مقدمة
1 - رسالة الأديب
2 - مع أبي العلاء في سجنه
3 - العلم أو الأدب؟!
4 - السنويات الأدبية
5 - حول الحرب والشعر
6 - وأمنيتي ...!
7 - العامية والفقر
8 - سؤالان متباعدان
9 - احتكار الأدب
10 - نحو من النحو!
11 - القراءة في زمن الحرب
12 - في الشعر العربي
13 - بين التزمت والإباحة
14 - أسئلة وأجوبة
15 - سؤالان وجوابان
16 - المدرسة الرمزية
17 - الفنون الجميلة ضرورية
18 - اللعب
19 - المبالاة
20 - مسألة الفقر
21 - الرحمة قوة
22 - السعادة
23 - الطموح والتمني
24 - التلباثي (1)
25 - التلباثي (2)
26 - من طرائف المفارقات
27 - ذبح الفقراء لا يحل مشكلة الفقر
28 - زواج الأقارب والأباعد
29 - ماذا نعمل؟
30 - هل تصبح مصر اشتراكية؟
31 - هل الحياة «لوترية»؟
32 - هل عندنا سياسيون ...؟
33 - مساجلات
34 - الأدب والإصلاح
35 - المقترحون والمؤلفون
36 - الحروف اللاتينية
37 - الشجاعة الأدبية
38 - الشعر والقصة
39 - ندرة البطولة
40 - توارد الخواطر
41 - لا نخدع أنفسنا حتى يخدعونا
42 - القدوة والإصلاح
43 - المال
44 - الزوجة المثلى
45 - ما يمكن تبديله
46 - الحق المجرد
47 - حول ما نكتب
48 - السلفية والمستقبلية
49 - في مصر فلسفة
50 - الفلسفة مأمونة
مقدمة
1 - رسالة الأديب
2 - مع أبي العلاء في سجنه
3 - العلم أو الأدب؟!
4 - السنويات الأدبية
5 - حول الحرب والشعر
6 - وأمنيتي ...!
7 - العامية والفقر
8 - سؤالان متباعدان
9 - احتكار الأدب
10 - نحو من النحو!
11 - القراءة في زمن الحرب
12 - في الشعر العربي
13 - بين التزمت والإباحة
14 - أسئلة وأجوبة
15 - سؤالان وجوابان
16 - المدرسة الرمزية
17 - الفنون الجميلة ضرورية
18 - اللعب
19 - المبالاة
20 - مسألة الفقر
21 - الرحمة قوة
22 - السعادة
23 - الطموح والتمني
24 - التلباثي (1)
25 - التلباثي (2)
26 - من طرائف المفارقات
27 - ذبح الفقراء لا يحل مشكلة الفقر
28 - زواج الأقارب والأباعد
29 - ماذا نعمل؟
30 - هل تصبح مصر اشتراكية؟
31 - هل الحياة «لوترية»؟
32 - هل عندنا سياسيون ...؟
33 - مساجلات
34 - الأدب والإصلاح
35 - المقترحون والمؤلفون
36 - الحروف اللاتينية
37 - الشجاعة الأدبية
38 - الشعر والقصة
39 - ندرة البطولة
40 - توارد الخواطر
41 - لا نخدع أنفسنا حتى يخدعونا
42 - القدوة والإصلاح
43 - المال
44 - الزوجة المثلى
45 - ما يمكن تبديله
46 - الحق المجرد
47 - حول ما نكتب
48 - السلفية والمستقبلية
49 - في مصر فلسفة
50 - الفلسفة مأمونة
يسألونك
يسألونك
تأليف
عباس محمود العقاد
مقدمة
أدب المقالة
أدب المقالة قديم في اللغة العربية بعد قيام الدولة الإسلامية، نشأ مع أدب «الفصول»، ثم امتزج بالقصة فاقترن «بالمقامة»، وهي على أوجز تعريف مقالة قصصية يلاحظ فيها تجويد الإنشاء.
لكن «الفصل» في الحقيقة هو أصل المقالة الأول في الآداب العربية، وربما كانت الكتب العربية عند أول نشأتها فصولا مجموعة على شيء من الصلة في موضوعها أو بغير صلة بينها على الإطلاق، فإذا فتحت الكثير منها قرأت فصلا في «الأخلاق» إلى جانب فصل في أخبار الشجعان والبلغاء إلى جانب فصل في الدهاء والدهاة إلى أشباه ذلك من الموضوعات، التي هي أقرب الموضوعات إلى «المقالة» بوضعها الحديث.
وقد كتب اليونان والرومان الرسائل التي نسلكها في باب القصة مع قليل من التجوز والتوسيع، ومنها رسائل أرسطو وفلوطرخس ورسائل سنيكا وبيني، وتأملات مارك أوريليوس، وما جرى مجراها في الإيجاز وتنوع الموضوع.
ولكن «الفصل» كما عرفه العرب هو أقدم رائد للمقالة في الآداب العالمية؛ لأنه ظهر قبل ظهور مقالات «مونتاني» إمام هذا الفن غير مدافع بين الأوروبيين، فقد ظهر هذا الفن لأول مرة في فرنسا سنة 1571، ثم ظهر بعد ذلك ببضع عشرة سنة في كتابات فرنسيس باكون الحكيم الإنجليزي المشهور، ثم أصبحت المقالة منذ ذلك الحين فنا إنجليزيا شائعا بين قراء الإنجليزية مع سبق الفرنسيين إليه.
وقد سمى مونتاني مقالاته بالمحاولات
Essay ، كأنه يعتذر من ترسله فيها بغير تقيد بموضوع واحد أو تعمق في التفكير، وكانت المحاولة في اصطلاح الفنانين هي معالجة صنع التمثال من مادة رخوة كالشمع، وما إليه قبل صبه في قوالب النحاس أو نحته من الرخام، فأراد مونتاني بمقالاته أن تكون محاولات «رخوة» من هذا القبيل، وقصرها على الأحداث المستخفة والتجارب الشخصية، التي يتناجى بها الإخوان في ساعات السمر وتزجية الفراغ.
فلما تناول «باكون» الكتابة المقالية أقل فيها من الناحية الشخصية، وزاد فيها من الناحية الدراسية، فأصبحت مقالاته أقرب إلى التركيز والإدماج منها إلى التبسط والفكاهة، ولقيت مع ذلك رواجا أي رواج.
ثم نشأت الصحافة فاستقرت المقالة في مكانها الذي لا غنى عنه بنوع آخر من أنواع الكتابة الوجيزة، بعد أن كانت محاولة مترددة بين القبول والإهمال.
وانقسمت مواضيع المقالات على حسب الصحف والمجلات، فما كان منها للتسلية والقراءة العامة، فقد التزمت فيه طريقة مونتاني وتابعيه، وما كان منها للدرس والقراءة الخاصة، فقد غلبت عليه صبغة الجد والإتقان، وقيل في تعريف النمط الأول: إنه أشبه شيء بحديث شخص تفاجئه على غير انتظار، فهو مزاج من التفتح والحيطة العارضة على مسمع من المترقبين المتطلعين ... وقيل في تعريف النمط الآخر: إنه درس يلاحظ فيه تلخيص المطولات وتقريب المتفرقات، وقد يبلغ الغاية من التركيز والإدماج.
والذي نراه نحن في «المقالة» أنها ينبغي أن تكون «مشروع كتاب في موضوعها لمن يتسع وقته للإجمال ولا يتسع للتفصيل، فكل مقالة في موضوع فهي كتاب صغير يشتمل على النواة التي تنبت منها الشجرة لمن شاء الانتظار.»
وقد توخينا هذه الخطة في مقالات هذا الكتاب، وجعلناها كمقالات «الفصول» و«المطالعات» و«المراجعات» و«ساعات بين الكتب»، من حيث الموضوع والحيز وأسلوب التناول، ولكن مقالات هذا الكتاب لا تدخل تحت عنوان من تلك العناوين؛ لأنها كانت على الأكثر أجوبة لأسئلة معينة يوجهها القراء إلى صاحب الكتاب، فهي تخالفها في المناسبة وإن وافقتها في موضوعها وخطتها، وإيثارها الجوانب العامة على الجوانب الشخصية.
وقد آن لها أن تأخذ مكانها بين تلك المجاميع، ونرجو أن تكون عناية الأدباء بالسؤال عن موضوعاتها وعناية القراء بمطالعتها شفيعا لإبرازها في هذه الصفحات بهذا العنوان.
عباس محمود العقاد
الفصل الأول
رسالة الأديب
كتب الأستاذ توفيق الحكيم من برجه العاجي مقالا يقول فيه: «إن الدولة لا تنظر إلى الأدب بعين الجد، بل إنه عندها شيء وهمي لا وجود له ولا حساب.»
ثم يقول: «إن انعدام روح النظام بين الأدباء، وتفرق شملهم، وانصرافهم عن النظر فيما يربطهم جميعا من مصالح، وما يعنيهم جميعا من مسائل قد فوت عليهم النفع المادي والأدبي، وجعلهم فئة لا خطر لها ولا وزن في نظر الدولة.»
وكتب مقالا آخر يسأل عن أدبائنا المعاصرين: هل فهموا حقيقة رسالتهم؟ ويذكر ما يصنعه أدباء أوروبا «كلما هبت ريح الخطر على إحدى هذه القيم - وهي الحرية والفكر والعدالة والحق والجمال - وكيف يتجرد كل أديب من رداء جنسيته الزائل؛ ليدخل معبد الفكر الخالد، ويتكلم باسم الهيئة الواحدة المتحدة التي تعيش للدفاع عن قيم البشرية العليا.»
ثم يقول بعد أن وصف سوء حال الأدب في مصر:
أمام كل هذا وقف الأدب ذليلا لا حول له ولا طول، وضاعت هيبة الأدباء في الدولة والمجتمع، وأنكر الناس ورجال الحكم على الأديب استحقاقه للتقدير الرسمي والاحترام العام، فالعمدة البسيط تعترف به الدولة، وتدعوه رسميا إلى الحفلات باعتباره عمدة، أما الأديب فمهما شهره أدبه فهو مجهول في نظر الرجال الرسميين، ولن يخاطبوه (قط) على أنه أديب.
كلام الأستاذ الحكيم في هذين المقالين هو الذي ابتعثني إلى التعقيب عليه فيما يلي من خواطر شتى عن رسالة الأديب، وشأن الأديب والدولة، ومستقبل الأدب في الديار المصرية، أو في الديار الشرقية على الإجمال. •••
فهل من الحق أن الأدب محتاج إلى اعتراف من الدولة لحقوقه؟
أما أنا فإنني لأستعيذ بالله من اليوم الذي يتوقف فيه شأن الأدب على اعتراف الدولة، ومقاييس الدولة ورجال الدولة.
لأن مقاييس هؤلاء الرجال ومقاييس الأدب نقيضان، أو مفترقان لا يلتقيان على قياس واحد.
فمقاييس الدولة هي مقاييس القيم الشائعة التي تتكرر وتطرد، وتجري على وتيرة واحدة.
ومقاييس الأدب هي مقاييس القيم الخاصة التي تختلف، وتتجدد وتسبق الأيام.
مقاييس الدولة هي عنوان الحاضر المصطلح عليه.
ومقاييس الأدب هي عنوان الحرية التي لا تتقيد باصطلاح مرسوم، وقد تنزع إلى اصطلاح جديد ينزل مع الزمن في منزلة الاصطلاح القديم.
مقاييس الدولة هي مقاييس العرف المطروق، ومقاييس الأدب هي مقاييس الابتكار المخلوق.
مقاييس الدولة هي مقاييس الأشياء التي تنشئها الدولة، أو تدبرها الدولة أو ترفعها الدولة تارة وتنزل بها تارة أخرى.
ومقاييس الأدب هي مقاييس الأشياء التي لا سلطان عليها للدول مجتمعات ولا متفرقات، فلو اتفقت دول الأرض جميعا لما استطاعت أن ترتفع بالأديب فوق مقامه أو تهبط به دون مقامه، ولا استطاعت أن تغير القيمة في سطر واحد مما يكتب، ولا في خاطرة واحدة من الخواطر التي توحي إليه تلك الكتابة.
ومن هنا كان ذلك العداء الخفي بين معظم رجال الدولة ومعظم رجال الأدب في الزمن الحديث على التخصيص.
لأن رجال الدولة يحبون أن يشعروا بسلطانهم على الناس، ويريدون أن يقبضوا بأيديهم على كل زمام، فإذا بالأدب وله حكم غير حكمهم، ومقياس غير مقياسهم، وميدان غير ميدانهم، وإذا بالعصر الحديث يفتح للأدباء بابا غير أبوابهم، وقبلة غير قبلتهم التي توجه إليها الأدباء فيما غبر من العصور.
ولو بلغنا إلى اليوم الذي تعترف فيه الدولة بالأدباء لما اعترفت بأفضلهم، ولا بأقدرهم ولا بأصحاب المزية منهم، ولكنها تعترف بمن يخضعون لها ويرضون كبرياءها، ويهبطون أو يصعدون بغضبها أو رضاها.
ولسنا في مصر بدعا بين دول المغرب والمشرق، فما من دولة في العالم تعترف بأمثال برنارد شو وبرتراند رسل ورومان رولان، كما تعترف بالحثالة من أواسط الكتاب. •••
هذا عن الأدب وشأنه المعترف به بين رجال الدول، فماذا عن التفرق والتجمع، أو عن أثر هذا أو ذاك في تقويم أقدار الأدباء؟
أصحيح أن الأدباء في حاجة إلى الاجتماع؟
أنفع من هذا وأقرب إلى تبيين الصواب أن تسأل: هل صحيح أن شاعرين يشتركان في نظم قصيدة واحدة؟ وهل صحيح أن مصورين يشتركان في رسم صورة واحدة؟ وهل صحيح أن الأدب في لبابه عمل من أعمال التعاون والاشتراك؟
الحقيقة أن الأدباء حين يخلقون أعمالهم فرديون منعزلون، فلا حاجة بهم إلى محفل يسهل لهم الخلق والإبداع، ولا فائدة لهم على الإطلاق من اتفاق أو اجتماع.
والحقيقة أن التعاون إنما يكون في مسائل الحصص والسهوم والأجزاء، ولا يكون في مسائل الخلق والتكوين والإحياء.
لأن الفكرة الفنية كائن حي ووحدة قائمة ليس يشترك فيها ذهنان، كما ليس يشترك في الولد الواحد أبوان.
فإذا كان تعاون بين الأدباء، فإنما يكون على مثال التعاون بين الآباء.
إنما يكون تعاونا على رعاية أبنائهم وحماية ذرياتهم، وقلما يحتاج الآباء إلى مثل هذا التعاون إلا في نوادر الأوقات.
فإذا اجتمع الأدباء فلن يرجع اجتماعهم إلا إلى حواشي الأدب أو «ظروف» الأدب كما يقولون، دون الأدب في صميمه.
وإذا اجتمع الأطباء فهناك طب واحد، أو اجتمع المحامون فهناك قانون واحد وقضاء واحد، أو اجتمع المهندسون فهناك هندسة واحدة وبناء واحد، فكيف يجتمع الأدباء كما يجتمع الأطباء والمحامون والمهندسون، وكل أديب منهم نموذج لا يتكرر، ونمط لا يقبل المحاكاة، وأدب تقابله آداب متفرقات.
إن محاميا قديرا ليغني عن محام قدير، ولكن هل يغني أديب كبير عن أديب كبير؟ وهل ينوب خالق في الفنون عن خالق آخر في الفنون؟ كلا ... لن ينوب هذا عن ذاك ولن يختلط هذا بذاك، كما أن الوجه الجميل لا ينوب عند عاشقه عن الوجه الجميل، ولو اشتركا معا في صفة الجمال.
كل أديب نمط وحده، وكل أديب في غنى عن سائر الأدباء، إلا أن يتعاونوا كما أسلفنا في الحواشي والظروف دون الجوهر واللباب. •••
أللأديب رسالة؟
نعم، ليس بالأديب من ليست له في عالم الفكر رسالة، ومن ليس له وحي وهداية.
ولكن هل للأدب كله رسالة تتفق في غايتها مع اختلاف رسائل الأدباء، وتعدد القرائح والآراء؟
نعم، لهم جميعا رسالة واحدة هي رسالة الحرية والجمال.
عدو الأدب منهم من يخدم الاستبداد، ومن يقيد طلاقة الفكر، ومن يشوه محاسن الأشياء.
وخائن للأمانة الأدبية من يدعو إلى عقيدة غير عقيدة الحرية، أفيدري الأستاذ توفيق ما هو - في رأيي - خطب الثقافة الإنسانية الذي يخشاه دوهامل ويشفق منه كتاب أوروبا كافة على مصير الذوق والتفكير والفن والشعور المستقيم؟
أفيدري الأستاذ توفيق ما هو - في رأيي - سر الفتنة الحسية التي غلبت على الطبائع والأذواق، وتمثلت في ملاهي المجون أو ملاهي الأدب الرخيص؟
سرها الأكبر هو وباء «الدكتاتورية» الذي فشا بين كثير من الأمم في العصر الأخير.
لأن الدكتاتورية كائنة ما كانت ترجع إلى تغلب القوة العضلية على القوة الذهنية والقوة النفسية.
ولأنها ترجع بالإنسان إلى حالة الآلة التي تطيع وتعمل بغير مشيئة وبغير تفكير.
وأين تذهب المعاني والثقافات بين القوى العضلية والآلات؟
وأين الأديب الذي يستحق أمانة الأدب وهو يبشر بدين الاستبداد؟!
لهذا بقيت عقول تكتب وقرائح تبدع في الشعوب الديمقراطية، ولم يبق عقل ولا قريحة في بلد من بلاد الدكتاتورية.
فإذا تعطلت الكتابة والإبداع بعض التعطيل في أمة ديمقراطية، فإنما تتعطل من حالة فيها تشبه أحوال الاستبداد، وهي انتشار الكثرة العددية بين جمهرة الشعراء، والرجوع بالذوق إلى العدد الكثير دون المزية النادرة، أي: الرجوع به إلى «الثورة العضلية» لا إلى الحرية أو المزية الفردية.
لكل أديب رسالة.
ورسالة الأدباء كافة هي التبشير بدين الحرية والإنحاء على صولة المستبدين، فما من عداوة للأدب ولا من خيانة لأمانة الأديب أشد من عداوة «القوة العضلية» وأخون من خيانة الاستبداد.
الفصل الثاني
مع أبي العلاء في سجنه
قال صديقنا الدكتور طه حسين في تبيين مقصده من كتابه هذا: «وستقول: فإنك إن مضيت على هذا النحو لم تقدم إلينا كتابا في البحث العلمي ولا في النقد الأدبي، وإنما تتحدث إلينا عن صديق! وهذا حق، فإني لا أقدم إليك كتابا في البحث العلمي عن أبي العلاء، ولا في النقد الأدبي لأبي العلاء، ولعلي قدمت إليك من ذلك ما فيه مقنع، وإنما أتحدث إليك عن صديق لا يرجى نفعه ولا يتقى شره، ولا يصدر المتحدث عنه إلا عن الحب المبرأ من الرغب والرهب ومن الطمع والإشفاق، أفتراك تكره مثل هذا الحديث؟ ألم تسأم مثل هذه الأحاديث الكثيرة التي تمتلئ بالبحث العلمي والنقد الأدبي، والتي تكتب ابتغاء لرضا الأصدقاء واتقاء لسخطهم ...؟» •••
وقد أحسن الدكتور القصد، وأحسن التعريف، فكتابه حديث المرء عمن يحب لمن يحب، وأراه مذكري أحاديث الآباء عن أبنائهم الأعزاء: كيف يضحكون وكيف يبكون، وكيف يخطون وكيف يتعثرون، والسامع يرتاح إلى الإصغاء إن كان ممن يعنيهم أمر أولئك الأبناء، فأما إن لم يكن منهم فإلى غيره يساق الحديث، وليس من حقه أن يلوم المتحدث كما ليس من حق القارئ الذي يطلب الهندسة أن يلوم المؤلفين الذين لا يكتبون كتابة المهندسين.
وأنا ممن يحبون أبا العلاء وممن أطالوا قراءته في أول عهد الشباب، وما أحسب أحدا من الشبان المشغولين بالأدب لم تمض به فترة معرية في باكورة كفاحه حين تصطدم أحلام الصبا بمتاعب الدنيا، وتجارب الأيام، فهناك يروقنا التشاؤم، ويعجبنا من يعيبون لنا الحياة. ثم نخرج من هذه الربقة فنعاودها معاودة الحنين إلى تلك الباكورة المشتهاة، ونقرنها بذكرى الشباب وذكرى الأحلام، ونعطف عليها كما يعطف الرجل الجلد على بكاء طفولته، وهي لا تستوجب بعض ذلك البكاء.
فما زلت أعتقد وأزداد مع الأيام اعتقادا أن بغض الحياة أسهل من حب الحياة، وأن الأدوات النفسية التي نلمس بها آلام الحياة أعم وأشيع، وأقرب غورا من أدوات النفس التي نلمس بها أفراح الحياة العليا ومحاسنها الكبرى، فالفرح أعمق من الحزن في رأيي ولا مراء! وليس الحزن قدرة بل هو انهزام أمام قدرة ... أما الفرح فهو القدرة والانتصار.
والدكتور طه لفرط حبه أبا العلاء يتهم نفسه بمحاباته، فيقول: «قل إني أوثر أبا العلاء وأحابيه وأرضى منه أشياء لا أرضاها من غيره، فقد لا تخطئ ولا تبعد، وأظنني نبهتك إلى ذلك في أول الحديث، وقلت غير مرة: إني لا أملي كتابا في البحث العلمي ولا في النقد الأدبي، وإنما أسجل خواطر أثارتها في نفسي عشرة أبي العلاء في سجنه وقتا ما.»
فمن المصادفات العجيبة أنني حابيت أبا العلاء على نحو قريب من هذا النحو، ولكني لم أسمها محاباة، بل قلت: إنها هي الإنصاف المعقول في قياس الأقوال بالقائلين، وعبت من نصحونا بأن ننظر إلى ما قيل لا إلى من قال، فكتبت قبل ثلاثين سنة في مذكراتي التي جمعتها باسم «خلاصة اليومية» أنها قاعدة لا يصح إطلاقها على كل حال، فالكلمة تختلف معانيها باختلاف قائليها، وكلمة مثل قول المعري:
تعب كلها الحياة فما أع
جب إلا من راغب في ازدياد
يؤخذ منها ما لا يؤخذ مما تسمعه في كل حين بين عامة الناس من شكوى الحياة، وتمني الخلاص منها؛ لأننا نثق بأن المعري مارس الأمور الجوهرية في الحياة ودرس الشئون التي تكون منها عذبة أو مرة، نكدا أو رغدا، ولم يسبر منها أولئك العامة إلا ما يقع لهم من الأمور التي لا تكفي للحكم على ماهية الحياة.
فكلانا إذن يسمع القول من شيخ المعرة فيعجبه، ويسمع القول في نفسه من غير الشيخ فلا يحظى عنده بذلك الإعجاب، لكن صديقنا الدكتور يسميها محاباة ومجاملة لصديق، وأنا أجري فيها على سنتي الغالبة في كل شيء من التوفيق بين الحجة والعاطفة، فلا أبرح بالعاطفة حتى أقنع بها عقلي، وأثبت له أنها جديرة بإقراره وترخيصه، فيعيش العقل والعاطفة معا في وئام، وأخلص بهذا مما يقع بينهما من ملام وصدام.
وشيء آخر أخالف به الدكتور، أو تخالف فيه طريقتي طريقته في صداقة أبي العلاء.
فأنا لا أذكر أنني كرهت أحدا أحبه أبو العلاء، أو أحببت أحدا كان هو من كارهيه.
أما الدكتور فيعلم ما كان في نفس صاحبه من الحب والإكبار لأبي الطيب، ثم يقول: «أنا أقدر فن المتنبي وأعجب ببعض آثاره إعجابا لا حد له، وأعجب ببعضها الآخر إعجابا متواضعا إن صح أن يتواضع الإعجاب، وأمقت سائرها مقتا شديدا، ولا تثير حياة المتنبي في نفسي إشفاقا عليه ولا رثاء له، وإنما هو مغامر طلب ما لم يخلق له، وتعرض لما كان يحسن أن يعرض عنه، فانتهى إلى ما ينتهي إليه أمثاله المغامرون.»
ترى ماذا كان المعري قائلا للدكتور لو سمع منه هذا المقال؟ أخشى أن تكون وقيعة بين الصاحبين ... وإن كنت لا أخشى أن يعود الشيخ إلى استحسان قصيدة أبي الحسين التي مطلعها:
لك يا منازل في القلوب منازل
أقفرت أنت وهن منك أواهل
لأن الشيخ يعلم أن الدكتور لا يكره أبا الحسين كراهة الناقص للكامل، ويستشفع له بشفيع من طيب النية وصدق الولاء.
والحق أنني أعجب لهذا النفور بين الدكتور وشاعرنا العربي الكبير، وما أنا ممن يستحسنون كل شعره ولا كل عمله، ولكني أزن ما زاده في ثروة الآداب العربية، وما زاده في شرور الحياة بسوء عمله وسوء خلقه، فأعلم أن الحياة لم تفسد بفساد المتنبي، وأن الأدب قد صلح بصلاح شعره، وأن لأصغر الهلافيت من خلق الله لسيئات أكبر من سيئات المتنبي بكثير، واحتملتهم الدنيا مع ذاك ... أفتحتمل الدنيا هذا من أصغر الهلافيت، ولا تحتمله من الرجل الذي لو قبلنا حسناته بألف ضعف من سيئاته لكنا نحن الرابحين؟
هنا أيضا أعود إلى العاطفة والحجة، وأحسبني أقرب من الدكتور إلى وفاق الصداقة بيني وبين شيخ المعرة، وأقرب إلى الإنصاف. •••
أهذا كل ما أخالف به الدكتور من رأي أو هوى في حديثه عن صديقنا العظيم؟
كلا! بل هناك خلاف وخلاف، وأكثر من خلاف وخلاف.
هناك قول الدكتور تعقيبا على كلام الأديب الفرنسي بول فاليري في المصور ديجاس: «العجيب الذي لم أكن أتوقعه ولا أفترضه أن كثيرا من صفات هذا المصور الفرنسي الذي كنت أسمع اسمه، وأجهل من أمره كل شيء، تشبه ما ألفت وأحببت من صفات أبي العلاء، فشدة الرجل على نفسه إلى أقصى غايات الشدة، وشك الرجل في مقدرته إلى أبعد آماد الشك، وارتياب الرجل بأحكام الناس في أمور النفس، وزهد الرجل في الشهرة وبعد الصيت، وفي الثراء وسعة ذات اليد، وانصرافه عن الحمد الكاذب والثناء الرخيص، وتأجيله لذة الظفر بالفوز، وخلقه المصاعب لنفسه، وبغضه للطرق القصار والأبواب الواسعة، وإيثاره الطرق الطوال والأبواب الضيقة - كل هذه الخصال، التي يحدثنا بها بول فاليري عن صديقه وأثيره ديجاس قد حدثتنا بها القرون والأجيال عن أبي العلاء، إلا أن الأول كان مصورا رساما، والآخر كان شاعرا حكيما ...»
أفصحيح أن المعري وديجاس شبيهان في خليقة واحدة؛ لأنهما على نفسيهما صارمان؟!
هنا قسوة وهناك قسوة، وهنا تعذيب وهناك تعذيب، ولكن أين قلق الفنان في سبيل الخلق من قلق الناسك في سبيل الإحجام؟ أين تعذيب الجواد بالسوط لينبعث ويسبق من تعذيب الجواد باللجام ليسكن ويكف عن الوثوب؟
أين اللزوميات وهي قيود، من «الأمبرشنالزم» وهي انطلاق من القيود؟ أين رياضة الفقير الهندي المتقشف من رياضة الحسناء بالتقتير على جسدها في الشراب والطعام؛ لتزداد جمالا على جمال ونشاطا على نشاط؟ أين الزهد في المال انصرافا إلى الغنى من الزهد في المال انصرافا عن الدنيا؟ إن الفرق بين تعذيب وتعذيب ليبلغ أحيانا من السعة أبعد مما بين النعيم والعذاب، وهكذا كان الفرق بين صرامة المعري وصرامة ديجاس. •••
وثمة خلاف غير هذا الخلاف بيني وبين الدكتور في حديثه عن صديقنا القديم.
فالدكتور ينقل شذرة من فصول المعري وغاياته يقول فيها:
يقدر ربنا أن يجعل الإنسان ينظر بقدمه، ويسمع الأصوات بيده، وتكون بنانه مجاري دمعه، ويجد الطعم بأذنه، ويشم الروائح بمنكبه، ويمشي إلى الغرض على هامته، وأن يقرن بين النيروسنير حتى يريا كفرسي رهان.
ثم يعقب الدكتور على هذه الشذرة، فيقول: «أما أنا فما أشك في أن أبا العلاء قد قصد بهذا الفصل خاصة إلى رأي من أشد الآراء الفلسفية الأبيقورية خطرا؛ وهو إنكار العلة الغائية، وإثبات أن العالم كما هو لم يخلق لغاية معينة من هذه الغايات التي نعرفها نحن، ونزعم أن الأشياء قد خلقت لتحقيقها.»
وعندنا نحن أن سماع الإنسان بيده، أو شمه الروائح بمنكبه لا ينفي العلة الغائية؛ لأن الوسيلة والغاية هنا موجودتان، ولم تختلف إلا الوسيلة التي تتحقق بها الغاية.
وأصوب من هذا أن يقال: إن رأي المعري شبيه برأي المعاصرين الذين يقولون: «إن الوظيفة تسبق العضو، وإن القوة تسبق الظاهرة.»
فإذا وجدت الرغبة في الحركة أو في هضم الطعام وجدت الأعضاء التي تتكفل بأداء هذه الوظيفة على اختلاف الأشكال والأوضاع في أجناس الحيوان.
وللشاعر الإنجليزي «كولردج» - على ما أذكر - كلمة في مصور عظيم يقول فيها: «إنه لمصور ولو خلق بغير ذراعين.» مريدا بذلك أن التصوير وظيفة قبل أن يكون عضوا من الأعضاء، فلو خلق المصورون بغير أذرع لخلقت لهم وسائل أخرى لإبداع ما لا بد أن يبدعوه. •••
وقال الدكتور يخاطب أبا العلاء: ... أنت لا تعرف ما باريس وما أظنها قادرة على أن تصرفك عن حزنك وتشاؤمك، بل أنا واثق بأنك لو عرفتها لأمعنت في حزنك وتشاؤمك كشأنك حين عرفت بغداد، أما أنا فإن باريس تصرفني عن الحزن والتشاؤم، وتثير في نفسي لذات عقلية ليست أقل من هذه اللذات التي أجدها في الحديث إليك والحديث عنك، وهي على كل حال تزعجني عن سجنك الذي كنت أود لو أطيل المقام فيه: ومن يدري لعلي أسأم لذات باريس، فأفزع منها إليك من حين إلى حين، فليكن وداعي لك الآن موقوتا، ولأقل لك في لهجة المحب المشفق الوامق: إلى اللقاء.
فالدكتور واثق بأن أبا العلاء لن يكون في باريس إلا كما كان في بغداد.
فما باله أراد مني أن أجعل أبا العلاء يرى في باريس ما يراه السائحون، ويقول فيها ما يقوله أولئك السائحون؟
في هذه أنا أيضا أقرب إلى وفاق الصداقة من الدكتور.
أنا ذهبت إلى باريس بالخيال فأخذت إليها صاحبي بالخيال، والدكتور طه ذهب إلى باريس حسا وخيالا، فأبى على صاحبه المزاملة وهتف به ... إلى اللقاء!
وما أردت - علم الله - أن أوغر صدر الشيخ على صديقنا الدكتور، أو أن أظفر بنصيب من الحظوة عنده فوق نصيبه، ولكنني أحببت الحديث عن الشيخ ولم أحبب أن يكون تكريرا وإعادة تبطل بها متعة الحديث، فليكن خلاف وكان خلاف! وإنما اتفاق في حب التحدث عن صاحبنا المحبوب.
الفصل الثالث
العلم أو الأدب؟!
سألني أديب عن رأيي في خسارة العالم بفقد أديسون وماركوني، وخسارته بفقد شكسبير وبرناردشو.
ورأيي فيما هو الأسبق: «العلم أو الأدب؟!» وهل خلق الإنسان بطبيعته عالما يتجه فكره إلى تهيئة أسباب معيشته، أو خلق بطبيعته أديبا يميل إلى الشعر والفنون؟
وما الرأي في كلمة الأستاذ أحمد الصاوي المنشورة في الأهرام يوم 17 يونيو، التي يناشد الشباب المصري فيها أن يهجر الأدب والشعر، وينصرف إلى العلم والاختراع ليكون رجلا عمليا عاملا؟ وختمها بقوله: «... اسكتي إذن يا آلهة الشعر لقد ذهبت أوانك وتلاشى سلطانك، وأخرجي أيتها الأرض شبابا واقعيا قويا يفل الحديد بالحديد، والنار بالنار لا بالقصائد والأشعار.» •••
وقد رجعت إلى أعداد «الأهرام» منذ السابع عشر من شهر يونيو، فقرأت فيها حوار الأستاذين الصاوي والحكيم عن الشعر والسلاح، وتتبعت ذلك الحوار إلى أن بلغت به «مربط حمار الحكيم» و«فيران السفينة»؛ وانتهيت منه وأنا أقول: الحق على أساتذة الإنشاء منذ نيف وأربعين سنة في الديار المصرية ... فلولا موضوعات المقابلة بين الصيف والشتاء، وبين الذهب والحديد، وبين العلم والمال، وبين العلم والأدب، لما وقع في الأذهان ذلك الخاطر الذي نعود إليه في مصر فترة بعد فترة؛ لنقضي للعلوم على الفنون، أو للفنون على العلوم، أو لنوحي بهذه دون تلك في تثقيف الأمة وتعليم الشباب.
فما معنى هذه المقابلة؟
هل النفس الإنسانية صهريج من المعدن يزيد فيه من العلم بمقدار ما ينقص من الأدب؟ هل العلم والأدب ضرتان تلقى إحداهما من الحظوة والزلفى بمقدار ما تلقى صاحبتها من الهجر والإعراض؟ هل الجمع بين العلم والأدب في الأمة الواحدة مستعص أو مستحيل؟
فإن لم يكن شيء من ذلك كما يحسبه الحاسبون، فما معنى هذه المقابلات؟ وماذا نجني من الإزراء بالعلوم محاباة للآداب والفنون؟ أو من الإزراء بالآداب والفنون محاباة للعلوم؟
ماذا نجني من هذا وذاك ونحن فقراء في هذا وذاك؟
وماذا أصبنا من الفن والأدب حتى يقال: إننا قد شغلنا به عن العلم والاختراع؟
بل ماذا عندنا مما اخترعه الآخرون حتى نبحث في اختراع الجديد، ونزعم أننا لولا الفن والأدب لاخترعنا نحن أيضا مع المخترعين؟
أما إذا أغضينا عن أنفسنا ونظرنا إلى أحوال غيرنا، بل إلى الأحوال التي دعت إلى كتابة ما كتب في تفضيل السلاح على الشعر، أو تفضيل القوة على الذوق، فماذا نحن واجدون؟
نجد أمة غلبت عدوها بالدبابات والطيارات، وهي لم تخترع الدبابات والطيارات، ونجد أمة لها مهندسون غلبت أمة لها كذلك مهندسون، لعلهم أفضل من أولئك المهندسين.
فالمسألة ليست مسألة اختراع الدبابة والطيارة، ولا هي مسألة الهندسة والصناعة، ولكنها مسألة «الباعث النفسي» الذي يكمن وراء علم العلماء، واختراع المخترعين، وهندسة المهندسين.
وهذا «الباعث النفسي» هو الحقد الذي تأجج في صدور الألمان، فجعلهم يطلبون من الدبابة ما لم يطلبه منها أصحابها الأولون.
فإن كان رأي الأستاذ «أحمد الصاوي» أن يملأ النفوس بالحقد؛ لأن هذا الحقد قد صنع من الدبابة ما لم يصنعه منها الاطمئنان والرضا، فله رأيه الذي يرتضيه بمعزل عن الشعر والفن، أو بمعزل عن المفاضلة بين المهندسين والشعراء.
أما إن كان يريد بما كتب شيئا غير هذا، فليس في المقدمات ما يبني عليه نتيجة غير تلك النتيجة، وليس في انتصار مقاتل على مقاتل من جديد يمسح ما كتبته الإنسانية إلى الآن، ويخط في مكانه سطورا أخرى لم يكتبها التاريخ.
قال الأستاذ أحمد الصاوي: «... المهندس هو الذي جلس أمام لوحه الخشبي، ورسم على الورق أقصى ما يخطر بالبال من خيال الأهوال: تصور الموت نفسه أمامه وتحداه بالحديد والنار، فرسم الطيارة ورسم الدبابة ورسم الغواصة، ثم عاد فرسم لكل آلة من هذه عناصر دمار جديدة، فلم يكتف بنوع واحد من الطيارات والدبابات.» «... هذه هي رسالة المهندس والكيميائي يعملان جنبا إلى جنب، هذا هو الحاضر، وهذا هو المستقبل، فإلى الشباب المصري الذي يريد الأدب، ويتعلق بالقصص ويحب الشعر نقول: استيقظ، لقد دقت ساعة الحقائق، فانصرف إلى العلم بكل قواك ...»
فهل الهندسة هي التي صنعت هذا الصنيع؟
لو كانت الهندسة هي التي صنعته لكان أولى المهندسين به هم أصحاب الاختراع من الإنجليز والفرنسيين: هم الذين اخترعوا الدبابة، وشغلوا بتحسين الطيارة في الوقت الذي أقبل فيه الألمان على المناطيد من أيام زبلين وخلفاء زبلين.
فعند الإنجليز والفرنسيين مهندسون كالمهندسين الذين عند الألمان، بل هم المهندسون السابقون المتفوقون في هذا الميدان.
ولكن «البواعث النفسية» هي التي جلست وراء المهندس، فأوحت إلى الهندسة في أمة حاقدة ما لم توحه إلى الهندسة في أمة مطمئنة راضية.
والبواعث النفسية هي كل شيء.
هي الحياة، وكل ما عدا ذلك فهو أدوات وآلات. •••
والآن وقد ظهرت الدبابات الضخام، هل يستطيع قائل أن يقول: إن قلة الهندسة عند الفرنسيين والإنجليز هي التي أقلت نصيبهم من تلك الدبابات الضخام، أو هي التي تمنعهم أن يخترعوا مثلها، أو يخترعوا لها آفة تقضي عليها وتفلها على نحو ما يقولون: إن الحديد يفله الحديد؟
كلا!
ليست قلة الهندسة هي العلة؛ فالهندسة هنا كثير، وإنما العلة «فرصة الوقت» إذا اتسعت أو ضاقت للمخترعين، ولن تكون الهندسة هي الباعث على اغتنام الفرصة المنشودة، وإنما هي البواعث النفسية التي أسلفنا الإشارة إليها، وهي في الحرب والسلم أمضى سلاح.
وهل يعلم الأستاذ الصاوي كم من الملايين الثلاثة، أو الملايين الأربعة الذين زحفوا على فرنسا من الشباب الألمان يدرسون العلم، ويقرءون الهندسة؟ وكم منهم يقرءون القصص والروايات؟
كلهم قراء روايات وقصص كما ظهر من إحصاء الكتب التي كانت ترسل إليهم في الميادين، فإذا طلبوا من الروايات والقصص كتبا أخرى، فذلك هو كتاب هتلر الذي يفرضونه هناك على جميع الشبان، وليس هو بهندسة ولا بعلم واختراع، ولكنه شيء أقرب إلى الأحاجي والأساطير! •••
فالهندسة ليست مصدر القوة الألمانية.
والأدب لم يكن مصدر ضعفهم يوم انهزموا في الحرب الماضية ... لا شأن للهندسة هنا أو هناك، بل الشأن كل الشأن للبواعث النفسية، ثم تكون هندسة القوم أو يكون أدب القوم على حسب تلك البواعث من الحركة أو السكون، ومن الخير أو الشر ومن الصلاح أو الفساد.
ويح الإنسان ... كم تروعه الضجة وكم تخلبه قعقعة السلاح!
ماذا لو طبقنا رأي الأستاذ الصاوي على العلم نفسه، ولا نقول على الفن والأدب والقصة والرواية؟
يوم أن هزمت فرنسا في حرب السبعين كان اسم بسمارك ومولتكه يدوي في كل زاوية من زوايا الأرض، ويجري على كل لسان في المغرب والمشرق.
وكان في زاوية من زوايا فرنسا رجل يدعى لويس باستور يكشف جراثيم الأوبئة وأسرار التعقيم، ويعرض نفسه كل لحظة لهلاك لم يتعرض له بسمارك في العمر الطويل.
فما رأي الأستاذ أحمد الصاوي في رجل غاضب مثله متحمس مثله ناصح لبني الإنسان مثله يدخل على الشيخ باستور، فيقول: قم أيها الشيخ الفارغ ولم قواريرك وأنابيبك؟! الوقت وقت نار وحديد، وليس بوقت ماء وزجاج؟!
وأين مع ذلك حرب السبعين كلها بما انطلق فيها من المدافع، وانصهر فيها من الحديد إلى جانب تلك الأنبوبة التي لم يسمع بها ساكن الحجرة المجاورة في بيت باستور؟
لكنها الضجة التي تروع الإنسان، ويح الإنسان، ثم ويح الإنسان!
ولو سألنا له جزاءه الحق لسألنا له طوفانا من الطغيان يغرقه إلى آخر الزمان، ويشبعه ما استطاع الشبع من الحدائد والنيران.
ولكنه مخلوق غافل تشفع له نية مصلح أو نفحة فنان.
وقد نعلم رأي الصاويين جميعا فيما يقولون الآن، إذا نسيت الحرب القائمة، وبقيت صرخة من صرخات النفس الإنسانية، لعلها تنظم اليوم في قصيد، أو تثبت في لوحة فنان أسوان.
الفصل الرابع
السنويات الأدبية
كتب إلي أكثر من مستفهم يسألون عن «السنوية التاجورية»، التي أشرت إليها في تحيتي إلى تاجور من مقال بالرسالة قلت فيه: «خطر لنا أن نرجع إلى السنوية التاجورية؛ لنستخرج الفأل مما كتب فيها من أقوال تاجور بإزاء اليوم التاسع والعشرين من شهر سبتمبر، ولكل يوم من أيام هذه السنوية كلمة أو بيت أو خاطرة من مأثورات الشاعر العظيم ...» •••
وهم يطلبون بيانا عن هذه السنوية، هل هي من صنع الشاعر؟ وهل للشعراء والأدباء المشهورين غير تاجور سنويات على هذه الوتيرة؟ وهل تتجدد في كل سنة، أو تصدر في سنة واحدة ثم تتكرر على نمط واحد؟ إلى أشباه ذلك من أسئلة وتعقيبات.
وسنويات الأدباء والشعراء هي نوع من السنويات الكثيرة، التي افتن فيها الطابعون والناشرون في الأمم الغربية.
فهناك سنويات لمحبي الأزهار ينشرونها للفن والجمال، أو ينشرونها للعلم والخبرة العملية، فما كان منها للفن والجمال زخرفوه بنقوش الأزهار الملونة، ونثروا خلالها شذرات من أقوال الأدباء والشعراء في الرياض والرياحين، وجعلوا بعض حروفها البارزة على مثال الورود والأوراق، وجملوها بما استطاعوا من جمال الشعر والتصوير، وما كان منها للعلم والخبرة العملية رتبوا فيه مواسم الغرس والنقل، وبثوا فيه الوصايا والنصائح عن السقاية والتظليل، أو التعريض للنور، مما له نفع في إنماء النبات وإنماء الزهر على الخصوص.
