حتى نرحل عن عرب الفضل، أو أن تخبر رجالك لكيلا يمسونا بمكروه، ولا يحملوا إليك بنات شهاب سبايا، كما حملونا. ما هذا ظني بك يا أمير، ولا تستطيع أن تعتذر بأنك لم تكن تعلم أننا نازلون على الأمير عمر؛ لأنني أرى أنكم تعلمون كل شيء في هذه البلاد.
فقال: لا أنكر عليك أنني كنت عالما بنزولكم على عرب الفضل، وكنت أحسدهم على هذا الشرف، ولكن لم يخطر ببالي أننا نفوز عليهم هذا الفوز المبين، وغاية ما كنت أتوقعه أن نأخذ بثأرنا منهم، ونستاق بعض ماشيتهم غنيمة، أما الوصول إلى مضاربهم وسبي من فيها، فلم نكن لنطمع به، والظاهر أن وجودك في مضاربهم غل أيديهم، وأفسد تدابيرهم، ولولا ذلك لناوشونا إلى أن نبعد عن حماهم، وأميرهم بطل مجرب ولكن خانته الأقدار هذه النوبة؛ لأنه ظلمنا هو وقومه، والله لا ينصر القوم الظالمين.
الأميرة هند :
والآن على أي شيء عولت؟
الأمير حسان :
على الذي تريدينه، فإن شئت أن تبقوا عندنا فعلى الرحب والسعة، ونحن ندافع عنك وعن أولادك بسيوفنا ورماحنا ونبذل جهدنا في مرضاتكم ومسرتكم، وإن شئتم أن نرحل بكم إلى مكان آخر رحلنا، وأينما ذهبنا فكلنا في خدمتك وخدمة أولادك، وغاية ما نتمناه رضاؤك ورضاء الأميرة سلمى (قال ذلك ونظر إليها).
وكان واقفا ويده اليسرى على مقبض سيفه، ويده اليمنى مطلقة يشير بها حينما يتكلم، وهو كهل في نحو الأربعين من العمر، قصير القامة أسود الشعر أسمر الوجه براق العينين خفيف اللحية عصبي المزاج.
فقالت الأميرة هند: لماذا تكلمنا وأنت واقف مع أننا أسراك؟ ولماذا لا تجلس وتستريح؟
فرفع يده إلى رأسه وقال: العفو يا مولاتي، بل أنا أسيركم، ولكن ما دمت قد أمرتني بالجلوس فأنا أجلس إطاعة للأمر.
ثم جلس مكانه متربعا ووضع سيفه على حضنه، ونادى خادمه فأتاه بشبق قصير فمه من الكهرباء وماسورته من الكرز، فمص منه مصتين، وأتاهم خادم آخر بالقهوة، فقدمها للأميرة هند أولا، ثم للأميرة سلمى وأخويها فتناولتها الأميرة هند منه، وأما الأميرة سلمى فاعتذرت عن شربها وكذلك اعتذر أخواها.
ولما شربت الأميرة هند بعض فنجانها قالت له: يا حبذا لو كنت توصلنا إلى الشام «دمشق»، فنظر إليها مستغربا، وقال: ألم يبلغكم ما حدث في الشام؟ فقد حدث فيها أكثر مما حدث في حاصبيا.
فلما سمعت هذا الكلام صرخت قائلة: ماذا تقول؟! أقتلوا نصارى الشام أيضا؟! وارتجفت يدها ووقع الفنجان منها وضربت بيدها على المسند، وقالت: قلت لأحمد إن هذا العمل كله بدسيسة، والغرض منه قتل كل النصارى فلم يصدقني.
ثم ألقت رأسها على يدها وقالت: الله يجازيهم، الله يجازي الذي كان السبب! ما هذه المصيبة؟ ما هذه البلية؟ أين أهلي الآن؟ أين إخوتي وأخواتي وأولاد عمي وأولاد خالي؟!
وقالت له الأميرة سلمى: هل أنتم على يقين من صحة هذا الخبر؟
فقال: نعم وقد سمعته من أكثر من واحد من الذين كانوا هناك، وقد أرسل إلينا والي دمشق لنزحف مع دروز حوران على جبل لبنان، فلم أشأ أن أفعل ذلك؛ لأن الدروز أعداؤنا ولا أركن إليهم، ولم أفهم ما هو غرض الوالي من ذلك، ولا كيف استحل قتل الآمنين في دار الولاية نفسها. ونحن نشكر الله لأننا في هذا القفر مستغنون عن الشام وعن النزول إليها، وبلادنا الآن قاحلة لأننا في فصل الخريف، ولكن متى جاء الربيع تجديها من جنان الخلد، وسترينها في ذلك الفصل إن شاء الله. (قال ذلك موجها كلامه إلى الأميرة سلمى.)
فقالت له: أنبقى هنا إلى الربيع لا سمح الله؟! ثم كيف تقيمون في هذه الخيام وقت المطر؟
فقال: إن المطر لا يخرق الخيام، ولا سيما إذا كانت محكمة النسج مثل هذه الخيمة، وفصل الشتاء عندنا من أبدع الفصول، وسترينه إن شاء الله. وقد سمعت أنك تحبين ركوب الخيل، فخيلي كلها تحت أمرك وأمر أخويك، وعندي مهرة بيضاء تتجلى كالعروس.
ثم صفق بيديه فدخل عبد أسود فقال له: هات غزالة يا شيبوب لتراها الأميرة سلمى. فذهب وبعد دقائق قليلة عاد يقود مهرة كالريم، وقال لها : هذه المهرة لا يعلو ظهرها أحد غيرك، وهي وديعة كالحمل وسريعة كالنعامة.
فشكرته وقالت في نفسها: لعل له ابنة من عمري أركب معها. وكانت قد رأت نساء كثيرات في المضارب، وعرفت أن واحدة منهن زوجته ولكنها لم تر له أولادا، وحقيقة أمره أنه كان قد تزوج بابنة عمه وولد له منها ولدان ماتا بالجدري، ولم يرزق غيرهما، ثم طلقها وتزوج كثيرات غيرها، وكان كلما سمع بابنة حسناء يخطبها إلى أبيها، ثم لا يلبث أن يكرهها ويطلقها، وعرف بهذا الخلق حتى كان العرب يخفون بناتهم عنه، فلما وقعت الأميرة سلمى في أسره لم يشك أحد في أنه يتزوج بها حالا، رضيت بذلك أو لم ترض.
أما هو فهابها في أول الأمر وخشي أن ينظر إليها كما ينظر إلى غيرها من بنات قبيلته، ولكنه لما جالسها وسمع حديثها سولت له نفسه أن يخطبها إلى أمها، وأبت عليه عادات قومه أن يخاطبها في ذلك قبل أن يريها ضروب الكرم، وكان له نديم ربي معه وشاركه في كل طرق الفساد، فأطلعه على مرامه، فسهله له قائلا: إنها أسيرتك وليس لها ملجأ غيرك، ويستحيل عليها أن ترفض طلبك.
وجاء الرسل من قبل الأمير عمر الفضل طالبين فك الأسرى، وأخبروا الأمير حسانا أن الأميرة سلمى مخطوبة لأمير إنكليزي، فهاله الخبر لكنه لم يصدقه، وسأل الأميرة هند عن حقيقته، فاستغربت ذلك ولم تسأله عمن أخبره به، بل قالت له: إنها غير مخطوبة لأحد.
فسري عنه واستدعى الرسل، وقال لهم إنه يرد أم الأمير عمر إليه إن هو افتداها بمائة ناقة ومائتي جمل، وأما الأميرة هند وأولادها فليسوا أسرى بل هم ضيوف عليه، وقد أنزلهم على الرحب والسعة، وهو أولى منه بحمايتهم وسيبقون في حماه إلى أن يسكن الاضطراب في جبل لبنان، ثم يردهم إلى بلادهم آمنين. وكان معه رجال من شيوخ قبيلته فأشاروا عليه أن يرد أم الأمير عمر إليه حالا حسما لأسباب النزاع، وأن ما غنموه من الماشية يكفي بدل ما فقده تجارهم، فاستصوب رأيهم ونادى الرسل، وقال لهم: «هوذا أم الأمير عمر، فخذوها لا فداء ولا فكاك، لكي تعلموا أننا أكرم منكم، وأن ليس غرضنا العداء، وإنما الأخذ بالثأر ورد ما سلبتموه من رجالنا.» ثم أمر لها بهودج، وأرسل معها جارية لخدمتها، فرأوا أن لا سبيل لهم للاعتراض ولا للادعاء بأن الأميرة سلمى مخطوبة؛ لأنها هي كذبت الخبر فعادوا من حيث أتوا.
