فليس بين هؤلاء شاعر واحد يعد بين الناشئين، ولم يكن يتس مسددا لخطاهم؛ لأنهم بين صامد على قدميه مستقل عن الأساتذة والمرشدين، ومفارق للحياة في ريعان الفتوة أو بعد مقاربة الشيخوخة.
وليست المسألة هنا مسألة ثقة بنفس أو حب لفن كما اعتقد صاحب الخطاب، بل هي مسألة تاريخ محدود قد طلبت ملاحظته في الاختيار، وأعفي يتس فيه من أعباء المجازفة والانتظار.
وفيما عدا هذه الحالة لا نذكر حالة أخرى فرغ فيها شاعر أوروبي كبير للتأليف في الغرض الذي يقترحه صاحب الخطاب على أدباء الشيوخ المصريين.
وللأدباء الشيوخ العذر كل العذر بين المصريين، أو بين الأوروبيين إذا اختاروا للتأليف أغراضا غير هذا الغرض الذي تنعكس به أوضاع الأمور، فإن الرجل الذي بلغ الخمسين وجاوزها يحق له أن يقصر مطالعته على المفيد المحقق الفائدة؛ ليثابر على واجبه وعلى الانتفاع بمقروءاته، فليس في وسعه أن يقرأ ست ساعات أو سبع ساعات كل يوم كما كان يفعل في بواكير الشباب، وليس في وسعه إذا اقتصر على ساعتين أو ثلاث أن ينفقها في البحث عمن يجربون الكتابة، أو يشرعون في تجربتها ليقرأ مائة مقال، أو مائة كتاب عسى أن يظفر بينها بشيء يستحق التنويه، وإنه ليستغني عن التنويه لا محالة إذا كان له من القيمة والجودة ما يكفل له البقاء.
إنما يتيسر التشجيع للأديب الشيخ في عمل واحد، وهو عمل الصحافة الأدبية حين يتولى الإشراف عليه، فهو يقرأ ما يرد إليه من الشعر والنثر، ويعنى بتنقيحه وتقديمه ونشره ولفت الأنظار إليه، وهذا ما كنا نصنعه في الصحف التي أشرفنا على أبوابها الأدبية، ولو كلفنا الجهد المجهد في القراءة والتصحيح والتنقيح.
أما الرجل الذي تشغله الحياة بمطالبها، ويشغله الأدب بمطالبه بين قراءة وكتابة، فتسديده مقصور على من يتصلون به على ما هو مستطيعه، وليس مما يستطيع أن يترك كتابا يؤلفه جهبذ من جهابذة الفن والحكمة، ويضمن نفعه ومتعته ليقرأ خمسين كتابا لا يضمن نفعها ... عسى أن يعثر بينها على شيء مرجو النتيجة بعد تكرار التجربة مرات.
هذا ضياع للوقت وضياع للجهد وضياع للأدب، وعبث تستغني عنه الكفاءة المرجوة، ولا نفع فيه لمن خلا من الكفاءة، ويمنعه مع هذا كله أنه غير مستطاع.
على أن الأمر خطير جد الخطر من إحدى نواحيه التي يدل عليها، وهي ناحية الروح التي ينم عليها شيوع هذه الأماني والتعلات بين طائفة ولو قليلة من الناشئين.
فإنها روح تدل على إعفاء النفس من كل واجب، وإلقاء التبعة على كل كاهل، ونسيان كل حق غير حق الأنانية بغير عناء ولا مقابل.
يبدأ الناشئ بالكتابة اليوم، ويريد أن يشتهر غدا بمقال واحد أو قصيد واحد ولا نقول بكتاب واحد، فإن لم يشتهر فليس اللوم عليه وعلى طمعه فيما لا يكون ولا ينفع الأدب والناس لو كان ... كلا، بل اللوم على المشهورين الذين كان ينبغي أن يستأصلوا شهرتهم، وأن يكفوا عن الكتابة وأن يفرغوا جهودهم، وجهود قرائهم لشهرته هو دون غيره من الشيوخ والكهول والناشئين، وإلا كانوا محتكرين للأدب الذي يحق له هو أن يحتكره، ولا يحق ذلك لأحد من العالمين!
ناپیژندل شوی مخ