وهناك سنويات لمحبي الكتب يذكرون فيها المعلومات المتفرقة عن المكتبات التاريخية والكتب النادرة، ونشأة الكتاب في أطواره المتعاقبة وقوانين الطبع والنشر، وحقوق المؤلفين والمترجمين، وما إلى ذلك من الحقائق والأنباء التي يعنى بها الكتاب والقراء، وقد يصدرون السنوية بمقدمة نفيسة تختلف، كما تختلف المعلومات الأخرى عاما بعد عام.
وهكذا السنويات التي ينشرونها لمحبي العصافير أو محبي الرحلات، أو محبي الصيد أو محبي الرياضة وما إلى ذلك من ضروب اللهو والمتع النفسية والذوقية، فمن جمعها عنده فليس من الضروري أن يملأ فراغها ويشتغل بما يشتغل به طلابها وهواتها، بل لعله يجمع منها مكتبة للمعرفة: كل سنوية منها بكتاب جامع لأشتات الطوائف والمقتبسات والأخبار.
أما سنويات الأدباء والشعراء، فهي المفكرات السنوية المألوفة التي تخصص منها صفحة أو أقل من صفحة لكل يوم من أيام العام، ولكنهم يجعلون للأديب أو الشاعر المشهور مفكرة باسمه يصدرونها بترجمته، وفصل قيم لكاتب من كبار الكتاب في نقده، والتعريف بخصائصه ومزايا شعره ونثره، ويقرنون كل صفحة بيوم من أيام السنة بصفحة من مختاراته تناسب الموعد أو تمت إليه بسبب، وربما اشتملت الصفحة على فقرة واحدة أو بيت واحد، وربما اشتملت على أكثر من ذاك، حسب التفاوت في الحجم والموضوع.
وقلما تتغير هذه المفكرات سنة بعد سنة، ولكن الطابعين المتعددين قد يصدرون مفكرات متعددة لشاعر واحد، وقد تكون المفكرة المفردة أو المفكرات المتعددة أوفى من أحسن المختارات التي تختار لذلك الشاعر، وأحظى بالقراءة والنظر من الكتب التي توضع على رفوفها، ولا تحمل بالليل والنهار حيثما مضى صاحبها، وكلما احتاج إلى النظر في مفكراته اليومية.
وهنا معرض للعجب لا يفرغ منه المتعجب!
ففي الغرب حيث يستغني القراء عن التشويق والإغراء يوجد التشويق على أبرعه والإغراء على أشده.
وفي الشرق حيث يحتاجون إلى جميع المشوقات والمغريات لا يوجد من يغري ولا من يغرى، ولا يزالون على ما بهم من الجهل كأنهم أزهد الناس في الدرس والاطلاع.
وليس هذا وحده بمعرض العجب في شئون الكتابة والقراءة عندهم وعندنا.
ففي الغرب حيث يظفر الكاتب بأحسن الجزاء من قرائه يعطيهم ما يعطي من ثمراته، ولا ترهقه الشروط، ولا تثقل عليه القيود، ولا يتمحلون له أسباب العيب والتجني والانتقاص، فليس في إنجلترا من يشترط على برناردشو مثلا أن يحلق لحيته، أو يقلع عن بدعة النباتية في طعامه، أو يدين في السياسة والاجتماع بمثل ما يدين به، أو ينهج في معيشته أو اعتقاده نهجا غير الذي ارتضاه لنفسه.
وفي الشرق حيث لا يغني الجزاء، ولو وفر القراء، ترى العالم القارئ أو جمهرة القراء كأنهم الطفل الممعود، لا أكثر من شروطه ولا أقل من زاده، ولا أعجب من مطالبه ومقترحاته: تعطيه الحلوى فيطلب الفاكهة، وتعطيه الفاكهة فيطلب الخبز واللحم، وتعطيه الخبز واللحم فيطلب المطبوخ إذا أعطيته الشواء، ويطلب الشواء إذا أعطيته المطبوخ، ويتحكم وهو في مطعم الصدقة، أو شبيه بمطعم الصدقة! ثم لا هو بالآكل، ولا هو بالشاري، ولا هو بالملتمس العلاج لما عنده من ضعف القابلية قبل أن يلتمس العلاج للطاهي وأصناف الطعام.
واسمع غرائب ما يطرق الآذان ويصك الأذهان: فهذا الكاتب لماذا لا يكتب في القصة؟ ولماذا لا يكتب في الدين؟ ولماذا لا يكتب في الفكاهة؟ ولماذا لا يكتب في هذه الصحيفة أو تلك المجلة؟ وهذا الكاتب لماذا لا يطلق لحيته؟ أو لماذا لا يقصها؟ وهذا الكاتب لماذا لا يعجب بفلان ولا يقلع عن الإعجاب بفلان؟ وهذا الكاتب لماذا لا يتوجه إلى جمهرة القراء قارئا قارئا؛ ليعفر وجهه بتراب الاعتذار والاستغفار، ويعترف بما يسومونه من اعتراف أو ينكر ما يسومونه من إنكار؟
وخذها قاعدة لا ريب فيها أن الشروط عندنا تزيد بمقدار ما يقل الجزاء، وأن الجزاء عندهم يزيد بمقدار ما تقل الشروط.
أليس هذا بعجيب؟
بلي، ولكنه عجب في الظاهر دون الحقيقة، وما من عجب صحيح في كثرة الطهاة حيث يكثر الآكلون، ولا من عجب صحيح في كثرة الافتنان والتسابق إلى الإتقان حيث يكثر الطهاة في مكان.
فالغربيون يفتنون في الطبع والنشر والتشويق والترغيب؛ لأن طهاة الأدب كثيرون، وآكلي الأدب كثيرون.
وكذلك تقل الشروط عندهم؛ لأن الطعام مطلوب هنا إن لم يطلب هناك، وسائغ في بعض الأذواق إن لم يسغ في غيرها من الأذواق.
أما الطفل الممعود فكيف يعيش الطاهي إلى جانبه؟ وكيف يقلع عن الاقتراح والاشتراط وهو لا يأكل ولا يشتهي؟
لو أنه أكل لما اشترط واقترح.
ثم إنه ليجد شروطه كاملة وافية دون أن يطلبها ويلح في تقاضيها؛ لأن الطهاة يكثرون حيث يكثر الآكلون، ثم يتنافس الطهاة فيجيدون ويبدعون. •••
لقد أخذنا المفكرات السنوية من الطباعة الغربية، ولكننا لم نأخذ بعد افتنانهم في أوضاعها ولا في موضوعاتها ، فقلما تختلف مفكراتنا السنوية بغير الحجم وصنف الورق ولون الغلاف، وقد يزيدون عليها بعض الحكم والأمثال على غير قصد مرسوم أو تفرقة منوعة.
وإني لأكتب هذا المقال، وأود أن يصل إلى طائفة من الناشرين والطابعين، فيتخذوا من المفكرات مروجا للأدب ومن الأدب مروجا للمفكرات، ويخرجوا لنا مفكرة للمتنبي ومفكرة للبحتري، ومفكرة لابن الرومي، ومفكرات للجاحظ وابن المقفع ومحمد عبده وقاسم أمين وسعد زغلول وسائر العظماء من الكتاب والمصلحين والقادة في عصورنا الغابرة والحاضرة، وإذا خيفت قلة الإقبال على مفكرة مقصورة على أديب واحد فلتطبع منها طبعات متفرقة لأدباء متعددين، فيجتمع من المفكرة كلها ديوان منتخب لأدباء العربية، ويقتني القارئ الواحد أكثر من مفكرة واحدة إذا حسن الاختيار والتنويع.
ومهما يكن من الإعراض عن القراءة، فلا إخال أن الكتيب الصغير الذي يباع بدريهمات، ويحتوي ثلاثمائة وستين معنى للمتنبي أو المعري يعدم مئات القراء إذا استكثرنا عليه الألوف، وقد يقبل عليه من لا ينشط لقراءة الدواوين والكتب، ولكنه يتسلى بالبيت بعد البيت والمعنى بعد المعنى كلما قلب صفحة لإثبات موعد أو تقييد حساب. •••
ونعود إلى تاجور الذي بدأناه بالتحية، وذكرنا من أجله هذه المفكرات السنوية.
فنحمد الله أنه بات بمنجاة من الخطر، وأن النبأ الذي انتظرناه مبشرا بسلامته قد سرى بين أرجاء العالم في هذا العهد الذي ندرت فيه أنباء السلامة، فكان له جمال الندرة الموموقة، وغبطة الترفيه المنشود في أوانه.
ونفتح السنوية التاجورية على شهر أكتوبر، فنقرأ له تحية الخريف التي يقول فيها: «المساء يومئ، وبودي أن أتبع السفر
1
الذين أقلعوا في الزورق الأخير لعبور الظلام: منهم من هو راجع إلى مقره، ومنهم من يذهب إلى الشاطئ البعيد، وكلهم قد اجترأ على الرحيل، وأنا على المورد وحدي قد تركت مقري، وأخطأت الزورق وذهب مني الصيف وليس لي في الشتاء حصاد، وهأنذا أنتظر الحب الذي يجمع العثرات والخيبات؛ ليبذرها دموعا في الظلام، عسى أن تنبت الثمر حين يطلع النهار الجديد.»
ثم نقرأ له في الصفحة التالية: «تقبلني يا رب ... تقبلني في هذه السويعة، واغمر بالنسيان تلك الأيام اليتيمة التي انقضت في البعد عنك، وانشر هذه السويعة موسعة فسيحة على جحرك وتحت ضيائك، فكم ذا أقتفي الأصوات التي تجذبني إليها، ثم لا تهديني إلى مكان، فاليوم هبني يا رب أن أجلس في سلام حيث أصغي إلى كلماتك من خلال هذه السكينة.»
ذلك وحي الشاعر الذي له رسالة من الغيب وإلى الغيب في صفحة كل يوم.
الفصل الخامس
حول الحرب والشعر
«كتب بعض القراء الأدباء يعقبون على مقالنا في الحرب والشعر، وطلب إلينا بعضهم مزيدا من الإيضاح، فنحن نجمع هذه الملاحظات التي لعلها تلخص جميع الخواطر التي ترد على آرائنا في ذلك المقال، ونجيب على ما يحتاج منها إلى جواب في شيء من الإيجاز.» •••
قال أحد الأدباء: «لما رأيته يسير في بحثه على ضوء الشعر الغربي والحوادث الغربية، فيرى الحروب لا تشحذ ملكة الشعر، جعلت أستضيء بالشعر العربي والحروب العربية، فرأيت الحرب كانت لدى العرب من أفعل مثيرات الشعر كما يقولون: الشعر يوحيه الحب والحرب والموت.» إلى آخر ما قال الأديب في هذا المعنى.
والذي نراه أن الشعر العربي الذي قيل في الحرب كان ينبغي أن يبلغ عشرة أضعاف القصائد والمقطوعات التي قيلت في الأغراض الأخرى؛ لأن القبائل البادية قضت أيام الجاهلية في قتال، ثم اشتغل العرب بحروب الإسلام وفتوحه، ثم أصبحت الشجاعة الحربية معرضا لمدائح الشعراء في الملوك والأمراء.
ومع هذا جميعه لا يبلغ شعر الحرب في اللغة العربية ما بلغه شعر العشاق في جيل واحد، سواء نظرنا إلى قيمة الشعر أو مقداره.
وقد استغرقت الحروب الصليبية ما استغرقت من الزمن، وشملت ما شملت من الأمم، وتناولت ما تناولت من الأقطار، وليس محصولها الشعري كله بمساو لقصائد عاشق واحد من المشهورين في معشوقة واحدة، وحسبك هذا دليلا على مبلغ إيحاء الحروب لقرائح الشعراء حتى في الزمن القديم.
ونقول: «حتى في الزمن القديم.» لأن للزمن القديم في هذا حكما يخالف حكم الزمن الحديث؛ إذ كان الشاعر يومئذ يؤدي «وظائف شتى» كوظائف الخطيب والداعية والمسجل والشادي على السنة المعهودة في اجتماع الوظائف، ثم تفرقها بالتخصيص والتنويع، وعلى هذا النحو كان الرجل الواحد كاهنا وطبيبا، ثم أصبح طبيبا لجميع الأمراض وبطل عمله في الكهانة، ثم أصبحنا في الزمن الحديث وعندنا خمسون طبيبا لا يعالج أحدهم مرض الآخر، وكلهم أطباء قادرون.
وهذا ما أومأنا إليه في مقالنا السابق عن الحرب والشعر فقلنا: إن الملاحم المنظومة كانت «هي وسيلة التدوين التي لا وسيلة غيرها بين أولئك الأميين من الأقدمين، فلما كثرت وسائل التدوين في العصر الحديث كان ذلك أقمن أن يضعف النزعة إلى تخليد الحروب بالمنظومات المطولة، وأصبحت القصائد التي تنظم في هذا الغرض أقرب إلى التعليق والاعتبار والإعراب عن فلسفة الشاعر ...»
فإذا تعرض الشعراء لموضوعات الخطباء والمسجلين في الزمن القديم، فذلك شأن لا يدوم في زماننا هذا الذي تعددت فيه مطالب الخطابة ووسائل التدوين، فأصبح تضييع الشعر فيها من الفضول، أو من صرف الشيء في غير منصرفه المعقول. •••
وقال أديب آخر: «أما الشاعر فلا بد له من سويعات يجمع فيها أشتات فكره، ثم يدبج ببراعته صيحاته، فإن كان شاعرا حقا عبقريا استطاع أن يغتصب منبر الخطيب، ويستأثر بالجماهير لترديد شعره وقراءته كالشاعر الإنجليزي كبلنج، وإلا فهو بالطبع سيمنى بالفشل، ولعل هذا هو السر في أنه لا ينزل إلى ميدان الشعر في أيام الحروب إلا من وثق من نفسه أنه يستطيع بإلهامه وجودة شعره أن يستأثر بقلوب الجماهير، ويحملهم على قراءة شعره.»
وليس الأمر كما قال الأديب؛ لأن ما نظمه كبلنج إنما كان من قبيل الأناشيد التي قلنا: إنها اجتماعية وليست فردية، فحكمها في هذا الصدد كحكم الخطب والمقالات.
وقد حضر الثورات والحروب شعراء فحول في الذروة العليا بين أقوامهم، فلم ينظموا فيها إلا قليلا جدا بالقياس إلى سائر الأغراض والمعاني.
فهذا ملتون كان أشعر أبناء عصره من الإنجليز، وكان في حومة الثورة الإنجليزية، فماذا نظم بالقياس إلى ما نظمه في الأغراض الأخرى؟
وهذا فكتور هوجو كان أشعر أبناء عصره من الفرنسيين، وقد حضر الثورة وحرب السبعين، فماذا نظم فيها؟ وماذا نظم في سائر الموضوعات؟ وما يقال عن هوجو يقال عن شاتوربريان ولامرتين وشينيه، وجملة الشعراء الذين لابسوا الثورة الفرنسية في عهد من العهود.
وكذلك كارودتشي الإيطالي كان أشهر شعراء قومه، وحضر الثورات الإيطالية وكان ثائرا ابن ثائر، ولكنه فضل الإعراب عن آرائه السياسية في نشيد الشيطان على تسجيل الحوادث التي لا تنحصر في الحروب.
وكذلك جيتي وشيلر وهيني أعظم شعراء الألمان في زمانهم لم ينظموا في حروب عصرهم - وهو عصر نابليون والثورات الوطنية - إلا شذرات مهملة من شعرهم القيم المقدم على غيره.
ولقد شغلت الحرب الماضية أقطار العالم قاطبة أربع سنوات، وفيه مئات الشعراء من غربيين وشرقيين، ثم لم يعقبوا جميعا من الشعر القيم ما يضارع ديوانا واحدا، وجاء الشاعر الناقد ييتس الذي عهد إليه في اختيار مجموعة أكسفورد من الشعر الإنجليزي في خمسين سنة، فلم يثبت من قصائد الحرب إلا النادر الذي نظم بعد انتهائها، وقال في مقدمة المجموعة: إنه أهمل تلك القصائد؛ لأن الموضوع بحذافيره لا يستحق الإثبات.
وتلك هي الحقيقة التي تنجلي لنا من مراجعة دواوين الفحول، ومن مراجعة أوقات الحروب الكبرى، فمن أين نأتي بزعم من يزعمون أن النظم في الحروب شرط من شروط الشاعرية، وأن إهماله معيب في أساطين الشعراء؟! •••
ولكن طالبا أديبا في الجامعة كتب إلي يلفتني إلى رأي للأستاذ أحمد أمين أذاعه في يوم ذكرى حافظ - رحمه الله - وقال فيه عن قراء الصحف: إنهم «يقلبونها اليوم فلا يجدون فيها شعرا في غارة، ولا في هجرة الريف، ولا في طاقة البترول كما لم يجدوا فيها ما هو أهم من ذلك في آلام مصر والشرق وآمال مصر والشرق ... قد كان يقول حافظ بذلك كله، ثم لم نجد له خلفا.»
ويسألني الطالب رأيي فيما أفتى به الأستاذ أحمد أمين، ورأيي أنه كان أولى به أن يسأل أستاذه: علام اعتمد في هذه الفتوى التي قرر بها أن ميزان الشاعرية هو النظم في الغارات وبطاقات البترول والهجرة إلى الريف؟
إن مشاكلنا التي من هذا القبيل لتغرق في نظائرها من مشاكل الأوروبيين كما يغرق الجدول في العيلم الزاخر، فما بالهم لم يفرغوا همهم للنظر في تلك الموضوعات، التي يقترحها الأستاذ أحمد أمين؟ أليس في أوروبا كلها شاعر في طبقة حافظ - رحمه الله؟
نحن لا نحرم على الشاعر النظم في بطاقات البترول وما إليها، ولكننا نحرم على الناقد أن يجعل بطاقات البترول ميزان الشاعرية، ونحسب أن إيمان الأستاذ أحمد أمين بخطئه أحرى به من هذا الجزم العجيب بخطأ الشعراء الذين لا يجارونه في فهمه للشعر ... وليس هو بشاعر ولا ناقد، ولا صاحب سند فيما يرتئيه، وليست له إحاطة بما نظم الشعراء في مختلف المقاصد ومختلف المناسبات. •••
وعلق أحد الأدباء على مقالي - الحرب والشعر - بما يأتي: (1)
ليس صحيحا أن مجلة البنش الإنجليزية نشرت قصيدة جون ماك كراي، التي عنوانها «في سهول الفلاندرز» إلا وهي تتردد في استحسان القراء لها، بل في التفاتهم إليها كما قال الأستاذ العقاد. والحق والواقع كما قال برنهارد راجنر الأمريكي في مجلة نيويورك تيمس: إن محرر المجلة قدر ما في القصيدة من جمال، ونشرها بالحروف الكبيرة التي لا تستعملها البنش إلى في المناسبات الأدبية العظيمة. (2)
ذكر الأستاذ العقاد في الترجمة ما يأتي: «كنا أحياء وكنا نحيا.» والواقع أن هذا تكرار من الأستاذ المترجم لا معنى له؛ لأن الأصل الإنجليزي هكذا
We Lived
فقط. (3)
ترجم الأستاذ كلمة
Torch
بالعنان وهذا غريب، ولو أنه قال: شعلة النضال لكان أصدق؛ لأن الشاعر يقول على لسان الموتى: إن الشعلة أسلمناها إليكم من أيدينا المتخاذلة. (4)
ويقول المترجم: «وارفعوا الشعلة عالية ... ارفعوها ولو بقيت في أيديكم سنوات، وليس في كلام الشاعر الكندي مطلقا ما يشير إلى هذا الشرط الأخير؛ أي: بقاء الشعلة سنوات، وأظن أن الأستاذ العقاد قرأ
years yours
وشتان بين الاثنين ...»
فأما أن تردد البنش في استحسان القراء للقصيدة ليس صحيحا، فهو ليس بصحيح.
وقد يفيد صاحب الخطاب أن يرجع إلى (الصفحة 721) من كتاب «بعد عشرين عاما» في فصل الشعر والحرب العظمى، فيقرأ هناك ما نصه بالإنجليزية:
It is most unlikely that either he or the editor of
take on the imagination of the nation.
وترجمته: «إنه بعيد جدا أن الناظم أو محرر البنش الذي نشرها أول مرة توقعا أي توقع ما سيكون لها من السلطان على خيال الأمة.»
وأما أن قولنا: «كنا أحياء نحيا.» تكرار لا معنى له، فهو خطأ يدركه من يدرك أن اللغة العربية لغة المفعول المطلق، ولغة التوكيد بتكرار اللفظ والمعنى، وأن قولنا: «كنا أحياء.» غير قولنا: «كنا أحياء نحيا.»
وأما أن ترجمة
Torch
بالعنان غريب، فقد يكون ذلك صحيحا لو كان هناك عنان حقيقي أو شعلة حقيقية؛ ولكنها حين تكون مجازا لا غرابة فيها، ولا سيما إذا كان المترجم لا يجهل أن
Torch
معناها الشعلة كما ترجمها في السطر التالي حين قال: «وارفعوا الشعلة عالية.»
ونحن نترجم إلى اللغة العربية، والعرب يعرفون الأخذ بالعنان حين يراد به الاستلام، ولا يعرفون رفع الشعلة إلا للذكر والذكرى والنظر من بعيد، كما يتحدثون عن العلم الذي في رأسه نار.
وأما ذكر السنين فهو مفهوم بمعناه وإن لم يرد بلفظه، وإلا فما هو بقاء الشعلة إن لم يقصد بها البقاء طول السنين؟
ونصيحتي لصاحب الخطاب أن يتعلم قبل أن يتهجم، فذلك أنفع له وأسلم. •••
وبعد فخلاصة القول في الحرب والشعر أن نصيب الحادث من الشاعرية لا يقاس بالضخامة ولا يحسب بالعدد، فرب شاعر تناول حياة فرد واحد، فصور منها فاجعة خالدة تعيش حين تنسى الحروب التي نشبت في زمانها، وربما مات فيها مئات الألوف.
وقد تستغرق الحروب ما استغرقته الحروب الصليبية، ولا يترك لنا معاصروها أثرا يضارع تلك القصيدة الواحدة التي تدور على حياة فرد واحد.
الفصل السادس
وأمنيتي ...!
«... فهمنا من مقالكم «أمنيتي» ما هي العلاقة بين الفروسية وقرض الشعر، أو بين أن تتمنى قيادة الجيوش، وأن تتمنى النبوغ في الأدب، ولكن تسمحون لي أن أقول: إن العلاقة بين التدين والأدب لا تزال غير جلية، فهل تتفضلون بتوضيحها ... ... ولا أدري هل تمنيتم الأدب ولم تتمنوا شيئا آخر من الدنيا؟ ألم تتمنوا السعادة مثلا؟ ألم تتمنوا لذة من لذات الحياة؟ أليس الحب أمنية للشاعر وإخوانه من رجال الفنون الجميلة؟ فما قولكم في هذا ؟ هل يغني الأدب وحده عن كل هذه الأماني المحبوبة؟!» •••
هذه نبذة من خطاب مطول في التعقيب على مقالنا السابق عن أمنيتي في الحياة، نعود بها أو تعود بنا إلى هذا الموضوع الذي لا يزال أبدا في حاجة إلى تكملة كاحتياج المرء إلى التمني، واستكناه ما يتمناه، وإطالة القول في هذا وذاك.
ويلوح لي أن الأديب المستفهم يبحث عن علاقة بين الأدب والتدين، كالعلاقة بين الأدب ونظم الشعر في ميدان القتال للتحدي والتهويل على الأنداد.
فالشعر قريب من الفروسية؛ لأن الفرسان كانوا ينظمون الشعر بين الصفوف، فهم فرسان شعراء، والقرابة بين الطائفتين واضحة على هذا المنوال.
ولكن ما هي العلاقة بين الإيمان الديني والنزعة الأدبية؟ هنا يقول الأديب المستفهم: إن العلاقة يحيط بها شيء من الغموض.
والواقع أن العلاقة هنا أوضح وأقرب إذا بحثنا عن المناسبات السطحية التي من قبيل نظم الشعر بين صفوف القتال للتحدي والتهويل؛ فإن كثيرا من الشعراء ينظمون في الأغراض الدينية، وفي الغزل الإلهي، وفي شطحات الصوفية وأهل الطريق، فإن كان هذا هو المقصد من العلاقة بين الإيمان الديني والنزعة الأدبية، فما أوضح الموضوع وما أبعده من الغموض! إن الشعراء الصوفيين لا يقلون عن الشعراء الحماسيين، وقصائدهم رائجة بين الناس كرواج قصائد الفرسان؛ لأن حلقات الأذكار وما يشبهها أشيع في الأندية والمجالس التي تنشد فيها سير الأبطال بلغة الفصحاء أو بلغة العوام.
ومن ذكرياتي في هذا الصدد أنني نظمت الشعر في الأغراض الدينية، كما نظمته في المناجزة والدعوة إلى القتال.
فقد أسلفت بمقالي السابق أنني أوشكت أن أسلك طريق «الدروشة»، وأنقطع عن الدنيا ومساعيها، وكنت خلال ذلك أسمع الأذان من مؤذن المسجد المقارب لبيتنا وهو منشد مشهور بجمال صوته وحسن إلقائه، فكان يشجوني أن أسمع مقدمات الأذان قبل صلاة الجمعة، وهي الأناشيد الثلاث التي كانوا يسمونها حسب ترتيبها بالأولى والثانية والثالثة، وكلها من الشعر المنظوم في التصوف أو مدح النبي - عليه السلام.
وكان مسموحا للناشئين أن ينشدوا هذه القصائد مع المؤذن أو على انفراد، كان إنشاد الناشئين مفضلا مستحبا؛ لأنهم أقرب إلى صفاء النفس وطهارة العبادة.
فاستأذنت في إلقاء إحدى هذه القصائد مرات، واخترت في بداية الأمر شعرا من دواوين البرعي وأمثاله، ثم تجرأت على نظم قصيدة طويلة أحكي بها شعر المديح النبوي، وأنشدتها دون أن أخبر أحدا بأنني ناظمها، وخفت أن يستكثروها علي بعد ظهور الحقيقة، فختمتها ببيت لا أذكر منه إلا الشطرة الأخيرة، وهي:
عباس من هو بالأشعار مدرار
وإنما أذكرها لأنها هي الشطرة الوحيدة التي انتقدها أبي - رحمه الله - حين أطلعته على الحقيقة، فتبينت الفرح في أسارير وجهه والتشجيع في صريح كلامه، ولكنه قال لي برفق: ما ينبغي أن تثني على نفسك هذا الثناء وأنت ترى كيف يختتم الأئمة المادحون قصائدهم بالتذلل والتوسل وتصغير ما قالوه وأسلفوه من الصلوات والعبادات.
فهذه علاقة بين التدين ونظم الشعر، كالعلاقة بين نظم الشعر والحماسة العسكرية، ولكنها كما قدمت علاقة سطحية توجد بين الأدب وبين كل موضوع ينظم فيه الشعراء، ففي وسعك على هذا القياس أن تقول مثلا: إن الهندسة «الميكانيكية» قريبة من الشعر؛ لأن بعض الشعراء ينظمون في وصف الطيارة، وأن تقول كذلك: إن علم الحيوان قريب من الشعر؛ لأن بعض الشعراء ينظمون في وصف الخيل أو وصف العصافير.
إلا أنها علاقة سطحية لا يرجع إليها في استكناه أسرار الشخصية الإنسانية، وروابط الملكات والطبائع الخفية، وغير هذه العلاقة أردنا حين قلنا: «إن التعبير عن النفس يجتمع فيه عندي تحقيق وجودها ومتعتها، واستكناه حقيقتها وحقيقة ما حولها.»
فالتعبير عن النفس هو الأدب في لبابه.
وما هو التعبير الذي عنيناه؟
التعبير الذي عنيناه هو كشف المكنون، وتوضيح الأسرار وتمثيل الخفايا في صورة تخرجها من عالم الخفاء إلى عالم النور.
وهنا العلاقة الوثيقة بين أعمق أعماق الدين وأعمق أعماق الأدب: هنا العلاقة بين استطلاع أسرار الوجود وبين معرفة النفس، ومعرفة الإفصاح عن معانيها والإبانة عن أشواقها بلسان الأدب، أو بلسان الفن على التعميم.
فكل تعبير ينطوي على سر موضح مكشوف.
وأي سر أعمق من سر الوجود، وأحوج منه إلى التعبير والتقريب والإلحاح بعد الإلحاح في الاستكناه والاستطلاع!
ذلك ما أردناه حين قلنا: إن الصومعة قريبة من الروضة الأدبية، وذلك هو التعبير عن النفس بمعنى إثبات حقيقتها، وإثبات العلاقة بينها وبين الحقائق الكبرى.
ولكل نفس تعبيرها على حسب ما تحسه وتتوق إليه، فليس من الضروري أن ينتهي التعبير بكل إنسان إلى التعمق في أسرار الدين، ولكنه إذا انتهى ببعض الناس إلى التعمق في تلك الأسرار فليس ذلك بغريب. •••
أما أنني تمنيت الأدب ولم أتمن السعادة، فسبب ذلك بسيط لا نطيل الإفاضة فيه.
سببه أن السعادة أمنية عامة، وليست بالأمنية المحدودة أو الأمنية الخاصة.
فمن قال: إنه يتمنى السعادة، فكأنما قال: إنه يتمنى ما يتمناه كل إنسان، وكأنه بذلك لم يقل شيئا يستحق السؤال.
كلنا يتمنى السعادة، ولكن سعادة هذا غير سعادة ذاك.
سعادة هذا في المعرفة، وسعادة ذاك في جمع المال، وسعادة غيرهما في السطوة والاستعلاء، وسعادة آخرين في الراحة والقناعة، وكلهم يتمنون السعادة على نحو من الأنحاء.
فإذا سألني سائل ماذا تتمنى، فهو لا ينتظر مني أن أحيله إلى السعادة مجملة غير مفصلة، بل هو ينتظر مني أن أبين له الأمنية التي تسعدني إن ظفرت بها، أو التي أعتقد أن طريقها هو طريق السعادة وإن لم أصل إليها.
وكذلك لذة الحياة أو لذات الحياة، فهي مسألة وظيفة من وظائف البنية الحية، لا تحتاج إلى سؤال، وما من حي إلا وهو يشتهي أن يشعر باللذة وأن يجتنب الألم، وغاية ما بين الأحياء من فروق في هذا الباب أن يختلفوا في أسباب اللذة ودرجاتها على نحو قريب من اختلافهم في أسباب السعادة ودرجاتها.
هي وظيفة وليست أمنية.
ومن قال: إنني أطلب اللذة، فكأنما قال: إن لي معدة ولي عينين ويدين وقدمين، وذلك غني عن المقال. •••
أما الحب وأنه أمنية للشاعر وإخوانه من رجال الفنون فذلك صحيح.
ولكن من قال: إن «التعبير عن النفس» لا يشمل الحب في بعض نواحيه؟
ومن قال إن الاشتياق إلى الحب والاشتياق إلى التعبير عن النفس شيئان مختلفان ؟
إن الإنسان لا يجد نفسه في شيء كما يجدها في الحب، وإنه لا يعرف ما فيها من قوة وضعف، ومن عطف وجمود، ومن رحمة وقسوة، ومن خفايا وظواهر، ومن فجيعة وضحك، ومن حكمة وحماقة، ومن إنسانية وحيوانية كما يعرف ذلك جميعه في الحب.
فالحب ومعرفة النفس صنوان.
ومعرفة النفس منتهية لا محالة إلى التعبير عنها، ولو لم يكن هذا التعبير بالمنظوم والمنثور.
ونحن حين قلنا: إن «التعبير عن النفس» يجمع ما تفرق بين الثكنة والصومعة والروضة الأدبية، فقد قصدنا أن تحيا النفس أولا، وأن تشعر بالحياة شعورها الخاص بها قبل أن يتاح لها تمثيل ذلك في صورة من صور التعبير.
ولم نخص الحب وحده بين دوافع الشعور؟
لم لا نذكر المجد أو البر أو الجهاد الإنساني أو الوطنية، أو غير ذلك من معارض الشعور ومعارض الشوق إلى التعبير؟
فالتعبير عن النفس عندنا كلمة مقابلة للشعور بالنفس، ومتى شعرت النفس بحقيقتها فالعواطف الكبرى جميعا حاضرة بغير استثناء، مذكورة بغير تسمية، معممة بغير تخصيص.
الفصل السابع
العامية والفقر
«قام في إحدى الحفلات خلاف بين الدكتورة نعيمة الأيوبي والأستاذ كامل كيلاني: كان من رأي الدكتورة أن نتكلم باللغة التي نستعملها في كل المناقشات، حتى في المرافعات أمام القضاء وهي العامية، والأستاذ كامل كيلاني لا يسمح بالموافقة على نصرة العامية على اللغة العربية الفصحى.
ويقول: من لم يستطع التعبير عن أفكاره بالعربية الفصحى، فما هو بمستطيع أن يعبر عنها بالعامية.
فسألني أحد الأدباء: ما رأيكم في هذا الخلاف؟ وهل يمكن نصرة اللغة الفصحى في بلد سواده الأعظم من الأميين؟ وإذا خاطبت إنسانا فقيرا باللغة الفصحى لتسدي إليه النصح والإصلاح هل يفهمك، أو يظن أنك تسخر به فيحز ذلك في نفسه وينصرف عنك متألما؟» •••
تلك رواية الأديب، وهي لا تستلزم في الجواب عليها أن أتعرض لتفصيلات رأيين لم أقف منهما على غير هذه الإشارات، التي لا تشمل كل ما يقوله صاحب الرأي في شرحه والدفاع عنه. فحسبنا أن نحصر الكلام هنا في العلاقة بين الفقر والعامية، وهل من دواعي العطف على الفقير، أو من دواعي النظر في مشكلة الفقر أن ننصر العامية على الفصحى؟ وأن نعبر عن آرائنا باللغة التي يتكلمها الفقراء؟
فالعامية قبل كل شيء هي لغة الجهل، وليست بلغة الفاقة أو بلغة اليسار.
وبين الأغنياء كثيرون لا يحسنون الكلام بغير العامية التي لا جمال لها ولا طلاوة.
وبين الفقراء من يحسنون التعبير بالفصحى، أو يعبرون بالعامية تعبيرا يزينه جمالها، وتبدو عليه طلاوتها.
فإذا عطفنا على العامية، فإنما نعطف على الجهل ونستبقيه ونستزيده، ولا نخفف وطأة الفقر ذرة واحدة بتغليب عبارات الجهالة على العبارات التي تصاغ بها آراء المتعلمين والمهذبين.
إن علاج مشكلة الفقراء هي أن ترفع طبقتهم معيشة وتفكيرا وحديثا ومنزلة من التعليم والتهذيب، وليس علاج تلك المشكلة أن تسجل عليهم حالة من العجز والجهالة هي التي يشكون منها، ويسألون المعونة على علاجها.
وماذا يفيد الفقراء أن يسكن الأغنياء الأكواخ؟
وماذا يفيد الفقراء أن يتكلم المتعلمون لغة الجهلاء؟
وماذا يفيد الفقراء أن تساويهم في الحرمان من المال والعلم، ومن الفصاحة وقدرة التعبير؟
إنما يفيد الفقراء أن تصبح أكواخهم قصورا، أو كالقصور في الإراحة وتصحيح الأبدان.
وإنما يفيدهم أن يكون نصيبهم من اللغة كأحسن نصيب يتعلمه المتعلمون، فإن لم يبلغوا هذا المبلغ فالفائدة ألا يكون نصيبهم منها أحقر نصيب، وألا نسجل عليهم هذه الحالة المزرية كأنهم لا يصلحون لغيرها، ولا يطمحون إلى ما فوقها.
وإنما يفيد الفقراء أن يساووا أحسن الناس، لا أن يصبح أحسن الناس مثلهم في المعيشة والعمل والعلم والكلام.
ولم يقل أحد: إننا حين نبني القناطر والجسور والمستشفيات لعلاج داء الفقر ينبغي أن ننسى الهندسة لأن الفقراء لا يعرفونها.
ولم يقل أحد: إننا حين ندبر الطعام للمعوزين ينبغي أن نبطل أطايب الطعام؛ لأن المعوزين لا يملكون أثمانها.
فلماذا يقول قائل: إن إهمال اللغة الفصحى واجب عند البحث في مشكلة الفقر والجهل؛ لأن الفقراء والجهلاء لا يحسنون اللغة الفصحى، وإن المناقشة في تلك المشكلة ينبغي أن تدور بالعامية؛ لأنها هي اللهجة التي يتكلمها الفقراء والجهلاء؟
يقول الأديب صاحب الخطاب: «إذا خاطبت إنسانا فقيرا باللغة الفصحى؛ لتسدي إليه النصح والإصلاح يفهمك، أو يظن أنك تسخر به، فيحز ذلك في نفسه، وينصرف عنك متألما؟»
فمن اللازم أولا أن نفرق بين اللغة الفصحى واللغة الصعبة التي لا يفهمها إلا الأقلون؛ إذ ليس كل فصيح صعبا ولا كل عامي ركيك سهلا على سامعيه.
ومتى فرقنا بين الفصاحة والصعوبة أدركنا أن السهولة تتوافر للكلام الفصيح، وتنفذ إلى أسماع الجهلاء غير حائل بينها وبين النفاذ إلى تلك الأسماع حركة الإعراب ولا صحة التركيب.
هذا أولا.
أما «ثانيا» فمن اللازم أن نذكر أن العظات إنما تتلقى بالخشوع والتوقير، كلما اقترنت في ذهن السامع بملابسات الخشوع والتوقير.
والعظات التي تقترن في ذهن السامع بالمسجد، وحلقات العلم أحرى أن تقترن بالنفوس الخاشعة، والأسماع المصغية من عظات تحمل طابع السوق، ومجالس اللهو والمزاح، وهذه المقارنة النفسية أشبه بمقارنة الهيبة التي تسري إلى قلوب السامعين، وهم يصغون إلى الواعظ في المسوح، ولا تسري إليهم وهم يصغون إليه في مباذل البيت، أو ملابس السهرة وكسوة «الردنجوت».
أما شعور الجاهل الفقير وأنت تخاطبه بالفصحى، فقد تختلف فيه الأقوال حسب اختلاف الأحوال، ولكنه لو أنصف لامتعض ممن لا يخاطبه إلا وهو متنزل إلى لغة أوضع الطبقات، كأنه يترفع عن مخاطبته باللغة التي يخاطب بها أقرانه وزملاءه، وما أظن الجاهل الفقير يحب أن يترفع الأغنياء عن لقائه في حجرة الاستقبال، التي يلقون فيها أقرانهم وزملاءهم؛ ليخرجوا له إلى العراء، حيث يجلس بغير مقعد وبغير مهاد ... فلماذا يحب الجاهل الفقير أن يتنزل مخاطبه من أسلوبه وأسلوب أقرانه وزملائه ليخاطبه بما هو دون ذلك الأسلوب؟
إننا لم نسمع أن أحدا تواضع حبا للفقير، فخلع حذاءه ليمشي حافيا أو يلبس أرخص النعال؛ فما بال أناس يتواضعون فيخلعون لغة المعرفة والثقافة؛ لأنها كما يزعمون لغة لا يفهمها الفقراء؟
ما خلت الدنيا قط ولن تخلو من التعلم والتعليم، وإن اليوم الذي ننبذ فيه كل ما نتعلمه، ونتعب في تعلمه لهو اليوم الذي ينحدر فيه الإنسان إلى الجهل الذي هو أشيع شيء بين الناس، وأغناه عن معلمين ومتعلمين، وعن جهد في التعليم والتحصيل.
وإذا كنا نحتج لبقاء اللغة العامية بأنها اللغة التي يعرفها الجاهل بغير تعلم، فلماذا لا نحتج لكل جهل بمثل هذا الاحتجاج؟ وأي شيء أحق من العقل الإنساني، ومن النفس الإنسانية بأن نفهمها على الوجه الأمثل حين نفهم اللغة الصالحة لإبداع أشرف المعاني، وأرفع الصور الذهنية وأحقها بالبقاء والتخليد؟
واللغة العامية بطبيعتها لغة وقت محدود وجهة محدودة، فهي لا تصلح لبقاء أثر من الآثار التي تستحق البقاء، ولن نكسب شيئا ولا الفقراء يكسبون بصيانة حديث العامة، وإهمال الحديث الذي يخلد المتنبي والمعري وابن الرومي وشكسبير وهوميروس وسوفكليس وڤرجيل.
وما ارتقى العامة قط لأنهم فهموا نظام الصحة وقواعد الحكم وهم جهلاء أميون، ولكنهم يرتقون حين يتعلمون ويقتدرون على فهم الكلام في لغة المعرفة والإرشاد، أما وهم أميون جهلاء فلن يفهموا ما يقال، ولو قيل لهم بلغة الجهال.
وإنها لبدعة عجيبة تلك التي سرت في الزمن الأخير، وتعلق بها أناس منا مخلصين وأناس مخدوعين، وأناس منا يسيئون النية وهم على علم بالغرض مما يدعون إليه.
فالدعوة إلى تغليب العامية إنما تنبع في مصدرها الأول من جانبين متناقضين، وإن اتفقا في غرض واحد:
فجانب الشيوعيين المنكرين للعقائد والأديان يحقدون على اللغة الفصحى لحقدهم على كل امتياز وارتفاع، وغرامهم بكل ما يهبط إلى مرتبة الصعاليك، ثم هم لا ينسون أن القضاء على العربية الفصحى فيه قضاء على دين المسلمين، الذي يحاربونه كما يحاربون كل دين.
وجانب المبشرين لا يعنيهم من الأمر إلا أن يحاربوا الدين بين الأمم العربية، فلا يعنيهم في بلادهم أن يغلبوا الكلام المسف المبتذل على الكلام المهذب الفصيح.
ومما يكشف عن سوء نية هؤلاء وهؤلاء أنهم يفضلون الكتب التي تؤلف بكلام العامة فيما يختارونه للترجمة إلى اللغات الأوروبية؛ مع أن الترجمة لا تظهر فرقا بين أسلوب العوام، وأسلوب الخواص، ولا يدري من يقرؤها وهو لا يعرف الأصل أهي من الكلام الدارج منقولة ، أم هي منقولة من كلام تلتزم فيه الفصاحة وحركات الإعراب.
فهو إذن تشجيع للعامية في وطنها، وليس بتشجيع للعامية في اللغات الأخرى، ومن هنا ينكشف سوء النية الذي أومأنا إليه.
فرأيي فيما سأل عنه الأديب أن تغليب لغة الجهل كارثة على الأمة العربية وعلى العقل الإنساني، لا تقل عن كارثة الفقر وسوء العيش، وأن علاج مسألة الفقر لن يتوقف في وجه من وجوهه على ترك الكلام الفصيح وتقديم الجهالة الكلامية، ولن يختلف الأمر هنا بين طب الأمراض البدنية، وطب الأمراض الاجتماعية، فلا الطبيب مضطر إلى إهمال لغة الطب وهو يعالج مريضه، ولا المصلح الاجتماعي مضطر إلى إهمال لغة المعرفة وهو يعالج الفقر أو الجهالة، وليس ما يفهمه الفقير الجاهل من عبارات العامة بأكثر مما يفهمه من لغة الخاصة إذا كانت الصعوبة في الإدراك، أو كانت الصعوبة في الموضوع، فلو نقلت أرسطو إلى أوضع اللهجات لما سهلت فهمه أقل تسهيل، بل لعلك تزيد الصعوبة بإقحام المعاني الرفيعة في لغة لم تهيأ لتمثيلها منذ زمن بعيد.
ولنرحم الفقير الجاهل برفعه إلى طبقة اليسار والمعرفة، والتسوية بينه وبين من يفصحون ويفقهون.
أما رحمته بإبقائه حيث هو في عمله وكلامه ومداركه، فتلك هي القسوة التي لا يسيغها الرحماء.