ومرت الأيام والأمير حسان يزيد توددا إلى الأميرة سلمى وهي تزيد منه نفورا، وقد ظلم الحب من سمى مثل هذا حبا؛ لأنه ميل شهواني دنس، وضعفت سلطة زوجته عليه بازدياد شغفه بالأميرة سلمى، فصار يتهددها بالطلاق كلما لامته، وأسقط في يد الأميرة هند، ولم تعلم كيف تنجو من هذه البلية، أما ولداها فأخذتهما الغيرة والأنفة وعزما على الفتك به إن لم يرعو عن غيه، ولازمت الأميرة سلمى خيمة أمها ولم تعد تخرج منها، وقل أكلها فنحلت وذبلت، ومرت الأيام والشهور وهي تزيد سقما ونحولا، وذلك الطاغية يزيد جرأة وقحة، وأخيرا اتفق مع نديمه على أن يبعد الأميرة سلمى عن أمها، وينقلها إلى خيمة بعيدة، ويحضر الشيخ ويكتب كتابه عليها غصبا، فاحتال النديم عليها ذات يوم واحتملها هو وغلمانه وساروا بها خلسة إلى تلك الخيمة، فركضت أمها حافية حاسرة إلى خيمة ولديها وهي تلطم وتنوح، فاختطف أحدهما سيفا والآخر هراوة وأسرعا وراء أختهما فلاقاهما الأمير حسان ورجاله وقبضوا عليهما واعتقلوهما، وجاء الشيخ ليكتب كتاب الأميرة سلمى، فسأل: من ولي أمرها؟ ففطنت إلى قوله وقالت: أنا ولية أمر نفسي ولا أريد الاقتران بهذا الرجل مطلقا. قالت ذلك وهي لا تدري كيف أتتها القوة لتنطق بهذا القول لشدة ما حل بها من الجزع، ولكن النفوس الكبيرة يظهر مضاؤها في المكاره. فقال الشيخ: إذن لا أستطيع أن أكتب كتابها. والظاهر أن الأمير حسانا لم يكن يتوقع هذا السؤال، فوقف مبهوتا لا يدري ماذا يفعل، فأشار إليه نديمه وانفرد به، وقال له: ليس لك إلا أن تذلها هي وأمها حتى تصغر نفساهما وتضطر أن تفتدي أمها بنفسها . فقال : أصبت. وأمر أن تخرجا من خيمتهما وتنقلا إلى خيمة صغيرة، وتقدم لهما لوازم الطعام فقط، وتجبرا على إعداده بأيديهما من عجن وخبز وطبخ، وأقام عليهما الجواسيس، وأبقى الولدين بعيدين عنهما.
الفصل الخامس والثلاثون
الاحتفال في الحرش
أشرقت الغزالة وانتشرت أشعتها على ساحل بيروت، فتململ ندى الليل من حرها، وتجمعت نقطة على أوراق القلقاس كالدر، وانبسطت على أوراق التوت كأغشية الحرير، ثم ركبت متن الهواء وطارت إلى أعالي الفضاء، فغطى الضباب تلك الهضاب ساعة من الزمان، ثم تقشع عنها وصفا أديم الأرض ووجه السماء، وجفت الرمال إلا حيث وقع عليها ظل الصنوبر، ثم امتد الجفاف إليها كلها، وعلا صرير الصراصير.
ما هذه النصب العالية! وما هذا الشعاع الذي يزري بشمس الضحى! دكة تعلوها قبة فوقها نصب يناطح السحاب، وفي وجهه سيوف منظومة بعضها مع بعض كالشعاع المنتشر من كوكب دري حوله أكاليل الأزهار، وشعار الأمة الفرنسوية وأعلامها منتشرة ومجموعة على أشكال شتى تأخذ بالأبصار رونقا وبهاء.
وما هذه الأطناب النازلة من أعلى القبة كأعمدة الصبح وقد التفت عليها أكاليل الأزهار والرياحين، وامتدت كالهواجر إلى أبعاد شاسعة!
الميدان واسع بين الصنوبر والبساتين في ضاحية بيروت تستعرض فيه ألوف الجنود من عهد إبراهيم باشا ومن قبل عهده، وهو الآن مزدحم مكتظ ترمي فيه الرمل فيقع على رءوس الناس، إلا في دائرة كبيرة حول الدكة والنصب تركت فراغا للولاة والقواد ورؤساء خدمة الدين وأعيان المدينة، وأمامها مركبات المدافع والخيول مقرونة بها، والجنود وضباطهم بأفخر الملابس والحلل.
بم بم بم! شهب تلمع ورعد يصقع، والناس يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت.
بم بم بم! ارتفعت أعمدة الدخان وسردقت فوق تلك الجماهير فحجبت عنها أشعة الهاجرة، ثم صمت كل صوت وسكن كل متحرك، وتقشع الدخان وظهر على الدكة تحت القبة حبر جليل القدر بحلته الحبرية حوله لفيف من الكهنة، يسبح الله بألحان شجية، وتحته رؤساء الأنام بملابسهم الرسمية ثياب مقصبة، ونياشين تتألق في الصدور، وربات الجمال بالحلى والحلل، خصور كالخواتم، ووجوه كالبدور، وقد أفرطن في توسيع أردانهن وأذيالهن، فوقعن كالأبراج المستديرة تبتدئ بدائرة لا يقل قطرها عن الباع، ثم تستدق رويدا رويدا إلى أن تنتهي بخصر يصح فيه قول من قال:
تكاد لهضم الكشح تجعل عقدها
نطاقا كما يستبدل المثل بالمثل
وحولهم الجنود من الفرسان والمشاة ستة آلاف من رجال فرنسا ونخبة شبانها، ووراءهم جمهور لا يحصى عدده من الرجال والنساء والأولاد يموج كالبحر الزاخر.
خشعت الأبصار واشرأبت الأعناق إلى أن انتهى الكهنة من الصلاة والترتيل، فعزفت الموسيقى بالسلام السلطاني ثم بالسلام الإمبراطوري، وعادت المدافع إلى الدوي وتلتها الحركات الحربية، فسار المشاة صفوفا وانتظموا قلعة كبيرة، المدافع والمهمات في وسطها والفرسان وراءها، وصدرت الأوامر من القواد، فأطلقت البنادق طلقات متوالية يتخللها إطلاق المدافع، وسردق الدخان ثانية فحجب الشمس واستظلت الجماهير بظله.
دام الاحتفال ثلاث ساعات كأنها ثلاث دقائق، والموسيقى تعزف والجنود تهتف والمدافع تقصف، وأهالي بيروت ينظرون مدهوشين، يزحم بعضهم بعضا ولا يتنفسون الهواء إلا من فوق رءوسهم!
ثلاث ساعات دام الاحتفال، سبقتها ثلاث ساعات ازدحمت فيها الجماهير، وتلتها ثلاث ساعات حتى انحل عقدهم وانفض جمعهم، النهار كله من الضحى إلى الأصيل والناس مزدحمون لا طعام ولا شراب، بل بعضهم جاء قبل الشمس ولم يستطع أن يعود إلا بعد مغيبها، ولولا باعة الكعك وسقاة السوس لضاقت النفوس من الجوع والعطش، أما كبراء القوم فقدم لهم أفخر أنواع الطعام والشراب.
ولكن هل كان الوالي أطيب نفسا من ساقي السوس؟! وهل كانت زوجة الجنرال أطلق وجها من بياعة اللبن؟! هل كان أحد من المجتمعين في الدائرة الوسطى من الحكام والقواد والأحبار والتجار والشرفاء والأغنياء الذين أكلوا حلواء باريس وشربوا خمر شمبانيا؛ هل كان أحد منهم أنعم بالا من المزدحمين حول تلك الدائرة من أهالي بيروت والقرى المجاورة؟! قال أحد الفضلاء: إن في كل متر مربع من أكواخ الفقراء فرحا وسرورا أضعاف أضعاف ما في كل متر مربع من قصور الأغنياء. إيطاليا أفقر ممالك أوروبا، ولكنك لا تجد غناء وطربا في مملكة أخرى كما تجد فيها ! وإسبانيا تتلوها في الفقر، ولكن سكانها يرقصون ويطربون أكثر من سكان إنكلترا وفرنسا!
والذين شاهدوا ذلك الاحتفال من أهالي بيروت وضواحيها، حسبوا أن الجنود الفرنسوية احتلت سورية ولن تخرج منها، فتمت أمنية فرنسا التي تمنتها من زمن حروب الصليب وأمنية فريق كبير من سكان سورية، ومضت الشهور والجنود تزيد توددا إلى الأهالي، والأهالي لا يجدون سببا للشكوى، بل لم يجدوا إلا كل ما يستحق الشكر، إذ كثرت الأموال وراجت الأعمال وشيدت المباني الفخيمة في بيروت، وساعدت العساكر أهالي لبنان في بناء بيوتهم المحروقة.
كان مارون ونقولا التاجران قد اشتريا بساتين كثيرة في سقي بيروت وأراضي فسيحة في المدينة، فربحا ربحا وافرا بارتفاق أثمانها وبغلاء سعر الحرير، ولم يكن نصيب غنطوس السمسار وعبد الله الوكيل قليلا، ورأى الخواجه بخور والخواجه شمعون أن ابتياع الأملاك أربح من تديين النقود، فعضا أصابعهما ندامة على فوات الفرص، وبادرا إلى مشترى ما يمكن مشتراه من الأراضي التي قرب ساحة السمك؛ إذا بلغهما أن المدينة ستمتد من تلك الجهة.
واجتمع جماعة من الوجوه في بيت كبير من كبراء بيروت، وكان الشيخ درويش أبو فخر معهم أتى من غير دعوة شأن كل فضولي، ودار البحث على الأحوال الحاضرة بعدما قتل فؤاد باشا والي دمشق وكثيرين من المأمورين والضباط واعتقل والي بيروت. فقال واحد من الحضور: إن الإفرنج رشوا الوزير حتى فعل هذا الفعل المنكر. وقال آخر: بل، إنه فعل ذلك بأوامر من إسطانبول لكي يسكت دول أوروبا. وكان بين الحضور رجل دمشقي أتى حديثا من دمشق وشهد ما حدث فيها، فقال لهم: إن الوزير لم يفعل عشر معشار ما يطلب منه، فأنا قد شاهدت كل ما حدث في الشام، ولولا لطف المولى وشهامة الأمير عبد القادر ما أبقوا أحدا، والعملية مدبرة من إسطانبول، اعترفنا بذلك أو لم نعترف، ولا أقول إن القصد قتل هذا المقدار من الأهالي، بل إيقاظ الفتنة لكي تتداخل دول أوروبا على ما قال لي أحد العارفين بدخائل الأمر، والظاهر أن أصحابنا لا يهمهم خربت الدنيا أو عمرت إذا كان لهم غرض سياسي.
فقال له آخر: وما هو هذا الغرض السياسي؟ هل يريدون أن يسلموا البلاد للإفرنج؟! قبحهم الله وقبح سياستهم! فإنها كلها نفاق بنفاق.
وقال الشيخ درويش: الحق في يد الشيخ مصطفى، فإني أنا سمعت الوالي يقول لمشايخ الدروز إنه يساعدهم ويحميهم، ولما زارني في رمضان الماضي قال لي: يا أبا فخر يجب أن تجتهد وتستميل الأمير أحمد رسلان. فعملت كل واسطة معه، والمسألة مدبرة كما قال الشيخ مصطفى، ولكن ما عمره خطر ببالي أنها تطلع في الآخر من رأس الوالي ويلقى كل اللوم عليه.
فقال الشيخ مصطفى: حبسوه يومين على عيون الناس وبعدها يفرج عنه.
فقال الشيخ درويش: ولكن والي الشام قتلوه.
فقال الشيخ مصطفى: قتلوه لأنه كان عنده أوراق فيها أوامر سرية وتهددهم بها، فقتلوه حتى يخفوا الخبر، أنا لا أحط بذمتي ولكن الإشاعة مالئة الدنيا، ويقول البعض إنهم رأوا الأوامر بعيونهم.
فقال آخر: ما قولكم الآن هل تبقى العساكر الفرنسوية هنا؟
فأجابه أبو فخر: لا أحد يخرجها إلا الإنكليز مثلما أخرجوا بونابارته من عكا، وقواس قنصل الإنكليز صاحبي وهو يمر يشرب عندي قهوة كل يوم، وقال لي من يومين إن العسكر الفرنسوي دخل على هذا الشرط أنه يبقى حتى تصطلح الأحوال، ثم يخرج وهو سمع هذا الكلام من الترجمان، والترجمان صاحبي أيضا من زمان طويل، ولو سألته لكان خبرني.
الشيخ مصطفى :
الله لا يحكم الإفرنج فينا، ولكن الحق أولى أن يقال؛ من حين ما أتوا إلى هنا راجت الأشغال واصطلحت أحوال الحكومة، وإذا فرضنا بقاء الفرنسوية هنا وعفونا من العسكرية كما تعفي الدولة النصارى؛ كان ذلك أفضل لنا.
فأجابه الشيخ درويش: إن الفرنسويين لا يعفون أحدا، أما رأيت عساكر المغاربة؟ وأنا قد تصادقت مع كثيرين منهم وزاروني في بيت، فعرفت منهم أن الفرنسوية تأخذ العساكر من الجميع.
وبعد أخذ وعطاء على هذا النمط قر قرارهم على أن لا يحركوا ساكنا، وعلى أن يوصوا الجميع بالتزام السكينة إلى أن يروا ما يحدث في الأستانة؛ لأن بعضهم كانوا يتوقعون حدوث أمر ذي بال فيها.
الفصل السادس والثلاثون
مؤتمر بيروت
اجتمع معتمدو الدول الست الموقعات على عهدة باريس، اجتمعوا في مدينة بيروت للنظر في حوادث لبنان، وغرضهم: البحث عن الجانين وعقابهم، والتعويض على المجني عليهم، وإنشاء حكومة للجبل يؤمن معها حدوث ما حدث. ورأى المؤتمر أن يقدم الأهم على المهم، فنظر أولا في مسألة التعويض؛ لأن الشتاء كان على الأبواب وأراد أن يعطي أولئك المساكين ما يسدون به جوعهم، ويكسو عريهم ويساعدهم على بناء بيوتهم إذا أرادوا العودة إليها، وانتقل بهيئته إلى دمشق، ورأى ما حل بها من الدمار، وقدر الخسائر بثلاثة ملايين من الجنيهات، وبعد بحث طويل واهتمام الوزير بتقليل التعويض المطلوب إلى أقل ما يمكن الوصول إليه؛ عين مقداره، وقيل إنه قيمة المسلوبات أو ما يراد رده منها، وكتبت القوائم في ذلك، ولكنها كانت مأكلا لأهل الطمع، ولم يصل إلى الفقير منها إلا شيء لا يذكر، وقد طبع الناس على الظلم حتى وهم متساوون فيه وراسفون في قيوده بظلم بعضهم بعضا، خلق في الإنسان موروث من الحيوان لا يفلت منه إلا قليلون، وكم من مرة وقفت أرملة مسكينة وطفلها على ذراعها أمام بيت رجل كبير من أهالي بلدها، تطلب منه أن يحن عليها بجزء مما سمح به لها من مسلوباتها وهو ينتهرها ويقول لها «لم أقبض شيئا» أو «هذا كل ما سمحوا لك به» ويعطيها ربع ما أخذ! ومما زاد الطين بلة أن المسلوبات قسطت أقساطا، وأعطيت بها سندات، فجعل الصرافون يشترونها من أصحابها بأقل من قيمتها، فقل ما نال أصحابها منها.
ولما انقضي البحث في مسألة التعويض، انتقل أعضاء المؤتمر إلى البحث في المسألة الأولى؛ أي عقاب المجرمين، فطلب فؤاد باشا من رؤساء النصارى أن يكتبوا أسماء كل الذين يعلمون أنهم ارتكبوا الجرائم، فارتكبوا الشطط حتى صار أعضاء المؤتمر عليهم بعد أن كانوا معهم؛ فاضطروا أن يعدلوا طلبهم، وما زالوا يعدلون وأعضاء المؤتمر يطلبون المزيد في التعديل إلى أن انحصر الطلب في نفر قليل من أعيان الدروز، فقبض عليهم وأودعوا السجن، وفي جملتهم الأمير أحمد أرسلان.