الفصل الثامن
سؤالان متباعدان
جاءني في هذا الأسبوع سؤالان متباعدان من طرفين متقابلين: أحدهما من أديب يسأل عن أبي تمام، والآخر من أديب يسأل عن المدرسة الحديثة في التصوير، أو عن المدرسة التي تزعم أنها تعتمد في تصويرها على الوعي الباطن، ولا تعتمد على المشابهات المحسوسة.
أما الذي يسأل عن أبي تمام، فيسرد أسماء الشعراء الذين كتبت عنهم كتبا أو فصولا في كتب، ثم يقول: ... ولكن شاعرا واحدا لم يفز منك بالإعجاب أو السخط، ولم يظفر منك بتزيين أو تهجين، وهو أبو تمام، ما الذي أبعدك عنه وما الذي أبعده منك؟ أما أنا فأعتقد صادقا أو كاذبا أن شعرك وشعره ينبعان من منبع واحد ...
ثم يقول: فأبو تمام الذي أحدث ضجة في عصره، والذي كتب عنه الآمدي وغيره، والذي كان مثالا للشعراء يحتذونه ويقلدونه، لا يظفر في العهد الحديث ببحث أو بكتاب أو بطبع ديوانه طبعة أنيقة. ليس هناك شاعر يمثل عصره تمام التمثيل إلا هذا الشاعر، وليس هناك شاعر يعلم البحث والتفكير والتعمق إلا هذا الشاعر، ولكنه ينسى ويقدم المجنون ابن الرومي، ويهمل ويذكر رهين المحبسين أبو العلاء، ويكتب عن بشار وأبي نواس ودعبل ولا يكتب عنه!
أبو تمام حزين ثائر من الأستاذ العقاد؛ لأنه هو الذي إذا تصدى لبحث وفاه حقه، وإذا كتب عن شاعر شرقي أو غربي أعطاك صورة صادقة ناطقة طبق الأصل ... مهما ظننت بي الظنون فأنا مطالبك بالكتابة عنه، ومهما اعتقدت بي الفضول، فأنا مقتنع بفكري راض بنظرتي ... •••
وأنا يعجبني الإعجاب؛ لأنه دليل حسن على شعور كريم، ولا يعجبني أن يكون الإعجاب بأحد بابا للجور على آخرين.
أما جوابي عن سؤال الأديب: لم لم أكتب عن أبي تمام؟ فأبدؤه بأن أبا تمام في اعتقادي شاعر في طليعة الصفوة من شعراء العصر العباسي وشعراء العربية عامة، وأنه حقيق بكتاب أو برسالة ضافية كغيره من الشعراء الذين كتبت عنهم أو كتب عنهم النقاد السابقون واللاحقون.
ولكنني لم أعرض له؛ لأن الغالب في كتاباتي من هذا القبيل أن ترجع إلى سببين: إنصاف مغبون، أو تجلية ناحية قد نسيها النقاد أو فهموها على وجه آخر.
وأبو تمام ليس بالشاعر المغبون ولا بالمجهول القدر في زمانه وبعد زمانه، بل لعله أصاب من الرعاية والاعتراف بالفضل فوق حقه، أو فوق ما أصابه معاصروه على التحقيق.
كذلك ليس في أبي تمام ناحية غامضة أو ناحية تتنازعها الأفهام والبدائه الفنية؛ وإن جرى النزاع في معنى من معانيه، فهو نزاع لا يتسع حتى يتناول النفس الإنسانية في آفاقها الواسعة، ولا يترتب على البت فيه بت في مشكلة عاطفية أو اجتماعية، أو عقدة من عقد الحياة.
فهو صاحب إجادات وليس بصاحب عالم.
يسأل سائل: وما «صاحب عالم» هذه التي تميز بها بعض الشعراء، وتجعلها ذريعة إلى الكتابة عن فريق وترك الكتابة عن آخرين؟
فأقول: إن التمثيل هنا لازم لتقريب المقصود بالشاعر الذي «له عالم»، والشاعر الذي لا عالم له وإن كانت له إجادات.
فالملكة الشاعرية - بل الملكة الفنية عامة - هي أشبه الأشياء بالزجاجة المصورة التي ترسم ما يقابلها.
فالزجاجة الحساسة الواسعة لا تدع مما يقابلها شيئا إلا رسمته، وجاءت بصورة منه.
والملكة الفنية زجاجة مصورة تقابل العالم بأسره، فإن كانت حساسة واسعة جاءتنا بصورة من العالم كله، وأمكننا أن نعرف ما هو العالم كله كما رآه الشاعر في قصيدته.
وإن لم تكن كذلك جاءت بقطعة منه، وبلغت ما يتاح لها أن تبلغ في تلك القطعة المحدودة، ولكنك لا تبادل هذه الصورة بالصورة العالمية، وإن كانت تفوقها في التظليل والتلوين.
إن قطعة من مدينة القاهرة حسنة التصوير لتشترى وتقتنى ولا مراء، ولكنك إذا أردت صورة المدينة برمتها، فهذه الصورة الشاملة أولى بالشراء والاقتناء من كل قطعة محدودة، بالغة ما بلغت من إتقان التظليل والتلوين.
وأبو تمام يجيد في هذا المعنى ويجيد في ذاك، ولكنه لا يعرض لك العالم كله في حالة من حالاته، ولا يخرج لك نسخة عالمية تقرنها إلى النسخ الأخرى التي تستمدها من أمثال: ابن الرومي والمتنبي والمعري في الشعر العربي؛ وأمثال: شكسبير وجيتي وليو پاردي في الآداب الأوروبية.
ابن الرومي له عالم كامل من الحياة الفنية، والمتنبي له عالم كامل من الحياة العملية، والمعري له عالم كامل من الحياة الفكرية والروحية.
فالعالم بكل صورة فنية فيه ممثل في ملكة ابن الرومي، أو في تلك الزجاجة الحساسة الشاملة التي لا تدع شيئا مما يقابلها إلا وعته على الطريقة الفنية.
والعالم بكل صورة عملية فيه ممثل في ملكة المتنبي، كما تمثل عالم الفكر والروح جميعا في ملكة أبي العلاء.
حياة كاملة تعرضها من جانبها كل ملكة من هذه الملكات، فنقول: إن نسخة من صور العالم قد زادت في مجموعتنا الأدبية.
أما أبو تمام فلا يعطينا نسخة من صور العالم على نحو خاص به، أيا كان هذا النحو في قيمته ومرماه.
عنده صورة حسنة جدا لمسجد السلطان حسن، وصورة حسنة جدا لقنطرة قصر النيل، وصورة حسنة جدا للهرم؛ ولكن مدينة القاهرة كلها ليست هناك، سواء «حسنة جدا»، أو حسنة قليلا، أو غير حسنة على الإطلاق.
وهذا الذي نعنيه بالشاعر الذي له عالم؛ وهذا هو المقياس الإنساني الصحيح للشاعرية الممتازة في بابها؛ لأن الشاعرية ملكة إنسانية قبل كل شيء، وملكة لغوية أو بيانية بعد ذاك.
وما قاله الأديب عن ابن الرومي لا يدل على أن كتابا ضخما في شرح أدبه كثير عليه؛ بل يدل على أنه لا يزال في حاجة إلى كتب ضخمة إلى جانب ذلك الكتاب للتعريف بقدره، والتنبيه إلى دقائقه، والوصول إلى فهم الأدب والشعر عن طريق فهمه.
فابن الرومي في الملكة الشعرية الفنية قمة لا تطاولها القمم، مثل لا تقاربه الأمثال، طراز ليس له في الدنيا نظير.
نعم في الدنيا أقول، ولا أقول في أدب العرب أو أدب الفرس أو أدب الروم أو أدب أمة واحدة من الأمم.
في الدنيا كلها لا نعرف نظيرا لابن الرومي فيما رزقه الله من ملكة التصوير الفني، ومن القدرة الشعرية على استيعاب كل مرئي رآه، وكل محسوس أحسه وكل خالجة جرت بين طواياه.
في الدنيا كلها نقول ونحن نعني ونعلم ما نقول، ومن لم يفهم هذا فليجتهد في فهمه، قبل أن يجتهد في رفض رأي ليس عنده من أسباب رفضه مثل ما عندنا من أسباب الذهاب إليه وأسباب تأييده.
بيتان اثنان من شعر ابن الرومي يصلحان لتقريب هذه الحقيقة؛ لأنهما نظما بمحض الباعث إلى التصوير الفني، ولم ينظما محاكاة للموضوعات التي يتناقلها الشعراء.
وهذا البيتان هما قوله في وصف حقل من الكتان:
وجلس من الكتان أخضر ناعم
توسنه داني الرباب مطير
إذا اطردت فيه الشمال تتابعت
ذوائبه حتى يقال: غدير
بيتان ليس لهما رنين ولا بهرج، ولا بارقة من المحسنات وأفانين الأناقة؛ ولكنهما لا يدعان محسوسة واحدة من محسوسات حقل الكتان إلا وعياها وسجلاها والتهماها، كما يلتهم الفم الجائع ما يشتهيه.
فالصورة المرئية لها عناصرها التي تتم بها من جميع نواحيها: عنصر المنظر كله، وعنصر اللون، وعنصر اللمس، وعنصر الوقت الذي تراها فيه، وعنصر الموقع الذي تقع فيه من المكان، وعنصر الحركة.
ما من شيء يبقى في الصورة المرئية بعد استيعاب هذا، وما من شيء من هذا لم يستوعبه ذانك البيتان.
في كلمة «جلس» تمثيل للمنظر كله، اختارها ولم يختر كلمة حقل أو مزرعة أو ما شابه هذه الكلمات؛ لأنها تمثل المنظر تمثيلا لا يتفق لسواها.
وأخضر تذكرنا اللون، وناعم تذكرنا اللمس، والتوسن يذكرنا وقت الوسن وشعور الوسن في وقت واحد، وداني الرباب المطير يمثل لنا حواشي المكان حيث تحيط بذلك الكتان، واطراد الذوائب كاطراد الغدير يمثل لنا الحركة على أحسن تشبيه وأصدق محاكاة.
تمت الصورة على هذا النحو؛ لأن كل حاسة من حواس هذا الشاعر الخالد هي في جوعها إلى محسوساتها كالفم الجائع إلى الطعام الذي تقوم به الحياة.
زجاجة حساسة شاملة لا تخطئ شيئا مما يقابلها؛ وتصيبه لأنها حية حية، بالغة في الحياة، لا لمراعاة النظير ولا لتجويد المحسنات ولا لطرق الأبواب التي تقدم بطرقها الشعراء.
إذا قرئ ابن الرومي على هذا النحو عرف ابن الرومي شاعرا لا نظير له في آداب الدنيا، وإنما الطريق إلى قراءته على هذا النحو أن نحس كما أحس، وأن نعلم ما عنده لنبحث عنه، ونلتفت إليه ونظفر به حيثما وجدناه.
ولمن شاء أن يذكرني ما شاء من أبيات وصفه، أبين له ما فيها من عناصر الاستيعاب التي لم تتفق لغيره من الشعراء، فإنما وصفه لجلس الكتان نموذج قريب المتناول لسائر الأوصاف.
أما الأديب الذي يسألني عن غلاة المحدثين من المصورين، فينتظر مني جوابا مسهبا عن مدرستهم ومدارس أمثالهم في سائر الفنون؛ لأن هذه البدعة قد عمت فنونا أخرى ولم تنحصر في التصوير.
والذي أراه أن الإسهاب هنا فضول لا حاجة إليه؛ لأن بطلان الأساس الذي قامت عليه هذه المدرسة قد يظهر في بضعة سطور.
فالمصورون على مذهب الغلاة المحدثين ينسون قواعد الرسم، وينسون ملامح الشبه، وينسون أصول التلوين، ويرسمون الرجل فلا تعرفه بملامحه ولا بظاهر شكله، ولا تميز بينه وبين غيره بعلامة تتفق عليها الأنظار؛ لأنهم يزعمون أنهم يعرضونه لك كما يتمثل في الوعي الباطن، أو كما يشعر هو في باطن وعيه، ولا يعرضونه لك كما تراه بالعين.
والخطأ هنا أن «الوعي الباطن» لم يخلق ليلغي الوعي الظاهر أو يمنعنا أن نرى الدنيا، ولكنه خلق ليظل وعيا باطنا حيث هو في قرارة الضمير، نستدل عليه بعلاماته التي تتفق عليها الأنظار. وما من أحد يبني بيته أو يطبخ طعامه، أو يخيط ملابسه أو يحضر دواءه على ما يتصوره هذا وذاك وأولئك في وعيهم الباطن المزعوم ... فلماذا يتغير وجه الإنسان؛ لأن له وعيا باطنا؛ أو لأن المصور له وعي باطن، أو ما يزعم من هذا الهراء؟
ومن البديه أن التصوير «فن» له أدواته وتحضيراته، وملكاته التي لا تشبه ملكات الفنون الأخرى؛ فما هي الدروس التي يتعلمها المصور؛ ليصبح على هذا المذهب مختصا في صناعته؟ ما هي تلك الدروس إذا نحن ألغينا الرسم والتلوين والملامح والأشباه؟ أهي دروس التنجيم عن الوعي الباطن؟ وكيف الاتفاق عليها ولا يوجد اثنان يتفقان على تسمية صورة من متعلمي ذلك التنجيم؟
الواقع أن «الوعي الباطن» له مكان واحد من شئون هذه البدعة المرضية، ومكانه هو إظهار العلة المرضية التي تكمن في بواطن المصورين المشغوفين بكل بدعة من هذا القبيل.
فمما لا شك فيه أنهم جميعا قوم «تفهون» تتخطاهم العيون، فهم بين مشوه أو ضئيل أو مهزوم النفس أو عاجز عن لفت النظر إليه؛ فحيلتهم هي حيلة هذا الضرب من الناس في اتخاذ المشاكسة والتحدي والإغراب وسيلة للتنبيه إليه، وهذه هي الحقيقة الواحدة التي لها شأن ب «الوعي الباطن» في مذهب هؤلاء الغلاة؛ فهم مصابون في وعيهم الباطن، يترجمونه كارهين، ويعرضون على الناس من ثم أعراض مرض لا معارض فنون.
الفصل التاسع
احتكار الأدب
سألني أحد الأدباء رأيي في هذا الموضوع:
كثير من الأدباء يتهمون إخوانهم بالأنانية وحب النفس، فأدباء الشيوخ الذين يحتكرون ميدان الأدب لا يبذلون أي جهد في تسديد خطى الشباب الناشئ، ولا أعرف السبب الذي يمنع أديبا مثل الأستاذ العقاد من تأليف كتاب عن الشعراء الناشئين، الذين يدل شعرهم على نبوغ وعبقرية مثلما فعل الشاعر الإنجليزي المعروف و. ب. يتس الذي كتب عن روبرت بردج، وولتر دي لمار، وهيلار بلوك، وليونيل جونسون، وأرنست دوسون، في مؤلفه كتاب أكسفورد للشعر الحديث.
فشيوخ الأدب في أوروبا لثقتهم بأنفسهم وحبهم لفنهم، وإخلاصهم له، يسددون خطى الأدباء الناشئين، ويشيدون بذكر الموهوب منهم.
وفي هذه الكلمة الموجزة كثير من الخطأ الذي يشيع بين بعض المتأدبين الناشئين، ولا ينفرد به صاحب السؤال وحده، كما لاح لي من بعض الرسائل والأحاديث، أو مما تكتب الصحف في هذا المعنى، وهو خطأ يحتاج إلى تصحيح؛ ونعتقد أن تصحيحه هو أنفع وجوه التسديد التي ينشدها صاحب الخطاب.
فمن الخطأ «أولا» أن يشايعهم صاحب السؤال على دعواهم أن أدباء الشيوخ يحتكرون ميدان الأدب؛ لأنهم يظهرون من حين إلى حين بمقال في صحيفة أو بكتاب جديد يؤلفونه، أو يجمعون فيه ما سبق لهم نشره من المقالات.
فلا معابة على الأدباء الشيوخ أن يصنعوا ذلك، بل المعابة ألا يصنعوه، وهو واجبهم المفروض عليهم، وقد يعاب عليهم مع ذلك أنهم قليلو الإنتاج بالقياس إلى ما ينبغي لهم أو ينتظر منهم، وإنما يعذرهم أناس؛ لأن جمهور قراء الأدب عندنا لا يقبلون على المؤلفات إقبالا يملي للكاتب في أسباب المثابرة، ومتابعة التأليف؛ ويلومهم أناس لأنهم يجهلون العقبات التي تحول دون الانقطاع للكتابة الأدبية في بلادنا الشرقية، فالمفروض على أدباء الشيوخ خاصة أن يزيدوا إنتاجهم لا أن ينقصوه؛ ولو أريد من الأديب أن يؤلف في سن المرانة والابتداء، ثم ينقطع عن التأليف بعد النضج والاكتمال، لكان هذا بدعة أخرى من بدع انقلاب الأحوال التي حقت على المتخلفين من شعوب الشرق أجمعين.
وإذا كان الغرض هو الكتابة في الصحف دون التأليف والتصنيف، فليس بصحيح أن شيوخ الأدب يحتكرون الكتابة الصحفية، أدبية كانت أو غير أدبية بأي معنى من معاني الاحتكار ، بل ربما اقترنت بكل مقالة يكتبها أديب مشهور خمس مقالات أو ست أو سبع يكتبها أدباء ناشئون أو غير مشهورين، وتكفي مراجعة قليلة للصحافة اليومية والأسبوعية والشهرية لتصحيح الخطأ في هذا الباب.
أما أن أدباء الشيوخ لا يبذلون جهدا في تسديد خطى الكتاب الناشئين، فما هو هذا الجهد المطلوب؟ وعلى من التبعة إن صح أنه دون الكفاية؟
أي جهد يسدد الخطى إن لم يسددها التدريس للطلاب، أو الكتابة لمن يقرأ ويستفيد؟
أما التسديد بالمحادثة والمناقشة فما هو الجهد الذي يطلب فيه من أدباء الشيوخ؟ ولماذا نفرض هنا على الأديب الشيخ أن يجتهد ليبحث عمن يسدد خطاهم، ولا نفرض على الناشئ أن يجتهد ليبحث عمن يسدد خطاه، إذا اتسع له الوقت وساعفته شواغل الحياة؟
إن الكتاب الذي أشار إليه صاحب الخطاب لا يصلح للتمثيل به في هذا الصدد من أي ناحية من نواحيه، فهو كتاب يشمل الشعر منذ خمسين سنة، ولا ينحصر في شعر هذه الأيام؛ وهو كتاب ندب الشاعر «يتس» لتأليفه ولم يفرغ لتأليفه، ولا كان في وسعه أن يفرغ له لو لم يندب لهذه المهمة وهو معفي من تكاليفها ونفقاتها التي يعجز عنها، والكتاب بعد هذا وذاك يشتمل على أسماء أناس لا يعدون من الناشئين، سواء من ذكرهم صاحب الخطاب أو لم يذكرهم في خطابه، فروبرت بردج مات قبل تأليفه وعمره ست وثمانون سنة، وروبرت بروك - إن كان هو المقصود دون روبرت بردج - مات في الثامنة والعشرين، وليس له في الكتاب غير قطعة واحدة، وولتر دي لمار كان يدلف إلى السبعين عند ظهور الكتاب، وقد بلغها هلير بلوك في ذلك الحين، وليونل جونسون قد توفي قبل ظهور الكتاب بنحو أربعين سنة وهو في الخامسة والثلاثين، وأرنست دوسون توفي في نهاية القرن الماضي وهو في الثالثة والثلاثين.
فليس بين هؤلاء شاعر واحد يعد بين الناشئين، ولم يكن يتس مسددا لخطاهم؛ لأنهم بين صامد على قدميه مستقل عن الأساتذة والمرشدين، ومفارق للحياة في ريعان الفتوة أو بعد مقاربة الشيخوخة.
وليست المسألة هنا مسألة ثقة بنفس أو حب لفن كما اعتقد صاحب الخطاب، بل هي مسألة تاريخ محدود قد طلبت ملاحظته في الاختيار، وأعفي يتس فيه من أعباء المجازفة والانتظار.
وفيما عدا هذه الحالة لا نذكر حالة أخرى فرغ فيها شاعر أوروبي كبير للتأليف في الغرض الذي يقترحه صاحب الخطاب على أدباء الشيوخ المصريين.
وللأدباء الشيوخ العذر كل العذر بين المصريين، أو بين الأوروبيين إذا اختاروا للتأليف أغراضا غير هذا الغرض الذي تنعكس به أوضاع الأمور، فإن الرجل الذي بلغ الخمسين وجاوزها يحق له أن يقصر مطالعته على المفيد المحقق الفائدة؛ ليثابر على واجبه وعلى الانتفاع بمقروءاته، فليس في وسعه أن يقرأ ست ساعات أو سبع ساعات كل يوم كما كان يفعل في بواكير الشباب، وليس في وسعه إذا اقتصر على ساعتين أو ثلاث أن ينفقها في البحث عمن يجربون الكتابة، أو يشرعون في تجربتها ليقرأ مائة مقال، أو مائة كتاب عسى أن يظفر بينها بشيء يستحق التنويه، وإنه ليستغني عن التنويه لا محالة إذا كان له من القيمة والجودة ما يكفل له البقاء.
إنما يتيسر التشجيع للأديب الشيخ في عمل واحد، وهو عمل الصحافة الأدبية حين يتولى الإشراف عليه، فهو يقرأ ما يرد إليه من الشعر والنثر، ويعنى بتنقيحه وتقديمه ونشره ولفت الأنظار إليه، وهذا ما كنا نصنعه في الصحف التي أشرفنا على أبوابها الأدبية، ولو كلفنا الجهد المجهد في القراءة والتصحيح والتنقيح.
أما الرجل الذي تشغله الحياة بمطالبها، ويشغله الأدب بمطالبه بين قراءة وكتابة، فتسديده مقصور على من يتصلون به على ما هو مستطيعه، وليس مما يستطيع أن يترك كتابا يؤلفه جهبذ من جهابذة الفن والحكمة، ويضمن نفعه ومتعته ليقرأ خمسين كتابا لا يضمن نفعها ... عسى أن يعثر بينها على شيء مرجو النتيجة بعد تكرار التجربة مرات.
هذا ضياع للوقت وضياع للجهد وضياع للأدب، وعبث تستغني عنه الكفاءة المرجوة، ولا نفع فيه لمن خلا من الكفاءة، ويمنعه مع هذا كله أنه غير مستطاع.
على أن الأمر خطير جد الخطر من إحدى نواحيه التي يدل عليها، وهي ناحية الروح التي ينم عليها شيوع هذه الأماني والتعلات بين طائفة ولو قليلة من الناشئين.
فإنها روح تدل على إعفاء النفس من كل واجب، وإلقاء التبعة على كل كاهل، ونسيان كل حق غير حق الأنانية بغير عناء ولا مقابل.
يبدأ الناشئ بالكتابة اليوم، ويريد أن يشتهر غدا بمقال واحد أو قصيد واحد ولا نقول بكتاب واحد، فإن لم يشتهر فليس اللوم عليه وعلى طمعه فيما لا يكون ولا ينفع الأدب والناس لو كان ... كلا، بل اللوم على المشهورين الذين كان ينبغي أن يستأصلوا شهرتهم، وأن يكفوا عن الكتابة وأن يفرغوا جهودهم، وجهود قرائهم لشهرته هو دون غيره من الشيوخ والكهول والناشئين، وإلا كانوا محتكرين للأدب الذي يحق له هو أن يحتكره، ولا يحق ذلك لأحد من العالمين!
وهؤلاء الأدباء المشهورون «الشيوخ» ما لزومهم في هذه الدنيا؟ ما لزوم تجاربهم الماضية ودراساتهم الطويلة، وجهودهم المضنية وحياتهم التي يعيشون فيها أبدا بين الأذى والإنكار والكنود؟
هل لهم لزوم في نفع أنفسهم ونفع قرائهم، ونفع الأدب بالاطلاع على المفيد المضمون؟
كلا ... ليس لهذا كله لزوم! وإنما هم لازمون لشيء واحد، وهو شهرة من يريد الشهرة العاجلة ... على شريطة أن يشتهر وحده، ولا يشتهر واحد من أنداده في السن والقدرة!
وهل لهؤلاء الأدباء الشيوخ حق؟ هل لهم فضل يجب الاعتراف به على أحد؟
معاذ الله ... من أين لإنسان غضب الله عليه، فنشأ في الدنيا أديبا شرقيا أن يطمع في حق أو في اعتراف؟
إنما عليه أن يقرأه القارئ الناشئ عشر سنين وعشرين سنة، ولا يقول له مرة واحدة: أحسنت واستحققت مني الكرامة والثناء، ولكنه هو عليه أن يقف على باب كل مطبعة؛ ليتلقف منها كل كتاب ألفه كل شاب في العشرين، فلا ينام ليلته قبل أن ينفخ كل بوق ليقول كل ما يحلو للمؤلف من ثناء وتنويه، فإن لم يفعل فيا للاحتكار، ويا للأنانية، ويا للغدر والكفران بالحقوق!
تعس الشرق إن كانت هذه روح الجد في شباب يتولى قيادته الفكرية بعد جيل، ومن رحمة الله بالشرق ألا تسري هذه الروح في غير القليل من المتواكلين.
وتجربتي أنا في هذا الميدان قد يعرفها المتعقب لتاريخ الكتابة الحديثة بغير بحث طويل.
فما لجأت قط إلى أديب مشهور لأتكئ إلى شهرته وأستفيد من ثنائه، وما استبحت قط في كتاب من كتبي التي أطبعها أن أذيع كلمات التقريظ التي يخصني بها الكبراء، ومنهم زعيم مصر «سعد زغلول».
هذه تجربتي مع من تقدموني وسبقوني إلى ميدان الكتابة والشهرة، أما الذين لحقوا بي فإذا استثنيت أفرادا جد قليلين من صحبي - وإن شئت فقل: تلاميذي - فلا حق لي عندهم، ولهم عندي جميع الحقوق.
قرءوني عشر سنين فما نبسوا بكلمة تقدير واحدة، وتعرضوا للكتابة أياما فاعتقدوا أنني قصرت غاية التقصير؛ لأنني لم أفرغ نهاري وليلي للثناء عليهم والتبشير بدعوتهم، ووجب إذن أن أفعل ما يريدون وإلا ...
وهنا العثرة كما يقول شكسبير!
وإلا ماذا؟ إنني رجل لو جاءني أحد فقال لي: عش ألف سنة سعيدا وإلا ... لأوشكت أن أجيبه بالرفض بعد هذا الاشتراط قبل إتمامه.
فإذا جاءتني شرذمة من خشاش الأرض لا يعرفون لي حقا، ويفرضون علي أن أنتحل لهم كل حق مصدوق أو مكذوب، وإلا حطموني وهدموني، وذروا ترابي في الهواء فماذا ينتظرون مني؟ ولماذا يغضبون إذا تركتهم يهدموني؟ ألأنهم لم يستطيعوا هدمي؟ أكان من الاحتكار أيضا أنني لم أنهدم كما أرادوا فعرفوا أنهم عاجزون وأنهم هازلون؟
إن حق التشجيع في معاملة الناشئين مقرون بحق الأدب والتوقير في معاملة الشيوخ والكهول.
بل حق الأدب والتوقير مقدم بحكم السبق في الزمان؛ لأن الشيوخ والكهول كتبوا قبل الناشئين، وبحكم الحق لأن الأديب الناشئ يستفيد حين يقرأ سابقيه، وليس الأديب الكهل أو الشيخ على ثقة من الفائدة إذ يقرأ للناشئين، وبحكم الاستطاعة؛ لأن القارئ الناشئ قد استطاع أن يقرأ فعلا ما هو مطالب بتقديره، وليس لأحد أن يفرض استطاعة الكهل أو الشيخ أن يقرأ كل ما يكتبه الدارجون في طريق الكتابة.
ولكنهم هنا يطلبون التشجيع ويعفون أنفسهم من واجب التوقير ... ويهددون!
ومن طلب ذلك فما هو بأهل للتشجيع.
ومن قبل ذلك فما هو بأهل للتوقير.
أما الذين يعرفون الحقوق ثم لا يحتكرونها كلها لأنفسهم، فليس عندهم من سبب لاتهام المشهورين أو غير المشهورين بالاحتكار، ولا يلومون أحدا على الاشتهار؛ لأنهم هم يتعجلون الاشتهار.
الفصل العاشر
نحو من النحو!
... نعلم ما كتبتموه عن العلاقة بين كبرياء المتنبي وولعه بالتصغير في الهجاء، وإنه أكثر ما يرى مصغرا حين يهجو مغيظا محنقا، أو يستخف متعاليا محتقرا كما يقول عن كويفير والخويدم والنويبه والأحيمق والأعير والشويعر، وأهيل الزمان وأهيل العصر إلى آخر هذه الأمثلة التي كثرتم من ضربها.
وقلتم: «إنه إذا لم يصغر المهجو باللفظ صغره بالمعنى، فكان أعداؤه اللئام عنده شيئا قليلا كما قال:
يؤذي القليل من اللئام بطبعه
من لا يقل كما يقل ويلؤم
وإنه قد يلعب بهذا الإحساس الماثل في نفسه على الدوام لعب المرء بعادة مغروسة فيه، فيتخذ منه نكته نحوية كقوله على ذكر ابني عضد الدولة:
وكان ابنا عدو كاثراه
له ياءي حروف أنيسيان
يريد أن يقول: إذا كاثر العدو عضد الدولة بابنين كابنيه، فجعل الله ابني العدو كياءين تضافان إلى كلمة إنسان، فتزيدانه في عدد الحروف وتنقصانه في القدر.
ثم قلتم: وهذا غير غريب من رجل شديد الإحساس بالصغر، واعتاد التصغير باللفظ، وعرف عنه إدمان الاطلاع على كتب النحو.» «وقد اطلعنا أخيرا على مقالة في مجلة الثقافة لبعضهم يقول فيها: إن هذا من طغيان النفسانيات على الأدب، وإن التصغير في شعر المتنبي لم يكن لتكبره، وإنما هو أداة من أدوات الهجاء يعرفها شعراء هذا الفن في الأدب العربي وفي غيره من الآداب: أداة لصيقة بفن أدبي بذاته لا وليدة الطبيعة النفسية عند من يستخدمها، وليست هناك رابطة تلازم بين التكبر والتصغير حتى ولا في شعر المتنبي نفسه؛ لأنه قد يستخدمه للتعظيم كما قال:
أحاد أم سداس في أحاد
لييلتنا المنوطة بالتنادي
إلى آخر ما جاء في مقالة الثقافة.
فهل لكم أن تدلوا برأيكم في تعقيب الكاتب؛ لأنه تفسير لرأيكم وفيه بيان لمسألة من مسائل النفسيات والأدب؟ إلخ.» •••
والذي نراه في التعقيب الذي أشار إليه الأديب أن استعمال التصغير للتعظيم لا يبطل استعماله للتحقير، وأن صيغة التصغير ليست أداة لصيقة بكل هجاء، كما جاء في مقال الكاتب بمجلة الثقافة، فلا يزال استخدام المتنبي هذه الصيغة بتلك الكثرة التي لم تعهد في شعر غيره أمرا يرجع إلى خلائقه الشخصية، ويرجع البحث فيه إلى النفسيات التي لا انفصال بينها وبين الأدب؛ لأن الأدب قبل كل شيء تعبير عن شعور، وليس أولى من النفسيات بالبحث في كل شعور.
فليست صيغة التصغير أداة لصيقة بالهجاء، ولم نرها قط بهذه الكثرة في أشعار الهجائين المنقطعين لهذا الباب، أو المشهورين به قبل سائر الأبواب.
والمتنبي لم يكن من شعراء الهجاء المشهورين به في اللغة العربية، وإنما اشتهر به شعراء آخرون كالحطيئة وجرير والفرزدق ودعبل وابن الرومي على التخصيص.
فلم لم يكثر التصغير في أشعار هؤلاء الهجائين؟
ولم كان المتنبي منفردا بهذا الإكثار؟
مرجع الأمر إليه لا إلى الهجاء، وأقرب شيء أن يخطر على البال أنه استصغر؛ لأنه تكبر، وأنه صبغ هجاءه بصبغته النفسية فاختلف من هذه الناحية؛ لأنها هي ناحية الاختلاف بينه وبين غيره من الهجائين.
على أن الهجاء ضروب، وليس بضرب واحد في اللغة العربية، أو فيما عداها من اللغات.
ومرجع الأمر في تعدد ضروبه إلى تعدد النفوس، وتعدد الأمزجة، وتعدد الشعور الذي يشعر به الهاجي نحو من يهجوه.
فهناك هجاء الرجل الوضيع المهين.
وهناك هجاء الرجل المتكبر العزيز.
وهناك هجاء الرجل المهذب الشريف.
وهناك هجاء المتوقح البذيء.
وهناك هجاء التهكم والسخرية، وهجاء العنف واللدد، وهجاء النقد، وهجاء الإيذاء.
ومناط التفرقة بينها هو النفسيات، وما تشمله من فوارق الحس والعاطفة، وليس المرجع فيها إلى باب في علم النحو يتكلم على مواضع التصغير.
وأعجب شيء يقال هو أن المتنبي لم يستصغر لأنه متكبر، بل أكثر من التصغير لسبب آخر ... ثم لا يدري أحد ما هو ذلك السبب الآخر! لم يمتنع الاستصغار بسبب التكبر؟ ولم لا يكون سببا للاستصغار؟
أي عجب في ذلك؟ بل أي مخالفة فيه للمعقول والمعهود؟! بل أي شيء أقرب منه إلى الفهم والتعليل؟
أيمتنع هذا القول لأنه من النفسيات، وكل ما كان من النفسيات فهو ممنوع غير مقبول؟
أيمتنع لأن قرارا مجهولا لا نعرف نحن مصدره قضى بمنعه وتحريمه، وإقصائه من عالم الفرض والتقدير؟
إننا لا ننفي أن المتنبي كان متكبرا مطبوعا على الكبرياء، ولا ننفي أن المتكبر مطبوع على أن يستصغر الناس، ولا ننفي أن صيغة التصغير تستعمل للتصغير والتحقير، فلماذا ننفي أن ولع المتنبي بالتصغير مرجعه إلى طبيعة الكبرياء فيه؟
لماذا؟ للنفسيات التي يسمع باسمها من يسمع، فيظن أنها حجاب حائل بين المتنبي والاستصغار بصيغة التصغير؟
أما أن المتنبي قد استعمل التصغير للتعظيم والتكبير، فهو إذا صح لا يمنع أن التصغير يستخدم أيضا للتصغير، بل هو الأصل والتعظيم مجاز عارض عليه.
يقول أحد: إنني رأيت المليمات في أيدي الفقراء، فيجيء سامع بالنفسيات - أو قل: سامع بالاقتصاديات - فيقول: كلا، كلا، هذا بعيد! هذا غير معقول!
هذا إقحام للاقتصاديات في شئون الحس والعيان! لأنني رأيت بعيني المليمات في خزانة المصرف الكبير، وفي خزانة الغني العظيم!
كلام ظريف!
نعم ظريف كذلك الكلام الذي يبطل باب التصغير للتصغير جملة واحدة؛ لأن التصغير قد استعمل حينا في معنى التكبير ...!
على أن البيت الذي قيل: إن المتنبي خالف فيه هذه السنة لا يدل بمعنى من معانيه على أنه قد نسي فيه الكبرياء، أو نسي عادة الاستصغار.
فهو يقول في وصف الليلة التي ضاق بها:
أحاد أم سداس في أحاد
لييلتنا المنوطة بالتنادي
ومن الميسور أن يلحظ القارئ لهجه التأفف في تصغير تلك الليلة المبرمة، كأنه يستكبر أن يعروه الضيق من ذلك الشيء الصغير، وإن لج به المطال.
وهبه مع ذلك كان ينوي التعظيم والتقديس لتلك الليلة المبرمة، ولا ينوي أن يتأفف منها ويستكثر عليها أن تبرمه وتثقل عليه، فهل كلمة في قصيدة واحدة تبطل عشرين كلمة في عشرين قصيدة؟! وهل يحصل كل هذا لأجل خاطر «النفسيات » قدس الله سرها وبارك في عمرها!
ولقد كان كثيرا من كاتب المقال الذي أشار إليه الأديب صاحب الخطاب أن يزعم أن التحقير والتكبير في صيغة التصغير يتساويان! فأما أن يقول: إن التحقير هو الممتنع الذي لا يعقل، وإن الاستصغار من جانب المتكبر المطبوع على الكبرياء هو الغريب المريب، فتلك نفسيات لله درها من نفسيات! وفنون حماها الله من فنون!
وما نشك في أن الأديب «محمد جابر» رجل يريد أن يضحك، ولا يريد في الحقيقة تفسيرا لما هو غني عن التفسير؛ فإن لم يجد شبعه من الضحك في طراز تلك النفسيات، ومعرض تلك الفنون، فغاية ما عندي من القول أن المتنبي - رحمه الله - لم يشرفني بأمانة سره، ولم يطلعني على دخائل صدره، فإذا كان قد ذكر لبعضهم أنه لم يولع بالتصغير لقصد التصغير، فهو وذمته فيما ادعاه، وللأديب عليه اليمين الحاسمة إن تردد في قبول دعواه! أما نحن فغاية ما نعلمه أن المتنبي كان رجلا متكبرا، وأن المتكبر يستصغر الناس، فلا عجب أن يولع بصيغة التصغير، وهذا حسبنا وحسب القارئ فيما زعمناه.
الفصل الحادي عشر
القراءة في زمن الحرب
«هل للإقبال على القراءة في زمن الحرب أسباب حقيقية؟ وإن كانت لها أسباب حقيقية فما هي؟ وكيف يستفاد من هذا الإقبال خير فائدة؟» •••
تلك بعض الأسئلة التي استخلصتها من خطاب مطول في هذا الموضوع، وأحسبه من أحق الموضوعات بالدراسة في الوقت الحاضر؛ لأنه موضوع القراءة الذي تنطوي فيه سائر الدراسات.
فأما أن الإقبال على القراءة له أسباب حقيقية، فذلك ما ليس فيه شك ولا يحتاج إلى بينة.
إذ كل شيء حاصل فله لا محالة أسبابه الحقيقية، وإلا لم يحصل ولم يكن له وجود، وإنما يجوز الخلاف في دوام هذه الأسباب وزوالها، أو في قوتها وضعفها، أو في خلوصها وما قد يشوبها من العوارض الغريبة عنها.
فأما أنها حقيقية، فذلك أمر لا محل فيه لخلاف.
والأسباب التي تدعو إلى الإقبال على القراءة في هذه الفترة كثيرة لا تنحصر في ناحية واحدة، وقد تنحصر في جملة الأسباب التالية:
فمنها أن البريد الأوروبي لا يحمل إلى مصر كل ما كان يحمله إليها من الكتب والصحف والمجلات من معظم البلدان.
فقد كان يرد إلى مصر بريد حافل بهذه المطبوعات في كل أسبوع، وكان له قراء مثابرون على مطالعته كلما وصلت رسالة من رسالاته، فانقطع بعض الذي كان يصل من فرنسا وبلجيكا وإيطاليا وألمانيا، وقل وصول بعض الذي كان يصل من إنجلترا وأمريكا، وتحول قراؤه إلى مراجع أخرى يشغلون بها وقت القراءة، ومعظمها من المراجع العربية الحديثة أو القديمة.
ومن تلك الأسباب أن الصحف اليومية كانت منها صحف تصدر في أربع وعشرين صفحة أو عشرين، وصحف تصدر في ست عشرة صفحة ولا تقل عنها، وكانت إلى جانبها صحف أسبوعية تصدر في أربعين صفحة، وتزيد عليها في بعض الأسابيع.
فنقص كل ذلك نقصانا بينا بغير تدريج طويل، وأصبح الحد الأقصى للصحيفة اليومية في أكثر الأيام أربع صفحات، وعم النقص سائر الصحف والمجلات، فأوشكت أن تصدر في ثلث عدد صفحاتها قبل الحرب الحاضرة.
وكل هذا النقص تقابله زيادة في وقت القراءة عند من تعودوا مطالعة الصحف والمجلات في حجمها الأول، ولا بد لهذا الوقت من شاغل يناسبه ويجري في مجراه.
وإلى جانب النقص في الصفحات ألف الناس الأخبار التي لا يعرض لها كثير من التنويع والمفاجأة، وندرت المناقشات السياسية التي يشتد فيها الجذب والدفع والتأييد والتفنيد، وينشط القراء إلى متابعتها بحماسة التشيع، تارة إلى هذا وتارة إلى ذاك، فأصاب القراء شيء من الفتور إلى جانب النقص في المادة المقروءة لو أنهم نشطوا إليها. •••
ومع هذا كله كثر الوقت الذي يتسع للقراءة لانصراف الناس عن السهر في خارج البيوت؛ إما لتقييد الإضاءة أو لقلة الجديد في دور الصور المتحركة ودور التمثيل.
ومع هذا وذاك كثرت النقود بين الأيدي، وتيسر شراء الكتب بالأثمان التي أوجبها غلاء الورق وغلاء تكاليف الطباعة، وقال الخبراء بشئون الاقتصاد: إن كثرة النقود في الآونة الحاضرة دليل على رخاء صحيح، وليست من عوارض التضخم التي تنشأ أحيانا من شيوع العملة الورقية؛ إذ الناس يبيعون محصولاتهم، وتبقى معهم أثمانها في داخل البلاد، خلافا لما كان يحدث قبل سنوات من تصرف هذه الأثمان إلى خارج القطر بالسفر، أو باستجلاب البضائع الأجنبية، فهذه الأثمان المحفوظة في البلاد هي ثروة حقيقية مكسوبة من موارد حقيقية، وليست بالثروة المصطنعة التي تنشأ من شيوع الورق النقدي بغير مقابل معروف. •••
وخلاصة ما تقدم أن الإقبال على قراءة الكتب العربية يرجع إلى تحول بعض القراء من مادة إلى مادة، وإلى اتساع وقت القراءة، وإلى تيسر الشراء، ويدوم ما دامت هذه الأسباب.
فإذا ضعفت طاقة الشراء، أو ضاق وقت القراءة، أو توافرت المادة الأولى التي كانت متوافرة قبل سنوات، فقد يتغير هذا الإقبال، وقد تثوب الحال إلى ما كانت عليه من قبل أو تتمخض عن حال جديد لم نعهده حتى الآن.
هذا الحال الجديد الذي لم نعهده حتى الآن قد يأتي من ناحية واحدة معلقة على تيسر الورق وتيسر الطباعة.
فإذا تيسر الورق وتيسرت الطباعة بقية أيام الحرب ثبتت في البلاد العربية عادة يصعب تغييرها، وإن عاد البريد الأوروبي إلى نظامه السابق، وعادت الصحف اليومية والأسبوعية إلى نطاقها الأول.
تلك عادة القراءة في الكتب وحسبانها من حاجات الحياة العصرية، ومطالب المجتمع المهذب، فإنها عادة قد تتأصل في مصر كما تأصلت في البلدان الأوروبية على كثرة الصحف فيها، واتساع صفحاتها، وتنوع موضوعاتها.
ويزيد هذه العادة تمكينا أن يتيسر إخراج ورق الطباعة من مصانع وطنية توالي مصر وبلاد الشرق القريب بما هي في حاجة إليه، فإن رخص الورق يغري بطبع الكتب الرخيصة التي تقبل عليها جميع الطبقات، ولا سيما إذا اجتمع لها إغراء الرخص وإغراء الموضوعات. •••
أما الاستفادة من الإقبال على القراءة في زمن الحرب خير فائدة مستطاعة، فذلك موقوف على معنى الفائدة التي نرمي إليها.
فإن كانت فائدة الربح، فسبيلها أن تعطي «جمهور القراء» ما يشتهيه من الموضوعات التي يحسبها جديرة بالقراءة، قمينة بالفائدة.