وعاد المؤتمر إلى النظر في الأمر الثالث؛ وهو إنشاء حكومة منظمة في جبل لبنان يؤمن بها العودة إلى مثل ما حدث فيه، فبحث في هذا الموضوع طويلا، وقرر أعضاؤه بعد النظر والروية أن: يتولى إدارة الجبل متصرف مسيحي تختاره الدولة العلية بالاتفاق مع سفراء إنكلترا وفرنسا وروسيا، ويساعده مجلس إدارة ينتخب أعضاءه سكان الجبل، فهو كمجلس الشورى في البلدان الدستورية، وقرروا سن دستور لإدارة الجبل على غاية الدقة، وفرضت المساواة التامة بين جميع سكانه، وانتهت جلسات المؤتمر في أوائل شهر مارس.
الفصل السابع والثلاثون
النجاة من السجن
هذا يومك يا مسرور، سيدك في السجن وأخاف أن يقتلوه؛ لا لأنه مجرم مثل غيره، بل لأنه كان يتردد على قنصل الإنكليز، فلا بد لك من تخليصه، وقد عرضنا الأمر للقنصل، فوعدنا خيرا وهو صادق في وعده، ولست خائفة منه بل من أولاد الحرام أن يغدروا بأحمد، فخذ ما شئت، هذه عشرة آلاف غرش خذها، وبرطل بها السجان أو برطل من تريد، وإذا ما كفت فخذ غيرها لحد مائة ألف غرش، وأنا اعتمادي عليك بعد الله، ولا تخبر أحدا على الإطلاق بل دبر كل شيء وحدك، ولكن لا بد من العجلة؛ لأني خائفة جدا أن تضيع الفرصة علينا. آه يا ربي! ما هذه المصيبة؟! من أين أتتنا هذه البلية؟! قلت له ألف مرة: مالك ولهذه الاجتماعات؟! قلت له: انزل بنا إلى بيروت وخلصنا من أولاد عمك ومن مشايخ العقل، قلت له: امش مع قنصل الإنكليز مثلما مشى المرحوم والدك؛ فما سمع مني. الله يجازي الذين كانوا السبب، الله يخرب بيوتهم مثلما خربوا بيوت الناس! قم يا مسرور وخذ ما شئت، ولا تدعني أرى وجهك إلا وأحمد معك (قالت أم الأمير أحمد هذا القول والدمع ملء عينيها).
فقام مسرور ووضع نصف النقود في كمره ونصفها في كيسه، وهي مائة ليرة فرنسوية، وركب إلى بيت الدين حيث كان أمراء الدروز ومشايخهم مسجونين، وجعل يتردد على السجان ويشرب معه الدخان، ولما استوثق منه أعطاه عشرين ليرة، فجحظت عينا الرجل؛ لأنه لم ير في حياته نصف هذا المبلغ في يده، واتفقا على أن يسكرا الخفراء؛ لأنه خاف أن يرشوهم فلا يكتموا السر كلهم، واشترى مبردا كبيرا من بيطار، وأحضره إلى السجان، فأوصله إلى الأمير أحمد لكي يقطع به القيود من رجليه، وانتظروا إلى أن كانت ليلة مظلمة من ليالي المحاق، تلبدت الغيوم في سمائها، وحجبت نجومها، فدخل السجان وأخرج الأمير أحمد، وسار به الهوينى إلى أن وصلا إلى الباب الخارجي، فوجدا الخفراء قد استيقظوا وأوقدوا نارا أضاءت ما حولهم، فعاد به من حيث أتى، وجاء مسرور في الصباح فأخبره السجان بما جرى، ووصل إلى مأمور السجن في ذلك اليوم كتاب من غير إمضاء يقال فيه إن أحد الأمراء المسجونين عازم على الفرار، فتعهد أبواب السجن وأقفلها بنفسه وضاعف عدد الخفراء.
واجتمع مسرور بالسجان فأخبره السجان بما حدث، فعزم أن يذهب إلى المأمور ويرشوه، ولكنه لم يجد إليه سبيلا، فعاد يفكر في الأمر فلم يجد أسلم من أن يقيم مقام الأمير أحمد، فرجع إلى الشويفات وأحضر عبدا آخر من عبيد مولاه وصباغا أسود، وأتى به إلى السجن ليعطيه للأمير أحمد حتى يصبغ به وجهه ويديه.
فتمت الحيلة ووضع مسرور القيود في يديه ورجليه بدل مولاه، وخرج الأمير أحمد من السجن، وسار مع عبده الآخر، وجعلا يسريان ليلا ويختفيان نهارا إلى أن وصلا بلاد بشارة، واختفيا عند الشيخ نصار أحد مشايخها، ومرت ثلاثة أيام ومسرور يدعي أنه مريض في سجنه لا يخرج منه، وأخيرا دخل المأمور يفتقد المسجونين، فرأى العبد مسرورا بدل الأمير أحمد، وشاع الخبر حالا في بيت الدين، وقامت له البلاد وقعدت، وقبض على السجان وأودع السجن، وتحدث مؤتمر المعتمدين بهذا الأمر، وأصر معتمد فرنسا على معاقبة العبد والسجان والتفتيش عن الأمير أحمد ومعاقبته أيضا، وكان فؤاد باشا مؤيدا له، وخالفهما لودر دفرن معتمد إنكلترا؛ لأن الكولونل روز كان يعتقد براءة الأمير أحمد، ولو لم تكن لديه الأدلة الكافية على ذلك، وقد أعجب بشهامة العبد مسرور، كما أعجب بها كل من سمع عنها، وأرسل الرجال للتفتيش عن الأمير أحمد في كل أنحاء الجبل وجهات الولاية، ووصل ثلاثة منهم إلى قرية الشيخ نصار الذي كان الأمير أحمد مختفيا فيها، وكانوا متنكرين فلما وصلوا إلى العين التي يستقي منها نساء القرية جلسوا وأخرجوا زادهم وجعلوا يأكلون، وطلبوا الماء من النساء ليشربوا فامتنعن؛ لأنهن يتنجسن من كل من يشرب من آنيتهن من غير المتاولة، وأخيرا أتت امرأة من نساء النصارى بجرتها وسقتهم، ووقفت تتحدث معهم ووقف غيرها من النساء معها، واجتمع بعض الأولاد فأشارت عليهم إحدى النساء أن ينزلوا في المنزول في دار الشيخ نصار، فقالت أخرى: إن عند الشيخ نصار ضيوفا. فقالت الأولى: هؤلاء ليسوا ضيوفا، بل هم أمير من أمراء جبل لبنان وعبده. فأسكتتها الثانية قائلة: إن هذا الكلام لا أصل له. والتفتت إليها وعضت على شفتها، فأدرك الرجال حالا أن ضالتهم المنشودة في بيت الشيخ نصار شيخ تلك القرية، لكنهم تجاهلوا ذلك، وبقوا في مكانهم إلى أن انصرف النساء عنهم، وقر قرارهم على أن يعود واحد منهم إلى بيروت يخبر بما سمعوا، ويبقى اثنان منهم في القرية أو ينزلا ضيفين على الشيخ نصار؛ ليراقبا حركات الأمير أحمد وسكناته.
فعاد أحدهم وسار الاثنان الباقيان إلى دار الشيخ نصار، ونزلا في المنزول الذي ينزل فيه الضيوف، وهو غرفة كبيرة فيها فرش كثيرة، يزورها الشيخ كل يوم ليرى النزول فيها ويسألهم عن راحتهم، ويقدم لهم الطعام في أوقاته الثلاثة من غير أن يسألوا عن غرضهم، لكن الشيخ أوجس خيفة لما رآهما، فرحب بهما على جاري عادته، وأخبر الأمير أحمد بذلك وأخرجه في ظلمة الليل من باب سري، وأرسل معه اثنين من خدمه ليوصلاه إلى حدود بلاد حوران فيصير في بلاد الأمان؛ لأن حوران ملجأ الدروز وليس للدولة كلمة نافذة فيها.