وإن كانت فائدة الثقافة، فسبيلها أن تعطي جمهور القراء ما هو في الواقع محتاج إلى علمه، وإن لم يخطر له ذلك.
ومما لا شك فيه أن جمهور القراء يحتاج إلى كثير، وإن كثيرا مما يقرؤه لا حاجة به ولا غناء فيه، وإن الوقت قد حان لتزويده بما يحتاج إلى عرفانه من أحوال العالم اليوم، وأحوال العالم بعد نهاية الحرب، إلى زمن طويل.
فبين الموضوعات التي كانت مهملة أكبر إهمال يعاب على أبناء الحضارة في العصر الحاضر، موضوع المشاكل الاجتماعية والسياسية في قارة أوروبا، وفي البلاد الغربية على الإجمال.
فقل جدا في مصر وبلاد الشرق القريب من كان يتابع هذا الموضوع، ويعرف ما ينبغي عرفانه من أطوار الفكر وصراع الدخائل الاجتماعية في كل أمة من الأمم، وارتباط ذلك جميعه بمقاصد الحكومات، ومقاصد الزعماء الذين يقبضون على أعنة تلك الحكومات، أو على أعنة الهيئات السياسية.
فكم من المصريين المثقفين - ولا نقول: الجهلاء - كان يعرف ما ينبغي أن يعرف عن مسألة «التقسيم الجديد» في الولايات المتحدة؟
وكم منهم كان يعلم حقيقة العناصر التي أيدت هتلر في ميدان السياسة الألمانية؟ أو حقيقة العناصر التي أيدت فرانكو في ميدان السياسة الإسبانية؟ أو حقيقة الخلاف بين ستالين وتروتسكي، وما يتصل به من خطط روسيا وعلاقاتها بالشرقين الأقصى والأدنى؟
كم منهم كان يعلم ما وراء البضائع اليابانية المنشورة في أسواقنا من حبائل الاستعمار ومطامع الاستغلال؟
كم منهم كان يعرف زعماء الأمم على ما فطروا عليه، فيعرف ما يصنعونه وما يريدونه، وما ليس خليقا أن يصنعوه أو يريدوه؟
إن الذين عرفوا ذلك لجد قليلين.
وإن الذي أصابنا من جهل ذلك لجد عظيم.
لأننا أخذنا بالحرب ولما نتبين من تياراتها كيف تتجه سفينة النجاة، وكيف تهب رياح الأخطار.
فإذا أحببنا ألا يفاجئنا السلم مثل هذه المفاجأة، فعلى الذين بأيديهم أمر القراءة والطباعة أن يملئوا الأذهان بالمعارف، والمعلومات التي تغني في استطلاع الأحوال والمقاصد بعد الحرب الحاضرة، إلى زمن طويل.
ما الذي تريده هذه الأمة أو تلك؟
ما الذي يريده هذا الزعيم أو ذاك؟
وما الذي يخلص فيه؟ وما الذي يماذق فيه ؟ وما الذي تواتيه عليه الأسباب الحاضرة؟ وما الذي يخشى أن يعرقله من الأسباب المنظورة؟
بعض ذلك غيب لا سبيل إلى استطلاعه.
وبعض ذلك عيان مشهود أو في حكم العيان المشهود من أخبار الأمم، ودراسات المفكرين، وسوابق التاريخ، وضرورات الاجتماع و«الاقتصاد».
ولا يزال في الوقت متسع لاستدراك ما فات، ولا يزال الباب مفتوحا لمن يلج فيه، ولا تزال الحاجة كل يوم في إلحاح ومزيد من الإلحاح.
ومهما يكن من قصر الوقت الباقي من زمن الحرب، فانقضاء هذا الوقت في معرفة الحقائق والتأهب للطوارق، خير من قضائه في الإهمال والتسويف، وليكن إقبال الناس على القراءة حافزا لمن يعنيهم أن يقرءوا ما يصلح للفهم في كل زمن، وما يصلح للفهم في الزمن الأخير من الحرب على التخصيص، وليس الكتاب وحدهم أصحاب الشأن في الكتابة؛ لأنهم لا يملكون زمام الأمر إلا القليل، فلو كنا على ما نود من توافر الأداة الثقافية لنهض بالأمر جمع قادر أولو جاه ومال يقررون الموضوعات، ويوزعون الأبواب، وينفقون على ثقة من الكسب وعلى توقع للخسارة في وقت واحد، أو يراوحون بين ما يربح وما يحتمل الخسارة، فلا يهمهم أن يربحوا من كل شيء ما داموا لا يخسرون من كل شيء.
إننا لقادرون على ذلك لو أردناه.
إننا لمريدوه لو أدركنا دواعيه وأدركنا عقباه.
فهل ندركها؟
إن قلنا: «فيها قولان.» وكفى، فنحن متفائلون.
الفصل الثاني عشر
في الشعر العربي
«قرأت في الرسالة كلاما عن «الشعر المرسل وشعرائنا الذين حاولوه» للأستاذ دريني خشبة، يقول فيه بعد الإشارة إلى بعض الأدباء والشعراء: ... لست أدري أي الرائدين فكر لأول مرة في موضوع الشعر المرسل في مصر خاصة، وفي العالم العربي عامة، أهو الأستاذ الشاعر عبد الرحمن شكري أم الأستاذ الشاعر محمد فريد أبو حديد ...؟» •••
والذي نذكره على التحقيق أن الابتداء بالشعر المرسل في العصر الحديث محصور في ثلاثة من الشعراء لا يعدوهم إلى آخر، وهم السيد توفيق البكري، وجميل صدقي الزهاوي، وعبد الرحمن شكري.
ولكني لا أذكر على التحقيق من منهم البادئ الأول قبل زميليه، ولعلي لا أخالف الحقيقة حين أرجح أن البادئ الأول منهم هو السيد توفيق البكري في قصيدته «ذات القوافي»، ثم تلاه الزهاوي في قصيدة نشرت بالمؤيد، فعبد الرحمن شكري في قصائد شتى نشرت بالجريدة، وجمعت بعد ذلك في دواوينه.
وكانت مشكلة القافية في الشعر العربي على أشدها قبل ثلاثين سنة، ولم تكن هذه المشكلة قد عرفت قط في العصر الحديث قبل استفاضة العلم بالآداب الأوروبية، واطلاع الشعراء على القصائد المطولة التي تصعب ترجمتها في قصيدة في قافية واحدة، كما يصعب النظم في معناها مع وحدة البحر والقافية.
وكان زميلنا الأستاذ عبد الرحمن شكري يعالج حلها بإهمال القافية، ونظم القصائد المطولة من بحر واحد وقوافي شتى.
وكنت وزميلي الأستاذ المازني نشايعه بالرأي، ولا نستطيب إهمال القافية بالأذن، فنظمت القصائد الكثار من شتى القوافي، ثم طويتها ولم أنشر بيتا واحدا منها؛ لأنني لم أكن أستسيغها، ولا أطيق تلاوتها بصوت مسموع، وإن قلت النفرة منها وهي تقرأ صامتة على القرطاس.
إلا أننا كنا نفسح الفرصة لهذه التجربة عسى أن تكون النفرة منها عارضة لقلة الألفة، وطول العهد بسماع القافية.
وقد أعربت عن هذا الرأي في مقدمتي للجزء الثاني من ديوان زميلنا المازني، فقلت: ... رأى القراء بالأمس في ديوان شكري مثالا من القوافي المرسلة والمزدوجة والمتقابلة، وهم يقرءون اليوم في ديوان المازني مثالا من القافيتين المزدوجة والمتقابلة، ولا نقول: إن هذا هو غاية المنظور من وراء تعديل الأوزان والقوافي وتنقيحها، ولكنا نعده بمثابة تهيئ المكان لاستقبال المذهب الجديد، إذ ليس بين الشعر العربي وبين التفرع والنماء إلا هذا الحائل، فإذا اتسعت القوافي لشتى المعاني والمقاصد، وانفرج مجال القول: بزغت المواهب الشعرية على اختلافها، ورأينا بيننا شعراء الرواية وشعراء الوصف وشعراء التمثيل، ثم لا تطول نفرة الآذان من هذه القوافي لا سيما في الشعر الذي يناجي الروح والخيال أكثر مما يخاطب الحس والآذان، فتألفها بعد حين وتجتزئ بموسيقية الوزن عن موسيقية القافية الواحدة.
وما كانت العرب تنكر القافية المرسلة كما نتوهم، فقد كان شعراؤهم يتساهلون في التزام القافية، كما في قول الشاعر:
ألا هل ترى إن لم تكن أم مالك
بملك يدي إن الكفاء قليل
رأى من رفيقيه جفاء وغلظة
إذا قام يبتاع القلوص ذميم
فقال: أقلا واتركا الرحل إنني
بمهلكة والعاقبات تدور
فبيناه يشري رحله قال قائل
لمن جمل رخو الملاط نجيب
إلى آخر الشواهد التي أتيت بها في تلك المقدمة.
وكنت أحسب يوم كتبت هذه المقدمة أن المهلة لا تطول، إلا ريثما تنتشر القصائد المرسلة في الصحف والدواوين حتى تسوغ في الآذان كما تسوغ القصائد المقفاة، وإنها مهلة سنوات عشر أو عشرين سنة على الأكثر، ثم نستغني عن القافية حيث نريد الاستغناء عنها في الملاحم والمطولات، أو في المعاني الروحية التي لا تتوقف على الإيقاع.
ولكني أراني اليوم وقد انقضت ثلاثون سنة على كتابة تلك المقدمة، ولا يزال اختلاف القافية بين البيت والبيت يقبض سمعي عن الاسترسال في متعة السماع، ويفقدني لذة القراءة الشعرية والقراءة النثرية على السواء؛ لأن القصيدة المرسلة عندي لا تطربنا بالموسيقية الشعرية، ولا تطربنا بالبلاغة المنثورة التي نتابعها ونحن ساهون عن القافية غير مترقبين لها من موقع إلى موقع ومن وقفة إلى وقفة.
والظاهر أن سليقة الشعر العربي تنفر من إلغاء القافية كل الإلغاء، حتى في الأبيات التي تحررت منها بعض التحرير.
فالأبيات الأربعة التي أتينا بها آنفا قد اختلف فيها حرف الروي بين اللام والميم والراء والباء، ولكن الحركة لم تختلف بين جميع الأبيات، بل لزمت الضم فيها جميعا، وهي حركة تشبه الحرف في الأذن، وإن لم تشبهه في أحكام العروضيين والنحاة.
والأمر كما نحسه في حكم الأذن يتفاوت بين مراتب ثلاث من الألفة والارتياح إلى السماع.
فالقافية تطرب حين تأتي من مكانها المتوقع.
وإهمال القافية يصدم السمع بخلاف ما ينتظر حين يفاجأ بالنغمة التي تشذ عن النغمة السابقة.
والمرتبة التي تتوسط بينهما هي التي لا تطرب ولا تصدم، بل تلاقي السمع بين بين، لا إلى التشوق ولا إلى النفور.
فانتظام القافية متعة موسيقية تخف إليها الآذان .
وانقطاع القافية بين بيت وبيت شذوذ يحيد بالسمع عن طريقه الذي اطرد عليه ويلوي به ليا يقبضه ويؤذيه.
إنما المتوسط بين المتعة والإيذاء هو ملاحظة القافية في مقطوعة بعد مقطوعة تتألف من جملة أبيات على استواء في الوزن والعدد، أو هو ملاحظة الازدواج والتسميط، وما إليهما من النغمات التي تتطلبها الآذان في مواقعها، ولو بعد فجوة وانقطاع.
وربما زاد هذا التصرف في متعتنا الموسيقية بالقافية، ولم ينقص منها إلى حد التوسط بين الطرب والإيذاء.
فالأذن تمل النغمة الواحدة حين تتكرر عليها عشرات المرات في قصيدة واحدة، فإذا تجددت القافية على نمط منسوق ذهبت بالملل من التكرار، ونشطت بالسمع إلى الإصغاء الطويل، ولو تمادى عدد الأبيات إلى المئات والألوف.
لهذا لا نحسب أن السنين التي مضت منذ ابتداء التفكير في الشعر المرسل قد مضت على غير طائل.
لأننا عرفنا في هذه الفترة ما نسيغ وما لا نسيغ، فعدل الشعراء عن تجربة الشعر المرسل الذي تختلف قافيته في كل بيت، وجربوا التزام القافية في المقطوعات المتساوية، أو في القصائد المزدوجة والمسمطة وما إليها؛ فإذا هي سائغة وافية بالغرض الذي نقصد إليه من التفكير في الشعر المرسل؛ لأنها تحفظ الموسيقية، وتعين الشاعر على توسيع المعنى والانتقال بالموضوع حيث يشاء.
ومن ثم يصح أن يقال: إن مشكلة القافية في الشعر العربي قد حلت على الوجه الأمثل، ولم تبق لنا من حاجة إلى إطلاقها بعد هذا الإطلاق الذي جربناه وألفناه.
ففي وسع الشاعر اليوم أن ينظم الملحمة من مئات الأبيات فصولا فصولا ومقطوعات مقطوعات، وكلما انتهى من فصل دخل في بحر جديد يؤذن بتبديل الموضوع، وكلما انتهى من مقطوعة بدأ في قافية جديدة تريح الأذن من ملالة التكرار، ويمضي القارئ بين هذه الفصول والمقطوعات كأنه يمضي في قراءة ديوان كامل لا يريبه منه اختلاف الأوزان والقوافي، بل ينشط به إلى المتابعة والاطراد.
وإذا كان الأوروبيون يسيغون إرسال القافية على إطلاقها، فليس من اللازم اللازب أن نجاريهم نحن في توسيع ذلك على كره الطبائع والأسماع ، وبخاصة حين نستطيع الجمع بين طلبتنا من المتعة الموسيقية، وطلبة الموضوعات العصرية من التوسع والإفاضة في الحكاية والخطاب.
وآية ذلك أننا نقرأ الشعر المرسل في اللغة الأوروبية، ولا نفتقد القافية بين الشطرة والشطرة أقل افتقاد.
وقد خيل إلينا أننا ننساها ولا نفتقدها؛ لأننا غرباء عن اللغة وعن مزاج أهلها، فلما سألنا الأوروبيين في ذلك قالوا لنا: إنهم لا يفتقدونها، ويستغربون أن نلتفت إلى هذا السؤال؛ لأنهم هم لا يتلتفتون إليه.
وسواء رجعنا بتعليل ذلك إلى وحدة القصيدة عندنا وعندهم، أو إلى أصل الحداء في لغتنا، وأصل الغناء في لغتهم، أو إلى غلبة الحسية في فطرة الساميين وغلبة الخيالية والتصور في فطرة الغربيين، فالحقيقة الباقية هي أننا - نحن الشرقيين - نلتذ شعرهم المرسل ولا نفتقد القافية فيه، وأننا ننفر من إلغاء القافية عندنا ونداريه بالتوسط المقبول بين التقييد والإطلاق، وأنهم ليتقيدون في بعض أوزانهم الغنائية بقيود تثقل علينا نحن حتى في الموشحات، فليس من اللازم اللازب أن نتعمد مجاراتهم، أو يتعمدوا مجاراتنا في كل إطلاق وتقييد، ولهم دينهم ولنا دين!
الفصل الثالث عشر
بين التزمت والإباحة
في قواعد اللغة
عقب بعض الأدباء على كتابي - عبقرية الإمام - ومن ذلك قوله:
بقيت أشياء لا بد من ذكرها والإبانة عنها حتى نبلغ من كلامنا ما نريد؛ ذلك أني عثرت وأنا أقرأ ببعض ألفاظ كنت أقف عندها مثل لفظ يقلاه (ص40) وحانقين (ص55) وفشل (ص81، 96 و110 و126)؛ وقد رجعت إلى معاجم اللغة التي بين يدي في اللفظ الأول، فوجدته من لغة طيئ، وإذن يكون استعماله جائزا، أما اللفظان الآخران فإني أرجع فيهما إلى الأستاذ العقاد وأسأله: هل يجوز استعمال كلمة فشل في معنى أخفق وخاب، وأن يأتي اسم الفاعل من حنق على حانق؟ •••
وجوابي: نعم يجوز أن نأتي باسم الفاعل من حنق على حانق؛ لأنه لا يكون اسم فاعل إلا إذا كان على هذا الوزن.
وجوازه ثابت بالنص وثابت بالقياس الذي لا يرد، وهو في بعض الأقوال أقوى من النصوص.
فالزمخشري في كتابه «المفصل» يقول في باب الصفة المشبهة: «وهي تدل على معنى ثابت، فإن قصد الحدوث قيل: هو حاسن الآن أو غدا وكارم وطائل، ومنه قوله تعالى:
وضائق به صدرك
إلخ.»
وجاراه موفق الدين بن يعيش شارح المفصل، كما جاراه في هذا الحكم جلة النحاة.
فإذا صح في «كرم» التي تدل على الثبوت أن يقال: كارم للدلالة على الحدوث، فذلك أصح وأولى في حنق التي ليس فيها معنى من معاني الثبوت.
بل إذا كانت كلمة غدا أو الآن لا تكفي للدلالة على الحدوث، ولا تغني عن الإتيان باسم الفاعل على صيغته الشائعة، فمن الحق ألا نستغني عن هذه الصيغة حين لا تقترن بلفظ يعين الحدوث في الحال أو الاستقبال. •••
على أننا نفرض أن النصوص في كتب النحو لا تقرر هذه القاعدة، ولا تثبتها على الوجه الصريح الذي قدمناه.
بل نفرض أن النصوص قد وردت بمنع «حانق» وما شابهها، وجزمت بخطئها على طريقة النحاة أحيانا في تخطئة بعض الصيغ والأوزان، فمن الواجب في هذه الحالة على خادم اللغة العربية أن يخالف النحاة، ويخالف السماع الناقص تكملة له بالقياس الصحيح الذي لا محيد عنه.
إذ ليس من حق لغة من اللغات أن تضطر كاتبا بها إلى الإخطاء في معناه.
وليس من حق لغة من اللغات أن تبطل الفارق بين معنيين مختلفين، ثم تمنعنا أن ننشئ هذا الفارق لضرورة الصدق في التعبير.
فهناك فارق بين من يحنق من حادث يعرض له، وبين من يلازمه الحنق في طباعه وأخلاقه.
فإذا قلت عن رجل: إنه «حنق» وعنيت به أنه دائم الحنق كما تدوم الصفات المشبهة؛ فمن الواجب أن أقول: «هو حانق من كذا.» إذا كان الحنق يفارقه بعد ذلك، ولا يلازمه في طباعه وأخلاقه.
وإذا قلت: إنه «حنق» وعنيت به ما نعني باسم الفاعل وجب أن تقول شيئا آخر إذا عنيت أنه متصف بطبع الحنق في عامة أوقاته.
وليس في وسع لغة ولا في وسع اللغات جميعا أن تفرض على كتابها الخطأ، واللبس في التعبير، ثم تصدهم عن تصحيح الخطأ وجلاء اللبس بتصرف لا يخرج بهم عن قياسها، ولا يخل بأصولها المرعية في أعم ألفاظها.
فالنص يجيز الصيغة والقياس يوجبها عند منع النص، وهو بحمد الله غير مانع.
وإننا لخلقاء أن نغبط أنفسنا على أن اللغة العربية «منطقية» في إجراء القواعد على الأوزان، حيث تتشابه المعاني وتتخالف أوزان ألفاظها.
فقد يحمل الشيء على غيره في المعنى فيجمع كجمعه، وانظر مثلا ماذا بلغ من هذه النزعة «المنطقية» في أوزان الجموع، وهي التي لا تجري على وزن واحد كصيغة اسم الفاعل؛ فليس في اللغة «هليك» بمعنى هالك ولا جريب بمعنى أجرب أو جربان أو جرب، ولكنهم يقولون: هلكى وجربى؛ قياسا على قتلى وجرحى ولدغى؛ لأنها جميعا تدل على داء أو بلاء، وهذا هو منطق النحو العربي الذي ينطلق أحيانا مع المعاني ولا يتحجر أبدا مع الحروف. •••
أما «فشل» بمعنى أخفق فلها حكم آخر، فهذه الكلمة من الاستعمال الحديث الذي شاع حتى غطى على معنى الكلمة القديم، مع تقارب المعنيين؛ حتى ليجوز أن يحمل أحدهما قصد الآخر؛ لأن التراخي والضعف والخواء قريبة كلها من الحبوط والإخفاق.
وتجدد المعاني على حسب العصور سنة لا تحيد عنها لغة من اللغات، وفي مقدمتها اللغة العربية.
فلو أننا أخذنا ألف كلمة من المعجم، وتعقبنا معانيها في العصور المختلفة لما وجدنا خمسين أو ستين منها ثابتة على معنى واحد في جميع العصور.
وربما غلب المعنى الجديد وبطل المعنى القديم، وهو أصيل في عدة كلمات.
خذ مثلا كلمتي الجديد والقديم، وكيف ظهرتا، ثم كيف تحولتا إلى الغرض الذي نعنيه الآن.
فالثوب «الجديد» هو الثوب الذي قطع حديثا؛ من جده فهو جديد أو مجدود، وكانوا يقطعون المنسوجات عند شرائها، كما نقطعها اليوم، فيسمونها جديدة من أجل ذلك.
ثم نسيت كلمة الجديد بمعنى المقطوع، فلا ينصرف إليها الذهن الآن إلا بتفسير أو تعيين، وأصبحنا نعبر بالجدة عن أمور لا تقطع ولا هي من المحسوسات، فنقول: «المعنى الجديد.» و«الفكر الجديد.» وما شابه هذه الأوصاف.
وكانوا يقولون: تقدم فلان؛ أي مشى بقدمه ، ثم ضمنوا تقدمه معنى سبقه، فأصبح السابق هو القديم، وأصبح الزمن القديم هو الزمن السابق، كما نفهمه الآن.
وقد نسي الناس «كتب البعير» بمعنى قيده، وأطلقوها اليوم على الخط في الورق، وهو في الأصل مستعار من التقييد.
ونسي الناس «خجل البعير» بمعنى تحير واضطرب، وأصبحوا يستعملونها «للحياء» الذي شبه بالخجل؛ لأنه يدعو إلى الحيرة والاضطراب.
وكل أولئك لا ضير منه على اللغة كما رأينا، بل هو مادة إنشاء وابتكار وتنويع.
والأستاذ الفاضل «أبو رية» يأخذ بالشيوع قاصدا أو غير قاصد حين يقول: «المعاجم»، وهي جمع معجم بضم الميم، والمعجمات هي الجمع الذي يرتضيه المتزمتون ولا يرتضون غيره. •••
إلا أنني هنا أنكر الإباحية العمياء كما أنكر التزمت الأعمى.
وعندي أنه لا يصح إلا ما أمكن أن ينطوي في قاعدة من القواعد المعروفة، أو أن يؤدي المعنى أداء لا يناقض العقل والقياس.
ومن أمثلة ذلك أنني كنت أشهد منذ أيام رواية «قيس ولبنى» للشاعر المجيد عزيز أباظة بك، فأعجبت بسلامة اللغة وصحة العبارة، ولكني لاحظت أنه استعمل كلمة «تضحية» بمعنى فداء أو خسارة، كما نستعملها نحن الآن.
والتضحية عند العرب هي ذبح الشاة أو غيرها في وقت الضحى.
ثم أخذت معنى الفداء أو القربان؛ لأن الناس ينحرون ذبائحهم في الضحى يوم عيد النحر الذي عرف من أجل ذلك بعيد الضحية.
فإذا كنا نحن المتكلمين - ونعني أبناء العصر الحاضر - فلا ضير من تضمين الكلمة هذا المعنى بعد أن أخذته باستعارة معقولة، وكسبته بالاستعمال المتفق عليه بيننا.
ولكننا إذا جعلنا العرب في عصر «قيس ولبنى» يستعيرون هذا المعنى، وهم لم يستعيروه، فذلك خطأ في التاريخ وليس بخطأ في اللغة وكفى.
والاعتراف ب «التطور» في المعاني والاستعارات لا يقتضي أن نخالف الحقيقة التاريخية.
على أنني حين استعملت كلمة «فشل» لم أكد أخرج بها عما اصطلح عليه الأولون.
فقلت: «يحاول الغلبة من حيث فشل.» ولو جعلت «فشل» هنا بمعنى ضعف لكانت مقابلة للغلبة أحسن مقابلة.
وقلت: «ولا طائل في البحث عن علة هذا الخذلان الصريح، أكان هو الطمع في الملك بعد فشل علي، أم النقمة على الأشتر؟» فلو أنك قلت بعد «ضعف» علي لاستقام هنا التعبيران القديم والحديث.
وكذلك قولنا: «مني بالفشل؛ لأنه عمل بغير ما أشار به أصحابه الدهاة.» فإن التعبيرين فيه يتلاقيان.
كذلك قولنا: «ولكنها خطة سلبية لا يمتحن بها رأي ولا عمل، ولا ترتبط بها تجربة ولا فشل.»
فليس لمتزمت قديم أن ينكر موقع هذه الكلمة في حيث وضعناها من هذه العبارات كلها، وإن كنا مع هذا لا نحرم إطلاقها على معنى الإخفاق الذي لا يحتمل تأويلا بمعنى آخر؛ وكل ما ننكره أن تأتي بكلمة «فشل» فتطلقها على معنى القوة والنجاح، أو معنى يناقض الضعف والتراخي المقصودين بها قديما؛ أو أن تأتي بهذه الكلمة فتضعها على لسان علي بن أبي طالب، أو رجل في زمان سابق لزماننا الذي أعارها ما نفهمه منها الآن على الشيوع والتواتر.
وليس الخطأ في تجديد المعاني على حسب العصور؛ لأنه سنة لم تفلت منها كلمة في لغة من اللغات إلا وهي على موعد من تجديد يأتي بعد حين.
إنما الخطأ هو إنكار هذه الحقيقة، وهي تصادفنا في كل ما نقرأ ونكتب بالعربية وبغير العربية.
ونحن على طريق السلامة ما أبحنا مبصرين وتزمتنا مبصرين، وحينئذ لا نكون إباحيين ولا متزمتين؛ بل نجري على السواء الذي نسلكه مهتدين.
الفصل الرابع عشر
أسئلة وأجوبة
أتلقى بالسرور بعض الرسائل الأدبية، التي تشتمل على أسئلة من أصحابها يستطلعون بها الرأي في غرض من أغراض الأدب يقع عليه الخلاف، ويحسن عرضه للقراء من وجهات النظر المتباينة.
يقول أديب بالبصرة بعد تمهيد أومأ فيه إلى سابقة هذا البلد الذي عمر زمانا «بأفكار الجاحظ، وابتداعات الخليل ومساجلات سيبويه» وغيرهم من العلماء والأدباء: ... إن الأمر يحوطه كثير من اللبس والغموض ويشوبه الاختلاط، وإن الاختلاف فيه هنا بالبصرة قد بلغ حده، ولم يرض أحد بأدلة الآخر، والمختلفون اتفقوا على أن يرجعوا إليكم لتقولوا القول الفصل فيه، وكلهم من قرائكم على صفحات مجلة الرسالة الحبيبة، وفحواه قول «لاسل آبروكرومبي » في قواعد النقد: إن مطالبة الأدب بأن يعلمنا أمرا أو يصلح أخلاقنا تخرج بنا عن فن الأدب، وإن الأدب قد يؤدي كل هذه الأشياء، ولكنه لم يكن أدبا لمجرد أدائها.
وبعد أن قال الأديب: إنه يدين بنظرية الفن للفن، وإن الأدب كالموسيقى متعة ولذة، عاد فقال: «ولكن الذي لا أستطيع أن أفهمه - وهو موضع الخلاف ومدار البحث - هو ما مدى تأثير الأدب في بيئته عمليا؟ إنه يتأثر بالبيئة ولا شك، ولكنه هو هل يغير أحوال الناس ويحور أخلاقهم، وينقلهم من طور إلى طور ومن عادة إلى عادة؟ أنا أرى يا سيدي أن الواقع ينقض هذا، فأبو العلاء لم تطبق آراؤه عمليا على كثرة مريديه الذين لازموه ... والروايات التمثيلية التي تنقد أوضاع الناس، أو تحل المشاكل لم نر الناس غيروا ما انتقدوا عليه ولا حلوا مشاكلهم؛ ولكن هذا لا يمنعهم من مشاهدة التمثيل، وقراءة الروايات إرضاء لحاجة إنسانية كامنة في أعماق النفس، هي اللذة الفنية، وإذن ما مدى تأثير الأدب عمليا؟ إننا نقول: إن الشعراء كانوا يبعثون الحماسة في نفوس الثائرين، ولكنني أظن أن الثائرين استعدوا للثورة ثم جاء الأدب يعبر عن عواطفهم، والثورة الفرنسية تهيأت لها أسباب عديدة، ثم دفعهم مع عوامل أخرى - الكتاب لا الأدباء - إلى الثورة ...» •••
ورأيي الموجز في كلام الأديب البصري أن ما ذكره عن الأدب يصدق على المطالب الإنسانية، التي لا اختلاف بين المفكرين على أغراضها وفوائدها.
فالناس يختلفون على الأدب، هل يطلب للفائدة أو يطلب للمتعة الفنية، ولكنهم لا يختلفون في عمل المصلحين من دعاة الأخلاق أو السياسة أو الدين، بل يتفقون على أن الإصلاح مقصود للفائدة دون مراء، وأن المصلح الذي لا يبغي نفع الأمم بإصلاحه لا يستحق الإصغاء إليه ... ومع هذا يدعو المصلحون إلى غرض، ويتحقق غيره في الطريق مقصودا أو غير مقصود، وتتبدل المذاهب وللناس أخلاق باقية لا تتبدل، ويتبعهم المعري جيلا بعد جيل بقوله الخالد المتجدد:
كم وعظ الواعظون منا
وقام في الأرض أنبياء
وانصرفوا والبلاء باق
ولم يزل داؤنا العياء
حكم جرى للمليك فينا
ونحن في الأصل أغبياء
ولكن الإصلاح بعد هذا كله مفيد، والدعوة إليه واجبة، والدنيا تتغير على وجه من الوجوه بعد كل دعوة من دعواته، وإن لم يكن هو الوجه الذي تعمده الدعاة.
فليس الأدب بدعا في هذه الخصلة التي عمت جميع أعمال البشر، ولكنه عمل إنساني يصدق عليه في أمر الوصول إلى غاياته كل ما يصدق على سائر الأعمال.
إلا أن الأدب ينفرد بخصلة أخرى تصرفنا بعض الشيء عن النظر إلى الغايات، أو تمنعنا أن نقصر النظر عليها عند البحث في مزاياه.
الأدب تعبير.
والتعبير تلحظ فيه البواعث قبل أن تلحظ فيه الغايات.
لماذا يصرخ المعذب المتألم؟
إنه قد يصرخ فيدركه على الصراخ منقذ، أو مساعد على التعذيب والإيلام، ولكنه سواء ظفر بهذا أو ذاك إنما صرخ لباعث في نفسه أو جسده، ولم يصرخ لغاية يتوخاها من إسماع صوته.
وقد يسمع صوته فيسعد أو يشقى بانتهائه إلى الآذان، فيتحقق النفع كما يتحقق الضرر غير مقصود.
والتعبير وظيفة لا حيلة فيها؛ لأنه أثر الحالة التي تقوم بالنفس، فتدل عليها بما لديها من وسيلة ناطقة أو صامتة.
ولكنه مع هذا عمل مفيد لا شك في نفعه؛ لأن الرجل بعد التعبير غيره قبل التعبير، ومن استطاع أن يعبر استطاع أن يفهم نفسه ويفهم ما يريد، واستطاع أن يجمع إليه من يشعرون مثل شعوره ويريدون مثل مراده، ولكنه لا «يعبر» لأجل هذا ولا يكف عن التعبير إذا امتنع هذا، فكثيرا ما «يعبر» فيجمع من حوله الأعداء ويفرق الأصدقاء.
وسؤال السائل: لماذا نعبر؟ كسؤاله: لماذا نحس؟ ولماذا نحيا؟ لأن الحياة مظهران لا ينفصلان: تأثير من الخارج إلى الداخل هو الحس، ورد من الداخل إلى الخارج هو التعبير، والكلام في غايته كالكلام في غاية الحياة، وليس للحياة غاية وراءها؛ لأن وراءها الموت الذي تقف دونه الغايات.
قل للأديب: «عبر» أيها الأديب، ولا تسأله بعد ذلك غاية من وراء تعبيره، وكفى أن يكون هذا التعبير من دلائل الحياة، ولا خير في الحياة بغير دليل.
وأعود إلى مثل يطابق الحقيقة هنا كل المطابقة، ويعين على فهمها أقرب معونة، وهو مثل الزهرة والثمرة في الشجرة النامية.
الفائدة كما نفهمها نحن هي الثمرة الناضجة.
ولا فائدة للزهرة بهذا المقياس.
ولكن الشجرة التي لا تنبت الزهرة تبطل فيها دلائل الحياة، وهي زينة وبهجة إلى جانب هذه الدلالة.
ثم يأتي أناس فيعصرون الزهرة عطرا ودواء وشرابا ينعش ويفيد، ولكنها لم تكن زهرة لهذه الفائدة التي جاءت في عرض الطريق.
وجملة القول: إن الأدب على هذا الاعتبار أصدق من جميع المطالب العقلية، التي تحسب من ذخائر الثقافة الإنسانية.
لأن البواعث حق والغايات أوهام، ونحن حين نسعى إلى غاية، فنحن منخدعون بها قبل الوصول إليها وبعد الوصول إليها، وقد نسعى إلى غاية ونصل إلى غيرها، وقد نصل إلى الغاية التي نريدها، فإذا هي هباء لا يساوي مشقة السعي في سبيله.
أما البواعث فهي حق لا مهرب منه، وهي شيء موجود، لا خلاف في وجوده، وهي مصدر التعبير، والتعبير دليل الحياة.
فإذا بحثنا عن الأدب فلنبحث عن شيئين لا يعنينا بعدهما مزيد وإن وجد المزيد: أهناك باعث صحيح؟ أهناك تعبير جميل؟ فإن وجد الباعث والتعبير، فقد أدى الأدب رسالته وبقي على الدنيا أن تستفيد منها إن شاءت ... وهي تستفيد بمشيئتها وبغير مشيئتها من كل عمل يجري على سنة الحياة. •••
ويقول أديب ببيت المقدس: «سؤال عنا نحن الشرقيين: ما بال رجالنا يتقاتلون، ويخذل بعضهم بعضا حين نرغب في عمل يفيد بلادنا؟ أهو حب الظهور؟ أهو الغرور؟ أهو العناد والجمود؟»
والسؤال جديد قديم منذ قال جمال الدين - رحمه الله: «اتفق الشرقيون على ألا يتفقوا.»
أما السبب فقد تكتب فيه المطولات، وقد يوجز في سطور، ونحن في مقام الإيجاز، فعسى أن نحصر السبب في كلمات قليلة تدل على مكان العلة، وتترك المجال بعد ذلك مفتوحا للطبيب المأمول: طبيب الزمان.
إن الخلاف يطول كلما قل الحكم المسموع.
والحكم المسموع بين الرجال العاملين هو تمييز الأمة أو الرأي العام، كما نسميه في الاصطلاح الحديث.
فالأمم التي بلغ الرأي العام فيها مبلغ التمييز يخاف المخطئ أن يصر على خطئه فيها؛ لأنها تقضي عليه.
والأمم التي لم تبلغ مبلغ التمييز يطمع المخطئ في تضليلها، ولا يخشى المتنازعون فيها عاقبة نزاعهم على الحق أو على الباطل، فيطول أجل النزاع ويصعب الفصل فيه.
وسيظل الخلاف دأب الشرقيين ما دام مأمون العاقبة على المختلفين؛ ويظل مأمون العاقبة عليهم ما دام الحكم المسموع قابلا للتضليل عاجزا عن التمييز.
وكلما صعد سواد الأمة درجة في سلم الإدراك والأخلاق هبط الخلاف درجة بين الزعماء العاملين.
وأحسبهم صاعدين، وإن كنا نستبطئ خطواتهم في الصعود. •••
وأحسبني قد أجبت عن السؤال الثالث قبل أن يكتبه صاحبه الأديب «صلاح حماد» من الناصرة بمساحة فلسطين.
فهو يوجه إلي سؤالا من تلك الأسئلة التي تبدأ «بأيهما»، ويجاب عنها «بكليهما» كما أسلفت في مقال قريب بالرسالة.
وموضع الخلاف بين أدباء الناصرة عن الزوجة: هل يعصمها حبها لرجلها دون خوفها منه، أو تعصمها سطوته ورجولته ثم حبها إياه؟! وهل إذا وجد الخوف بين اثنين امتنع الحب بينهما؟ أو يمكن الجمع بين الحب والمهابة في آن؟
قال: أيهما ...؟ قلنا: كلاهما!
وهذا هو الجواب الذي يغني عن إسهاب، ولكننا نضيف إليه أن الخوف قد يوجد مع الحب كما يوجد مع الكراهية:
أهابك إجلالا وما بك قدرة
علي، ولكن ملء عين حبيبها
فالمحب يخاف أن يغضب المحبوب؛ لأنه يجبه ويرجو نفعه، والعدو يخاف عدوه؛ لأنه يتقي الضرر منه، ويختلف الخوفان كما يختلف الحب والعداء.
والزوجة يعصمها أن ترهب سطوة زوجها ولا تمنعها الرهبة أن تحبه؛ لأنها تحبه قويا مرهوب السطوة، وليس معنى ذلك أن يبطش بها ويسيء إليها، وإنما معناه أن يحسب لغضبه ورضاه حساب. •••
تلك وجهات من النظر تتقابل بين السؤال والجواب، وكل سؤال فيه وجهة، فللسائل فيه هداية سبقت هداية المجيب.
الفصل الخامس عشر
سؤالان وجوابان
كتب إلي أديب بالبصرة يقول: «كنت أقرأ المقدمة التي صدر بها المستر ه. ج. ولز كتاب المستر فرانك سونرتن، فوقفت أمام قوله: إنه باعتباره كاتبا ينتمي إلى مدرسة، وباعتباره قارئا ينتمي إلى مدرسة أخرى، كما يتفق أن يشتغل الإنسان بالآلات البصرية، ثم يعنى بجمع الآنية الصينية القديمة ... وهو قول يحتمل التأييد والتفنيد على السواء، ولا ينحصر الاعتراف به في الكاتب الإنجليزي الأشهر وحده، بل يتعداه إلى أدباء كثيرين، ولكن هل تختلف عند الكاتب الواحد بوجه عام أهداف الكتابة وأهداف القراءة؟ وهل يصح مثلا أن يحيا عقله في دنيا تخالف كل المخالفة أو بعضها، تلك التي يحيا فيها بقلمه؟ وهل ثمة تعليل مقبول لهذا التباين الواضح بين دنيا العقل ودنيا القلم؟» •••
والذي نعتقده أن هذه الحالة معقولة لا غرابة فيها، وليس من وجه لاستغرابها إلا أن ترى أن الإنسان لن يقرأ إلا ليكتب، ولن يشتغل بموضوع إلا الذي يشتغل به قراؤه، وكلاهما مخالف للواقع المشاهد في كل مطلب وكل بيئة.
فمن الناس كثيرون يقرءون ولا يكتبون، وليس الكاتب يبدع بين القراء في مطالعاته، فيجوز إذن أن يقرأ في موضوعات لا ينوي الكتابة فيها، ولا يهمه أن يعقد التفاهم عليها بينه وبين قرائه.
كذلك يصح أن يشتغل الكاتب بشئون كثيرة لا يشتغل بها قراؤه ومريدوه، فربما كان من هؤلاء القراء من يتلقى عنه تجاربه الخاصة، التي يشرح فيها ما جرى له، ولا يشرح فيها مطالعاته ومعارض درسه، وربما كان منهم من يقرؤه لأنه حلقة بينه وبين جيل مضى من المؤلفين والكتاب، فيكون الكاتب حينئذ كالقنطرة الثقافية بين شاطئ وشاطئ مفترقين.
ومن المعهود بيننا أن الشاعر لا يقرأ الشعر دون غيره، وأن الفيلسوف لا يقرأ الفلسفة دون غيرها، وأن المصور قد يقرأ الروايات والروائي قد يجمع الصور ويدرس التصوير.
ومن تجاربي التي أعلمها في الكتابة والقراءة أنني أقرأ كثيرا في موضوعات لا أطرقها، ولا أنوي أن أطرقها إذا كتبت للتأليف أو للصحافة، ومن هذه الموضوعات طبائع الأحياء وعجائب النبات، ورحلات الأقدمين والمحدثين، وما من خليقة إنسانية أعرفها إلا أحببت أن أقابل بينها وبين نظائرها في عالم الحيوان أو عالم النبات، ولكني لا أفعل ذلك تمهيدا للكتابة عنها، وإن جاءت الكتابة عرضا في بعض المناسبات.
وما زالت المطالعة ملجأ نفسيا للمطالع يأوي إليه، ويجب أن يخرج إليه من شواغل دنياه، فالرجل المشغول بالمسائل الطبية، أو الاجتماعية أو السياسية يروقه أن يخلو ساعة من الساعات بالشعر أو بالقصة، أو بكتاب من كتب الإيمان والعقيدة، وهو إذا قرأ في كتب الإيمان والعقيدة لا ينوي من ثم أن يبشر بالدين أو يؤم الناس في الصلاة، ولكنه يستريح من حال إلى حال، ويدع الدنيا هنيهة لينفرد بضميره أو بتفكيره في مناجاة لا علاقة بينها وبين الناس.
فالاختلاف بين العالم الخاص والعالم العام في كثير من الأوقات معقول لا غرابة فيه، ومن قبيل هذا الاختلاف أن يختلف ما نقرأ وما نكتب، وأن يختلف ما يعنينا وما يعني قراءنا، فهم يقرءوننا نحن، ونحن لا نقرأ أنفسنا، بل نقرأ غيرنا، ولا يلزم أن يكونوا معنا طرازا واحدا لا تنوع فيه.
لكن ينبغي أن نفرق بين هذا وبين القول بأن الكاتب يعيش في عالم غير الذي يقرؤه ضرورة لا محيص عنها.
فإذا وجد من يقرأ أبا العلاء، ويكتب في القانون، فلا مانع ولا شذوذ، ولكنه لا يحرم عليه أن يقرأ أبا العلاء، ويكتب في الزهد والأخلاق أو العقائد والديانات. •••
ومن البصرة أيضا جاءتني رسالة ختمها كاتبها الأديب «الفريد سمعان» من طلبة المدرسة الثانوية بسؤال يقول فيه: «... هل يكتفي الأديب أو الذي يريد أن يصبح أديبا بمطالعة الكتب التي تصدر في العصر الحاضر دون الرجوع إلى الكتب القديمة، والاعتماد على المخطوطات السالفة؟»
وهذا سؤال مفيد.
وجوابه المفيد أن الاكتفاء بأدب العصر الحاضر مستطاع، ولكنه ليس بأفضل الحالات.
وتقاس حاجات النفس على حاجات الجسد بغير اختلاف يذكر في هذا المقام.
فالرجل الذي يكتفي بمحصول أرض واحدة يعيش، ويأخذ بنصيبه من الحياة، ولكنه ليس بأوفى نصيب، وليست عيشته الجسدية كعيشة الرجل الذي يغتذي بمحصولات البلاد على تنوعها، ويأخذ من كل محصول خير ما يعطيه.
وقد يوجد في الأدباء من يكتب أو ينظم وليس له اطلاع واسع على أدب عصره ولا على آداب العصور الأخرى.
وكذلك يوجد في أقوياء الأجسام من يأكل الطعام الغث، ويستفيد منه لجودة هضمه وانتظام وظائف جسده.
ولكننا عندما نضع قواعد الصحة وأصول التغذية لا نقول للناس: كلوا الطعام الغث، واعتمدوا عليه في تقوية الأبدان وتنظيم وظائف الأعضاء.