فسار الأمير أحمد معهما ماشيا على قدميه بزي فلاح من فلاحي تلك البلاد الذين يذهبون إلى حوران للتعيش فيها، ولم يأخذ عبده معه لئلا يعرف به، بل أمره بالعودة إلى الشويفات ليخبر أمه بسلامته، وبأنه صار في بلاد الأمان، وقد كان معتادا المشي مسافات طويلة يخرج إلى الصيد في الصباح فلا يعود إلا بعد الظهر، وقد يقضي النهار كله ماشيا على قدميه؛ يصعد في التلال وينزل إلى الأودية، ولا يشكو تعبا؛ لا لأنه لا يتعب من المشي، بل لأن خفة روحه كانت تنسيه التعب، أما الآن فكان الهم قد أنهك قواه، واشتد لومه لنفسه؛ لأنه ما فعل حسب مشورة أمه، وانتقل إلى بيروت، وانقطع عن مجاراة قومه، لا سيما وأنه كان يعتقد أنهم مخطئون في عملهم، وكانت صورة ابنة خالته الأميرة سلمى لا تزال أمام عينيه، وقد انقطعت أخبارها عنه بعد أن رحل بها أبوها عن حاصبيا ووصله نعيه، ولكنه لم يصله من مصدر يوثق به ولا كتبت إليه خالته في هذا الشأن، ورأى المستقبل كله مظلما أمام عينيه، فجلس على عين ماء في ظل صخر وغسل يديه ووجهه وكان التعب قد أخذ منه كل مأخذ، فاتكأ على الصخر وران سلطان الكرى على جفنيه، وحلم أنه وصل إلى بلاد حوران، فأحله شيخها على الرحب والسعة، وصار يركب مع قومه، ويغزو العرب المجاورين لهم، فوقع في أيديهم أسيرا ووضعوا القيود في يديه ورجليه وضيقوا خناقه، ورأى الأميرة سلمى وهو على تلك الحالة، فإذا هي مع الجواري تحلب البقر وعليها ثياب أسمال، وسيدتها تشتمها وتضربها، فهب لكي ينقذها منها، ونسي قيوده وسلاسله فوقع وأصاب جبينه الصخر فشدخه، فنهض من نومه والدم ينزف من جبهته، فقال: هو حلم ولكن ما أقبحه! وعاد يغسل جبينه إلى أن انقطع الدم.
شمعون :
قللوا التعويضات حتى لم يبق منها شيء يذكر، قدروا تعويضات الشام بثلاثمائة ألف كيس، وأنزلوها إلى مائة وخمسين ألفا، والآن مراد الوزير أن ينزلها إلى خمسة وسبعين ألفا فما عادت تحرز.
بخور :
إن الدولة لا تدفع نقودا بل تعطي سندات عليها بالمبالغ التي يلزم دفعها، ويمكننا أن نشتري هذه السندات بأقل من ثمنها الأصلي عشرين أو ثلاثين في المائة، وهذا باب واسع للربح يجب أن لا نتغاضى عنه.
شمعون :
كلا وليس لنا مناظر الآن فيه، ولكن بلغني أن مرادهم أن يفتشوا عن المسلوبات كلها ويستردوها، فماذا فعل يوسف بالصيني الذي اشتراه وبسائر الأمتعة المنهوبة؟
بخور :
صرف بعضها، وأرسل البعض الآخر إلى مصر وهي مطلوبة هناك.
شمعون :
لقد أحسن فيما فعل؛ لأنه بلغني أن القناصل والمعتمدين يشددون لاسترجاع كل المنهوبات، وهل تظن أن العساكر الفرنسوية تبقى هنا؟
بخور :
لا أظن ويظهر من المكاتيب التي أتتني أول أمس أنهم يرحلون في أوائل الصيف، وكانت فرنسا طلبت أن يعين والي الجبل من بيت شهاب، ولكن إنكلترا اعترضت على ذلك والدولة معها، ولا يبعد أن يعين الوالي من الخارج، وعلى كل حال، إله آبائنا معنا وهو يدبر كل الأمور لخيرنا.
الفصل الثامن والثلاثون
السلطان عبد العزيز
«ما هذه المدافع يا أمي؟ فقد عددت منها أكثر من تسعين مدفعا ولم أبتدئ من الأول!»
هذا ما قالته فتاة جالسة أمام منصبين من الطين، فيهما قصب قائم، عليه قفل من الحرير حسب اتساع الدواليب البلدية التي كان الحرير يحل ويلف عليها، وبيدها كوفية تكبه عليها حتى يصير أقفالا صغيرة، وهي في نحو العاشرة من عمرها، وليس في الغرفة التي كانت فيها غير صندوق عليه فرش، ولحف مطوية، وبعض آنية الطبخ من كانون وقدور وصحاف؛ غرفة حقيرة ولكنها نظيفة، لا ترى فيها ذرة غبار ولا رائحة خبيثة، بل بالضد من ذلك ترى أمامها خميلة فيها الرياحين العطرية والأزهار الجميلة الألوان من الريحان، والأفسنتين، والقرنفل، والفل، والياسمين، وقد تضوع أرجها في الغرفة وامتزج بهوائها الراح بالماء، وهناك ورد جوري ولكن أزراره تقطف قبلما تفتح لكي يخرج منها ماء الورد، فإن صاحب البيت بناء وأجرته كافية لمعيشة بيته، ولا سيما في ذلك الوقت؛ إذ ارتفعت الأجور لكثرة المباني التي كانت تبنى بمال الإحسان تشغيلا للناس، ولكنه كان يتقاضاها يوم السبت، ويسكر بها يوم الأحد، ويقضي يوم الاثنين نائما من أثر السكر، وهذا دأبه، فتضطر زوجته أن تسلك الحرير، وتخرج ماء الورد لمعيشة بيتها، وكانت تكتسب هي وابنتها ما يكفيهم.
فقال لها أمها: سمعت المدافع وأنا آتية، وسمعت الناس يقولون إنه مات السلطان عبد المجيد، والتقيت بالخوري عند مدخل البستان، فبست يده وسألته عن الخبر فقال إنه صحيح، وقد سمعه في البطركخانة ولكنه طمن بالي.
فنظرت الابنة إلى أمها مدهوشة، وقالت: «مات السلطان»، وحاولت أن تدرك معنى هذا الكلام فلم تدركه، فإنها تذكرت أيام الخوف الماضية حينما قتل رجل واحد، وكيف أنها هربت مع أمها وإخوتها إلى بيت خالها، وتأخر أبوها عن الرجوع إلى نصف الليل فقلقوا عليه، لكنها فهمت من قول أمها أن الخوري طمنها، وقال لها إنه ليس هناك ما يخشى منه، وهو رجل صالح وكل الناس يقبلون يده ويحترمونه لكبر سنه ولصلاحه، فصمتت ولم تقل شيئا، ولكنها بقيت تنظر إلى أمها من وقت إلى آخر لترى ما إذا كانت مطمئنة أو مضطربة.
وسمع كل أهالي بيروت صوت إطلاق المدافع، وكان جرجس يكيل ثوبا من القماش لامرأة اشترت منه عشر أذرع، وهو جالس متربعا في دكانه بسوق البزركان والدكان مرتفع عن أرض السوق قدر متر، وبابه غلقان: أحدهما يرفع إلى أعلى ويسند بعصوين، فيصير مثل مظلة فوق الدكان تقي الواقفين أمامه من الشمس والمطر، والآخر ينزل إلى أسفل فلا يكاد يصل إلى الأرض، وارتفاع الدكان عن أرض السوق مترا يقيه من السيل الذي يجري في أسواق بيروت كلما اشتد وقوع المطر فيها، فلما سمع أصوات المدافع ارتجفت يداه وأبطل الكيل ورد الثوب إلى مكانه، وخافت المرأة فسدلت منديلها على وجهها، وسارت في طريقها مسرعة، واتفق أن مر رجل من التجار الكبار في تلك اللحظة، وكان جرجس يعرفه فاستوقفه وسأله عن سبب إطلاق المدافع، فأسر في أذنه قائلا: مات السلطان عبد المجيد ونصبوا السلطان عبد العزيز. فسأله جرجس: هل من خوف علينا؟ فرفع التاجر راحتيه وأشار بشفتيه إشارة من يقول لا أعلم، ولكن الأمر لا يخلو من الخطر .