وعلى هذا القياس نفسه لا نقول للناس عندما نضع قواعد القراءة وأصول التثقيف والتهذيب: إن الاطلاع وترك الاطلاع يستويان.
فالانتفاع بالطعام الغث شذوذ لا يقاس عليه، ومثله في الشذوذ أولئك الذين ينظمون أو يكتبون ما يحسن أن يقرأه القارئ، دون أن يرجعوا إلى أدب العصر أو آداب العصور.
ومما لا مراء فيه أن الرجل الذي ينتفع بالطعام الغث يزداد انتفاعه بالطعام الجزل كلما وصل إليه، وأن الرجل الذي ينظم أو يكتب بغير اطلاع يترقى في منازل الأدب كلما استوفى حظه من المطالعة والدرس والمراجعة.
فالاكتفاء بالقليل من الأدب جائز كالاكتفاء بالقليل من كل شيء، ولكنه القليل في الحالتين، ولن يكون شأنه كشأن الكثير.
ومن الحسن جدا في هذا الباب أن نذكر أن الأدب قيمة حيوية، أو قيمة إنسانية قبل أن يكون قيمة لغوية أو قيمة فنية أو تاريخية.
ويغنينا تذكر هذه الحقيقة عن الجدل، أو عن اللبس في كثير من الأمور.
فالذين يقولون: إن الطبيعة هي وحي الشاعر الأول الذي لا يحتاج بعده إلى وحي الصناعة.
أو الذين يقولون: إن البلبل يوحي إلى الشاعر بتغريده، وإن الوردة توحي إليه بنضرتها، وإن الشفق يوحي بألوانه وظلاله وخفقات الهواء فيه ...
كل أولئك خلقاء أن يذكروا أن القريحة التي تستفيد من تعبير عصفورة، أو تعبير زهرة تستفيد ولا شك أضعاف تلك الفائدة من تعبير أبي الطيب وهوميروس وابن الرومي وبيرون وعمر الخيام؛ لأن قصائد هؤلاء تعبير عن الطبيعة الحية، وليس قصاراها أنها لفظ يقال أو أنها فن يصاغ.
فالاطلاع على ثمرات القرائح اطلاع على ثمرات الحياة، وكلما اتسع النطاق اتسع التعبير وتنوعت الثمرات؛ لأنك لا تعرف الحياة الإنسانية بالاطلاع على أبناء زمانك الذين يشبهونك، ويتلقون معك الشعور من مصدر واحد، ولكنك تعرف الحياة الإنسانية حق عرفانها إذا عرفت الصلة التي بين العصور المختلفة والأقطار المتباعدة، وعرفت الواشجة التي تجمع بينها على تعدد المصادر وتفاوت المؤثرات.
وليس هذا بميسور لشعراء العصر الواحد، وكيفما كان نصيب هؤلاء فهو ولا جدال دون النصيب الذي يظفر به قراء جميع العصور.
الفصل السادس عشر
المدرسة الرمزية
أرسل إلي أديب في بغداد يقول: ... استرعى نظري نوع من الأدب أسموه بالرمزية، ولا أعلم حتى الآن تعريف هذا النوع، وقد نبهني إليه تلك الإنذارات إلى الأدباء الشباب المحدثين أن يكفوا عن تلك الطريقة الرمزية، فإنها عقيمة النتاج لا تجدي نفعا، فما هي الرمزية في الأدب؟ وهل هي تقتصر على الآداب العربية فقط عدا الآداب العالمية؟ وما هي نتائجها المضرة؟
والرمزية التي يسأل عنها الأديب البغدادي قديمة في العالم؛ لأن الناس عرفوا الكتابة بالرموز قبل أن يعرفوا الكتابة بالحروف؛ ولأن الكهانات الأولى كانت تستأثر بأسرار الدين، وتضن بها أن تذاع للعامة على حقيقتها الصراح، فكانت تعمد إلى الرموز أحيانا للتعبير عن تلك الأسرار.
ثم ارتفع حجر الكهانات عن أسرار الدين، فتكلم الناس فيها وأفصحوا عما يعتقدونه من خفاياها، ولكن الولع بالأسرار والبحث عن الغوامض والغيوب طبيعة في بعض النفوس لا تخرجهم منها صراحة القول، ولا إباحة التفكير المطلق لمن يشاء، فظهر هؤلاء بين المسلمين كما ظهروا بين الأمم المسيحية والإسرائيلية، وقسموا عندنا العلم إلى علم شريعة وعلم حقيقة، وأرادوا بعلم الشريعة ما يبدو على ظواهر الأشياء، وبعلم الحقيقة ما ينفذ إلى بواطن الأسباب المغيبة عن العقل المكشوفة للبصيرة، وقابلهم عند الأمم جماعة المتعمقين الموكلين بالغوامض والأسرار، وهم المعروفون باسم الخفيين أو ال
Mystics ، ولا يزال لهم مريدون ودعاة في كل عصر من عصور الآداب.
لكن المقصود بالرمزية في الأدب الحديث هو تلك المدرسة التي راجت في أوائل القرن الحاضر، وظهرت في فرنسا على أعقاب مدرسة «البرناسيين» أصحاب القول بجمال القالب والعكوف على المحاسن الظاهرة في أساليب الشعر والنثر وصياغة العبارات، وعندهم أن الصقل المحسوس هو آية الجمال والبلاغة في جميع الفنون.
فلما راج مذهب البرناسيين هذا في أواخر القرن الماضي ظهر الرمزيون يعارضونه، ويغلون في إنكاره ويذكرونهم بما نسوه من أسرار المعاني التي لا تبرز على وجوه الكلمات، وينبهونهم إلى جمال الوحي والإيمان الذي أهملوه في سبيل الصقل المحسوس، والرونق البارز على صفحات الأساليب.
وقد كان الرمزيون على حق لولا الغلو الذي يندفع إليه أصحاب كل مدرسة جديدة حين يتصدون لحرب المدارس الأخرى، فيذهبون من أقصى النقيض إلى أقصى النقيض.
فالأدب لا يستغني عن الوحي والإشارة، وأبلغ الفن ما يجمع الكثير في القليل، ويطلق الذهن من وراء الظواهر القريبة إلى المعاني البعيدة التي تومئ إليها الألفاظ، ولا تحتويها بجملتها إلا على سبيل التنبيه والتقريب.
ولكن هذه المدرسة غلت وتمادت في الغلو حتى قام من دعاتها من يجعل الغموض والتعمية غرضا مقصودا لذاته، ولو لم يكن من ورائه طائل، وخيل إليهم أنهم مطالبون بالتعبير عن أنفسهم بالرموز، وإن أغنتهم الحروف الواضحة والكلمات المفهومة ... فلم تعمر مدرستهم طويلا، وسقطت في الأدب الفرنسي كما سقطت في آداب الأمم التي انتقلت إليها.
وقد أملي لأتباع هذه المدرسة في الغلو أنها قامت للدعوة في العصر الذي ظهر فيه «فرويد»، وبشر بمذهبه القيم عن الأحلام ودلالتها على الوعي الباطن، وما يستكن فيه من الأسرار المكتومة والنوازع المكبوتة.
وخلاصة هذا المذهب فيما يرجع إلى «الرمزية» أن الأحلام هي لغة الرمز، التي يعبر بها «الوعي الباطن» عن شعوره المكبوت؛ فالرجل المبتلى بالخوف من عدو منتقم أو من وهم مسلط عليه يرى في نومه وحشا ينقض عليه وينهشه بأنيابه، والرجل الطامح إلى المجد يرى أنه سابح في السماء على رءوس الناس، أو يرى أن الناس بالقياس إليه كالنمال في جانب الفيلة الضخام، وهكذا تتمثل معاني «الوعي الباطن» رموزا جسدية؛ لأن الإنسان لا يتمثل المعاني في أحلامه وأمانيه، بل يتمثل فيها ما يرى بالعين، ويلمس باليد ويسمع بالأذن، ويترجم من لغة الفكر إلى لغة الحواس على أسلوب الخيال المعروف.
فما هو إلا أن راجت كلمة «الوعي الباطن» ورموزه في الاصطلاح وخيالات الفنون، حتى تلقفها أذناب المدرسة الرمزية كما تلقف الببغاوات صيحات الآدميين بغير فهم ولا روية، وخيل إليهم أن «الوعي الباطن» خلق جديد أنبته «فرويد» في بيئة الإنسان بعد أن كان معدوما في الأجيال الماضية، وفاتهم أنه أقدم من الوعي الظاهر، وأنه لم يزل يعمل عمله في الآداب والفنون، وفي المعيشة اليومية منذ عرف الناس الشعور والتفكير، ولن يزال كذلك خفيا في مكانه القديم ما دام الإنسان هو الإنسان، وكل ما صنعه فرويد أنه نبه الأذهان إلى وجوده، لا أنه أوجده من العدم في الزمن الحديث.
وبعد أن كان الرمزيون لا يتجاوزون في دعوتهم التذكير بوجود الأسرار والمعاني التي توحي إليها، أصبح أولئك الببغاوات ينكرون الحس الظاهر، وينكرون الحواس وعملها، ولا يدينون بشيء غير ما يسمونه رموز الوعي الباطن وأحاجيه.
فبطل الوضوح عندهم كأنه نقيصة، أو كأنه خروج على الحقيقة، وتقررت التعمية عندهم كأنها هي البيان دون كل بيان، وكأنما «الوعي الباطن» قد كشف في الزمن الأخير؛ ليلغي العيون والآذان، ويغرق الناس في ظلمات لا تدركهم فيها أنوار النهار.
ومن آفات فرنسا الولع بالأزياء والمدارس التي كأنها أزياء تخلع بين كل صيف وشتاء، فما هو إلا أن يسمع فيها باسم الدعوة الجديدة حتى تقفوها مدرسة هنا ومدرسة هناك، وحتى تتقاسمها الفنون المختلفة، فيبشر بها المصورون والنحاتون كما يبشر بها الشعراء والكتاب، وينتقل الأمر من حيز التفكير إلى حيز الصفقات والمساومات.
فيأخذ المتجرون بالصور في جمع اللوحات التي يبيعها إياهم فقراء الفنانين بدريهمات معدودات، ويحتفظون بها حتى يحين الأوان لإبرازها والمتاجرة بها، فإذا بمجلة من المجلات التي يملكها أولئك التجار، أو يستأجرونها قد نشرت فصلا مطولا عن «المدرسة الجديدة» المزعومة، وتلتها مجلة أخرى تناقضها وتنحي عليها، وإذا بالمدرسة الجديدة بعد هنيهة قد أصبحت في دوائر الفن أحدوثة الفضوليين والأصلاء، ومحور الهجوم والدفاع، ويحضر إلى باريس في هذه الآونة أناس من أصحاب الثروات الأمريكية، أو أصحاب الألقاب الروسية العريقة ممن يصطنعون الوجاهة، ويفاخرون باقتناء التحف النادرة، ويودون أن يرجعوا إلى بلادهم وفي جعابهم أحدث ما يتحدث به أصحاب الأذواق وأدعياء التنظر في الثقافة والآداب الفنية، فإذا بهم قد وقعوا في الفخ المنصوب، واستبضعوا اللوحات والتماثيل من تلفيقات تلك المدرسة الجديدة بألوف الجنيهات، وهي كلها لا تساوي مئات الدراهم عند بائعيها الماكرين.
وهكذا تخرج إلى الدنيا «مدرسة جديدة»، وتبقى فيها ما بقيت صالحة لتلك الصفقات الخادعة، ثم تنطوي وتخلفها دواليك مدرسة أخرى على هذه الوتيرة، ولا تعقب بعدها أثرا من الآثار الباقية في عالم البلاغة والجمال.
وقد راجت الرمزية في الكتابة والشعر، كما راجت في النحت والتصوير، وشوهدت صور لبعض الناس لا يعرفها أصحابها، ولا يتفق اثنان من المصورين أنفسهم على عرفان ملامحها أو تفسير الغرض منها، وسئل واحد من هؤلاء المصورين عما يعنيه بهذا الخلط الذريع، فقال بلهجة هؤلاء الممخرقين التي هي مزيج من لغة الدجالين والببغاوات: إن الكتاب الإنجليزي يقع في يد الرجل الذي لا يفهم الإنجليزية، فلا يبصر فيه إلا خليطا مشوشا من الخطوط والنقاط، فهل يفهم من ذلك أنه كذلك، وأنه لا يشتمل على معنى من المعاني التي يدركها الإنجليزي أو من يفقهون اللغة الإنجليزية؟
وهذا كلام دجالين وببغاوات لا يفهمون ما يقولون؛ لأن الناس لا يختلفون في رؤية الشمس كما يختلفون في فهم مئات الكلمات التي تدل عليها باللغات الإنسانية؛ ولأنهم لا يختلفون بالعيون والآذان والأفواه كما يختلفون بالألسنة والعبارات، وليس بين الرجل وبين مشابهة الإنجليزي في قراءة كتابه إلا أن يدرس الإنجليزية، فينفذ إلى ما وراء الخطوط من الألفاظ ومعانيها، فما هي الأداة التي يستعين بها الإنسان على فهم الصور التي لا تشبه أصحابها؟ أهي أداة الوعي الباطن، وهو لا يتماثل في رجلين اثنين على نحو واحد؟ أيصبح كل إنسان «فنا» وحده؛ لأنه وحده صاحب الوعي الباطن الذي توارثه عن آبائه وأجداده، وأضاف إليه ما أضاف من مذكوراته ومنسياته؟
وكل مدرسة من هذا القبيل، فهي مدرسة بكماء لا تستطيع أن تشرح مذهبها للناس إلا بمزيج من كلام الببغاوات، وكلام الدجالين.
ليكن الوعي الباطن حقيقة لا شك فيها، وهو كذلك حقيقة لا شك فيها، ولكنه كان حقيقة لا شك فيها من أقدم عهود المثالين والمصورين والشعراء في التاريخ، وقد عمل في شعر هوميروس عمله البديهي، كما عمله في شعر المتنبي والشريف وبيرون ولامرتين، وإنما كان يعمل عمله دون أن يلغي العيون والآذان، ودون أن يلغي الأذواق والأذهان، وعلى هذا ينبغي أن يمضي في عمله سواء ظهر فرويد، أو لم يظهر في عالم الوجود؛ لأن فرويد لم يخلقه في طبائع الناس حتى يخلفه خلق جديد لم يكن معلوما قبل مئات السنين، فقصارى ما في الأمر أنه سماه وفسر معناه، وترك العيون تنظر كما كانت تنظر، والآذان تسمع كما كانت تسمع، والأجسام البشرية تغدو وتروح كما كانت تغدو وتروح.
فالرمزية سليمة في حدودها الأولى، وهي حدود الاعتراف بالخفايا والأسرار، ولكنها دعوة مريضة عوجاء حين تنكر الوضوح؛ لأنه وضوح وكفى، وتشيد بالتعمية؛ لأنها تعمية وكفى.
وميزان الصدق في هذا المذهب أن يكون الرمز ضرورة لا اختيار فيها، فأنت تفصح حتى يعيبك الإفصاح فتعمد إلى الرمز والإيحاء لتقريب المعنى البعيد لا لإبعاد المعنى القريب، والأصل في الإبانة عن الذهن أو النفس أن يحاول المبين جهده توضيح معناه حتى تعييه العبارة فيلجأ إلى الإشارة، فلا يكتب بالهيروغليفية ما يقدر على كتابته بالحروف الأبجدية، ولا يؤثر الكتابة وهو قادر على التصريح.
أما من يقول بنقيض ذلك، فليس عنده في الحقيقة ما يقول، وإنما هو مزيج من الببغاوات والدجالين يلفظ بالكلام ولا يفقه معناه، ويخلط الحق بالباطل على النحو الذي قدمناه.
الفصل السابع عشر
الفنون الجميلة ضرورية
«تعودنا أن نسمع أن الفنون الجميلة من الكماليات التي يأتي دورها بعد العلم والصناعة في الأهمية، وفي مقالكم المشار إليه تقولون: إن علينا أن نبدأ بالفنون الجميلة والرياضة لنتعلم الإرادة والعمل، فهل لكم أن تنيروا الطريق لنا بالتوفيق بين القولين؟» •••
الحق يا صاحبي أننا في عصر نحتاج فيه إلى غربلة وافية لجميع الألفاظ التي لهجنا بها زمنا في مطلع نهضتنا الحديثة، ومنها ألفاظ الضروريات والكماليات، وتقديم الأهم على المهم والمفاضلة بين العلوم والفنون، وسائر هذه المحفوظات التي خلت من المدلول لكثرة تكرارها، واكتفاء الآذان بسماعها دون التفكير فيها.
فمن الواجب «أولا» أن نفرق بين الفرد والأمة فيما هو من الشئون الضرورية، وما هو من الشئون الكمالية.
فالفرد لا يشترط فيه أن يستوفي جميع المزايا الإنسانية والملكات الحية، وليس من اللازم ولا من المستطاع أن يكون قويا وذكيا وجميلا وعالما وشاعرا وصانعا، وغنيا وسائسا زعيما ومفكرا مقتدى به وإماما متبعا في مطالب الحياة كافة.
ولكن إذا اجتمع عشرون مليون فرد في قطر واحد، فمن الضروري - وليس من الكمالي - أن تتوافر بينهم جميع المزايا الإنسانية، والملكات الحية التي تتفرق في الأفراد، وإلا كان النقص دليلا على مسخ ذريع في التركيب، وعجز شائع في عناصر الطباع، ويستوي هنا أن يكون الناقص لعبا أو جدا، وفنا أو علما، وخلقا أو رأيا، فإنما المهم أن الملايين العشرين يتسعون لكل مزية عرفت في بني الإنسان، وإلا كانوا ناقصين في الضروريات للأمة، وإن كانت معدودة بالقياس إلى الفرد من الكماليات والنوافل.
ومن الواجب «ثانيا» أن نقلع عن تقويم المطالب القومية بمقدار الحاجة إليها والاستغناء عنها، فإن ذلك تقويم غير صالح وغير صحيح.
فنحن نستطيع أن نعيش بغير ملكة النظر، وبغير ملكة السمع أو الكلام سبعين سنة دون أن نهلك من جراء ذلك.
ولكننا لا نستطيع أن نعيش بغير الرغيف وما إليه سبعين سنة ولا سبعين شهرا ولا سبعين يوما إلا هلكنا هلاكا لا ريب فيه؛ ولم يقل أحد من أجل ذلك: إن الرغيف أغلى من البصر، وإن ملكات الحس لا تستحق المبالاة كما يستحقها الطعام والشراب.
وندع تقويم الفكر إلى تقويم السوق، فإنا واجدون أن الرغيف أرخص من الكتاب، وأن التمثال أغلى من الكساء، وأن الحلية أقوم من الآنية الضرورية، وأن قيمة الشيء لا تتعلق بمقدار الحاجة إليه والاستغناء عنه، بل بمقدار ما نكون عليه إذا حصلناه، فنحن إذا حصلنا الرغيف فأقصى ما نبلغه في تحصيله أن نتساوى وسائر الأحياء في إشباع الجسد، وصيانة الوظائف الحيوانية، ونحن إذا حصلنا الفنون الجميلة فما نحن بأحياء وحسب ، ولا بأناسي وحسب، ولا بأفراد وحسب؛ بل نحن أناسي ممتازون ونعيش في أمة ممتازة، تحس ما حولها وتحسن التعبير عن إحساسها.
إن الضروريات توكلنا بالأدنى فالأدنى من مراتب الحياة، أما الذي يرفعنا إلى الأوج من طبقات الإنسان، فهو ما نسميه النوافل والكماليات، أو هو ما نستغني عنه ونعيش!
ولكن كيف نعيش؟
هذا هو موضع السؤال الصحيح، فإن كنا لا نبغي إلا أن نعيش كما تعيش الأحياء كافة، فحسبنا الضروريات المزعومة إلى حين، حسبنا الخبز حتى يجيئنا من ينزع منا الخبز أيضا، ونحن لا نقدر على دفاعه، ولا نطيق غير الخضوع له والصبر على بلائه.
وإن كنا نبغي أن نعيش «أكمل» العيش فلا غنى إذن عن الكماليات لبلوغ الكمال، ولا معدى إذن عن اعتبار الكماليات من ألزم الضروريات.
ومن الواجب «ثالثا» أن نذكر ما هو «العلم» الذي يفوقنا به الغربيون قبل أن نعقد المقارنة بين العلوم والفنون.
فالغربيون لا يفوقوننا بالعلم «المصنوع»، أو علم الطيارات والسيارات والسفن والدبابات والمناسج والمنسوجات.
كلا لا يفوقنا الغربيون بهذا، فإن الشرقي ليحذق صناعة الطيارة إذا رآها كما يحذقها الغربي الماهر في عمله، ولعله يبذه ويسبقه في الوقت والبراعة.
إنما يفوقنا الغربيون بالعلم الملحوظ لا بالعلم المصنوع: يفوقوننا بعلم الملاحظة والابتكار والاختراع؛ يفوقوننا بالعلم الذي يحتاج إلى عين لا تفوتها الرؤية، وبديهة لا يفوتها الإدراك، وخيال لا يفوته تركيب الصغائر، وضم الأجزاء إلى الأجزاء حتى يتألف منها المصنوع الجديد.
وما هذا الذي يفوقوننا به غير ملكة الحس والتخيل التي يترجمها المصور تمثالا والموسيقي لحنا، والشاعر قصيدا، والمخترع صناعة حديثة؟ ما هو غير أن نحس ما حولنا، ونقرن بين إحساس وإحساس حتى نستخرج منها جميعا صورة كاملة في عالم العلم، أو في عالم الفن أو في عالم التجارة؟
فليست المقارنة بين العلم والفن مقارنة بين طيارة تنفع في التجارة والحرب وتمثال لا ينفع لغير الزينة، بل هي مقارنة بين ملكة مستنبط لا تتم بغيره الحياة، وملكة مستنبط تتم بغيره الحياة!
وإذا فقدنا الفنون الجميلة فليس كل ما نفقده إذن هو تمثال الرخام الذي لا يصلح لغير الزينة، بل نحن فاقدون جزءا من حياتنا وجزءا من العلاقة بيننا وبين الدنيا، وعائشون عيشة الممسوخ الأبتر المحجوب عن جوانب دنياه.
إن الرجل البصير يرى الحجر كما يرى الجوهرة، ولكنه إذا عجز عن رؤية الحجر وهو أمامه، فليس الحجر وحده بالمفقود في نظره، بل المفقود كل شيء يتراءى لعينيه.
لقد حيينا في خدمة غيرنا عصورا طوالا حتى أوشكنا إذا قيل لنا: «اشعروا بالحياة.» أن نطلب أجرا على حياتنا.
فالرجل الذي يسأل: ما فائدة الفنون الجميلة؟ هو كالرجل الذي يسأل: ما فائدة العين؟ وما فائدة الأذن؟ وما فائدة الشعور؟ وما فائدة الحياة؟
وإن الإنسان لينظر إلى الروضة ولا يبسط يديه بعدها إلى أحد يعطيه أجرا على ما رآه، فلماذا يحس الجمال وهو يسأل عن فائدة الإحساس؟ ولماذا يعبر عن الجمال وهو يسأل عن فائدة التعبير؟ ولماذا يقتني التمثال وهو يسأل لماذا أقتنيه؟ ولماذا يسمع الغناء وهو يسأل لماذا أصغي إليه؟
إنه ينبغي أن يصنع ذلك لأنه يحس؛ وإنه يحس لأنه يحيا، فمن من يا ترى يريد أجرا على الحياة؟! إن كان عبدا فمن سيده فليطلب أجره لو كان سيد يغنى بتهذيب عبيده؛ وإن كان هو سيدا فهو مالك حياته، وكفى أنه يحيا تعليلا لكل عمل وترغيبا في كل مطلب وتقويما كل عزيز نفيس. •••
ولقد يخطئ بعض الفلاسفة المصلحين في تقويم الفنون، فيستكثرون ما أنفقت عليها الدول والملوك والسروات من مال وفير وجهد عنيف، كذلك أخطأ تولستوي في كتابه عن الفن الجميل، وهو نفسه قد أنفق عمرا مديدا في خدمة الفن الجميل.
على أن خطأهم قريب المأخذ سهل المراجعة من ناحية الحساب، إذ ليس القياس في هذا الصدد أن ننظر إلى مدينة مثل «هليوود»، كم تنفق من الملايين على الروايات والممثلين! وإنما القياس أن ننظر إلى مدن العالم كم عددها بالقياس إلى «هليوود» وحدها، أو كل مدينة جرت على مجراها.
وليس القياس أن ننظر إلى الموسر كم يبذل من الألوف في تمثال واحد ، وإنما القياس أن ننظر إليه وإلى كل فرد كم ينفق على خبزه وكسائه وسكنه وراحته، وكم ينفق على الفنون الجميلة التي يهواها من تماثيل وأغان وأشعار؟ ومتى نظرنا هذه النظرة علمنا أن الكماليات لا تجور على الضروريات، وأن قياس النفقات على ما يسمى بالكماليات والنفقات على ما يسمى بالضروريات أقل من قياس الآحاد إلى المئات.
إلا أننا نعود فنقول: إن الفنون الجميلة ضروريات في الأمم، وإن عدت نوافل في آحاد الناس، وإنها ضروريات لمن ينشد «العيش الأكمل» ولا يقنع بكل عيش، وإنها ضروريات لمن يسأل: كيف نسود؟ وإن كانت هباء عند من يسأل: كيف نعيش؟ وأحرى به أن يسأل: كيف نموت؟ فعيش هذا وموته سواء.
الفصل الثامن عشر
اللعب
قلتم في مقالكم الجميل «الحياة جميلة»: ... ولكن جمالها يقتضي أن يكون لنا زعماء للهو يصححون إدراكنا للحياة، ويرهفون أذواقنا للجمال، ويهيئون قلوبنا للسرور، ويشغلون أوقات فراغنا بالمسابقات الرياضية، والمهرجانات الوطنية، والسياحات النهرية، والملاهي الفنية، والمواكب الشعبية، وليس أقدر على هذه الزعامة اليوم من وزارة الشئون الاجتماعية.
كلام صادق.
وربما كان أرفع من تقريظه بوصف الصدق تقريظه بوصف الجمال، فليس كل صادق بجميل.
لكن كم منا نحن المشارقة، يا أخي، يؤمن معك بحاجة اللهو إلى زعامة، وحاجة الأمة إلى لهو؟
وكم منهم يؤمن معك بأن زعامة اللهو واللعب لها من الشرف والمنفعة كفاء ما للزعامات في الجد، أو في الأمور التي تتراءى صبغة الجد عليها؟
أقل من القليل.
أقل من القليل مع هذه الوقائع الناطقة التي تتوالى عليهم كل يوم بفضل الأمم، التي تحسن اللهو واللعب على الأمم التي تتكلف التزمت والوقار.
وأقل من القليل مع تلك الشواهد التاريخية، التي ليس يعمى عنها ذو بصيرة تشهد في الدنيا شيئا من الأشياء.
فما عرف التاريخ قط أمة أحسنت الجد ولم تحسن اللهو واللعب.
وما عرف التاريخ قط أمة من أمم القوة والسيادة لم تكن لها ألعاب، ولم يكن لها زعماء في هذا المضمار.
وناهيك بالرومان وملاعبهم في كل مدينة وضعوا حجرا في بنائها .
وباليونان ومحافلهم القومية التي كانت تتعاقب كل عام أو بضعة أعوام.
وبالفرس ومواكب الكرة والصولجان، والعرب وميادين الفروسية ومنازه الصيد والقنص، وما اقتبسوه من سائر الأمم والدولات حيثما ارتفع لهم عرش واستقرت لهم إمامة.
أما في التاريخ الحديث فيوشك أن يكون السبق في مضمار اللعب قرينا بالسبق في مضمار السيادة، ويصدق من يقول: إن بريطانيا العظمى تفردت بالسلطان العالمي يوم تفردت بالسبق في ألعابها، وشوركت في ذلك السلطان يوم شوركت في تلك الألعاب.
فاللعب هو فيض الحياة.
ولن تكون سيادة بغير حياة أولا ... ثم فيض في الحياة بعد ذاك. •••
لا يلعب الإنسان وهو عليل.
ولا يلعب وهو محسور مغلوب.
ولا يلعب وهو مسلوب المشيئة.
ولكنه يلعب حين يصح، وحين يفرح، وحين يملك زمامه، فيشاء ويفعل ما يشاء.
فاللعب والحياة الفائضة صنوان، والسيادة والحياة الفائضة لا تفترقان. •••
لكنهم ضعفوا في الشرق فلم يفقهوا لغة الحياة، ولم يلحنوا ما تقول حين تتكلم بكل لسان.
رأوا الطفل يلعب وهو قليل العقل.
ورأوا الشيخ يتجنب اللعب وهو كثير العقل أو كثير الاختبار، فحسبوا أن اللعب ونقصان العقل متلازمان، وأن الوجوم من اللعب ورجاحة العقل مترادفان.
فأخطئوا.
أخطئوا في الفهم كما أخطئوا في الشعور.
فما لعب الطفل لأنه أقل من الشيخ عقلا، ولكنه لعب لأنه أوفر نصيبا من جدة الحياة.
وما تزمت الشيخ لأنه أعقل من الطفل، ولكنه تزمت لأنه أعجز منه وأدنى إلى الموت.
ولو اجتمعت للشيخ حكمة السن وجدة الطفولة لما منعته الحكمة أن يلعب ويلهو، ولعلمته بعد ذلك كيف يفتن في لعبه ويزيد في لهوه، ويبز فيهما الأطفال والشبان. •••
ورأوا المجنون يلعب والعاقل لا يعلب مثله، فجزموا باتصال الجنون واللعب، كما جزموا باتصال العقل والسكون.
أخطئوا.
أخطئوا في الفهم كما أخطئوا في الشعور.
لأن المجنون يلعب من فرط الطلاقة، لا من ذهاب لبه واختلاط فكره.
وآية ذلك أن بعض المجانين يفقدون اللب والصواب ولا يلعبون، بل ينوحون ويتخبطون ويبتئسون؛ لأن جنونهم يسلمهم للخوف والفزع، ولا يسلمهم للطلاقة والمراح.
فهل يقال: إنهم إذن أعقل من العقلاء الذين يلعبون حينا بعد حين؟
كلا، بل يقال: إن الطلاقة تلازم اللعب في كل حين ... أما الجنون واللعب فلا يتلازمان. •••
وينبغي أن نفرق هنا بين اللعب الذي نعنيه، وبين ما يلتبس به في بعض ظواهره ودواعيه.
فاللعب الذي نعنيه غير التسلية.
واللعب الذي نعنيه غير الرياضة.
لأن الورق والنرد والشطرنج تسمى ألعابا، ولكنها لا تحتاج إلى فيض حياة ولا إلى تمام شعور، بل لعلها تحتاج إلى الكسل والراحة والفتور، وهي في لبابها شغل من الأشغال، ولكنه شغل فراغ.
ولأن الرياضة وسيلة إلى غيرها في كثير من الأحوال، فهي بين رياضة تراد للحرب، ورياضة تراد للعلاج، ورياضة تراد لاحتمال المشقات، ورياضة تراد للتجميل والتقويم.
أما اللعب الذي نعنيه فهو التعبير الملازم لحالة الفيض والإشراق، فلا يراد بعد ذلك لغرض من الأغراض.
هو شيء كلمعان الزجاج حين ينتفي عنه الكدر وينجلي عنه الغشاء.
فلا يقال: إن الزجاج يلمع لهذا الغرض أو لذاك، ولا يقال: إن اللمعان وسيلة مقصودة؛ ليبيعه البائعون ويشتريه المشترون ويصنعه الصانعون.
وكل ما يقال: إنه يلمع لأن اللمعان طبيعة فيه، وشعاع من نوره السابغ عليه.
وعلى هذا المعنى يدخل في باب اللعب ابتكار الفنان، ووحي القريحة، وتوقان النفوس إلى العظائم، وغرام العقول بالكشف عن المجهول، ولألاء الجمال في الوجوه ولألاء الجمال في الأرواح.
وعلى هذا المعنى كذلك يعم اللعب فطرة الحياة حيثما وجد الأحياء.
فهو في الطير المغرد، وفي الحوت السابح، وفي الحيوان الطافر، وفي كل ما يفيض بحياته فيندفع في ألعابه، ويوشك أن يخرج من إهابه.
أما التسلية فليست من الفطرة.
وأما الرياضة فجانب فيها من الفطرة وجانب من ابتداع الجماعة الإنسانية.
وليس اللعب الذي نعنيه تسلية ولا وسيلة اجتماع.
وإنما هو تعبير الحياة كلما امتنع الحائل بينها وبين التعبير.
وتبحث يا أخي عن زعامة للعب واللهو بين المشارقة «الموقرين»!
أعانك الله!
أتسبق الرياسة المرءوسين؟
أم يسبق المرءوسون الرئيس؟
علمهم أن يفهموا اللعب على معناه، وأنت في غنى بعد ذلك عن تعليمهم معنى الجد أو تعليمهم معنى الحياة، وفي غنى عن انتظار الزعماء وهم ما امتنعوا قط حيث وجد المستحقون لزعامة زعيم.
الفصل التاسع عشر
المبالاة
كتب إلي أديب يقول:
إن الإنسان يفيد دائما من التجارب المادية، فالأطباء مثلا يهتدون بالتجارب الماضية، ويطبقون في فنهم آخر ما يصل إليه العلم؛ ومن ثم كان التقدم الملحوظ في الطب وسائر العلوم والفنون والآداب، فلماذا لا تسير الأمور كذلك في معالجة المشاكل النفسية؟ أريد أن أقول: إن الإنسان - كل إنسان - لا يريد أو لا يستطيع أن يطبق القاعدة السابقة على مشاكله النفسية، فمثلا حدثنا الكثير من الفلاسفة والكتاب عما انتابهم من أزمات منها ما أخافهم أو أيأسهم أو آلمهم، ثم أردفوا ذلك بأن وضعوا تحت أعيننا تجاربهم، وتجاوزهم هذا الطور إلى طور آخر ... وعندنا مثل أقرب هو صديقكم المازني الذي كتب كثيرا مصورا ما كان يلح عليه في شبابه من يأس وخوف، محاولا أن يقنعنا أن كل ذلك كان عبثا لا طائل تحته، وأن الإنسان يستطيع أن يعيش دون أن يكون بحاجة إلى شيء من ذلك ... فلماذا لا يعتبر الشباب بقول المازني، فيأخذ الحياة من حيث انتهى، ويقضي شبابه في أنس وراحة وسعادة؟ لماذا يأبى كل امرئ إلا أن ينهج في حياته على طريقته الخاصة، فيقبل على ما يسلمه للخوف والشقاء، ويعج في الألم واليأس؟
وأريد أن أقول أيضا: إذا قيض للإنسان أن ينتفع بتجارب غيره النفسية على النحو الذي ينتفع به في التجارب المادية، أيكون هذا رقيا وازدهارا، أم عندئذ تنتفي الحياة؟
وبعد إسهاب في هذا المعنى يقول الأديب: أرجو أن يتيح لنا الأستاذ ساعة نهرب فيها من حديث السياسة والحرب، ونأنس به فيها إلى ظل الأدب الوريف. •••
ويحضرني في الإجابة عن هذه الأسئلة قول الكاتب الإنجليزي الحديث ستيفنسن
Stevenson : إننا حين نقول للشاب ساخرين: هكذا أيضا كنا نفهم في شبابنا، فنحن نؤيده ولا نفنده بهذه الحجة!
وهو قول حق نافذ إلى اللباب؛ لأننا ندل به على أن هذا الفهم الذي ننقده ، ونحاول أن نثني الشباب عنه إنما هو من طبيعة الشباب التي لا محيد عنها، ولا استثناء فيها، فكل شاب إذن خليق أن يفهم الأمور كما فهمها الشاب الذي نلومه ونهديه إلى خطئه!
وهكذا يسألنا الأديب: لماذا لا يعتبر الشاب بقول صديقنا المازني، فيأخذ الحياة من حيث انتهى ويقضي شبابه في أمن وراحة وسعادة؟!
والجواب أن صديقنا المازني نفسه لو عاد إلى الشباب لما اعتبر هذا الاعتبار، ولا سلك في الحياة إلا المسلك الذي عدل عنه بعد حين.
وخيرا تصنع الحياة، إذ تجعل كل حي مستقلا بحياته عن التجارب النفسية التي جربها سابقوه، فليس من الحياة أن يعيش الإنسان عالة على شعور غيره، وليس هذا بالمستطاع لو حسن أن يكون.
وفرق شاسع بين المعلومات والتجارب النفسية في هذا المجال، فإنني لا أستطيع أن أعرف وحدي جميع المعارف الإنسانية التي عرفها السابقون، وأضاف إليها اللاحقون ما أضافوه، ولكني أستطيع أن أجرب وحدي ما جربه كل فرد وحده، ولا خسارة علي في ذاك!
لا بل الخسارة كل الخسارة في تركي إياه يشعر «بالنيابة» عني، وإلغائي لشعوري أنا معتمدا على ما جربه واهتدى إليه، أما المعلومات فيكفي أن تنتقل إلي ليصبح نصيبي منها ونصيب من عرفوها جميعا على قدر سواء، فلا خسارة في انتقالها من جيل إلى جيل.
وينبغي أن نذكر هنا أن التجربة ليست مسألة فهم، ولكنها مسألة رياضة.
فالحصان الوحشي الذي تربطه بالقيود وتقيم من حوله العوائق؛ لتمنع جماحه وتسلس قياده لا يثوب إلا السلاسة لأنه فهم أنها خير من الجماح، أو وازن بينهما موازنة فكرية، فاختار أفضلهما في الرأي والمنطق، ولكنه «ريض» على حالة لا يستطيع غيرها، ولو فهم أن غيرها هو الصواب.
ولو كانت التجارب مسألة فهم لما استعصى خطبها على أحد، فإن حكمة الحكماء الذين قالوا: إن «الصبر مفتاح الفرج.» تفهم لفظا ومعنى في لمحة عين، ولكن النفس لا تراض عليها قبل سنين حافلة بالحوادث والدروس، وقد تمضي السنون ولا تبلغ بها مبلغ الرياضة عن تلك الكلمات الثلاث!
إن الأقدمين قد أكلوا فشبعوا، فهل نشبع نحن لأن الأقدمين قد عرفوا الشبع من قبلنا دون أن نأكل كما أكلوا؟
إذا جاز هذا جاز مثله أن نشبع نحن من الحوادث والتجارب دون أن «نأكلها» كما أكلها الذين من قبلنا.
ولكنهما خطتان بمنزلة واحدة من البعد والاستحالة: فألوف الألوف لا يشبعونك بما تناولوا من غذاء، وألوف الألوف لا يعطونك التجربة التي تناولوها من حوادث الأيام، وإنما الشبع شيء لا تناله إلا بما تعمله وظائف جسمك، وكذلك التجربة شيء لا تناله إلا بما تعمله وظائف نفسك، ولو رأيت أمامك كل المجربين، وسمعت وصف التجارب من كل لسان مبين.
والرجل بمفرده قد يجرب الحالة الواحدة على أنماط وألوان لا يحيط بها الإحصاء، فيخونه عشرة أصدقاء ولا تحذره إحدى هذه الخيانات أن يستهدف لغيرها؛ لأنها مختلفة المنحى والنتيجة.
ويحب عشر نساء ولا تعطيه إحداهن ما تعطيه الأخريات، ويسافر إلى القطر الواحد مرات، ثم يعود من كل مرة بتجربة جديدة لا تنسخ ما قبلها، ولا تنسخها التي تليها.
وهذا معنى التجربة، وهذا معنى الحياة.
والأصل في الحياة المبالاة بالحوادث والمؤثرات؛ لأن الكائن الحي كجهاز التلقي والإرسال الذي لا ينعزل مما حوله، ولا تنقطع الصلات بين العالم الخارجي وبينه، فإذا انتهى به الأمر إلى تجاهل الحوادث وقلة الاكتراث لها، فتلك ضرورة طارئة تراض عليها النفس بعد معالجتها وتكرير علاجها، ثم يكون الاستقرار عليها بمثابة الصدأ الذي يمنع الاتصال، فلا تلق ولا إرسال، أو يكون على أحسنه بمثابة رفع المفتاح وتعطيل الأداء والاستقبال.
وربما فهم ذلك في بعض مراحل الحياة التالية، أما الابتداء به في المراحل الأولى فغير مفهوم ولا معهود، إلا أن يكون عن نقص في التكوين وعجز عن التجربة، ما يراد منها وما لا يراد.
قيل: إن السعيد من وعظ بغيره ... ولكن أين هو السعيد؟ وما جدواه من السعادة إن كان اتعاظه «شعورا» غير أصيل فيه؟! أما إن اتعظ أصيلا في شعوره فهو هنا مبتدئ وليس بتابع، وهو يجتنب الخطر؛ لأنه أحسه واختبر منه ما يدعوه إلى اتقائه، فليس هو بعالة على تجربة غيره، وليست تجربة غيره إلا تذكيرا لناس أو تنبيها لغافل.
ولنتخيل عالما يستريح الناس فيه من «المبالاة»، فماذا يبقى لهم من الحياة؟
ماذا يبقى من الحياة لمن لا يبالون الخوف والرجاء، ولا يحنون إلى ماض، ولا يتطلعون إلى غد ولا يحفلون بحاضر؟
العريان في القافلة مرتاح.
وهذا عري في قافلة الحياة!
لا شك أن التجارب تعلمنا كثيرا أن العناء لا يفيد، ولكن من هذا الذي يعاني باختياره؟ ومن هذا الذي يعاني لفائدة يلتمسها من عنائه؟
إنما يعاني الإنسان على حسب ما عنده من طاقة العناء، لا على حسب ما يستفيده من العناء.
ولهذا يوجد بين الناس آحاد معدودون يطلبون العظائم، ويبلغونها ولا يقنعون بما بلغوه منها، وينظر إليهم ملايين الملايين فلا يتحركون لمثل ما ابتغاه أولئك الآحاد المعدودون؛ لأن المحرك هنا هو الطاقة الموجودة، وليس هو الفائدة التي لم توجد بعد ولا يضمن وجودها.
إن كرة المطاط تنضرب إلى الأرض مائة مرة، ولا تزال تعلو وتسفل في أثر كل ضربة، ثم تنضرب بعد هذا فتقع حيث هي لا علو ولا استفال ... ألأنها علمت أن العلو لا يفيد؟ كلا؛ بل لأنها أضاعت مرونتها التي تعلو بها وتهبط ... فمن الذي يطلب من الكرات الجديدة أن تعتبر بمصير هذه الكرة «المجربة»، فتقع حيث هي وتضيع من مرونتها باختبارها ما ضاع «بالتجربة» على غير اختيار؟
ولست أقول للكرة التي سكنت إلى موضعها: غالطي الحقيقة وعاودي الوثوب، وقد راضتك الحوادث على اجتنابه! ولكني أقول للكرة الجديدة: إياك أن تغالطي الحقيقة وأن تسكني لأن غيرك قد سكن من قبلك، بل اسكني حين يوائمك السكون ولا تقدرين على غيره؛ واطلعي وانزلي ما دامت لك طاقة بالطلوع والنزول.
فقلة المبالاة لا قيمة لها إن لم تأت بعد مبالاة؛ لأنها تكون يومئذ مرضا أو قصورا لا يغبط عليه، ولا بد إذن من مبالاة ولو قصيرة الأمد قبل أن تصبح قلة المبالاة تجربة نفسية ورياضة خلقية، وليس شرطا مع هذا أن تكون تلك التجربة مما يحمد على كل حال ، وأن تكون تلك الرياضة مما يقتدي به كل إنسان.
وغاية ما يرجى من انتفاع بتجارب من مضى أن نعيد تجربتها في وقت أقصر، وعلى ثقة أوضح وأبصر ... ولم؟ ليتسع العمر لتجارب أكثر مما جربه الأولون، لا لينقص نصيبه من التجربة اكتفاء بما جربوه.