وكانت أعناق أصحاب الدكاكين المجاورة قد تطالت كلها ليسمعوا ما يقوله التاجر، ولم يكد جرجس يرى إشارته حتى نزل من دكانه ونزع الدروندين، وأنزل الغلق الأعلى ورفع الأسفل وأقفل الباب، فاقتدى به أكثر أصحاب الدكاكين، ولم تكن إلا دقائق قليلة حتى لم تعد ترى دكانا مفتوحا في تلك السوق، وأقفل كثيرون دكاكينهم في سائر الأسواق وأسرعوا إلى بيوتهم، وجعل الناس يتكلمون همسا ولا يجترئ أحد أن يرفع صوته، كأن آثار الجور والظلم رسخت في نفوسهم رسوخ الطبائع، وتوارثوها خلفا عن سلف، فلا يحدث حادث حتى تراهم يذعرون ويهربون إلى بيوتهم، كأنه بفعل عصبي منعكس لا دخل للإدارة فيه ولا لقوة أخرى من قوى العقل.
وكان نساء مسلمات ومسيحيات في مار إلياس يفين بنذورهن، فذعرن لما سمعن أصوات المدافع، وجعلن يضرعن إلى مار إلياس أو الخضر ليلطف بهن ويقي عيالهن، وهن في ذلك سواء كأنهن من مذهب واحد لا فارق بينهن.
وخرج أبو فخر من بيته ليسأل عن سبب إطلاق المدافع، فالتقى بالشيخ مصطفى صاعدا من المدينة، فأخبره بموت السلطان عبد المجيد وتنصيب السلطان عبد العزيز، فقال: الحمد لله، فقد نجانا الله من احتلال الفرنسوية لبلادنا، وأعطانا سلطانا لا يفضل الإفرنج علينا.
فقال له الشيخ مصطفى: ومن قال إن السلطان عبد المجيد كان يفضل الإفرنج علينا؟! فأجابه: الظاهر أنك غائب عن البلد، ألا تعلم أن كل هذه الحركات والقلاقل مسببة عن ذلك؟! ولكن هذا سر لا يعرفه غيري، أطلعني عليه الوالي لما زارني في رمضان الماضي.
والتقى مارون بنقولا وقال له: لم نستفد فائدة تذكر من مجيء الفرنسوية، ولم نكد نفرح بمجيئهم حتى خرجوا عن آخرهم، وأخاف أن تهبط أسعار العقارات التي اشتريناها.
فقال نقولا: من كان يظن أن سياسة الإنكليز تغلب سياسة الفرنسويين؟!
فأجابه مارون: لو عرفت من الأول أن الإنكليز غير راضين عن مجيء العساكر الفرنسوية ما كنت خاطرت بقرش واحد؛ لأن سياسة الإنكليز دائما غالبة، ألا تتذكر ما فعلوه بإبراهيم باشا؟ فإن فرنسا كانت معه ولكنهم قوموا أوروبا كلها عليه حتى ألزموه أن يخرج من البلاد ويرجع إلى مصر.
فقال نقولا: ومع ذلك لا أرى أن الأسعار هبطت ولا هي مائلة إلى الهبوط، وأسعار الحرير لا تزال في ارتفاع، ولا بد ما تصطلح الأحوال في أيام السلطان الجديد.
وتذاكر بخور وشمعون في الأحوال الحاضرة، فقال شمعون: كتب إلي ابن خالتي من إسطانبول أن السلطان الجديد سيستدين أموالا كثيرة، فتروج الاشغال وتكثر المكاسب في زمانه. فقال له بخور: متى كتب لك ذلك والسلطان لم يجلس إلا أمس؟! فأجابه شمعون: إنه كتب لي مع البوسطة الماضية، ولكن ابن خالتي وكل أصحابنا في فينا وباريس ولندرا كانوا عارفين أميال السلطان عبد العزيز من قبل أن يتولى، وأمور مثل هذه لا تخفى عليهم.
واجتمع وكلاء الدولة والعلماء في دار رشيد أفندي، وهنأ بعضهم بعضا بانفراج الأزمة، فقد تم كل شيء على ما تمنوا، وخرجت الجنود الفرنسوية من بلاد الشام، وجلس السلطان عبد العزيز على كرسي السلطنة بعد أن وعدهم المواعيد الوثيقة أنه يكف أيدي أوروبا، ولم يتسع نطاق الفتن أكثر مما قدروا، واعترض أحد العلماء على ذلك بأن الجنود أسرفت فيما فعلت، فأجيب أنه لم يكن في الإمكان أن يفعلوا غير ذلك، وأجمعوا على تقديم الشكر لفؤاد باشا لنجاحه التام في العمل الذي انتدب له.
وتلي خطاب الملكة في البارلمنت الإنكليزي، فأشارت إلى وفاة السلطان عبد المجيد، وتنصيب السلطان عبد العزيز، وذكرت الأول بفضائله وأشارت إلى أسف الأمة الإنكليزية عليه، وذكرت الثاني بما يرجى من النفع منه لبلاده، وشكرت فرنسا على ما أبدته من الغيرة بإرسال جنودها إلى سورية وإلى حفظها لوعودها، وإخراج جنودها منها حالما استتب الأمن فيها لئلا تزيد المسألة الشرقية تعقيدا.
وأشير إلى سورية في مجلس النواب بفرنسا فاعترض زعيم الراديكاليين على خروج الجنود من سورية بهذه السرعة، ولمح إلى ارتشاء قائدهم فانتهره رئيس المجلس، واشتد الجدال حتى كاد يفضي إلى الخصام، وأخيرا طلب الرئيس الاقتراع على الثقة بالوزارة فكانت الأغلبية لها، وأشير إلى هذه المسألة في مجلس الشيوخ ، فلم تلق من الاهتمام ما لقيته في مجلس النواب.
الفصل التاسع والثلاثون
زيارة الوالي
جلس الكولونل روز في مكتبته، وتطلع من الشباك الشرقي المطل على حديقة المنزل، فوقع نظره على أشجار التفاح والخوخ «الدراقن» والرمان، وقد كادت أغصانها تتكسر من ثقل حملها، ورأى البستاني يجول بينها يتفقد ما يقع منها ويلتقطه، ورفع نظره إلى الجبل فرأى الظلال تمر عليه مر السحاب، فتذكر العام الماضي حينما كان الدخان مسردقا عليه من احتراق بيوته، وشكر الله على انقضاء أيام الشدة.
وكان فؤاد باشا قد أرسل إليه في الصباح يقول إنه قادم لزيارته عصر ذلك النهار إذا كان مستعدا لاستقباله حينئذ، فجلس الآن في انتظاره وبعد هنيهة دخل السر هنري، وقال: حان الوقت. فالتفت الكولونل إلى ساعة كبيرة دقاقة قائمة في زاوية الغرفة، وقال: نعم يصل بعد عشر دقائق، وهو يمتاز على غيره من ولاة الأتراك بشدة تدقيقه في الوقت. ثم التفت إلى السر هنري وقال: على ماذا أجمع رأيك؟
فقال السر هنري: لا بد لي من الذهاب بنفسي، فقد أتاني كتاب من الأمير أحمد أرسلان أنه قائم مع الشيخ إسماعيل الأطرش لمعاونة الأمير عمر الفاعور على بني صخر، ولا أدري على من تدور الدائرة؛ فإن الأمير حسانا أمير بني صخر فارس مغوار لا يصطلى له بنار، والأميرة سلمى في أسره تتجرع مرارة الذل، فإذا رأى أن لا قبل له بمحاربة العرب والدروز، رحل بقومه جنوبا أو شرقا، وزاد في إذلالها إلى أن ترضى به زوجا لها أو تموت حسرة.
فقال الكولونل: وكيف تذهب بنفسك إذا كانت الحال على ما ذكرت؟! وأي فائدة من ذهابك؟!
السر هنري :
يا حبذا لو أمكنني أن آخذ فرقة من الجنود البحارة الذين في البارجة، فإني أقدر كل واحد منهم بمائة من البدو، الذين أسلحتهم السيف والرمح أو البنادق القديمة ذات الزناد.
الكولونل روز :
إن ذلك غير ميسور؛ لأنه لا يجوز لنا أن نرسل جنودا في بلاد الدولة إلا بقرار دولي خاص، ولا يزال البارلمنت مجتمعا فإذا سمع الأحرار أننا أخرجنا جنودنا إلى البر، أقاموا الدنيا وأقعدوها، متخذين ذلك حجة ضد المحافظين لإسقاطهم من الوزارة، ولكن قد نستطيع أن نطلب من الوالي فيعطينا فرقة من الجنود التركية.
السر هنري :
وما أدرانا أنهم لا ينضمون إلى بني صخر، فنخرج من شر ونقع في شرين؟!
الكولونل :
هذا بعيد الاحتمال؛ لأنهم أميل إلى الدروز منهم إلى البدو، وليس لهم مصلحة خصوصية في الانضمام إلى هذا الفريق أو ذاك، ولا بد ما يفعلون بأمر الوالي.
فصمت السر هنري وفكر في الأمر هنيهة، ثم قال: أظن أن هذا هو الرأي الصواب؛ فنطلب من الوالي مائتي فارس وأنا أقوم بنفقاتهم.
فقال الكولونل: ولا أظن أنه يمانع إذا ذهب معك عشرة من الجنود البحارة لحمايتك.
ووصل فؤاد باشا في الميعاد وكان راكبا جوادا مطهما، وأمامه ووراءه كوكبة من الفرسان فلاقاه الكولونل إلى باب المنزل، وتصافحا وسلم على السر هنري مصافحة؛ لأنه كان قد رآه مرارا في المخابرات السابقة، وجلس الثلاثة في غرفة الاستقبال يدخنون التبغ الجبيلي، ويتجاذبون أطراف الحديث باللغة الفرنسوية، فأبان فؤاد باشا أن مهمته قد انتهت ولا يبعد أن يعود من سورية قريبا، وشكر للكولونل روز وللسر هنري ما أبدياه من المساعدة له هما وحكومتهما، واستطرد الكولونل روز الحديث إلى أحوال الدروز في جبل حوران وأحوال البدو المجاورين لهم، فرآه عارفا بما بينهم من الضغائن، وبنشوب الحرب بين عرب الفضل وبني صخر، وبانحياز الدروز إلى عرب الفضل، وحاسبا أن هذه الحرب ستضعف الفريقين، فيسهل كبح جماحهما والتسلط عليهما، فأخبره الكولونل أن في أسر بني صخر أناسا يهم السر هنري إنقاذهم منهم، ويود أن يذهب إليهم بحامية من الجنود العثمانية.
فاستحسن فؤاد باشا ذلك، وعرض عليه خمسمائة فارس يرسلهم مع السر هنري، فشكره السر هنري على ذلك، وانتقلوا إلى الكلام على حكومة لبنان، وغرض فرنسا من رد ولايته إلى الأمراء الشهابيين، واعتراض اللورد دفرن على ذلك، فأبان فؤاد باشا أنه كان يفضل أن يقسم الجبل إلى قسمين يضاف قسم منهما إلى ولاية دمشق، وقسم إلى ولاية بيروت، فبين له الكولونل أن الدول الأوروبية لا توافق على ذلك، فليس من الحكمة محاولته أما البقاع فلا بأس بضمه إلى ولاية دمشق؛ لأن أكثر سكانه من غير المسيحيين.
ولما انتهت الزيارة قام فؤاد باشا فودع بما قوبل به من الإكرام.
الفصل الأربعون
فصل الخطاب
مر على الأمير أحمد أيام لم ير أشد منها إلى أن خرج من حدود الشام ودخل بلاد حوران، ولم يكد يصل إلى تلك البلاد حتى التقى بجماعة من دروز لبنان، فعرفوه وساروا به إلى الشيخ إسماعيل الأطرش، فرحب به وأكرم وفادته وأنزله في أفخر بيوته، وأقام جماعة من رجاله على خدمته، والتف حوله كثيرون من دروز الجبل ومشايخهم الذين هربوا من لبنان، وكانت عيون الشيخ إسماعيل تتسقط الأخبار وتأتيه بها من كل ناحية، فلا يجري شيء في دمشق ولا في لبنان ولا في بيروت ولا في بلاد الجولان كلها؛ إلا ويأتيه خبره، وكان له أصدقاء في بيروت يرسلون إليه بما يبلغهم من أخبار الأستانة وأخبار البلدان الأوروبية، فيقف على أهم الأخبار السياسية، وقد بلغه كل ما حدث في مؤتمر بيروت، وما قر عليه قرار أعضائه من اختيار وال مسيحي للجبل من غير طوائفه، فأخذ يتداول مع الأمير أحمد في طريقه لإرجاع دروز الجبل إلى بيوتهم، فقر رأيهما على أن الأمير أحمد يكتب إلى قنصل الإنكليز الجنرال في بيروت يطلب منه أن يوسط أمرهم عند ولاة الأمور، فكتب إليه وأخبره عن أحوال بلاد حوران وما جاورها.
ولما بلغ الأمير أحمد ما حل بخالته وأولادها، بعث رسلا إلى الأمير حسان أمير بني صخر يتودد إليه ويخبره أن الأميرة هند خالته، ويطلب منه أن يطلق سبيلها وسبيل أولادها، وأرسل مع الرسل هدايا فاخرة من منسوجات دمشق وأسلحتها، وكان الأمير حسان غائبا في بعض مغازيه، فانتظره الرسل إلى أن عاد، وقدموا إليه الهدايا وسلموه كتاب الأمير أحمد، فلم يحفل به ولا قبل الهدايا؛ لأن الأميرة هند وأولادها كانوا يسمعونه مر الكلام، فاضطر الرسل أن يعودوا فارغين، ثم أوعز إلى بعض أعوانه فاقتفوا أثرهم، وقتلوا واحدا منهم وسلبوا ما معهم، فعادوا وأخبروا بما جرى لهم فأرغى الشيخ إسماعيل وأزبد، وكتب إلى الأمير عمر أمير عرب الفضل أنه ينجده بخمسمائة من فرسان حوران إذا قام لمحاربة بني صخر، ودارت المراسلة بينهما، ثم اجتمع الاثنان واجتمع الأمير أحمد معهما وقرروا خطة الهجوم.
وفي الوقت المعين خرج فرسان الدروز من حوران وواصلوا السير إلى أن بلغوا جبل عجلون، فالتقاهم الأمير عمر وأنزلهم على الرحب والسعة، وأولم لهم الولائم ثلاثة أيام حسب عادة الضيافة عند العرب، وقاموا في اليوم الرابع وساروا أربعة آلاف فارس، ومعهم الجمال تحمل الزاد والماء، وقصدوا البلقاء، وكانت أخبارهم قد وصلت إلى الأمير حسان، فجمع رجاله وأحلافه وخرج للقائهم في سهل فسيح يبعد عن الجبل الذي كان ممتنعا فيه نصف مرحلة.
ونام الفريقان تلك الليلة في السهل يفصل بينهما غدير صغير وخرائب مدينة قديمة، نام الخليون وأما الشجيون فأحيوا الليل بين أحلام مرعبة وهواجس مزعجة، الأمير حسان متطير من تلك الواقعة؛ لأن غرابا مر عن يساره حالما خرج من مضربه، وزجره فلم يزدجر، والشاعر الذي غناه بالأمس ابتدأ نشيده بقوله: «يا دار غيرك البلى»، واليوم الذي اضطر أن يخرج فيه يوم الثلاثاء، وهو من نحوسه، وقال في نفسه: إن دارت الدائرة على رجالي، عدت إلى المضارب وقتلت سلمى وأمها وأخويها، ولو عيرني العرب أبد الدهر؛ لأنهم سبب هذه البلية. ثم أغمض جفنيه، وكانت يده على مقبض سيفه فارتخت أصابعها ووقعت، فحلم أن جواده عثر به في حومة الوغى فسقط عنه ونهض مذعورا، ثم عادت به الهواجس إلى فيافي الخيال، ففكر بالأميرة سلمى كما رآها آخر مرة تحلب النياق والدمع قد قرح جفنيها، فأدارت وجهها عنه خجلا منه أو غيظا، فشمت بها كما يفعل اللئام إذا رأوا الضعيف ذليلا بين أيديهم، وفكر بأخويها وقد صارت ثيابهما أخلاقا فلم تأخذه شفقة عليهما ولا رثى لحال أمهما، بل احتدم غيظا على زوجته؛ لأنه كان يعلم أنها ترسل إليهم من طعامها.