فتكرر الأجيال عبث إذا كان معناه أن جيلا واحدا يعالج مشكلات الحياة، ثم تعفى بقية الأجيال من علاجها، وتكرر الأجيال معقول إذا كان لكل جيل نصيبه من عبء الحياة وعليه مزيد جديد.
الفصل العشرون
مسألة الفقر
«سألني الأستاذ زكي مبارك عن رأيي في الخلاف القائم على مسألة الفقر بينه وبين الأساتذة: توفيق الحكيم، سلامة موسى، فكري أباظة وبعض حضرات القراء.» •••
وخلاصة هذا الخلاف أن الدكتور زكي مبارك يرجح أن الفقر عقوبة مستحقة على شيء من القصور، وأن مخالفيه يرجحون أن الفقر غلطة اجتماعية تصيب الناس من خلل في «المجتمع» أكثر من إصابتهم لتقصير في الجهود.
وعندنا نحن أن الفقر داء كسائر الأدواء، يصيب المريض به من إهماله كما يصيبه من ضعفه الموروث، ويصيبه من الحيطة إذا جرى مجرى الوباء الذي تنتشر عدواه، كما يصيبه من ترك الحيطة في هذه الحال وفي غيرها من الأحوال.
وليس في وسع أحد أن يزعم أن ميزان المجتمع سليم من الخلل في توزيع الأرزاق، أو تقدير المكافآت على حسب الجهود، ففي كل أمة أغنياء لا يستحقون الغنى وفقراء لا يستحقون الفقر، وإن تفاوت الخلل وتفاوت الجور، وتفاوت السعي في الإصلاح.
ولست أنا ممن ينكرون فضل البراعة المالية؛ لأنها في الحقيقة براعة لازمة لتأسيس المرافق الاجتماعية والأخلاق القومية، وتنظيم العلاقات، واستثارة الهمم، وتوزيع الأعمال التي لا يستبحر بغيرها عمران.
وقد قلت منذ نحو عشرين سنة حين عرضت للبحث فيما يعاب من أخلاق المرأة خطأ وجهلا بالبواعث النفسية: «... إننا قد نرى للمرأة سببا غير سائر الأسباب التي تغري بحب المال وإعظام أصحابه، نرى أن كسب المال كان ولا يزال أسهل مسبار لاختبار قوة الرجل وحيلته، وأدعى الظواهر إلى اجتذاب القلوب والأنظار، واجتلاب الإعجاب والإكبار ، فقد كان أغنى الرجال في القرون الأولى أقدرهم على الاستلاب، وأجرأهم على الغارات وأحماهم أنفا وأعزهم جارا، فكان الغنى قرين الشجاعة والقوة والحمية، وعنوانا على شمائل الرجولة المحببة إلى النساء، أو التي يجب أن تكون محببة إليهن، ثم تقدم الزمان فصار أغنى الرجال أصبرهم على احتمال المشاق، وتجشم الأخطار، والتمرس بأهوال السفر وطول الاغتراب، وأقدرهم على ضبط النفس وحسن التدبير، فكان الغنى في هذا العصر قرين الشجاعة أيضا وقوة الإرادة، وعلو الهمة وصعوبة المراس، ثم تقدم الزمان فصار أغنى الرجال أبعدهم نظرا، وأوسعهم حيلة وأكيسهم خلقا، وأصلبهم على المثابرة وأجلدهم على مباشرة الحياة ومعاملة الناس، فكان الغنى في هذا العصر قرين الثبات والنشاط، ومتانة الخلق وجودة النظر في الأمور، وهكذا تجد اكتساب المال الكثير في كل عصر دليلا على فضل الرجل، وعلاقة توحي إلى نفس المرأة ما يعين غريزتها على اختيار أجدر الرجال بحبها، وأصلح الآباء لأبنائها، فلا تثريب عليها أن تختبر مزايا الرجل بهذا المسبار السهل القريب، ولا لوم عليها أن تريد ثراء المال، ولا تعدل به الفقر والفاقة ...»
فنحن لا نبخس البراعة المالية حقها، ولا نغض من نفعها في باب الخدمة الاجتماعية، ولا من دلالتها على الخلق والكفاءة العقلية، ولكننا مطالبون في هذا العصر الحديث بإنقاذ المجتمع من الخلل الشديد، الذي ألم بموازين الاقتصاد ومعايير الأرزاق حتى أصبح اقتناء الثروات ميسرا للمحتال والدجال، الذي لا يعطي الناس بديلا نافعا يساوي الربح الغزير الذي يتدفق عليه، ولعلنا نتلطف في الأمر حين نقول: إنه لا يعطي الناس بديلا نافعا، وهو في الواقع يضرهم بمقدار ما يستفيد منهم، ويحرمهم بمقدار ما يغدقون عليه طائعين أو كارهين.
ومثل من هذه الأمثال أولئك السماسرة الآثمون الذين يتواطئون على إشاعة الأراجيف، وإقلاق الأسواق، واللعب بأثمان الأسناد والأوراق؛ ليسرقوا في ساعات ما تنقضي الأعمار دون الوصول إليه بالسعي الحلال، أو بالسرقة على طريقة اللصوص الأقدمين.
ومثل آخر من هذه الأمثال تلك الصفقات التي تنعقد في الهواء بغير مبادلة صحيحة في البيع والشراء، وإنما هي استغلال لثقة الناس التي كسبها أولئك المستغلون بحكم مراكزهم الاجتماعية أو المالية، لا بحكم الكفاءة والجهد وتثمير المال الحلال.
وإذا ارتفعنا شيئا فشيئا من هذه الهوة الغائرة في قرارة الإجرام، فقد نصل إلى الكفاءات القيمة الي تعطي الناس ما ينفعهم ويسرهم، ولكنها تتقاضاهم جزاء لهم أضعاف حقهم وأضعاف ما يحتاجون إليه لموالاة النفع والسرور.
فإخراج رواية على اللوحة البيضاء عمل قد ينفع العقول، ويدخل السرور على القلوب، ولكن الدنيا تسرف جد الإسراف حين تشتري نفع الرواية وسرورها بمئات الألوف من الجنيهات، وهي تضن بعشر معشار هذا على المآثر الإنسانية، التي يتصل بها نفع أقوام وسرور أجيال.
وأقبح من هذا أن تكون الألوف المؤلفة نصيب الرواية الماجنة العقيمة، ولا تحظى ببعض هذا النصيب أجود الروايات وأحفلها بالمعارف والمتع والعظات، أو يكون الجزاء الوافر حظ الممثل الذي لا يستحي أن يعرض رجولته للفضوليات من المتفرجات، ولا يكتب هذا الحظ لنوابغ الفن وأفذاذ الرجال.
هناك خلل في الميزان لا نكران له ولا مناص من إصلاحه؛ لأن الغبن فيه غبن الأمم، والبلاء فيه بلاء الهمم؛ وليس غبن فقير يشكو الفاقة، أو بلاء ضعيف يطلب الرحمة والإنصاف.
ولا نطمع أن يجيء اليوم الذي يتساوى فيه العمل والجزاء كل المساواة، ويبطل فيه الخلل بطلانا يمنع الحيف، ويحقق العدل في كل تقدير؛ فهذا مستحيل، ولعله غير محمود في عقباه؛ لأن الدوافع الحيوية إذا استقامت هذه الاستقامة خيف عليها أن تفقد الاندفاع الصالح والاندفاع الذميم على السواء.
لكننا إذا استبعدنا الكمال المطلق، فالنقص المطبق أولى منه بالإبعاد، وبين المثل الأعلى والمثل الأدنى خطوات لا تعيا بها قدرة الإنسان، ولا يجمل به أن يقعد عنها مكتوف اليدين مقيد الرجلين، وحاجة مصر إلى الجهد في هذا الباب أعظم من حاجة بلاد كثيرات يعلو فيها صراخ لا يسمع له صدى في هذه البلاد.
وقوام الإصلاح في مسألة الفقر على ما نرى أن نذكر الحقائق كلها، ولا نكتفي بجانب واحد منها دون سائر جوانبها.
أو الخير في هذه المسألة أن نقرن كل حقيقة جامحة بحقيقة كابحة تساويها، وتكف من غربها.
فأول الحقائق في مسألة الفقر أن حياة الإنسان كائنا ما كان أنفس من القوت والكساء ومطالب المعيشة، وأنه ما من مخلوق آدمي يعجز عن تقديم خدمة تكافئ ثمن قوته وكسائه ومطالب عيشه، فإذا هلك إنسان جوعا أو عريا ففي تقسيم الأعمال نقص يستدركه المصلحون والمتكفلون بسياسة الاجتماع.
وبإزاء هذه الحقيقة الظاهرة حقيقة أخرى لا تقل عنها ظهورا وجدارة بطول العناية والتدبر، وهي أن الأمان، كل الأمان خطر على الهمم والأذهان، فإن كثيرا من الجهد النافع مبعثه طلب الأمان في المستقبل وشعور النفس بالحاجة إليه في أخريات الحياة، فإذا اطمأن إليه كل حي من بداية حياته فترت حركته، وغلب عليه حب الاستقرار ومني العالم بخطر من جراء ذلك هو أخطر عليه من الإجحاف في تقسيم بعض الأعمال، وتوزيع بعض الأرزاق.
وهناك حقيقة لا مراء فيها، وهي أن المغامرين المقتحمين ينالون أحيانا فوق ما يستحقون من جزاء، ويأخذون أحيانا بعض ما يستحقه المحرومون الذين لا وزر عليهم في هذا الحرمان.
أما الحقيقة التي بإزائها فهي أن المغامرين المقتحمين ينكبون أحيانا في الأرواح فضلا عن نكبتهم في الأرزاق والأموال، وأنهم لا ينطلقون مع طبائعهم القوية في عالم تشتد قيوده وتتساوى نتائجه ولا تتسع فيه الهوة بين الأمل العظيم في نجاح كبير، وبين الإقدام العظيم على خيبة قاصمة للظهور، وأن خسارة العنصر المغامر في أحداث الدنيا وتواريخها؛ لتضارع خسارة العنصر المسالم الوديع.
وهناك حقيقة من هذه الحقائق فحواها أن الغنى ليس بجريمة، وأن الفقر ليس بفضيلة، فلن يقول أحد به مسكة عقل: إن الأغنياء يستحقون الفقر لأنهم أغنياء، وإن الفقراء يستحقون الغنى لأنهم فقراء، وإن جاز أن يقال: إن الإفراط في الغنى والإفراط في الفقر ظلمان محققان.
أما الحقيقة التي بإزائها فهي أن الأمر لا يرجع هنا إلى العدل والاستحقاق، ولكنه يرجع إلى صلاح المجتمع، ولو نال فيه فريق فوق ما يكافئ عمله وجدواه، فكل عضو شاك يكلف الجسم بعض الأحيان فوق حقه، وفوق نصيبه من العمل الجدوي؛ وبغير هذا العلاج لا تستقيم صحة الأجسام.
وصحيح أن العالم مدين للعصاميين، وأن العصاميين لم يولدوا في الذروة العليا من طبقات الأمة، ولكن ليس بصحيح أن طبقة الحضيض هي صاحبة الحصة الكبرى في إنجاب العصاميين، وإنما الصحيح أنهم ينشئون وسطا بين الطبقة التي نهكتها رذائل الترف والغرور، والطبقة التي نهكتها رذائل الهوان والمسكنة. ومعظم المصلحين الذين نفعوا الفقراء لم يكونوا من ضحايا الفقر المدقع والمنبت المنحدر البالغ في الانحدار، مما يؤيد رأي القائلين: إن الفقر المدقع الذي يلازم أصحابه عقبا بعد عقب إنما هو قصور في الذهن والخلق، يحلهم حيث يحل القاصرون المتخلفون، أيا كان المجتمع الذي يعيشون فيه.
وبعد هذه الحقائق جميعها تبقى لنا حقيقة لا يطول فيها جدل المنصفين، وهي أن الفقر آفة يجب أن تزول إذا استطعنا أن نزيلها، ويجب ألا يمنعنا عن إزالتها إلا مانع واحد لا نحفل بغيره: وهو عدم الاستطاعة، ولو كان الفقراء مستحقين لما هم فيه، فلن يبحث منصف عن المريض، هل جلب المرض لنفسه بيديه، أو سيق إلى المرض مكرها عليه، إذا كانت المسألة مسألة طب وشفاء مستطاع.
الفصل الحادي والعشرون
الرحمة قوة
أصحيح ما يقال: إن الرحمة من أخلاق الضعفاء، وإنها أبعد الصفات عن الأقوياء، وإن الإنسان كلما ازداد قوة ازداد قسوة؟ فهل تتفضل يا سيدي بالإجابة على سؤالي هذا؟ •••
وجوابي على سؤال الأستاذ الفاضل أن الرحمة قوة وليست بضعف؛ لأن الرحيم يعطي من فيض نفسه من يحتاجون إلى رحمة، ولا تملك النفس فيضا تعطيه إلا وهي ممتلئة تستغني عن جزء من ذخيرتها لإسعاف غيرها، وليس هذا من شيمة الضعفاء.
والرحمة كلاءة ورعاية، ومن يكلأ غيره ويرعاه فليس هو بالضعيف.
وينبغي أن نرجع إلى الطبيعة؛ لنعلم ما هو طبيعي.
ينبغي أن نرجع إلى الطبيعة لنعلم الخلق الأصيل، والخلق الذي هو عاهة طارئة أو نقص كمين.
والطبيعة تقول لنا: إن الرحمة ركن من أركانها في أداء غرض من أهم أغراضها، بل هو أهم أغراضها على الإطلاق، وهو حفظ النوع وتجديده، وتعهد الأبناء الصغار إلى يوم استغنائهم عن معونة الأولياء الكبار.
فكل والد رحيم بغير اختياره: رحيم باختيار الخالق الذي خلقه وسخره لحفظ نوعه.
وكيف يقال: إن الطبيعة تعتمد على الضعف في طلب البقاء؟ أو تعتمد على الضعف في غريزة أصيلة يوشك أن يتلاقى فيها الإنسان وسائر الأحياء، ممن صعد ولو قليلا على سلم الارتقاء؟
لو قلنا: إن القسوة عجز وليست بقوة لما أخطأنا الدليل على ذلك من طبائع الأحياء التي عهدت فيها الضراوة، وخلت طبائعها من الرحمة وما يماثلها.
فإن الوحوش المشهورة بالقسوة لا تعرف وسيلة غير البطش والضراوة لتحصيل العيش ومكافحة الأعداء، وكل بطش فهو إلى القوة الآلية أقرب منه إلى الخصال النفسية والملكات العقلية، فالفرق يسير بين صدمة الحجر وضربة الوحش من هياجه، فهي - أي القسوة - أدنى الوسائل التي لا وسيلة دونها، ثم تترقى وسائل الأحياء درجة بعد درجة حتى يكون استغناؤها عن القسوة بمقدار ارتقائها في تلك الدرجات.
ومن ثم يصح أن يقال: إن القسوة عجز وفقدان وسيلة، وإنها من البدائيات التي يوشك أن تلحق بالآلة والجماد.
فالإنسان يقسو لأنه عاجز عن الرحمة، ولا يناقض قولنا هذا قول المتنبي:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد
ذا عفة فلعلة لا يظلم
فإن بيت المتنبي معناه أن الظلم أيسر الوسائل وأقربها: أيسرها لمن لا يتيسر له ما هو أصعب منها، وهذا هو بعينه ما نذهب إليه حين نقول: إن القادر على الصعب لا يهبط إلى ما دونه، وإن القادر على الرحمة مستغن عن التقتيل والتخويف.
إن الماء لا يحتاج إلى تدبير وإتقان لينحدر من الأعلى إلى الأسفل.
ذلك هو أيسر الطرق أمامه وأقربها إليه؛ ولكنه محتاج إلى التدبير والإتقان ليصعد من الأسفل إلى الأعلى.
فالظلم كانحدار الماء، قريب؛ والرحمة كارتفاع الماء، صعب، ولكنه أدل على الاقتدار. •••
ومن آيات الطبيعة التي نستفيدها منها في هذا المعنى أن الرحمة تزداد في الأحياء، كلما ازداد الشبه بينها وبين الإنسان في الغريزة الاجتماعية.
فالرحمة معروفة بين الحيوانات الاجتماعية في العلاقة بين والدها ومولودها، وفي العلاقات بين الفرد منها وسائر أفرادها، وفي العلاقات بينها وبين الآدميين.
ومؤدى هذا أن الرحمة وغريزة الاجتماع متلازمتان، فكيف تكون مرضا وهي أصل من أصول الأخلاق الاجتماعية؟ وكيف يتركب في البنية ما هو مرض، أو انحراف مناقض لأساس التكوين؟
على أننا خلقاء أن نميز بين الرحمة وبين الاضطراب الجسدي، الذي يعجز صاحبه عن احتمال المؤلمات والمشقات، فيخور ويبكي حين يرى ما يؤلم أو يتعرض لما يشق عليه، وليس من الضروري مع هذا أن يرحم المتألم أو يعينه أو ينفعه بعطفه، وإنما هو عجز عن احتمال الآلام المشهورة كالعجز عن احتمال الآلام المشهودة، كالعجز عن احتمال الهواء والاضطلاع بالمتاعب، وبين الرحمة وهذا النقص بون بعيد.
إن المرأة الهستيرية التي يغشى عليها حين ترى جريحا يتألم، ليست بأرحم لذلك الجريح من الطبيب الذي يفتح جراحه ويزيده ألما على ألمه.
فالذين يزعمون أن الرحمة ضعف أو مرض، إنما يلتبس عليهم الأمر بين هذه الحالة الهستيرية التي هي ضعف، وبين الرحمة التي هي قوة؛ لأنها حماية لضعف الآخرين.
وإن الرجل الذي يبطش بالضعفاء لأقوى من الضعفاء، ولكن أقوى منه وأرجل منه، وأرفع منه ذلك الرجل الذي يغلب الأقوياء؛ لينقذ الضعفاء من أيديهم، ويريهم قوة أكبر من قوتهم؛ لأنها لا تكتفي بالقسوة على الضعيف، ولا تحجم عن زجر القوي، وزجره أحوج إلى القوة وأدل على الاستغناء.
وإنما رجل الدنيا وواحدها
من لا يعول في الدنيا على رجل
نعم، وأرجل منه من يعول كل الرجال عليه، ومن يبسط جناحيه على كل من حواليه. •••
وآية أخرى من آيات الطبيعة في هذا المعنى أنك لا تجد مزدريا بالرحمة إلا وهو محتاج إلى رحمة الرحماء. «فردريك نيتشه»: رسول القسوة وأكبر الناعين على الرحمة في العصور الحديثة، قد عاش سنوات ولا سند له في الحياة غير رحمة امرأة عجوز، وهي أمه.
وروي عن الوزير ابن الزيات أنه كان يقول: «إن الرحمة خور في الطبيعة.»
فلما نكب وعذب بالتنور الذي كان يعذب به الناس، إذ به يرثي لنفسه ويستدعي الرثاء لها ، ويجري في ضعفه أمثولة لمن يسترحمون الأقوياء والضعفاء، و«لم يزل - كما جاء في الطبري - أياما في حبسه مطلقا، ثم أمر بتقييده فقيد وامتنع عن الطعام، وكان لا يذوق شيئا، وكان شديد الجزع في حبسه كثير البكاء قليل الكلام كثير التفكير ... وكان قبل موته بيومين أو ثلاثة يقول: يا محمد يا ابن عبد الملك! لم تقنعك النعمة الفره، والدار النظيفة، والكسوة الفاخرة، وأنت في عافية، حتى طلبت الوزارة! ذق ما عملت بنفسك ...»
ومن شوهد عليهم من القساة أنهم كانوا أصلب من ذلك عودا وأخشن مسا، وأقرب إلى التمرد والعتو والأنفة من الشكوى، فكثيرا ما يكون تمردهم ضربا من التخبط، أو عرضا من أعراض التشنج، أو ثورة عصبية، هي مرض لا شك فيه كمرض الخنوع والولع بالشكاية، وإن اختلف مظهرها كاختلاف النقيضين.
فالذي نراه من المشاهدات الطبيعية أن القسوة هي العجز والمرض والنقصان، وأن الرحمة هي القدرة والفضل والزيادة.
فالرحيم عنده ما يكفيه ويزيد على كفايته حتى يكفي غيره، ويتناوله بالعناية والحماية!
والقاسي عنده من القوة ما يغلب به الضعيف، فهو في الدرجة التالية من الضعف ليس دونه في مراتب القوة إلا فاقد القوة والعاجز عن كبحها.
وهذا بلا ريب غير قسوة الرحمة التي يقول فيها حكيم الشعر العربي:
وقسا ليزدجروا ومن يك حازما
فليقس أحيانا على من يرحم
فالرحيم الذي يقسو هنا لينفع بقسوته من لا تنفعهم رحمته، إنما هو أرحم وأقدر على الرحمة؛ لأن رحمته لا تغلبه ولا تقوده غير واع ولا متدبر، حتى يصنع باسم الرحمة ما هو نقيضها، أو ما هو قسوة معيبة فيما تنتهي إليه من الإيذاء.
وكفى بالرحمة أنها فتح إنساني في عالم الحياة، ترقى إليها الإنسان وحده بين المخلوقات الحية، وشابهته فيها بمقدار ما صعدت بهم الطبيعة في مرتقاه.
الفصل الثاني والعشرون
السعادة
«أرسل إلي أحد الأدباء مقالا عن السعادة، وسألني أن أروي ظمأه وأرشده إلى الحق إن كان قد حاد عن سبيله.» •••
وخلاصة مقال الأديب أن السعادة وهم ليس له وجود، وأن بعض الأشقياء مطبوعون على الشقاء، فهم به سعداء، وأن كل ما يقال عن السعادة إعادة لما قيل.
ويسألني الأديب بعد ذلك ماذا أقول؟
فلا أدري هل سأعيد قديما بما أنا قائل في هذه الصحيفة، أو أنني مسوغ هذه الإعادة بتصوير طريف!
ولكني لا أحسب الكاتب مطالبا باختراع الآراء التي لم يسبق إليها، ولا أرى عليه من غضاضة أن يبدي رأيا تقدم أصحاب الآراء بإبداء مثله، وإنما الشرط أن يصدر عن تجربة، وأن يروى عن خبرة، وأن يكون لكلامه لون من نفسه وحسه وتفكيره، ولا عليه بعد ذلك أن يتشابه ما يقول وما كان قد قيل.
والسعادة في رأيي لا استحالة فيها إلا كالاستحالة في كل مطلب من مطالب هذه الدنيا.
فأنت إذا أردت كسوة جميلة في نسجها ولونها، وتفصيلها وثمنها ومتانتها، فأنت واجدها حيث توجد الكثيرات من أمثالها.
أما إذا أردت كسوة هي المثل الأعلى الذي لا يعلى عليه، ولا يجارى في جمال النسج وجمال اللون وجمال التفصيل، وسهولة الثمن وطول البقاء، فقد أردت المستحيل؛ لأنك أردت المثل الأعلى الذي ليس له مثيل، وهو بطبيعته فوق ما ينال.
والسعادة إن أردتها سعادة لحظات أو سعادة لذات معهودات، فأنت واجدها لا محالة في وقت من الأوقات.
أما إن أردتها سعادة العمر أو سعادة في كل شيء لا نظير له، ولا انقطاع لها، فتلك هي الاستحالة التي لا تنفرد بها السعادة، ولا فرق بين تعذرها وتعذر كل مطلوب على تلك الشريطة.
فليست السعادة بوهم، وليست الكسوة بوهم، وليست اللقمة السائغة بوهم، ولكن اللقمة السائغة من رخصها وخجل بعض الناس من المقابلة بينها وبين السعادة تساوي السعادة الكبرى في استحالتها إذا أنت خرجت بها من عالم المعهود، وارتفعت بها إلى عالم الأحلام المأمول.
لأن الاستحالة من طبيعة الأحلام، وما من حلم يتحقق إلا بطلت تسميته بالحلم، وانتقل إلى المحسوسات والمدركات.
فالسعادة طبقات وأصناف: والصنف الرخيص منها موجود وموفور ومبذول، والطبقة القريبة منها على متناول الباع الطويل والباع القصير .
فإذا قيل: إن أصنافا منها لا تبذل ولا تتوافر، فكذلك الصنف الغالي من كل شيء، حتى العدس والقطن والورق والتفاح.
وإذا قيل: إن الطبقات العالية منها لا تنال أو لا تنال في كل حين، ولا ينالها كل إنسان، فكذلك كل طبقة رفيعة من كل سلعة وكل ثمرة وكل موجود.
هناك لحظات سعيدة في الحياة، فهناك إذن سعادة لا مراء.
ولكن ليس في الدنيا أناس سعداء؛ لأن السعادة الملازمة للإنسان في كل حالة وكل مطلب هي المثل الأعلى، وهي الحلم، وهي الغاية التي لا تدرك، والبغية التي لا تنال.
وما هي السعادة بعد هذا؟
هل هي من عالم السكينة أو من عالم الحركة؟ وهل السعيد من لا يتحرك، أو السعيد من لا يسكن؟
هي هذا وذاك ...!
فللسكينة سعادتها وللحركة سعادتها، ولكنهما لا تتشابهان:
سعادة السكينة رضا وارتياح خاليان من الشوق والطموح، وسعادة الحركة تقدم ونجاح خاليان من القناعة والاكتفاء.
ومن يبغ هذه لا يبغ تلك، ومن طلبهما فليطلبهما متفرقين في زمنين مختلفين؛ لأنهما لا تجتمعان.
وما لنا لا نقول: إن المثل الأدنى في التعاسة نادر كالمثل الأعلى في السعادة.
فأشقى الأشقياء وأسعد السعداء في الدنيا اثنان متكافئان متعادلان، ولعلهما لا يوجدان!
ولو خرج أحد من الرحالين ليجوب أقطار الأرض باحثا عن أشقى شقي، للزمه من الوقت والعناء قريب مما يلزمه في بحثه عن أسعد السعداء.
فلا يقل حانق على السعادة: إنها مستحيلة في هذه الدنيا؛ لأن استحالتها من جنس كل استحالة؛ ولأن يسرها من جنس كل يسر؛ ولأن الفرق بين المثل الأعلى والمثل السائر فيها كالفرق بينهما في أكلة أو لبسة أو رشفة، أو ما شئت من متع الحياة.
وهي ليست - بعد - شيئا واحدا كتلك الجوهرة المكنونة التي يحكون عنها في الأساطير، ويتخيلونها في كل يد تعثر بها على استواء، لا فارق بين يد العبد ويد السيد، ولا بين يد الجاهل ويد الخبير.
وإنما السعادة سعادات: سعادة هذا شقاوة ذاك، وسعادة إنسان في حين من الأحيان شقاوة له في غير ذلك الحين.
أتسألني عن السعادة المطلقة بالقياس إلى كل إنسان وإلى كل حين؟
تلك ليس لها وجود؛ وكذلك كل شيء مطلق من القيود والملابسات في عالم القصور والفناء. •••
ولنعلم أن اختلاف الناس في أمر السعادة إنما هو اختلاف شعور قبل أن يكون اختلافا في الرأي والنظر.
فهم يشعرون بالسعادة على اختلاف، وإن فكروا فيها على اتفاق؛ وهم يختلفون في شعورهم بين عمر وعمر، وبين حالة وحالة، كاختلافهم في كل ما يحبون وكل ما يكرهون.
وأرجع إلى نفسي، فأراني قد شعرت بالسعادة على وجوه قلما تتماثل في بضع سنوات:
في الشباب كنت أقول لها:
لا تطمعي اليوم مني
بالسعي خلف خيالك
فقد سألتك حتى
مللت طول سؤالك
وقد جهلتك لما
سحرتني بجمالك
فلا تمري ببالي
ولا أمر ببالك
أشقى الأنام أسير
معلق بحبالك
تلك دالة الشباب ... يحسب أن السعادة خليقة أن تسعى إليه، وأنه إذا أومأ إليها بيده فلم تبادر إلى لقائه، فقد أسرفت عليه في الدلال، واستوجبت منه الإعراض والملال.
وبعد حين كنت أحسب السعادة في النسيان فأقول:
لذة النفس في السلافة والشعر
وفي الحب والكرى والغناء
خير ما في الحياة يا قلب ما أن
ساك ذكر الحياة والأحياء
وتلك هي مرحلة التجربة الأولى في انتظار التجربة الثانية، فأما التجربة الأولى فهي تجربة الفتور الذي يعقب الإلحاح الباكر: إلحاح الشباب في الآمال.
وأما التجربة الثانية، فهي التي تعقب ذلك الفتور أو تلك الراحة، من نشاط ووثوب.
ثم جاءت فترة أخرى فحسبت السعادة في الخطر:
عش آمن السرب كما تشتهي
ما نحن ممن يغبط الآمنين
إن حياة الأمن في شرعنا
مشنوءة مثل حياة السجين
كلاهما يخفره حارس
مسدد النظرة في كل حين
أيتها الأخطار علمتنا
بأننا الأحرار لو تعلمين
وهذه هي الفترة التي كنت أرى فيها الراحة حظا للوضيع، والتعب قسمة مفروضة على العظيم.
إن الشقي الذي لا صنو يشبهه
وللأصاغر أشباه وأمثال
ثم تكاملت عواطف النفس فتاقت إلى نصيبها من المجاوبة الناضجة والمقابلة المستوفاة، وأيقنت أن السعادة مشهود لا يرى بعينين اثنتين، بل بأربع أعين، وعاطفة لا يحسها قلب واحد بل قلبان متفقان، فمن رامها بعينين وقلب فكأنما يرومها شطرا مسلوخا من جسم ميت؛ لأن الأجسام الحية لا تعيش شطرين.
إن السعادة لن ترا
ها في الحياة بمقلتين
خلقت لأربع أعين
تخلو بها ولمهجتين
لك مقلتان ومهجة
أترى السعادة شطرتين؟
والتقيت بالزهاوي - رحمه الله - وأنا أومن بأن السعادة حقيقة وليست بأكذوبة، فلما قال الأستاذ الزهاوي: لا سرور في الحياة ولا لذة، وإنما اللذة عدم الألم، قلت: هذا كقولنا: إن الحياة عدم الموت، والأولى أن تعكس القضية فيقال: إن الموت عدم الحياة.
قال: ولم تقرن اللذة بالحياة وتجعل لهذه حكم تلك في القياس؟
قلت: إن الحياة قوة إيجابية لا قوة سلبية، وكذلك الشعور بما يوافقها هو قوة إيجابية من نوعها، وليس امتناع قوة أو عدمها؟
والآن؟
تسألني ما قولك الآن؟!
قولي الآن: إنني أعرف السعادة من وجهها ومن قفاها وفي صدقها وفي ريائها؛ ولكنني أقاربها وأنا مشفق من عواقبها؛ إذ أنا على يقين من كشف الحساب الذي يعقب كل نشوة من نشواتها، وكشف الحساب هذا عملة مسكوكة من المحظورات والمخاوف والشكوك، وهي العملة التي تشترى بها السعادة على اختلاف أصنافها وطبقاتها، فعلى قدر السعادة يكون الثمن، وعلى قدر النشوة يكون الحذر والألم والتنغيص!
ولا أكتفي مع هذا بأن أقول: إن الخوف لازم لأداء ثمن السعادة، بل أزيد عليه أن الخوف لازم لمعرفتها، ولو بذلت لك بذل السماح، وإن الخوف حافز إليها يغريك بنشدانها، فمن لم يخف لم يسعد، وليس بالعالم الذي لا خوف فيه حاجة إلى السعادة!
الفصل الثالث والعشرون
الطموح والتمني
أرسل إلي أديب يسألني وجهة نظره في رأيه هذا: ... ولست أدري لماذا تصرون على أن تكون هناك علاقة بين الأدب وقيادة الجيوش، أو بينه وبين انجذاب أهل الطريق، ففي رأيي أن لا علاقة هناك إلا علاقة الطموح، والرغبة في نعم الشهرة المنعقدة فوق جبين الكثيرين ... فطموحكم من مطالع صباكم هو الذي حبب إليكم أن تكون شيخا يحيط بكم ما كان يحيط بمشايخ حيكم من احترام وتبجيل في بيئة كالتي نشأتم بها، والتي يبدو لي أنها كانت شديدة التقوى كثيرة الاحتفاء بالدين ورجاله، ثم تحولت الأنظار إلى الجيش المصري والإنجليزي الهابطين من السودان، وكثر الحديث عنهما وعن قوادهما في بلدكم، فتحولت «بوصلة» الطموح عندكم إلى هذا القطب الجديد. هذا رأيي الذي أظنه الصواب، وقد جربت مثل ذلك بنفسي، وتمنيت وأنا في المدرسة الابتدائية أن أكون لاعب كرة يحيط بي من تصفيق الطلبة وإعجابهم ما يحيط بمشاهير اللاعبين، ثم تمنيت من أول دراستي الثانوية أن أكون محاميا، وأنتم تعلمون شدة اهتمام الجمهور بقضايا عهد صدقي باشا السياسية.
ورأيي أن الطموح تفسير وليس بتفسير.
فالناس يشتهرون بألوف الأشياء، ويظهرون بين أقوامهم بكثير من المزايا التي تكفل لأصحابها الوجاهة، وارتفاع الصوت والصيت: بالمال والمنصب والهيبة الدينية أو الدنيوية، وبالعلم على اختلاف أبوابه وتعدد مناحيه، وبالنبوغ في الألعاب والفنون التي يدركها الجمهور بداهة، أو يدركها محاكاة لمن هم أرفع منه في المنزلة والمعرفة، وكلهم طامح، وكلهم محقق لما تمناه من الطموح.
فليس بتفسير أن يقال: إن هذا الشاعر العظيم بلغ مكانه من الشهرة الشعرية؛ لأنه طامح، وأن هذا المهندس العظيم بلغ مكانه من الشهرة العلمية؛ لأنه طامح، وأن هذا الغني العظيم بلغ مكانه من الثراء واليسار لأنه طامح، وأن كل عظيم طمح فاشتهر لأنه تعلق بالطموح.
كلا، ليس هذا بتفسير فيما أرى.
وليس هذا بالحقيقة فيما أعلم من شأن نفسي، وفيما أعلم من شأن البواعث التي حفزتني إلى معالجة «الدروشة» والكرامات الدينية، وحفزتني إلى قيادة الجيوش والغلبة في القتال، وحفزتني حيث استقر بي المطاف إلى المضي في طريق الأدب والكتابة دون كل طريق.
فلو كانت المسألة طموحا وتطلعا إلى الحفاوة لكان الأولى بي أن أطمح إلى جمع المال والتوسع في التجارة؛ لأنها قبلة الأنظار في بلد له في التجارة تاريخ عريق، حتى قيل: إن اسم الإقليم مستمد من اسم السوق.
بل لو كانت المسألة طموحا إلى الحفاوة التي يلقاها رجال الدين لكان الأولى بي أن أطمح إلى مكانة القضاة، الذين يخرجون بين الحراس والحجاب، ويتقدمون على رجال الحكم ورجال الجيش حيثما اجتمعوا معا في مكان حافل أو مأدبة حكومية، أو لكان الأولى بي أن أطمح إلى منزلة كمنزلة أستاذنا الفقيه الأديب الأستاذ أحمد الجداوي - رحمه الله - وكانت له حلقة دينية أدبية يتردد عليها أعاظم القوم، ويجلسون بين يديه جلسة الخشوع والتوقير، وكانت له إلى جانب ذلك مساجلات أدبية يحج إليها المعلمون والمتعلمون، ويتندر بفكاهاتها وطرائفها من يدرسون ومن لا يدرسون.
أما حياة «الأسرار» الدينية فلم تكن محل ظهور ولا وجاهة بين الناس، ولم يكن أحد ممن يقتدى بهم في هذا المجال على مظهر يشوق الطفل الناشئ أن يحكيه، أو يعيش على غراره: مظهر مسكنة وحرمان وشظف وانقطاع.
وأدل من هذا على خطأ التفسير بالطموح في هذا الصدد أن الظهور وطلب الكرامات والأسرار نقيضان كما تنبئنا أول صفحة من أول كتاب في مناقب الصالحين.
فمن طلب الظهور، فلا سبيل له إلى كرامة، ولا نفاذ له إلى سر مكنون من أسرار القداسة والولاية.
إنما تنال الكرامات والأسرار بالإعراض عن المظاهر والزهد في الحفاوة، وأن ننذر نفوسنا للفاقة والشظف والحرمان، ونجنبها غواية الزهو والترف والإعلان، وهذه هي الأمنية التي تمنيتها؛ لأنني تمنيت البحث عن الحقيقة والهيمنة من طريق معرفة الحقائق على ما حولي من قوانين الكون وعناصر الطبيعة.
فالطموح - كما قدمنا - ليس بتفسير لطلب العظمة كائنا ما كان مجالها والغرض منها، فبعد الطموح يبقى لنا سؤال آخر عن علة طلب العظمة من هذا الطريق، وعن التوفيق بين نوع العظمة المطلوبة ونوع المزاج النفسي الذي يطلبها ويؤثرها على غيرها.
والطموح بعد ذلك ليس بالتفسير الصحيح في الحالة الخاصة التي ذكرتها عن أمنيتي؛ لأنني لم أطلب الظهور، بل ضحيت به في سبيل الحقيقة التي أصل منها إلى هيمنة لا ظهور فيها؛ ولا يزال الظهور الشائع مفسدة لها وداعية إلى حبوطها.
وما لنا ولهذا، والأديب صاحب الخطاب يذكر حالة تنفي تعليل كل شيء بالطموح فيما ذهبنا إليه؟
قال في خطابه: «تمنيت وأنا في المدرسة الابتدائية أن أكون لاعب كرة يحيط بي من تصفيق الطلبة وإعجابهم ما يحيط بمشاهير اللاعبين ...»
فليعلم الأديب صاحب الخطاب أن التصفيق لم يحط بلاعب كرة كما كان يحيط بلاعبيها الأسوانيين في ذلك الحين، فقد كانت العناية بالرياضة البدنية يومئذ في إبانها، وكان للجيش الإنجليزي بأسوان فرق مدربة تسترعي أنظار المدينة بأسرها، ويتمنى كل طالب أن تتغلب فرقته المدرسية عليها، وكانت فرقة أسوان تسافر إلى إدفو وقنا وسوهاج وأسيوط لتلاعب هناك فرقة بعد فرقة، وتعود من تلك البلاد غالبة أو مغلوبة، يتطلع الزملاء إلى أخبارها كما يتطلع قراء الصحف إلى أنباء المعارك الحاسمة، ومع هذا كله فشلت مساعي المدرسين في إغرائي بالانتظام في فرقة الكرة، أو الفرق الرياضية على اختلافها لنفوري منها، وظللت أتجنبها وأفضل الحبس على حضور حصة الرياضة البدنية في أوقاتها المفروضة علينا، ولم يستهوني الطموح ولا الشهرة، ولا التصفيق إلى هذا الجانب المغري لكل طالب، ولم أكن أفهم دهشة زملائي لرفض دخول الفرقة وهم يتحرقون شوقا إلى دخولها، ويتمنون لو وهبوا تلك الصفات الجسدية التي جعلت المدرسين حريصين على ترشيحي لفرقة الكرة وكل فرقة رياضية.
فليست المسألة يا صاحبي مسألة طموح وظهور، ولكنها مسألة شوق باطني، وجد مصرفه في هذه الناحية أو تلك، حتى استقر من الناحية الأدبية إلى قرار.
ومن الواجب أن نربط بين النزعة الدينية والقيادة العسكرية والملكة الأدبية إذا أردنا أن ننفذ إلى خاصة من خواص النفس البشرية، التي تؤلف بين النقائض حتى تنتظم في نسق واحد، وهي كما تبدو على وجه الأمور غير قابلة للتناسق والائتلاف.
وربط هذه الشعب المتفرقات واجب ههنا؛ لأن العلاقة بينها صحيحة متغلغلة ملموسة؛ فلا بد من سبب اتصال بينها، ولا بد من النفاذ إليه، وليس النفاذ إليه بعسير.
فالنزعة الدينية - نزعة الأسرار والهيمنة على العناصر الطبيعية - تلاقي البحث الأدبي من طرفين: أحدهما الاستطلاع والاستكناه، وهو أصيل في طلب الأسرار الدينية، وأصيل في طلب الأسرار الفكرية على الإجمال.
أما الطرف الآخر فهو طرف إثبات النفس، وهو في جانب التدين سيطرة على أسرار الكون ، وفي جانب الأدب تعبير عن النفس، وتوجيه للأفكار وامتلاك لناصية الحقائق، وكلا الطرفين قريب من قريب.
ولا صعوبة في التوفيق بين التدين والقيادة العسكرية، وإن ظهرا لأول وهلة كالنقيضين المتدابرين.
إن النضال لعميق في روح الدين، لم تخل منه الأديان الأولى، ولا أديان الكتب المنزلة التي يدين بها معظم الأمم اليوم.
فإله الخير وإله الشر، أو إله النور وإله الظلمة، ما برحا متصارعين عند الجاهليين من أقدمين ومحدثين.
وكل دين من أديان الكتب المنزلة يؤمن بالصراع بين الملائكة والشياطين، وبالحرب الدائمة بين جنود الله وجنود إبليس.
وكل ساعة من ساعات الضمير فهي مصارعة ومغالبة، قلما تنتهي بالنصر الحاسم لجانب من الجانبين، وما هي حياة الضمائر إن لم تكن حياة العراك والمقاومة والانتصار؟ وما هي أسرار الكون إن لم تكن أسرار التجاذب، والتدافع بين دواعيه ونواهيه؟
فالنضال أصيل في روح الدين.
والتقاء التدين وطلب الغلبة وطلب التعبير فترة واحدة أو فترات متعددات في النفس «المتطورة» ليس بالأمر الغريب ولا باللغز العسير التعليل.
وكم أديب مناضل وجندي يحمل السلاح وهو غير مطبوع على النضال!
وقد تركت أمل القيادة العسكرية منذ الصبا الباكر، ولكني لم أتركه إلا في الظاهر الذي لا يتعدى الملابس والأزياء.
فما هو إلا أن أسلمتني المناوشات الصبيانية إلى نظم الشعر للتحدي والمناجزة، حتى انتقلت إلى عالم التعبير والكتابة، وانتقلت إلى هذا العالم الأدبي لأناضل، وأقضي العمر كله في نضال باطن بيني وبين نفسي ونضال ظاهر بيني وبين الآخرين.
فما الغرابة في التوفيق بين هذه الأماني؟ وما الصعوبة في هذا التوفيق؟ وأيهما سهل وأدنى إلى القبول: تعليل كل أمنية بالطموح وليس هو بالتعليل الشافي ولا بالتعليل الصحيح، أو النظر إلى ما وراء الطموح من بواعث متقاربات تتلاقى عندها الظواهر المتباعدات؟
الراحة الكبرى تنال على جسر من التعب كما قال أبو تمام، والسهولة الكبرى في تعليل الحقائق تنال بعد خطوات من السهولة العارضة على وجه الأمور، ولكنها بعد اجتياز هذه الخطوات أسهل من كل سهل قريب؛ لأن هذا السهل القريب لا يؤدي إلى شيء، ولا يستريح الواقف لديه.
الفصل الرابع والعشرون
التلباثي (1)
سألني أحد الأدباء أن أشرح «التلباثي» الذي ورد في كتاب عبقرية عمر. •••
والإشارة إلى التلباثي في كتاب «عبقرية عمر» قد جاءت في سياق الكلام على قصة سارية، حيث روينا أنه «كان - رضي الله عنه - يخطب بالمدينة خطبة الجمعة، فالتفت من الخطبة ونادى: يا سارية بن حصن ... الجبل الجبل! ومن استرعى الذئب ظلم.» «فلم يفهم السامعون مراده، وقضى صلاته فسأله علي رضي الله عنه: ما هذا الذي ناديت به؟ قال: أوسمعته؟ قال: نعم، أنا وكل من في المسجد، فقال: وقع في خلدي أن المشركين هزموا إخواننا وركبوا أكتافهم، وأنهم يمرون بجبل، فإن عدلوا إليه قاتلوا من وجدوه وظفروا، وإن جاوزوه هلكوا، فخرج مني هذا الكلام.»