وبات الأمير عمر لا يفكر إلا بأخذ الثأر وكشف العار، وتخطر بباله الأميرة سلمى فيردد في نفسه قول من قال:
هي الشمس مسكنها في السماء
فعز الفؤاد عزاء جميلا
فلن تستطيع إليها صعودا
ولن تستطيع إليك نزولا
فإن الطالبين لها أقرب منه إليها؛ ابن خالتها، وذلك الأمير الإنكليزي الذي أخبرته عنه أم يوسف، وهو يلوم طالعه؛ لأنه أوقعه في حب فتاة لا يستطيع الوصول إليها وعزم أن يستدعي طبيب الجزيرة فيسقيه دواء السلوان.
1
وكاد فؤاد الأمير أحمد يطير فرحا؛ لأن التقادير يسرت له أن ينقذ خالته وأولادها من الأسر، وقال في نفسه: إن ذلك لا بد وأن يلين قلب سلمى، ويزيل منه كل أثر من حب ذلك الرجل الإنكليزي الذي تخلى عنها وقت الشدة، مع أنه من أقدر الناس على نجاتها، كيف لا، وأساطيل الإنكليز مالئة البحر وكلمة واحدة منه للوالي تقيم البلاد وتقعدها؟! ولا بد لي من أن أبين ذلك لسلمى إن كانت تجهله.
أما الشيخ إسماعيل فلم يكن يفكر إلا بتحالف رجاله مع عرب الفضل، حاسبا أن ذلك يعزز مقامه لدى الدولة، ويمنعها من تشديد الوطأة في طلب المتأخر من الأموال الأميرية، وكان قد بلغه أنها اكتفت بقصاص نفر قليل من رجال الجبل وعفت عن الباقين، فلم يبق له هم إلا أن تعفيه من الأموال الأميرية، وود أن تنتهي هذه الواقعة بأسرع ما يكون؛ حتى يعود رجاله إلى حصد زروعهم.
ولم يكد ذنب السرحان يعلو فوق الأفق حتى ماج المعسكران، وعلا صهيل الجياد وهدير الجمال واشتدت الضوضاء، وجعل الفريقان يتأهبان للهجوم، فانقسم كل فريق إلى أقسام، وكان كشافة الأمير عمر والشيخ إسماعيل قد طافوا في البقاع التي حولهم وعادوا فأخبروا بما رأوا، فنقح القائدان خطة الهجوم.
أما الأمير حسان فإن رجاله كانوا يعرفون كل شعبة من تلك الشعب وكل بقعة ومنهل، فاستدعى مشايخهم، وكرر عليهم بيان الخطة التي يقابلون بها عدوهم وموضع الكمين الذي أقامه لهم، ولم تكد الشمس تبزغ من وراء الأفق حتى اصطف الجيشان، وابتدأ إطلاق البنادق وأخذوا في الكر والفر والالتحام والانفصال، وعلا العثير فسد منافس الفضاء، وصاح الأبطال واصطدم الشجعان، وتثلمت البيض الصفاح، وتكسرت عوالي الرماح، وحلقت العقبان والقشاعم، ووقفت الضباع في أوجارها تستروح رائحة الملاحم، وقام ملاك النقمة على رابية متهلل الجبين وهو يقول: لا تطهر المآثم إلا بالدماء ما دامت القلوب مباءة للشحناء.
وعلت الشمس واشتد الهجير والحرب سجال والفريقان ككفتي ميزان تعبث بهما الرياح، وهربت الأصلال من وقع سنابك الخيل، وتعذر عليها الانسياب على الرمضاء، فغارت في نوافق اليرابيع، وبينما الجياد تكاد تسبح في عرقها، هبت ريح صرصر فجففت أبدانها ويبست جلودها، ولم تكد الشمس تميل عن الهاجرة حتى ظهر الوهن في رجال الأمير حسان، فصارا يتقدمون خطوة ويتأخرون خطوتين كمد البحر إذا ابتدأ جزره، وعرب الفضل والحوارنة يضربون في وجوههم وفي أقفيتهم إلى أن أوصلوهم إلى محلتهم وأبعدوهم عنها، فعلت جلبة النساء والأولاد، وكان الأمير أحمد أسرع الجميع إلى محلة بني صخر يحمي ظهره مائة فارس من فرسان حوران، فجعل يفتش عن خالته وأولادها، حتى وصل إلى المضرب الذي كانوا محروسين فيه.
ولم يكد يصل إليهم حتى علت الصيحات وراءه، وهب رجال الأمير حسان في وجهه؛ لأن الكمين ثار من مكمنه في تلك اللحظة، واندفع وراء عرب الفضل والحوارنة، فصاروا بين جيشين: جيش الأمير حسان المتظاهر بالانكسار أمامهم، والكمين الذي كمن لهم؛ فارتبكوا في أمرهم ولم يروا إلا الصبر في ذلك المأزق الحرج، فانقسموا فريقين: فريقا وقف في وجه الكمين، وفريقا في وجه الأمير حسان ورجاله، ويالها من ساعة تكسرت فيها البيض الصفاح، وبيعت الأرواح بيع السماح، وتطايرت الجماجم عن الأبدان، وانتشرت الجثث على الصحصحان! وبينما القوم يجرعون الموت الزؤام، ويحسبون أن لا مناص لهم من شرب كأس الحمام، وقد زرت الربى عليهم جيوبها وأدارت المنون عليهم خطوبها؛ علا الغبار من الشمال فظنوه إعصارا، وماج السهل بالفرسان فخالوه تيارا، وقال كل لسان: الدولة الدولة، جنود النظام ببيارقها، وفرسان الحكومة ببنادقها. فحار الفريقان في من المعني بهذه الغارة! ورأوا فرصة للكف عن القتال ، فكفوا إلى أن تنجلي واقعة الحال.
ولم يكن إلا دقائق قليلة، حتى وصلت الفرسان وقد عقد لواؤها لسليم باشا من أمراء الجيش العثماني، ومعه السر هنري بدمونت ونفر من الجنود البحارة، فوقعت مهابة الحكومة على الخصمين، فانفصلا ووقفا منتظرين الأوامر، ولما تم انفصالهما نادى سليم باشا الأمير عمر والأمير أحمد والشيخ إسماعيل، فاقتربوا منه وترجلوا في حضرته، فأمرهم بالركوب ثانية، ثم نادى الأمير حسانا، فلم يكن مجيب، وأخذ رجاله يفتشون عنه، فوجوده ملقى بين صخرين جريحا، استدلوا عليه من جواده الواقف أمامه، فإنه أصيب برصاصة في صدره فصرعته، ولكنها لم تخطف أنفاسه، فحملوه إلى أمام سليم باشا مغمى عليه لكثرة ما نزف من دمه، وبادر الطبيب إلى قطع النزف ومواساة الجرح، وعادوا به إلى مضربه، فأسلم الروح وهم في الطريق، وأحضر سليم باشا ابن عم الأمير عباس فنصبه أميرا على قبيلته.
الخاتمة
ازدانت دار الأمير عباس بالرياحين وأزهار الخريف، وانتظم فيها عقد جمهور منتخب من القناصل الجنرالية والأمراء الشهابيين والأرسلانيين، ثم حضر والي بيروت ومتصرف لبنان والقاصد الرسولي وجماعة من قسوس اللاتين، واقتصر الاحتفال على هؤلاء بسبب الحداد، وكانت الأميرة صفا قد جربت معيشة الدير فلم تحتملها، فعادت إلى بيت أبيها، وخرجت الأميرة سلمى من خدرها متكئة على ذراع عمها، وأتت أمها وابنة عمها وراءها والدموع تتساقط من أعينهما، وتقدم السر هنري وضع يده في يدها، فكللهما القاصد الرسولي وأهديت إليهما الهدايا، وفي جملتها الأسلحة التي وجدها الأمير أحمد في المغارة.
وكتب السر هنري إلى أمه تلك الليلة يصف لها حفلة إكليله، وقال إنه وجد أسلحة جده كونت بدمونت، ووجد فيها الوثيقة وعليها ختم الملك ركاردس قلب الأسد، فلا شبهة في لقبه وهو الوارث الوحيد له، وطلب إليها أن تعرض ذلك على جلالة الملكة، وتطلب منها أن تلقبه بكونت لبنان أو أمير لبنان.
Неизвестная страница