وإنه «جاء البشير بعد شهر فذكر أنهم سمعوا في ذلك اليوم وتلك الساعة حين جاوزوا الجبل صوتا يشبه صوت عمر يقول: يا سارية بن حصن ... الجبل الجبل! فعدلنا إليه ففتح الله علينا.»
ثم عقبنا على القصة قائلين: «إن المهم من نقل هذه القصة في هذا الصدد أن عمر كان مشهورا بين معاصريه بمكاشفة الأسرار الغيبية؛ إما بالفراسة أو الظن الصادق أو الرؤية أو النظر البعيد.»
وهذه - كما هو ظاهر - حالة من حالات التلباثي، التي يسأل عنها الأديب صاحب الكتاب الذي اقتبسنا منه ما تقدم.
ونحن نترجم التلباثي بالشعور عن بعد، أو «بالنظر البعيد» إذا أردنا تعميم النظر حتى يشمل الرؤية والمكاشفة، أو يشمل ال
Vision
في اصطلاح بعض العلماء النفسانيين.
وهي حالة متكررة يحسها كثيرون ويسجل وقائعها أناس من المتدينين وغير المتدينين. وأشهر القائلين بها في عصرنا كاتب أمريكي ملحد هو أبتون سنكلير
Upton Sinclair
يقيم التجارب التي تثبت النظر على البعد، أو الشعور على البعد، ويسجل فيها سجل تجاربه مع زوجته، حيث كانا يجلسان في مدينتين بعيدتين، ويحيط بكل منهما شهود كثيرون منهم المنكرون ومنهم المصدقون، فيطلب إليه بعضهم أن يرسم شكلا هندسيا، وأن يوجه شعوره إلى امرأته لترسم مثله في تلك اللحظة، ويطوى الرسمان حتى يعلنا بعد ذلك فيتفق في كثير من الأحوال أن يتشابها في الخطوط، وإن اختلفا في الأبعاد كما يختلف المثلث الكبير والمثلث الصغير مع اتفاق الزوايا والنسب الهندسية.
هذه التجارب يقول بها ويسجلها، ويعلنها في الكتب السيارة رجل قلنا: إنه لا يقصد من كلامه تبشيرا بعقيدة أو خدمة لمذهب اجتماعي؛ لأن مذهبه الاجتماعي يقوم على «الفهم المادي» للتاريخ، ولا يحوجه إلى التبشير بهذه الهبات النفسية، بل لعله ينفره منها ويحبب إليه السكوت عنها.
واعتقادنا في «التلباثي» أنه هبة نفسية جائزة لا تناقض العقل، ولا يمنعها العلم بدليل.
لأنها تستند إلى الحس، ولا فرق بينها وبين هبات الحس التي نباشرها كل يوم إلا في طول المسافة، وهو فرق اعتباري غير قاطع بين حالة وحالة، إذ من ذا الذي يستطيع أن يقول: إن الحس ينتهي عند هذه المسافة، ولا يجوز عقلا أن يتعداها ويذهب إلى ما وراءها!
إننا نرى كل يوم في العصر الحاضر أن صوتا يصدر من أمريكا أو اليابان، ويسمع في مصر كما يسمع فيها حديث الجلساء، ولولا المذياع لعددنا من يزعم هذا الزعم ممخرقا يعبث بعقول سامعيه.
فإذا جاز سماع الصوت على هذه المسافات الشاسعة بجهاز من الأجهزة المصنوعة، فلماذا يمتنع على قوي الذهن أو قوي الشعور أن تحس على هذه المسافة، أو تتصل بنفس أخرى وذهن آخر متى تهيأت لها أسباب اتصال؟
فالتصديق بالتلباثي لا يدعونا إلى اختراع حس جديد أو ملكة غيبية من وراء الطبيعة، ولكنه يدعونا إلى تصديق هذا الحس الذي نباشره كل يوم في مختلف شئون الحياة، مع السماح له بالامتداد والتكبير، وهما غير ممنوعين ولا مناقضين للمعقول أو المشهود.
والحس نفسه لا يقل في غرابته عن «التلباثي»، كما يقول بها أشد الغلاة المؤمنين بها من النفسانيين.
فأنت تفتح عينيك فترى.
شيء بسيط جدا في حسابنا، بل هو أبسط شيء يخطر على بالنا ... افتح عينيك تر! ... أي شيء أبسط من ذلك وأبعد من الغرابة؟
نعم هو كذلك؛ لأننا نعالجه ونرى الألوف ممن يعالجونه كل لحظة، ولا يخطر لنا أننا نأتي بشيء غريب.
ولكننا إذا رجعنا إلى أنفسنا فسألناها: ما هي الرؤية؟ وما هو معنى القوة العجيبة التي تحيط بشيء على مسافة منك، وتعرف ما لونه وما شكله وما أثره وما حركاته وسكناته، ولا صلة بينك وبينه إلا الضياء؟
نسأل أنفسنا في هذا ونفكر مليا في معناه فنستغرب النظر من قريب، كما نستغرب النظر من بعيد، ونعلم أن معجزة الحس حاصلة قبل أن نسمع بالتلباثي والتليفزيون وما إليها من وسائل الإحساس.
وما قربنا المسألة حين نقول: إننا ننقل الأشياء إلى حسنا بالنظر؛ لأن بيننا وبينها الضياء، إذ ما هو الضياء؟
ولماذا يكون حتما لزاما متى وجد الضياء أن يكون هناك نظر، وأن يكون النظر على نحو ما وعيناه؟
فالتلباثي غريبة جدا من تنسيه الألفة اليومية غرابة النظر والسمع والذوق وسائر المحسوسات.
والتلباثي جائزة جدا عند من علم أن النظر جائز، ثم سأل نفسه في معنى هذا الجواز.
وأحسب أن الكثيرين من القراء قد جربوا هبة التلباثي كما جربتها، ووقفوا منها على مبادئ تدل على نهايتها القصوى، إن لم يكتب لهم أن يملكوا هذه الهبة على أقصاها.
فإنني لا أقول بجواز التلباثي معتمدا على العقل والقياس دون التجربة والمشاهدة، ولكنني أقول بذلك لأنني «جربت» بعض الوقائع التي تقربني من تصديق «التلباثي»، وتنفي الغرابة عنه أو تنفي استحالته على أيسر تقدير.
يحدث مرات أن أذكر إنسانا بعد سهو طويل عنه، فإذا هو ماثل أمامي في اللحظة التي ذكرته فيها.
ولو كان هذا الإنسان صاحبا، يعاودني التفكير فيه حينا بعد حين لقلت الغرابة في تذكره ولو بعد السهو الطويل.
ولو كان المكان الذي ذكرته فيه متصلا بإقامته أو بالمقابلات بيني وبينه لقلت الغرابة كذلك في إثارة ذلك المكان لذكراه.
ولكنه لا يكون أحيانا ممن طالت الصحبة بيني وبينه، ولا يكون الموضع الذي أذكرني به موضعا تقابلنا فيه قبل ذلك، أو تحدثنا به يوما من الأيام. وكل ما هنالك أنه إنسان جمعت بيني وبينه المصادفات فترة من الزمن، ثم انطوت عني أخباره سنوات لا أراه ولا يعرض لي ما يدعوني أن أشتاق إلى رؤيته، ثم يمر بخاطري فما هو إلا أن أثبته وأستعيد ذكره حتى أراه في عرض الطريق.
ويحدث مرات أن يتولاني انقباض شديد تتخلله صورة إنسان عزيز يكرثني جدا أن يصاب بمكروه، ويلج بي هذا الانقباض حتى كأنما الذي أخشاه قد وقع أو هو مرقوب الوقوع، فأبادر بالكتابة من طريق البرق أو البريد، ويحدث في هذه الحالة أن يجيئني خطاب قبل وصول سؤالي إلى وجهته يدعو إلى الطمأنينة، أو يرد إلي الجواب بعد قليل وفيه إشارة إلى خطر زال.
وأحسب أن هذه العوارض أشيع من أن تحصى في عداد النوادر والفلتات، فقد سمعت ما يشبهها من بعض الأصدقاء المصدقين، وقد أخبرني بعضهم بقلقه على غائب يعزه وهو لا يعرف سببا واضحا للقلق الذي يساوره حتى فاتح فيه غيره، ثم تبين أنه لم يقلق يومئذ بغير داع معقول.
إلا أن النوادر والفلتات في التلباثي هي العوارض التي تشبه قصة سارية فيما روي عن عمر بن الخطاب.
فالذين يشعرون على البعد بمثل هذه القوة والوضوح قليلون، ولكن المسألة - بعد - مسألة فرق في القوة والوضوح، وليست بفرق في أساس الشعور يماثل الفرق بين من يبصر ومن لا يبصر، وبين من يسمع ومن ليست له أذن للسمع، وبين من يحس ومن ليست له قابلية للإحساس.
فالشعور على البعد كالشعور على القرب جائزان، ووسيلة الشعور على البعد ليست بأصعب من وسيلة الشعور على القرب بالعيون والآذان، وإن كنا لا نستغرب هذه كما نستغرب تلك لطول الألفة وتكرار المشاهدة بين جميع الأحياء.
وحد التصديق عندي لهذه العوارض هو وجود الأساس الذي تعتمد عليه.
فإذا كان كل ما في الأمر أنه تكبير للحس الذي تعودناه، أو مضاعفة له وتقريب لأبعاده ومسافاته فلا مانع من صدقه، وإذا كان في الدعوى ما يحوجنا إلى فروض لا أساس لها من المشاهدات والمعقولات، فهنالك موضوع للتردد والاشتباه.
وعلى هذا أقبل دعوى التنويم المغناطيسي - مثلا - إذا ادعى النائم أنه يبصر شيئا موجودا على مسافات بعيدة، ولكني لا أقبل منه هذه الدعوى إذا تعدى ذلك بما سيكون بعد عام أو بعد شهر أو بعد يوم، وليس له وجود قائم الآن.
وكذلك أقبل دعوى الشعور البعيد، أو النظر البعيد إذا كان بمثابة السمع المضاعف أو البصر المضاعف؛ لأن امتناع ذلك يحتاج إلى مانع قاطع، ولا سبيل إلى القطع فيه؛ ولأن القول بجوازه لا يتعدى كثيرا أن نقول بجواز رؤية العيون وسماع الآذان.
وينبغي للعقل أن يتمهل في قول «لا» كما يتمهل في قول «نعم» كلما سمع بما يشككه ولا يوافق معهوده، فإن العقل ليكون خرافيا بقول «لا» في غير موضعها كما يكون خرافيا بقول: «نعم» في غير موضعها؛ وإنما هذه خرافة تثبت بالباطل، وتلك خرافة تنفى بالباطل، ولا فرق في الباطل بين نفي وإثبات.
الشعور على البعد جائز ما جازت الصلة بين الإنسان وموضوع شعوره، وقد رأينا أن هذه الصلة لا تنقطع في طريق صوت كالهمس على مسافات الألوف من الفراسخ والأميال، فقبل أن ننفي الصلة بين نفسين ينبغي أن نتمهل طويلا حتى نوقن من وجه الاستحالة والامتناع؛ ولن يكون هذا اليقين إلا ببرهان قاطع، والقول بهذا البرهان القاطع قبل أن يوجد ويتقرر هو أجرأ على العلم والعقل من التصديق بغير برهان اعتمادا على المروي والمشاع.
الفصل الخامس والعشرون
التلباثي (2)
كثر الذين حادثوني أو كتبوا إلي بصدد مقالي عن «التلباثي»، الذي نشرته الرسالة في عدد مضى؛ وبدا لي من أحاديثهم ومن رسائلهم أن بعضهم فهم المقال كما أردت أن يفهم؛ وبعضهم تجاوز به إلى الحد الذي أريده، وقد استزادني أناس من الكتابة فيه، وسألني أناس غيرهم أسئلة يقترحون الإجابة عليها، وأحسبني ألبي مقترحاتهم جميعا بما آثرت من الإجابة عن خطاب كتبه إلي صديقنا الأستاذ محمد شاهين حمزة نائب الدر السابق، ولخص فيه ما قرأه تعليلا لأمثال هذه الحوادث - حيث التلباثي - فقال: ... ذكر بعض العلماء أن الأجسام تصدر منها أثناء حركتها الآلية إشارات ورسائل تنطلق على أمواج الأثير، كأنها محطات الإصدار في اللاسلكي، وهذه الرسائل التي تشير إلى شخصيات مصدريها، وتحمل بعض أفكارهم تهز مراكز خاصة في أدمغة من لهم سابق معرفة بأصحابها أثناء انطلاقها، فتلتقطها هذه وكأنها محطات الاستقبال تقابل محطات الإصدار الأولى، وكأن لكل إنسان محطتين أو جهازين للإصدار والاستقبال، ولما كانت هذه الرسائل متفاوتة القوى كانت هناك رسائل تصدر ميتة أو ضعيفة فلا تصل إلى أحد، وأخرى تصدر قوية، لكن ضعفا أو خللا في محطة الاستقبال يحول دون تلقيها.
ثم سألني الأستاذ رأيي في هذا وختم خطابه قائلا:
ونقطة أخرى أحسبها تحتاج إلى جلاء علمي هي: كيف بلغ صوت عمر بن الخطاب سارية وصحبه حين ناداهم بقوله: يا سارية بن حصن الجبل الجبل! فاستجابوا له؟
ومن اللازم فيما أرى أن أبدأ بتقرير الحد الذي يكفينا أن نقف عنده فيما يرجع إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وملكة التلباثي أو التليفزيون.
فقد أردنا أن نذكر علامات العبقرية عند بعض النفسانيين المحدثين، ومنها «الحساسية» الخاصة التي تلاحظ على بعضهم، فيشتهرون بالغرابة في إيحاء الأفكار واستيحائها، وقلنا: إن عمر بن الخطاب قد لوحظ عليه من ذلك علامات كثيرة ... كالفراسة وصدق الظن وسرعة التنبه إلى الفوارق الدقيقة بين المذوقات، كما تنبه إلى الفارق بين لبن ناقة ولبن ناقة أخرى، وكلتاهما في مكان واحد ومرعى واحد.
ومما روي عنه حديث سارية الذي أشرنا إليه، وقد لخصناه وقلنا بعد تلخيصه: «لا داعي للجزم بنفي هذه القصة استنادا إلى العقل، أو إلى العلم، أو إلى التجربة الشائعة.
فإن العقل لا يمنعها، والعلماء النفسانيون في عصرنا لا يتفقون على نفيها ونفي أمثالها.»
ثم عقبنا على ذلك قائلين: «إن المهم من نقل هذه القصة في هذا الصدد أن عمر كان مشهورا بين معاصريه بمكاشفة الأسرار الغيبية؛ إما بالفراسة أو الظن الصادق أو الرؤية أو النظر البعيد، وهي الهبات التي يلحقها بالعبقرية علماء العصر الذين درسوا هذه المزية الإنسانية النادرة وراقبوها.»
فسواء صحت قصة سارية أو صح جزء منها، أو لم يصح شيء منها على الإطلاق، فيكفي أن تروى عن عمر بين معاصريه؛ ليثبت لنا أمر محقق لا شك فيه، وهو أن «الحساسية الخاصة» كانت ملحوظة فيه حتى نسب إليه الناس ما نسبوا من رؤيته حيش سارية على البعد وندائه عليه، فهو قبل أن تقع هذه القصة كان من أصحاب «الحساسية الخاصة» التي يلحظها من حوله، وينسبون إليها الحوادث التي تناسبها.
وهذه وحدها علامة كافية من علامات العبقرية، ولا حاجة معها إلى تحقيق ندائه إلى سارية واستماع سارية له كما جاء في القصة المروية أو على نحو يقاربها.
فهو في رأي من حوله رجل يحس الأشياء التي لا يحسونها، ويملك القوى النفسية التي لا يملكونها، وهذا كاف لاتصافه بعلامة بارزة من علامات العبقرية في رأي النفسانيين المحدثين.
وهنا نحن على «بر الأمان» الذي لا مجازفة فيه، ولا يكلفنا كثيرا ولا قليلا في التعرض للتلباثي بالنفي والإثبات.
ولكنا إذا تجاوزنا هذا وتعرضنا لتحقيق التلباثي للحكم بإمكانها أو استحالتها، ففي وسعنا أن ننقل من بر أمان إلى بر أمان مثله لا مجازفة فيه، وهو مطالبة الذين يجزمون باستحالتها بالدليل على ما يقولون.
لأن الجزم باستحالة شيء بغير دليل كالجزم بوقوعه عيانا بغير دليل، كلاهما خرافة لا يقبلها العقل، وإن جاء أحدهما من ناحية الإثبات.
وإنما الموقف السليم بين الإنكار والقبول أنك تترك الباب مفتوحا لمن يثبت وينفي على السواء، فيجوز أن يأتي غدا من يثبتها ثبوتا قاطعا لا شك فيه؛ ويجوز كذلك أن يأتي غدا من ينفيها نفيا قاطعا لا شك فيه، ولا يجوز - حتى ذلك اليوم - أن نقطع باستحالتها على وجه من الوجوه، وكل ما امتنع القول باستحالته فهو معلق بالممكنات، ولا سيما إذا كثرت بيننا مشبهاته وشاع بيننا على درجات دون درجته القصوى، باتفاق الشعور بين ألوف من الناس.
يسألني الأستاذ شاهين: «كيف بلغ صوت عمر سارية وصحبه فاستجابوا له؟»
فالجواب المأمون هنا أنني لا أعلم ولا أجزم بأن الصوت وصل واستجيب، ولا أجزم كذلك بأنه ممتنع الوصول والاستجابة.
ولكننا إذا قلنا بوصوله واستجابته، فإنما يتصور العقل وقوع ذلك على صورة من صور ثلاث:
الأولى:
أن الصوت الذي سمعه سارية كان صوتا ماديا يبلغ الأسماع، كما يبلغها اليوم صوت المتكلم في المذياع على مسافات بعيدة.
والصورة الثانية:
أن الصوت وصل بالإيحاء النفسي إلى الجيش كله، فاتفقت نفوسهم جميعا في لحظة واحدة على الاتجاه والاستيحاء والسماع.
والصورة الثالثة:
أن الصوت وصل بالإيحاء النفسي إلى سارية وحده، أو إلى سارية ومن شاركه في هموم القيادة، فشعر به فرد واحد أو أفراد قليلون.
وأسهل هذه الصور الثلاثة قبولا في العقل، على ما نعتقد، هي الصورة الثالثة، وهي أن سارية توجه بنفسه إلى نفس عمر في مأزق شديد عليه وعلى عمر معا، فشعر به الخليفة وناداه، وهما في لحظة التقابل بالوحي والاستيحاء.
هذه الصورة أسهل قبولا من الصورتين الأخريين.
لأن الصورة الأولى وهي انتقال الصوت المادي مئات الأميال بغير الوسائل الصناعية التي نستخدمها في عصرنا يكلفنا أن نطبع العناصر المادية بطابع لم تعرف به قط فيما مضى وفيما حضر، ويقتضي أن يكون صوت سارية قد سمع في الجيش الذي معه وهو يستغيث، وقد سمع في المسجد الذي كان عمر يخطب فيه، وقد سمع الصوتان: صوت الاستغاثة وصوت الاستجابة على طول الطريق، ولم يذكر لنا رواة القصة شيئا من ذلك، ولو ذكروه لتحدث به الألوف من جند سارية ومن المصلين مع عمر ولم يقتصر حديثه على بشير واحد أو نفر قليلين.
أما الصورتان الأخريان فكلتاهما تمثل لنا وصول الصوت، أو وصول الخاطر على الأصح بطريق الإيحاء من نفس عمر إلى نفوس سامعيه، ولكن التقاء نفسين أيسر قبولا من التقاء نفس واحدة من جانب، وألوف النفوس من جانب آخر؛ ولهذا قلنا: إن التقاء الشعورين بين عمر وسارية أسهل الصور الثلاث قبولا، متى قلنا بوقوع الاستغاثة ووقوع الاستجابة.
والأستاذ شاهين قد سأل في خطابه سؤالا يشتمل على بعض الجواب الذي أجبناه حيث قال: «إذا كان الأمر أمر رؤية بعيدة، فهل تقف الرؤية عند الماديات أو تتعداها إلى الأفكار؟ فقد يحدث أن يذكر الإنسان شخصا ويذكر معه أمرا معينا ، ولا يلبث أن يلقى الشخص الذي ذكره فيبادره هذا بحديث عن ذلك الأمر المعين بنفسه، كما حدث لي مرارا، وهذا مما يغري بالميل إلى الفكرة القائلة بحركة الأجسام والإشارات الصادرة منها، والتي يلتقطها جانب ثان.»
فالتمثيل بمحطات الإرسال ومحطات الاستقبال هنا تمثيل مقبول لتقريب التصور وسهولة التشبيه، ولا مانع من اتصال النفوس على البعد، وهي تتصل على القرب اتصالا لا شك فيه، فإذا اتفق أن نفسين توجهتا كلتاهما إلى الأخرى - في وقت واحد - فذلك أحرى بتوافق الشعور وتوافق الخاطر، والجزم بإمكان هذا أصح من الجزم بامتناعه إذا لم يكن بد من أحد الأمرين.
يحدث كثيرا - كثيرا جدا - بين الصديقين المتفاهمين أن يطيلا الجلوس معا صامتين، ثم يعودا إلى الحديث فجأة، فإذا هما يطرقان موضوعا واحدا أو يسألان عن شيء واحد، ولو كان هذا الموضوع على اتصال بما كانا يتكلمان فيه قبل ذلك لقلت الغرابة في اتفاقهما عليه بعد صمت طويل، ولكنه يكون أحيانا بمعزل عن كل موضوع طرقاه ذلك اليوم.
فما تعليل ذلك؟
تعليله تقارب الشعور والتفكير، وهما لا يتقاربان هنا بأداة مادية، حتى يقال بالفرق بين حصوله في حجرة واحدة وحصوله على مسافة أميال.
فإنكار هذا الاتصال أصعب من إثباته، والقول بإمكانه قول تعززه احتمالات قوية ومشابهات مألوفة، وروايات متواترة، ولا يقف أمامها من ناحية النفي إلا مجرد الإنكار، أو سوء فهم الواقعيات والماديات.
وقد وصلنا في زماننا بالماديات إلى حدود الروحيات، فانتقلنا بها من هذه الأجسام التي تلمس وتدرك بالحس إلى الذرات، ثم إلى الطاقة، ثم إلى الإشعاع الذي يدركه الفكر ولا تمسكه الحواس، فمن الحيطة أن نقل من الإنكار بعد أن أسرفنا فيه، وقد جاء زمان كان الإنكار فيه حسنا بعد إفراط الناس في الإثبات، فهل ندور الآن دورة من تلك الدورات الفكرية المعهودة، فنسرف في القبول بعد إسرافنا في الإنكار؟
لا هذا ولا ذاك بالحسن المأمون، وإنما الحسن المأمون أن نأخذ بدليل ونرفض بدليل، وأن نعلم أن العجائب في الدنيا لا تنتهي، فلا نغلق على أنفسنا بابها مختارين.
الفصل السادس والعشرون
من طرائف المفارقات
من طرائف ما يقال في بلد المفارقات كلمة كتبتها آنسة أديبة في «المصور» الأغر تقول فيها: «... سألني الأستاذ الكبير عباس العقاد عن رأيي في سارة، فأجبته في صراحة أنه قد آن الأوان لتتحدث الأنثى عن الأنثى وتصور شعورها وتترجم عن عواطفها، فإن الرجل لا يعرف المرأة ولا يفهمها؛ ولذلك يصورها في كتابته مخلوقة أخرى غير التي نعرفها في نفوسنا ونحسها فينا ...» •••
وطريف كل ما في هذه الكلمة التي تتمثل فيها شتى المفارقات في بلاد النقائض والمفارقات!
فمن طرائفها قول الآنسة الأديبة إنني سألتها رأيها في سارة، وأنا لا أعرف أنها قرأتها وأن لها رأيا فيها.
ولو عرفت أنها قرأتها وأن لها رأيا فيها لما فاتحتها بالسؤال عنها؛ لأن أصدقائي الكتاب والقراء كثيرون يعلمون ما لم تعلمه الآنسة الأديبة، وهو أنني لم أستبح لنفسي يوما أن أفاتح أحدا بالسؤال في موضوع كتاب ألفته أو قصيدة نظمتها؛ لأن المفاتحة بالسؤال في هذا الصدد إما استجداء ثناء، وهو لا يحسن بالكتاب، وإما إحراج للمسئول إذا اضطره السؤال إلى إبداء رأي لا يروق، ولا يطيب وقعه في أذن السامع، وهو كذلك لا يحسن بالكاتب ولا بكائن من كان.
ومن شاء إبداء رأي فله من وسائل الإبداء ما يغنيه عن هذا الحرج، وما يغني الكاتب عن سوقه إلى الكلام فيما ليس من قصده أن يفتتح الكلام فيه.
والآنسة الأديبة صحفية على اتصال بالصحف اليومية والأسبوعية، فما رأيها في سؤال قراء هذه الصحف عن قارئ فرد أو كاتب فرد شغلته في مجلس من المجالس باستفسار الرأي فيما أكتب أو ما أنظم!
فلماذا أسألها هي إذا كنت لا أسأل أحدا غيرها؟
أأسألها لأسمع منها الرد الذي لا يحمد من فتاة ولا فتى في خطاب رجل يكتب قبل أن تدرج من مهدها؟
أأسألها لأسمع منها أن هذا شأني وليس بشأنك، وأن الأمر يعنيني ولا يعنيك أنت، ولا يعني أحدا من الرجال؟
وإذا نسيت الآنسة أن هذا جواب لا يحمد من فتاة ولا فتى، فما الذي ينسيني أنا أن أرد إليها ذاكرتها في أدب الخطاب؟ •••
طريف هذا وأطرف منه رأيها الذي بنت عليه جوابها، وهو أن المرأة لا يكتب عنها غير المرأة، وأن الرجل لا يكتب عنه غير الرجل، وأن الطفل لا يكتب عنه غير الطفل على هذا القياس.
فإذا كانت عندنا - كما يقول وضاع المسائل الحسابية - رواية مدارها على زوج وزوجة، وولد وبنت، وخادم وخادمة، وحصان في خدمة الأسرة، ودجاجة وديك في فناء الدار؛ فليس في وسع كاتب واحد إذن أن يؤلف هذه الرواية الشائعة بين الروايات، ولكننا بحاجة إلى رجل في سن الزوج، وامرأة في سن الزوجة، وولد في سن الابن، وبنت في سن الابنة، وحصان ودجاجة وديك، للتعبير عن حقائق هذه الأحياء، ويبقى بعد ذلك أن يحتج الخادم والخادمة ... لأن الزوج لا يغني عن الخادم وإن كان رجلا، والزوجة لا تغني عن الخادمة وإن كانت امرأة، ولا يشعر السادة بشعور الخدم ولا الخدم بشعور السادة.
أليس كذلك؟
بلى كذلك وزيادة! وإن كنا لا ندري كيف يكون التأليف، وأين يبدأ هذا وأين يتسلم من ذاك سلسلة السطور. •••
الآنسة الأديبة لا تعلم الحقيقة، فيجب أن تعلم الحقيقة كما خلقها الله وأقرها الواقع الذي لا حيلة لنا فيه.
والحقيقة التي خلقها الله وأقرها الواقع الذي لا حيلة فيه أن المرأة لا تفهم من شئونها شيئا إلا كان الرجل أفهم منها لهذا الشيء، ولو كان من خاصة أعمالها وشواغلها.
فالطهي من صناعات المرأة القديمة، ولكن أمهر الطهاة في الدنيا رجال وليسوا بنساء.
والخياطة من صناعات المرأة القديمة، ولكن المرأة لا تخيط ملابسها، ولا تبتكر أزياءها كما يخيطها الرجل ويبتكرها، والتوليد من صناعات النساء، ولكن المرأة نفسها تثق بالطبيب المولد، ولا تثق بالطبيبة المولدة.
والمرأة تبكي منذ خلقت ولا تزال تبكي إلى يوم الدين، وترثي الموتى منذ هلك ميت إلى أن يموت آخر الهالكين، ولكنها كما قلنا مرة لم تخلد بكلمة واحدة إلى جانب الكلمات التي خلد بها الباكون والراثون من الرجال، ولا استثناء في ذلك للخنساء، وهي التي كانت تفاخر النساء بالبكاء!
ونأتي إلى القصة نفسها وهي موضوع التعقيب، أو موضوع الزجر والتأنيب للرجال الفضوليين الذين يدخلون فيما لا يعنيهم من شئون المرأة.
فمن الحقائق التي يجب أن تعلمها الآنسة الأديبة أن الكاتبات الروائيات لم يشتهرن قط بخلق الشخوص النسائية الخالدة في عالم الكتابة، ويصدق هذا على السابقات من طراز ماري كوريلي وشارلوت برونتي، كما يصدق على اللاحقات من طراز ڨيكي بوم وبيرل بك، بل يصدق في هذا المعنى أمر تستغربه الآنسة لو علمت به: وهو أن الرجال في روايات الكاتبات أصدق صورة من النساء؛ لأن المرأة على ما يظهر لا تحسن التعبير عن نفسها كما تحسن مراقبة الرجل والحكاية عنه، وإن لم تقصد التحليل والتصوير.
ولست أنا القائل: إن المرأة لم تفهم نفسها كما فهمتها من تصوير شكسبير لها، وإنه صور خمسا وعشرين صورة نسائية لا تختلط واحدة منها بالأخرى، ولا توجد امرأة واحدة تحصيها في وجوهها وملامحها، ولكن الذي قال ذلك امرأة فاضلة هي أنا جمسن
Anna Jameson
في كتابها بطلات شكسبير.
ولم توجد بعد المرأة الفذة بين النساء، كما كان شكسبير الرجل الفذ بين الرجال. •••
تلك طرائف آنسة في حديث الذكر والأنثى.
ولهذا الحديث طرائف أخرى في «رجل» كشفه الأستاذ السيد قطب، وقال هو عن نفسه: إنه يفخر بمشابهة المرأة في تكوينها.
هذا الرجل يقول لنا: «وأنا أحب أن يعلم الأستاذ قطب، وأن ينقل إلى الأستاذ الكبير العقاد، أن الحياة البشرية ليست من البساطة بحيث يظنان، وقديما زعم اليونان أن الآلهة عند خلقها للبشر لم تخلق الرجل والمرأة دفعة واحدة، بل خلقت أعضاء مختلفة ثم جمعت بين تلك الأعضاء لتسوي الرجل والمرأة، وهي لسوء الحظ أو حسنه لم تحرص على نقاء الرجل من عنصر المرأة، أو نقاء المرأة من عنصر الرجل، ولهذه الخرافة الرمزية دلالتها، فليست هناك امرأة كاملة الأنوثة، وليس هناك رجل كامل الرجولة ...» إلى آخر ما قال هذا الرجل الذي كشفه السيد قطب - جزاه الله.
ومنتظرون نحن حتى يجشم هذا الرجل نفسه مشقة الرسالة، التي بعث بها إلينا من طريق الأستاذ سيد قطب لينقلها إلينا ...!
منتظرون تلك الرسالة منذ متى يا ترى؟
منتظروها منذ سبع عشرة سنة يوم كتبنا نقول: «لا بدع أن يكون الأمر كذلك، وأن نجد حب تاجور أقرب إلى عطف الأنوثة ورحمة الأمومة، فإن فاصل الجنس ليس من المناعة والحسم بالمكان الذي يتوهمه أكثر الناس، وليس كل رجل رجلا بحتا ولا كل امرأة امرأة صميمة، وإنما تمتزج الصفات وتتفق المزايا ويكون في الرجل بعض الأنوثة كما يكون في المرأة بعض الرجولة، ولا أرى في تصور ذلك أظرف ولا أدنى إلى الصدق من الأسطورة التي يروونها عن اليونان، ويمثلون بها كيف كانت صنعة الإنسان، وكيف كان هذا الخلط بين خلق الرجال وخلق النساء، فقد زعموا أن الإله الموكل بهذه الصناعة دعي إلى وليمة الأرباب، فقضى ليلة يقصف ويلهو ويعاقر ويتماجن، ثم عاد عند الصباح مخمورا دهشا فألفى عمل النهار بين يديه لا مناص من إنجازه ولا حيلة في تأجيله، فأقبل على العواطف والجوارح يقذف ما اتفق له منها في الإهاب الذي يعرض له، ويرمي تارة بقلب رجل في أديم امرأة، وتارة أخرى بوجه امرأة على كتفي رجل، وهكذا حتى أتم عمله ...»
إلى أن قلنا: «وكأن «أوتو فيننجى» يقول ما تقوله هذه الخرافة حين شرح مذهبه في الحب، وقرر في كتابه الجنس والأخلاق أن لا ذكورة ولا أنوثة على الإطلاق، وإنما هي نسب تتألف وتتخالف على مقاديرها في كل إنسان، ولا عبرة فيها بظواهر الجوارح والأعضاء.»
فالرسالة إذن قد وصلت إلينا راجعة إلى الوراء، وقد تعاد إلى مرسلها للاستغناء ومعها ما يستحقه من الجزاء.
والجزاء الذي يستحقه أنه الآن لم يحسن أدب اليونان ولا أدب الخطاب، وأنه لو تعلم هذه الخرافة كما تعلمها قراؤنا قبل سبع عشرة سنة لما لاكها في مقاله كما يلوكها الآن ... ولأكل رزقه حلالا بتعليم الأدب اليوناني الذي يعلمنا إياه في هذه الأيام، ويريد أن يعترف له بفضل فيه، وهو ينكر فضل السبق على ذويه .
بلد المفارقات، وهذا الرجل كتلك الآنسة من هذه المفارقات ...!
الفصل السابع والعشرون
ذبح الفقراء لا يحل مشكلة الفقر
كتب أحد الأدباء يروي عني أنني قلت له: «... يكفي أن يتمتع الإنسان بحريته ليعيش سعيدا حتى لو كان فقيرا، وإن أي نظام أو أية محاولة ترمي إلى إزالة الفوارق الاقتصادية بين الطبقات، إنما هي ترمي في أساسها إلى تقييد حرية الفرد ...»
ثم سأل الأديب: «ولكن هل يملك الفقير حريته كما يقول الأستاذ العقاد؟ هل أستطيع أنا مثلا أن أسافر إلى الإسكندرية وألقي بجسدي المتعب على شاطئ البحر كما يفعل صديقي عادل صدقي نجل دولة صدقي باشا؟! لا نستطيع؛ لأن حريتنا محدودة بجيوبنا، فالمفلس لا يملك حرية الخروج من منزله والجلوس على القهوة، والذي في جيبه نصف قرش لا يملك حرية إشباع بطنه ...» إلخ. إلخ. •••
وفي نقل كلامي على هذه الصورة شيء من التحريف.
لأنني لا أقول: إن الحرية وحدها تكفي الإنسان وتغنيه عن الطعام، ولكني أقول: إن المذهب السياسي أو الاجتماعي الذي يسلبنا الحرية، يسلبنا أعز نعمة في الحياة الإنسانية، بل يسلبنا كرامة الإنسان ويستحق منا المقت والازدراء.
وأنا لا أقول: إن إزالة الفوارق الاقتصادية بين الطبقات ترمي إلى تقييد حرية الفرد، ولكني أقول: إن تقييد الحرية الفردية لإزالة هذه الفوارق نقمة لا يرحب بها رجل كريم.
وأنا أدافع عن الديمقراطية؛ لأنها تؤمن بحرية الفرد، وتصلح الناس إصلاح الأحرار المكلفين، لا إصلاح العبيد المسخرين.
ولكني أمقت المذاهب السياسية الأخرى؛ لأنها تسلب الحرية الفردية ولا تحل المشكلة الاقتصادية، فتحرمنا الكرامة ولا تكفل لنا الطعام، وهذا هو الحرمان الذي لا عزاء فيه ولا موجب لاحتماله والصبر عليه إلى زمن طويل.
فالنازيون والفاشيون والشيوعيون يستغفلون الناس حين يقولون لهم: إننا سلبناكم الحرية ولكننا أرحناكم من البطالة، ودبرنا لكم الرزق بتدبير الأعمال؛ لأنهم في الواقع كاذبون فيما زعموه من تدبير الرزق وتدبير العمل، وإن كانوا صادقين جد الصدق فيما أعلنوه من سلب الحرية، وتسخير الكرامة الإنسانية.
والنازيون اليوم يحتاجون إلى مليون عامل بل إلى مليونين، بل إلى ثلاثة ملايين لو وجدوهم من الألمان أو غير الألمان.
يحتاجون إليهم ويبحثون عنهم، ويغتصبونهم اغتصابا من كل مكان حكموه أو سيطروا عليه.
فهل نسمي حاجتهم هذه إلى العمال نجاحا في كفاح البطالة وتدبير الأرزاق؟
وهل هذا هو العمل الذي يريح الفقراء من أعباء الفقر، ويتيح لهم الاصطياف على شواطئ الإسكندرية؟
فكفاح البطالة على هذا المنوال هو الكفاح الذي يستطيعه النازيون والشيوعيون والفاشيون، وهو الدواء الذي يربي في الشر والبلاء على عشرة أدواء.
والنتيجة ماثلة أمامنا لا تذهب بنا إلى بعيد.
فالحرب الحاضرة وما جلبته على الناس من الكرب، والألم والضيق والغلاء هي ثمرة العلاج الذي دبره النازيون والشيوعيون والفاشيون لمشكلة البطالة وأزمة الأرزاق.
وقد استطاع النازيون وأمثالهم أن يديروا المصانع، ويستخدموا الأيدي العاملة؛ لأنهم أداروا المصانع جميعها على تحضير السلاح وأدوات القتال.
فاستراح الشعب الألماني من ملايين عامل عاطل بضع سنوات، ولكنه عرض للقتل خمسة أو ستة ملايين من أولئك الفقراء في سنة واحدة، وسيخرج من الميدان وفيه عشرة أضعاف العاطلين الذين كانوا فيه قبل دخوله، وإلى جانبهم عشرة أضعافهم من القتلى والمفقودين والمشوهين.
أي حل هذا لمشكلة البطالة؟
أي علاج هذا الذي يريحك من مليون عاطل بخمسة مليون قتيل، ثم يصبح الشعب كله أو جله من العاطلين؟
وليست المسألة هنا مسألة النظام السياسي الذي يطلقون عليه اسم النازية، أو اسم الشيوعية أو اسم الفاشية أو اسم العسكرية اليابانية، فإن النظم السياسية جميعا تتساوى في هذه القدرة متى لجأت إلى تشغيل الأيدي في الذخيرة والسلاح، وإن الديمقراطية لأقدر من المذاهب الأخرى على تشغيل الأيدي جميعا في إبان الحروب التي تساق إليها كما نرى الآن في كل مكان رأي العين، فلا ينبغي إذن أن يقال: إن تدبير الرزق بالإكثار من مصانع السلاح والذخيرة مزية من مزايا هذا النظام أو ذاك، فهي مزية ميسورة لكل من يختار هذا العلاج أو يندفع إليه، ولا يزال من المحقق بعد هذا كله أن الديمقراطية تفضل المذاهب الأخرى من شتى نواحيها؛ لأنها تعترف بالحرية الإنسانية ، ولا تعجز عن علاج مشكلة البطالة على هذا المنوال حين تشاء. •••
وبعد، فأين هو النظام السياسي الذي يسمح لكل من شاء أن يسافر إلى الإسكندرية، ويلقي بجسده المتعب على شاطئها؟
هب الفوارق الاقتصادية قد زالت كل الزوال، ولم يبق في الأرض إلا أنداد متساوون في الثروة والقدرة على المتاع، وأراد هؤلاء أن يذهبوا إلى الإسكندرية فكيف يذهبون؟
أيذهبون إليها بالبطاقات على حسب الدور؟ أيذهبون إليها دفعة واحدة في أسبوع واحد؟ إنهم على كل حال مقيدون بالإمكان الذي لا سيطرة لهم عليه، ولو استراحوا من تفاوت المراتب واختلاف الأرزاق. •••
يروي أبناء البلد قصة طريقة عن الكلب الرومي والكلب البلدي اللذين اصطحبا على الخير والشر، وذهبا إلى سوق الجزارين يبغيان الرزق من وراء الأوضام والسواطير.
ذهبا أولا إلى سوق الروم، فإذا الحواجز قائمة على الدكاكين، وإذا هي لا تبيح مدخلها لإنسان ولا حيوان بغير حساب، وإذا العظام فيها توضع حيث تصان من الخطف والاختلاس.
وقال لهما صاحب الدكان: «إكسوا.» فخرجا محرومين جائعين، وطافا النهار على الدكاكين ولم يظفرا بغير «إكسوا» التي يعقبها نذير الخطر، أو بالقليل من العظم المنبوذ الذي لا خير فيه.
ثم أصبحا من الغداة على سوق أبناء البلد، فلم يحجزهما حاجز عن اللحم والعظم، ولم يلبثا هنيهة حتى أصابا الشبعة من اللحم والعظم بغير نصب، وسرهما أن يسمعا صاحب الدكان يقول لصبيه: «ناوله.» ويشير إلى الكلب الرومي الذي أوغل في داخل الدكان بغير مبالاة لاغتراره بقلة الحواجز والحراس، فحسبا أنها مناولة إكرام وضيافة تغنيهما عن التسلل والاختلاس، وانتظرا هذه المناولة انتظارا غير طويل؛ لأن الكلب المسكين لم يشعر بعد ذلك إلا بضربة من الساطور أوشكت أن تقصم صلبه، وانطلق يعوي على غير هدى، وهو يقول لصاحبه الذي طفق يناديه ويستعيده: لا لا يا صديقي «عشرة إكسوا ولا واحد ناوله ...»
والدجالون أعداء الديمقراطية قد لبثوا سنين عدة وهم يرفعون العقائر بحرب البطالة، وهم يزعمون أنهم خلقوا عملا لكل مستطيع؛ لأنهم أداروا معظم المصانع على صنع الدبابات والمدافع والطائرات وأدوات الهلاك .
وانظر أيها العالم الذاهل ... لقد هبط عدد العاطلين من ثلاثة ملايين إلى مليون!
وانظر مرة أخرى، لقد هبط العدد من مليون إلى مئات قليلة من الألوف؟
وانظر مرة أخرى، لقد خلص الوطن من العاطلين أجمعين، وزاد على ذلك أن استدعى إليه الملايين من عمال الأجانب المسخرين.
ثم أفاق العالم من ذهوله على أضعاف أولئك العاطلين مقتولين ومجروحين ومشوهين، ولن تنقضي مدة حتى تنجلي الهزيمة على أضعاف أضعافهم من المساكين عالة على أوطانهم وعلى العالم كله عدة سنين.
وهذه هي «المناولة» التي يحسنها الدجالون من أعداء الديمقراطية، ويسمونها علاجا لمشكلة الأرزاق، وتسوية بين الطبقات، وليست هي من ذلك في كثير ولا قليل.
خير من كل علاج كهذا العلاج أن يقوم المجتمع على تعاون الطبقات، فيفرض المعونة على القادرين لينتفع بها الضعفاء حقا مفروضا لهم في رقاب الأمة أو الدولة، وأن يفتح للفقير باب السلم فيصعد عليه إلى الذروة حيثما استطاع، وأن يتسابق العاملون في ميدان الحياة، كما يتسابق الأحرار ولا يستكينوا فيها كما يستكين العبيد.
فالكرامة الإنسانية تأبى أن تحل مسألة الأرزاق كما حلتها مصالح السجون في العالم المتمدن بأسره: كل مسجون ينام وهو شبعان، وكل مسجون له عمل يحرك به يديه، وكل مسجون يكسو جسده ويأوي إلى سقف يظله، ويعرض نفسه على طبيب.
ولكنه لا يحسد على هذا النصيب.
والعقل الإنساني يأبى أن تحل مسألة الأرزاق بالإكثار من مصانع الذخيرة والسلاح؛ لأن علاج البطالة بالموت والخراب طب مجانين.
إنما الكرامة والعقل أن نحفظ الحرية، وأن نطلب الرزق مع الحرية، وأن نؤمن بأن أخطاء الديمقراطية في تدبير مسألة الأرزاق أسلم من صواب مزعوم لا يثبت على التجربة برهة حتى يعصف بكل ما أفاد، إن صح أنه أفاد.
الفصل الثامن والعشرون
زواج الأقارب والأباعد
أرسل إلي بعض الأدباء يقول:
هل لي أن ألتمس لديكم الرأي في أمر عن لي؟ لم أوفق إلى غيركم أطمئن إليه، لأعهد إليه في الإجابة الشافية القويمة.
والمسألة هي مسألة زواج ذوي القرابة، وخصوصا القرابة القريبة بين من يسميهم الإنجليز أبناء العمومة
Cousins .
فقد زعم بعض من كتب في هذا الموضوع وقرأت لهم أن النسل يأتي هزيلا معتل البنية والذهن، كلما اقترب الزوجان في النسب، ولنضرب مثلا لذلك صاحب كتاب أصول الحضارة في تدعيمه رأيه ببيوتات أوروبا المالكة، كما قرأت أيضا ما ينفي هذا القول ويثبت نقيضه.
ثم إنني رأيت أن نبينا محمدا - صلوات الله عليه - قد ذهب إلى تزويج بنتين من بناته من رجلين من ذوي قرباهما القريبة، فاستنتجت من ذلك أن لا غضاضة ولا مضرة في مثل هذا الزواج.
ومن هنا ترون التضارب والخبط بين علماء أوروبا وأدباء العربية القدامى في أمور هي من الأهمية بالمكان الأول؛ لأنها تتعلق بمستقبل بني الإنسان، وما يرجى لهم على هذه الأرض من ارتقاء في بنية الجسوم والعقول والأخلاق.
وعلى هذا نلتمس بين يديكم الحجة والصواب في هذه المشكلة من الناحية البيولوجية والعلمية ... وأما ونحن بصدد الزواج وما يدور حوله، فليسمح لي الأستاذ أن أستفتيه في اقتران المصريين من الأوروبيات الغربيات من الناحية البيولوجية الحديثة ...
ومسألة الزواج اليوم - وبعد الحرب الحاضرة على الخصوص - هي إحدى المسائل التي يتجدد البحث فيها، أو يعاد النظر إليها على ضوء من العلم الحديث، والتجارب السابقة واللاحقة في المجتمعات المختلفة، حسبما تدين به تلك المجتمعات من العقائد الدينية والسياسية، ولا سيما المجتمعات التي تفرض عليها عقائدها رأيا خاصا في بناء الأسرة، وعلاقات الرجال والنساء.
فالنظر إليها من بعض جوانبها مقدمة لنظرات كثيرة في الواقع سيشغل بها أبناء مصر مختارين، أو غير مختارين بعد زمن قصير.
ومن هذه الجوانب التي تستحق النظر أو تستحق إعادة البحث فيها جانب الزواج بين الأقارب والأباعد، وما يقوله عنه المختصون بهذه الشئون من علماء الاجتماع، ومؤرخي طبائع الأجناس.
فالزواج بالأباعد - وهو ما يسميه خبراء هذه الشئون «إكسوجامي»
Exogamy - هو عادة أو شريعة من أقدم الشرائع في المجتمعات الفطرية، والمجتمعات التي أخذت بنصيب من الحضارة.
ويندر بين هذه المجتمعات من لم يعرف «الإكسوجامي» في صورة من صوره الكثيرة، التي تتقلب على جميع الفروض ، وتتناقض أغرب التناقض في بعض الأحوال.
فمن هذه المجتمعات ما يحرم فيه زواج الأخوين، ولا يحرم فيه زواج الأب ببنته، ومنه ما يحرم فيه زواج هؤلاء جميعا ومعهم أبناء الأعمام، ومنه ما يحرم فيه زواج أبناء القبيلة الواحدة الذين ينتسبون إلى جد واحد، ومنه ما يحرم فيه الحمل، ولا تحرم فيه الصلات الجنسية.
والاختلاف في تعليل هذا التحريم بين الباحثين فيه أكبر وأوسع من اختلاف القبائل في هذه العادة، وهذه الشريعة.
فمنهم من يعزوها إلى غيرة الأب من ولده، وغيرة الأم من بنتها، ومنهم من يعزوها إلى رغبة الرجال في إظهار القوة باغتصاب الحلائل من القبائل البعيدة، ومنهم من يعزوها إلى «الطوطمية» أو اتخاذ حيوان من الحيوانات جدا للقبيلة كلها وربا حارسا لجميع أفرادها، فهم جميعا في حكم الأسرة الواحدة التي لا يجوز لها أن تأكل من لحمها ودمها ... ومنهم من يعزوه إلى الأسباب الاقتصادية؛ لأن الأب يتقاضى مهرا من الزوج الغريب ولا يتقاضاه من ابنه أو ابن عمه، ومنهم من يعزوه إلى ما يكون بين الأقربين من الألفة، التي تضعف الرغبة الجنسية وتنشئ بين الأقربين علاقة من الرحم غير علاقة الزواج.
وكل أولئك جائز أن يؤدي إلى تقرير هذه الشريعة في الجماعات الأولى، وإن غلب بعضه على جماعة، وغلب غيره على جماعة أخرى.
وقد كان اجتناب الأقربين في الزواج مذهبا معروفا بين العرب، وإن لم يتفقوا عليه، فكان أناس منهم يعتقدون أن الولد يجيء من القريبة ضاويا «لكثرة الحياء من الزوجين فتقل شهوتهما، ولكنه يجيء على طبع قومه من الكرم»، وفي ذلك يقول أحدهم:
يا ليته ألقحها صبيا
فحملت فولدت ضاويا
ويروى عن النبي - عليه السلام - أنه قال: «اغتربوا لا تضووا.» حديث لا نقطع بصحته؛ لأنه - عليه السلام - قد زوج بنتيه من الأقربين، كما ذكر الأديب صاحب الخطاب.
أما الرأي الذي يوشك أن يستقر عليه الخبراء بهذه الشئون، فهو أن الزواج بالأقارب لا ضرر فيه من الوجهة البيولوجية إلا في حالة واحدة ، وهي أن يغلب على الأسرة كلها استعداد جسدي لبعض الأمراض، كما يتفق أن يغلب على بعض الأسر الاستعداد لأمراض الصدر، أو اختلال الأعصاب أو سوء الهضم، أو ما شاكل ذلك من دواعي الضعف التي تورث وتنتقل إلى الأبناء، فإن الولد إذا ورث الاستعداد للمرض من أبيه وأمه كانت وقايته منه أصعب من وقاية أبويه، وهذه حالة لا شك في ضررها، سواء كان تشابه البنية في أسرة واحدة أو في أسر غريبة، إذ لا يجوز لرجل مستعد لمرض من الأمراض أن يتزوج بامرأة مستعدة لهذا المرض على التخصيص، سواء كانت من أهله أو غير أهله.
أما في غير هذه الحالة، فزواج الأقارب مأمون من الوجهة البيولوجية على قول الأكثرين من الثقات، وقد روى وستر مارك في كلامه عن أحدث الآراء في موضوع «الإكسوجامي» مشاهدات بعض المعنيين بتجربة التلاقح بين الحيوانات، فإذا بالكثيرين منهم يتفقون على أن هذه الحيوانات سلمت من عوارض الهزال المزعوم، وأنجبت ذرية من أحسن أنواعها في صفات القوة والنشاط، ولا سيما الحيوانات التي يعنى بانتخابها، وإبعاد الضعيف منها لأسباب فردية، لا علاقة لها بالبنية الموروثة.
ومع هذا أي قول من أمثال هذه الأقوال يمضي بغير خلاف من النقيض إلى النقيض؟
فمن أعجب التناقض في هذا الصدد أن الكاتب بت رڨرس
ينفي الضرر من تزاوج الحيوانات القريبة، ويجعل شاهده على ذلك خيول السباق، فإذا بزميل له في هذه البحوث وهو سير جيمس بن بوكوت
Boucat
يناقض هذا الرأي، ويتخذ خيول السباق نفسها حجة له على قوله، ويهيب بقومه أن يدركوا ذرية الخيول الإنجليزية بدم غريب قبل أن يبلغ بها الضعف مبلغا لا تجدي فيه المداركة.
والقول الفصل في هذا الخلاف غير مستطاع، ولكننا نسيغ بالعقل سبب الضعف الذي ينجم من تزاوج الأقربين، وهو اشتراكهم في الاستعداد للأمراض والعوارض الخلقية أو الخلقية، فإذا انتفى هذا الاشتراك فليس يتضح أمامنا سبب للتحذير من هذا الزواج، وليس فيما شاهدناه من الأمثلة دليل على أن زواج الأقربين أضر بالذرية من زواج الأبعدين. •••
أما زواج المصريين بالأوروبيات فلا ضرر فيه من الوجهة الجسدية مع سلامة الزوجين، وفيه إلى جانب هذا مزايا التلقيح بالدم الجديد الذي شوهدت حسناته في كثير من الشعوب والأفراد.
ونحن نعتقد أن المسألة هنا ليست مسألة اللحم والدم، وصحة الجوارح والأعضاء، ولكنها مسالة «الأعصاب» التي هي خزين الملكات والمواهب الخلقية والعقلية ومناط التفاضل الكبير بين الأقوام والأجناس، فقد تكون المرأة صحيحة الدم واللحم بريئة من عوارض السقم والهزال، ولكنها لا تنفث في أبنائها نشاطا جديدا ما لم يكن مصدر هذا النشاط ذلك الخزين العصبي، الذي تكنزه بعض الأمم بالتجارب النفسية والجسدية في عشرات الألوف من السنين.
فهذا الخزين العصبي هو الذي يستفاد من البناء بالأوروبيات، ولا سيما بنات الشمال.
ومن هذه الوجهة لا اعتراض على زواج المصريين بالأوروبيات، أو من يشابههن في هذه الخصلة، وإنما يأتي الاعتراض على هذا الزواج من الوجهة القومية، والوجهة الأخلاقية والوجهة الإنسانية على السواء.
فالنساء المصريات اليوم أوفر عددا من الرجال المصريين، فإذا تركهن أبناء وطنهن ليبنوا بالأجنبيات فعاقبة ذلك عضل مئات الألوف من البنات في سن الزواج، وعاقبة هذا العضل فساد في الأخلاق وبلاء على المجتمع المصري يربيان على كل نفع مرجو من البناء بالأوروبيات، ولو كن من أفضل النساء.
وهكذا يرى الأديب صاحب الخطاب أن شئون الأمم تعالج جملة من جوانب كثيرة، ولا يقتصر العلاج فيها على جانب دون جانب، وعندنا أن الأمة التي تكون كل فتاة فيها متزوجة في سنها المعقولة أسلم من الأمة التي ينجب فيها عشرة آلاف أو عشرون ألفا نسلا متفوقا وإلى جوارهم ألوف العوانس يبتذلن أنوثتهن، فيسري فسادهن إلى البيوت جميعا، ويغرق ذلك النسل المتفوق في لجته التي لا تدفعها شطوط ولا جسور.
فنصيحة الفرد أن الزواج ببنات الأمم المتقدمة زواج صالح مطلوب.
ونصيحة الأمة أن ترك بناتها معضولات بلاء غير مأمون، فإن تسنى دفع هذا البلاء، وتحصيل النفع من البناء بالأوروبيات المتقدمات، فقد استطيعت خدمة الفرد والأمة على السواء.
ولكنه على هذا احتمال بعيد.
الفصل التاسع والعشرون
ماذا نعمل ؟
أطلب إلى سيدي الأستاذ أن يتبع هذا المقال بنفحة أخرى تبين لنا ما نعمله لنبلغ من أمرنا ما نريد، وأرجو ألا يعتبر مني هذا اقتراحا أو ما في معناه، وإنما هو محض استزادة من خير علمك العميق النظيف ...
وهذا سؤال حقيق بأن يسأل، وكنت أود أن يسأل، فهو حقيق بأن يجاب.
وجوابي للأديب أن حاجتنا الكبرى إنما هي أن نعلم كيف نريد، لا أن نعلم كيف نعمل، فإذا أردنا عملنا؛ وكل مريد عامل وعارف بوسيلته إلى إنجاز مراده.
مضى زمن والناس يتحدثون عن الإرادة والعمل كأنهما قدرتان مفصولتان، وعن العاطفة والفكر كأنهما شيئان لا يتلاقيان، وعن الخيال وفهم الواقع كأنهما ملكتان نقيضتان، إلى آخر ما يفرقون ويقابلون بين ملكات الطبائع وخصائص الأذهان، وهذا خطأ في تصوير الحقائق يتبعه لا محالة خطأ في تصوير العلاج والإصلاح.
ليست الإرادة والعمل ولا غيرهما من الملكات والطبائع خطين متلاحقين يبدأ أحدهما عند نهاية الآخر، أو جسمين متحيزين لا يجتمعان في مكان واحد، وإنما هما مظهران من قوة النفس يصدران عن معين لا يتجزأ، ولا ينفصل بالحدود والمعالم، فإذا امتلأت النفس بالقدرة على الإرادة فقد امتلأت بالقدرة على العمل في وقت واحد وفي صورة واحدة؛ ولن يفشل الفاشل في عمله - وقد تهيأت للعمل أسبابه - إلا لأنه ناقص الإرادة.
أرأيت إلى الناس وهو يطلبون السيادة، ولا يبلغها منهم إلا قليل؟ ما بال قوم منهم يبلغونها وأقوام ينكلون عنها خاسئين؟
إنما يبلغها من بلغ؛ لأنه أرادها ولم يرد غيرها، فهو سيد وإن تراخى الزمن دون الإقرار له بالسيادة؛ وهو سيد لأنه لن يكون عبدا، وإن أخطأته الذرائع إلى حين.
أما الذي يبغي أن يسود، ولا يأبى أن يكون عبدا فأين هو من إرادة السيادة؟
وأما الذي يبغي أن يسود ولا يختلف عنده مقام السيد الرفيع ومقام العبد الذليل، فأين هو من إرادة السيادة؟
وأما الذي يبغي أن يسود ويحسب أن الناس يسودونه قبل أن يسود عليهم، فأين هو من إرادة السيادة؟
قل: إنه يتمنى أن يسود، أو قل: إنه يحلم بأن يسود، أو قل: إنه لا يكره أن يسود، فأما أنه يريد فمعاذ الإرادة أن تجتمع ونقيضها في عزيمة واحدة، ومعاذ الإرادة أن تجتمع ولا يتبعها عمل ولا يتبع العمل نجاح.
لماذا لا نعمل؟ لأننا لا نريد! ولماذا لا نريد؟ لأن زادنا من الحس والوعي والخيال قليل.
ومع هذا فنحن لا نزهى بشيء كما نزهى بفرط الحس، وفرط الوعي وفرط الخيال ... فهل رأيت إلى بعد ما بين الحقيقة والدعوى، وبعد ما بين وصف الداء ووصف العلاج؟!
املأ النفس بالحس والوعي والخيال تملأها بالحركة والإرادة غير منفصلين، وانظر إلى الطفل الدارج لماذا لا يهدأ؟ ألأنه قرأ الفصول والمباحث في فضل الحركة والنشاط؟ ألأن أحدا أمره أو أحدا أغراه؟ كلا! ولكنه يتحرك وينشط؛ لأنه شبعان من الحس شبعان من إرادة العمل الذي يهواه، ولو سبب غير ذلك دعاه إلى الحركة والنشاط لما استجاب، إذا أحسسنا لم نصبر على الركود، وإذا نفضنا الركود، فماذا أمامنا غير الحركة والعمل؟ وماذا أمامنا غير الظفر والفلاح؟
لننس كل النسيان وأشد النسيان أننا - معاشر الشرقيين - قوم مصابون بفرط الحس والوعي والخيال، فإننا لأبرأ الناس من هذا المصاب إن كان مصابا، وإننا لأحوج الناس إلى الشفاء، وهو شفاء.
وآية ذلك أن نسأل كم عدد المعبرين عن الحس والخيال في الشرق كله؟ وكم عدد هؤلاء في أمة واحدة من أمم الدنيا المريدة العاملة؟
كم في أمة واحدة من أمم الدنيا المريدة العاملة السيدة الأيدة من مصورين ومثالين؟ وكم فيها من موسيقيين ومنشدين؟ وكم فيها من ممثلين ومخرجين، وكتاب روايات وشعراء وأدباء؟ وكم فيها من متاحف وتماثيل؟ وكم فيها من باعة أزهار وأساتذة تجميل؟ وكم فيها من مغامرين مقاديم يبيعون الواقع بالخيال، ويستغنون عن الممكن الميسور بما يلوح للعاجزين كأنه محال؟
كم من هؤلاء في أمة واحدة؟ وكم منهم في الشرق كله هذا الزمان، وأخشى أن أقول في جميع الأزمان؟
إن لم تكن الحقيقة أن الشرق مسكين غاية المسكنة مدقع غاية الإدقاع في أزواد الحس والخيال، فالأسطورة الكبرى ولا ريب هي أنه مسرف في حسه وخياله، مفرط في شطحاته وآماله.
فما بالنا نحار كيف نعمل، وأولى بنا أن نحار كيف نحس ونتخيل، وما بالنا ننشد أسبابا للحركة والعمل غير أن نملأ نفوسنا بالإحساس، كأنما هذا وحده غير كاف، وكأنما نحتاج بعد الإحساس إلى مزيد؟
إن الإنسان ليثور من السخط والغضب حين ينظر إلى شعرائنا العجزة المعدمين، وهم يتيهون من الغنى الموهوم، ويتغطرسون بالثراء المعدوم، واسمعهم يتغنون بالحب مثلا، والحب فيض في الشعور واتساع في آفاق الوجدان، واسمعهم يتغنون به وهو صنوف لا تنحصر في معنى واحد ولا في نمط فريد: حب الناشئين غير حب الكهول، وحب التفاهم والتعاطف غير حب المتع والشهوات، وحب المرأة المطواع اللعوب غير حب المرأة العصية الشموس، وحب المنكوب اللاجئ إلى حرم العاطفة غير حب السعيد الناعم بما في يديه، وحب الواثق غير حب المرتاب، وحب الوسيمة القسيمة غير حب الرشيقة الظريفة، وحبك الأول غير حبك بعد تجربة ومراس، وصنوف غير ذلك تتعدد بعداد الرجال والنساء، وعداد الأحيان والأعمار والمناسبات.
اسمعهم يتغنون بهذه العاطفة الشاملة الداوية العميقة الرحيبة التي لا عداد لها بالألوان، وإن عدت باللفظ في كلمة واحدة، وقل لي ماذا تسمع غير نغمة واحدة معروضة في شتى أساليب؟ ماذا تسمع غير أن حبيبة هاجرة أبدا، وحبيبا سيموت أبدا وفوق ذلك قطرات هنا من دموع وشهقات هناك من أنين؟
ودع هذا واسمع المنشد أو المنشدة لا يكادان يفرغان من نغمة مبدوءة حتى يتبعهما ضجيج وزعيق، وقرع وخبط وتصفيق، كله نشوز واختلاط ومنافاة أبعد المنافاة لسماع الألحان والأنغام، وقل لي: هل تصدق أن هؤلاء السامعين يستمعون إلى موسيقى، ويصغون إلى فن وينعمون بتعبير جميل وتنسيق لا يطيق الاختلال؟
فأما الموسيقى والنشوز والخبط والزعيق، فمحال أن يجتمع هواها في أذن واحدة في لحظة واحدة؛ وأما الذي يجتمع مع النشوز والخبط والزعيق، فهو تخبط الجسد المحموم بحمى البهيمية، لا تمييز فيه ولا ذوق ولا خيال.
علم الله ما أصغيت إلى جمع من هؤلاء الناعقين الناهقين ، ولا توسمت ما يزهون به من «حساسة» وظرافة إلا تلمست في يدي موضع السوط ألهبه تلك «الحساسة»، وأطير به تلك «الظرافة» وأثبت لهم بالسوط وحده - ولا إثبات بغيره لأمثال هؤلاء - أنهم بلداء بلداء بلداء، وأنهم يغثون النفوس من فرط كونهم بلداء غارقين في بلادة لا تفيق. •••
لا يا أساة الشرق الحزين والمشفقين عليه!
داووه من نقص الإحساس، لا من فرط الإحساس؛ وداوود من ضنانة الخيال، لا من سرف الخيال.
وعلموه أن يحس، تعلموه أن يريد؛ ومتى تعلم أن يريد فلا حاجة به وراء ذلك إلى تعليم.
ولقد يسأل السائل من جديد: ومن لنا أن نثبت فيه الحس المأمول؟ وجواب ذلك سهل في التعبير، ولا أزعم أنه سهل في الإنجاز والتحقيق.
جواب ذلك أن الحس لا يخلق خلقا، ولكنه يتعهد بالحث والإيقاظ إن أصابه جمود ورانت عليه ثقلة الكسل والجثوم.
وليس أنجع في الحث والإيقاظ من تصحيح الأجسام وتصحيح الأذواق: تصحيح الأجسام بالرياضة الصالحة القوية، وتصحيح الأذواق بالفنون الجميلة الرفيعة؛ ومن صح جسده وحسن ذوقه، فلن يفوته الشعور بما حوله؛ ومن شعر بما حوله، فماذا يبقى له إلا أن ينشط ويعمل، وإلا أن يريد وينجز ما يريد؟
الفصل الثلاثون
هل تصبح مصر اشتراكية؟
الاشتراكية في الواقع اشتراكيات متعددة وليست باشتراكية واحدة، والاشتراكيون جملة هم أكثر الناس اختلافا على تفاصيل مذهبهم وأكثرهم اتهاما لمن يخالفونهم، فيكفي أن يتصرف بعضهم في نصوص المذهب بعض التصرف ليقال: إنه «دسيسة» من أصحاب رءوس الأموال، وأنه يرمي من وراء مخالفته إلى غرض ينتفع به على حساب الحركة! ومنهم من يعتبر تشويه سمعة المخالفين - بالحق أو بالباطل - واجبا محتوما يفرضه الدعاة على أنفسهم، وفي مقدمتهم زعيم الاشتراكية الأكبر «كارل ماركس» الذي يدين له الشيوعيون بالولاء.
لكنك على كثرة المذاهب الاشتراكية، وكثرة التهم التي يتقاذفها المختلفون عليها تستطيع أن تقسمها جميعا إلى معسكرين اثنين يدور بينهما أكبر الخلاف، وهما المعسكر الذي يوافق الديمقراطية والمعسكر الذي يحاربها ولا يوافقها بحال من الأحوال.
فالاشتراكية التي تحارب الديمقراطية وتسعى إلى هدمها هي مذهب كارل ماركس ومن والاه، ولا بد فيها من عناصر ثلاثة، لا تقوم بغيرها، وهي الإيمان بالتفسير المادي للتاريخ وتغليب طبقة واحدة على المجتمع كله، واستخدام العنف لا محالة لتعجيل الانقلاب المطلوب ... فمن لم يؤمن بالمادية المطلقة في جميع مظاهر الحياة، وبإلغاء جميع الطبقات ما عدا طبقة الأجراء، وضرورة الثورة الدموية لتحقيق المذهب، فليس هو من الماركسيين، وقد يتم التفاهم بينه وبين الديمقراطية على نحو من الأنحاء.
ومصر بعيدة جدا عن الاشتراكية الماركسية، وبعيدة على درجات من البعد عن الاشتراكية الديمقراطية.
لأن الاشتراكية - حتى الديمقراطية منها - تستلزم خطوة سابقة لظهورها، وهي الخطوة التي يسمونها بالوعي الاجتماعي أو بوعي الطبقات، ومعنى هذا الوعي أن تشعر طبقة الأجراء والصناع خاصة بوجودها، وانعزالها عن سائر الطبقات الاجتماعية الأخرى، ولا يتفق ظهور هذا الوعي إلا بعد شيوع الصناعات، وازدحام المدن بجماعات الصناع، وتعاقب بينهم وبين أصحاب الأموال.
ومصر لم تعرف وعي الطبقات على هذا المعنى، ولم يبد من بوادره فيها إلا أثر ضعيف لا يعتمد عليه في توجيه الحركات الاجتماعية.
فالعاملون في الزراعة لا تتألف منهم وحدة كالوحدة التي تتألف من ألوف العمال الذين يشتغلون في مصنع واحد ومدينة واحدة، ولا يندر في الريف المصري أن يكون العامل في الأرض من أبناء عمومة المالك الكبير أو من ذوي قرباه، ومعظمهم يعتزون بنسبهم هذا أكثر من اعتزازهم بعصبية الطبقة الفقيرة، التي لا يحسبون أنفسهم منها، وإن كانوا فقراء.
والعاملون في المدن لا تتألف منهم تلك الوحدة القوية التي توجد مع الصناعات الكبرى، واتصال تلك الصناعات بمرافق الأمة بأسرها، وقد ظهرت بينهم البوادر التي لم تظهر بعد بين عمال الزراعة، فهم يشعرون بطبقتهم ويبحثون عن حقوقهم، ولكنهم لم ينتظموا في حركتهم على النحو الذي يهيئ لهم ولاية الحكم أو المشاركة فيه.
إذن نحن في مصر بعيدون عن الاشتراكية الماركسية، وبعيدون شيئا ما عن الاشتراكية الديمقراطية.
ولكن لا تنس مع هذا أن الاشتراكية تجيء إلينا إذا جلسنا في أماكننا وانتظرناها، ولا نعرف طريقها إذا نحن سبقناها إلى منتصف الطريق.
فبعد الحرب الحاضرة لن تبقى أمة واحدة على وجه الأرض بغير تسوية مشروعة بين العمال وأصحاب الأموال، وستفرض هذه التسوية فرضا بالنظم الدولية التي تقرها كبار الأمم وتتفق على تنفيذها، وربما كان إنصاف العمال شرطا من شروط الانتظام في جماعات أمم الحضارة، كما كان الاعتراف بالنقابات شرطا من شروط الدستور الذي قامت عليه عصبة الأمم بعد الحرب الماضية.
وخير لنا أن نفرض هذا الإنصاف على أنفسنا قبل أن تفرضه النظم الدولية علينا.
فإن لم يكن ذلك فإن تعميمه بالنظم الدولية أنفع لنا من التفرد بين الأمم بتجاهل مطالب العمال، والإغضاء عن حقوق العمل في صوره المختلفة؛ لأن هبوط مستوى المعيشة بين الطبقة العاملة في بلادنا يسوق إلينا الأموال الأجنبية، التي يطمع أصحابها في استغلال مرافقنا، لرخص الأجور عندنا.
فعلينا إذن أن نسبق الاشتراكية إلى منتصف الطريق، وإلا جاءتنا الاشتراكية، وفتحت أبوابنا على الرغم منا.
ونعني بسبق الاشتراكية إلى منتصف الطريق أن نؤمن بتعاون الطبقات، فنقضي على حرب الطبقات قبل احتدامها.
ولا بد من تعقل الأغنياء هنا في مواجهة الحقيقة، بل لا بد من فرض هذا التعقل على جهلائهم بهداية الزعماء الذين يعرفون الخطر قبل وقوعه، ويعطون الحق قبل أن يغصبوا عليه.
ومن آيات هذا التعقل أن يقبل أصحاب الأموال زيادة الضرائب على ثرواتهم الكبيرة لنشر التعليم، وتحسين الصحة العامة، وضمان العيش للشيوخ والعجزة، وضمان التربية وسلامة البنية للأطفال الصغار المحرومين من العائلين.
ومن آيات هذا التعقل أن يتبرع الأغنياء بالأموال لبناء المستشفيات والملاجئ والمدارس الشعبية، وإقامة المصانع وإصلاح الأرض البور تيسيرا لوسائل العمل، وتوفيرا للسلع والخيرات، فلا يكون قصاراهم من خدمة المجتمع أن يرضخوا من الضرائب طائعين أو كارهين.
وفي اعتقادنا أن الأمم تستطيع أن تحول الحركة - حركة الاشتراكية - عن مجراها الذي رسمه لها كارل ماركس، إذا هي قضت من البداية على حرب الطبقات بتعاون الطبقات.
وكارل ماركس يزعم أن هذا التعاون مستحيل؛ لأنه يؤمن بالضرورة المادية ولا يصدق أن أصحاب الأموال يتعقلون، أو ينزلون عن جزء من أرباحهم - ولو يسير - بغير الاضطرار والإكراه.
ولكن التجربة الإنجليزية والتجربة الأمريكية تدلان كلتاهما على إمكان التعاون بين الطبقات في ظرف من الظروف.
ونحن على أيقن اليقين أن الإنجليز والأمريكيين يقيمون إنصاف الطبقات اليوم على أساس أعدل وأبقى من الأساس الذي يقام عليه في بلاد الشيوعيين.
ولولا أن نبوءات الغيب مجازفة لا يضبطها الحساب في كل حين لقلنا: إن الروسيا ستكون بعد عشرين أو ثلاثين سنة أقل البلاد الاشتراكية في القارة الأوروبية؛ لأنها ستحتاج إلى خلق الطبقات التي أخذت منذ اليوم تتدرب على التعاون في الأقطار الأخرى، وستحتاج أن تتعلم من تلك الأقطار دروسا في الوعي الاجتماعي الجديد، بعد أن قصرته على طبقة واحدة تحارب كل من عداها.
والتجارب الإنجليزية والأمريكية - ومثلها تجارب الدانمارك والسكندناف - توفق بين طبائع الأفراد وطبائع الأمم ومبادئ الحرية العامة في نظام معقول ضحاياه أقل كثيرا من ضحايا الانقلاب الشيوعي حيث كان وكيفما كان.
لأن التنافس لازم لاستنهاض همم الأفراد إلى طلب الكمال، والتعاون لازم لتحقيق المصلحة العامة، ومبادئ الحرية هي الفارق بين الإنسان والحيوان الذي يقنع بالمعيشة المادية، كما يعيش القطعان في الحظيرة، أو على أحسن الأحوال كما يعيش المذنبون في السجون.
ونظام الديمقراطية كما يطبق الآن - وبعد الآن - في تلك البلاد الأوروبية يسمح للأفراد بالتنافس، ويعطي المجتمع حقوقه النافعة، ولا يجور على مبادئ الحرية العزيزة على بني الإنسان.
وفي وسعك أن تقرر - وأنت صادق كل الصدق - أن المرافق الكبرى في تلك البلاد ملك للأمة بأسرها، وأن الأفراد فيها أجراء لا يملكون شيئا منها؛ لأن صاحب المصنع الذي يعطي الأمة سبعين أو ثمانين - أو تسعين في المائة من أرباحه - لا يتقاضى أكثر من مدير موظف يستأجر لإدارة دفة المصنع على حساب الدولة، ولكنه في ظل النظام القائم يملك همة المنافسة، ونشاط الرغبة الفردية، ويشعر بالحرية ويعمل للجماعة وهو يحسب أنه يعمل لنفسه ويغار عليها.
أما المدير الذي يعمل كالموظف في غير ملكه، فلا يحقق حرية الفرد ولا مصلحة الأمة، ولا يلبث التنافس المعطل فيه وفي غيره أن يبدي عواقبه الوخيمة على مصالح المجتمع ومصالح الأفراد.
هذه الاشتراكية الديمقراطية نتمناها لمصر ولا نخاف عليها منها، ونعتقد أننا سائرون إليها بالقدوة الدولية، وإن لم نمر بأطوارها الصناعية كما مرت بها الأمم من قبلنا، ولكن القدوة الدولية لن تغنينا عن ولاية الأمر بأيدينا كما يوافق مصالحنا وآدابنا وتقاليدنا، ولن تعفينا من السبق الآن إلى لقاء الاشتراكية الديمقراطية، دون أن ننتظرها لنبتلى بتجاربها ونمتحن بمغامراتها.
أما الاشتراكية الشيوعية فلا نرى من دلائل الحاضر أن بلادنا سائرة إليها، بل لا نرى أنها باقية في بلادها إلى أمد طويل، وقد يرى من يعيشون اليوم أن بلادها ستصبح في يوم غير بعيد أقل بلاد الحضارة اشتراكية ... أو أقل بلاد الحضارة توفيرا للعمل وإنصافا للعمال.
الفصل الحادي والثلاثون
هل الحياة «لوترية»؟
ما هي «اللوترية» قبل كل شيء؟
إن كان الغرض من «اللوترية» أنها مصادفات بغير سبب، فاللوترية نفسها ليست بلوترية على هذا المعنى.
لأنها ليست مصادفات بغير سبب.
ولأن المصادفات شيء لا وجود له في هذا العالم، ولن يكون له وجود.
ولكل خطوة من خطوات «اللوترية» سبب مفهوم.
فلماذا ربحت هذه الورقة ولم تربح الورقات الأخرى؟
لأن الأرقام التي أخرجها دولاب السحب توافق الأرقام التي كتبت من قبل على هذه الورقة.
ولماذا حصل هذا الاتفاق بين الأرقام؟
لأن الرجة التي نشأت من تحريك الدولاب كافية لإخراج هذه الأرقام، وغير كافية لإخراج أرقام غيرها، ولو زادت الرجة قليلا أو نقصت قليلا لخرجت منها أرقام غير تلك الأرقام، وكان لهذا الاختلاف سبب معقول لا يرجع إلى المصادفات.
ولماذا كتبت الأرقام على الورقة قبل ذلك؟
إنها لم تكتب مصادفة بغير سبب؛ لأن العدد 5555 لا يقع بعد العدد 5554 وقبل العدد 5556 من باب المصادفة أو الرجم بالغيب، ولكنه واقع هناك بترتيب لا يقبل التقديم والتأخير.
ثم نرجع إلى الورقة نفسها فنسأل: لماذا أصبحت ورقة؟ ولماذا طبعت ووزعت؟ ولماذا اتبع في طبعها وتوزيعها ذلك النظام؟ وكل جواب على كل سؤال من هذه الأسئلة يرينا أنها ورقة كسائر الأوراق، وأنها لم تتحول من إحدى حالاتها إلى الحالة الأخرى إلا لسبب كسائر الأسباب التي تدور عليها حوادث الوجود.
فلا مصادفة في اللوترية.
ولا مصادفة في الحياة.
وغاية ما هنالك أنها ترجع إلى أسباب لا نعرفها، أو لا نسيطر عليها إذا عرفناها.
أما أنها مصادفات لا سبب لها، فذلك غير ممكن وغير معقول.
لكننا نقصد معنى من المعاني حين نقول: إن الحياة لوترية، ويغلب أن يكون المعنى الذي نقصده أن نصيب العاملين في الحياة لا يساوي مجهودهم في جميع الأحوال، فتارة ينقص وتارة يزيد، كما يشتري الإنسان ورقة واحدة بقرش واحد فيربح ألف جنيه، أو يشتري مائة ورقة بمائة قرش فيضيع ثمن ما اشتراه.
وهذه من وقائع الحياة التي لا سبيل إلى نكرانها، فقد يولد المرء غنيا، ولا فضل له في غناه، وقد يولد فقيرا ولا ذنب له في فقره، أو يولد صحيح الجسم وهو لم يعمل قبل ولادته شيئا يستحق به هذه النعمة، أو يولد سقيما عليلا وهو لم يعمل قبل ولادته شيئا يستحق به هذه النقمة، وقد يولد في بلاد حرة أو بلاد مستعبدة بغير اختياره، وقد يولد عبقريا نافعا أو غبيا لا نفع فيه لأسباب لا تقع في حسبانه ولا حسبان أبويه.
ونهبط من هذه الفوارق الكبيرة إلى فوارق أصغر منها، وأقل منها خطرا في نتائجها وعوارضها، فيولد المرء في قرية تعوزها وسائل التعليم، أو يولد في العاصمة الكبرى إلى جانب المكتب أو المدرسة، فلا يتساوى حظهما من التعلم، وإن تساويا في الثروة والاستعداد للعلوم.
وقد يولد المرء وينشأ في كنف أبويه إلى أن يستوفي نصيبه من التربية، وقد يحرم أمه أو أباه أو يحرم الوالدين معا وهو طفل صغير.
هذه وأمثالها فوارق كثيرة نشاهدها في هذه الدنيا كل يوم وبين كل قوم، وهي غير الفوارق الكثيرة التي يتعرض لها الناس بعد المولد، وبعد النشأة الأولى في جميع أدوار الحياة.
ولا شك أنها جميعا من أكبر المصاعب التي تصادف الإنسان في دنياه، وتضطره إلى العمل لاستدراكها بجهود الأفراد والجماعات .
ولكنها مع هذا لم تخلق بغير حالات فردية أو اجتماعية توازنها، وتصلح آثارها وتتحول بها من الإجحاف إلى الإنصاف.
وليس في وسعنا أن نسرد جميع هذه الموازنات التي نستدرك بها تلك الفوارق والمفارقات.
ولكنا نحصي منها ولا نحصيها فنذكر:
أولا:
إن الفوارق لا تحول بيننا وبين السيطرة على جميع الأسباب، وإن حالت بيننا وبين السيطرة على بعض الأسباب، وإن الأسباب التي نسيطر عليها هي التي تفسح أمامنا المجال للكفاح والنضال، وإبراز الفضائل والخصال، فلو كان كل فرد من الناس يؤتى حقه كاملا من تدبير الطبيعة أو تدبير المجتمع لما بقي للمزايا الفردية عمل يستدعيها ويبرزها، ويبلغ بها إلى تمامها، ولكانت الدنيا أشبه بالملجأ الذي توزع فيه حصص المأكل والمسكن، ولوازم المعيشة بورقة مكتوبة، لا تحتاج إلى عمل ولا مرانة ولا مراس.
وثانيا:
أن المجتهد لا يفوته نصيبه كله، وإن فاته بعضه قبل أن يناله بالاجتهاد. «ولكل مجتهد نصيب.» حكمة صادقة لم تخطئ كل الخطأ في ميدان من ميادين الحياة، فكثيرا ما يجني العامل ثمرة سعيه بعد حرمان، وكثيرا ما يضيع تراث العاجز الذي جاءه رخيا سخيا بغير عناء.
وثالثا:
إن الخير المكتسب أنفع لصاحبه وأمته له من الخير الموهوب، وإن الحظوظ التي تورث لا تساوي الحظوظ التي يستحقها المرء بسعيه، ويتدرب على تحصيلها باستخدام حيلته وحوله، ولو أننا وزنا ألف جنيه يرثها الغافل الساهي من أبويه، وألف جنيه يستحقها العامل اليقظان برأيه وتدبيره لما كان من الإنصاف أن نسوي بين الصفقتين في القيمة الحيوية أو القيمة النفسية، ولكنهما سواء في حساب المصارف والأرقام.
ورابعا:
إن تفاوت الفرص امتحان صادق لكفاءة المجتمعات الإنسانية، بل هو امتحان لفضيلة الإنسان التي امتاز بها على جميع الأحياء، وهي قدرته على تنقيح الأوضاع الطبيعية، وعلاج الأمور بالتفكير والتدبير ووحي الخلق والضمير.
فإذا ولد الأفراد متفاوتين في القسم والجدود لم ينته بذلك كل شيء في مقادير البشر وموازين الحياة، بل تبدأ هنالك فضائل المجتمعات المهذبة، وتجارب العقول البشرية، وينصب الميزان للمجتمع الصالح، فتكون قدرته على التسوية بين الفرص مقياسا لصلاحه، وارتقائه على غيره من المجتمعات.
وللحكم على حالة موجودة ينبغي أن نعكسها، ونتخيل الحالة التي تناقضها، ثم نوازن بين الحالتين لنخلص من الموازنة إلى الرأي الصواب في النقد والتماس التغيير.
فلنوازن بين حياة فيها الفوارق الكبيرة والصغيرة، ونحن نعالجها بجهود الأفراد والجماعات، وبين حياة خلت من جميع الفوارق، ولا حاجة فيها إلى جهد من الفرد أو جهد من الجماعة.
نوازن بين هاتين الحياتين وننظر بعدها أي الحياتين أشبه بمعنى الحياة، وأيها أشبه بالآلة الصماء.
وأحسب أن الجواب المجمع عليه غير مجهول، وأننا لا نتمنى أن يصبح الناس كلهم على مثال واحد، كتماثل القوالب والمصنوعات، ولا نتمنى أن يتفاضلوا بغير عمل من الفضلاء يصححون به من دنياهم ما يحتاج إلى التصحيح.
هل الحياة لوترية؟
كلا، ليست الحياة لوترية وليست اللوترية نفسها لوترية إذا فهمنا من هذه الكلمة أنها مصادفات خالية من الأسباب.
وإنما الحياة أسباب نعرف بعضها ونجهل بعضها، والذي نعرفه من تلك الأسباب يخضع لنا تارة، ونخضع له تارة أخرى.
وعلينا - إذا أردنا أن نحقق معنى الحياة في أنفسنا - أن نعالج ما نستطيع، ولو كان قصارى الأمر أن نعلم في نهاية العلاج أننا لا نستطيع.
فهذه هي الحياة.
وهي على ما يتبقى فيها من العيوب بعد كل علاج ومحال خير من القسمة التي يطاف بها على الأحياء كما يطاف على نزلاء الملاجئ بجراياتهم المكتوبة في البطاقات.
فمن اختار هذه، فالحياة عنده حسبة آلية لا خير فيها، ولا شر ولا طعم لها ولا مذاق.
ومن اختار تلك، فالحياة عنده حياة.
الفصل الثاني والثلاثون
هل عندنا سياسيون ...؟
نعم عندنا سياسيون.
ومن الإنصاف لهم أن نقول: إنهم لا يقلون عن السياسيين في أوروبة وأمريكا، وقد يفضلونهم أحيانا في العمل والكفاءة.
كلام غريب.
ولكنه حقيقة قابلة للبرهان.
ولجلاء هذه الحقيقة يجب أن نذكر المساعدات والأسناد التي يعتمد عليها السياسي في أوروبة وأمريكا وليس للسياسي المصري نصيب منها، بل هو يعمل دائما بغيرها، وقد يجد بدلا منها عقبات وعراقيل تحول بينه وبين الإنجاز والنجاح من حيث يجد السياسيون في الغرب كل أسباب الإنجاز والنجاح. (1)
وأول هذه المساعدات والأسناد هي «المكتب الدائم» في كل وزارة من الوزارات الهامة، وهو مكتب يشتمل على فئة من الموظفين المدربين المختصين بشئون تلك الوزارة، قلما يتغيرون أو ينتقلون من مراكزهم إلا ليخلفهم تلاميذهم وأعوانهم القادرون على أداء أعمالهم، وما من وزير حديث العهد بمنصب الوزارة يحتاج إلى «التنوير» في مسألة من المسائل إلا أمده المكتب الدائم بكل ما يحتاج إليه.
أما في مصر فالوزارات المصرية في عهد الاستقلال لا يتجاوز تاريخها عشر سنوات، وكان الأمر كله قبل ذلك محصورا بين أيدي المستشارين وكبار المفتشين الإنجليز، وهم يستعينون بالموظفين الذين ينفذون معهم سياسة الاحتلال ولا يحسنون شيئا من سياسة الاستقلال. (2)
والمساعدة الثانية التي يستفيد منها السياسي الأوروبي ولا يظفر السياسي المصري بما يماثلها هي برامج الأحزاب المدروسة التي تعنى بكل مسألة من المسائل الاجتماعية أو الاقتصادية، وتدعو فيها إلى خطة مرسومة ومقاصد معينة ينفذها الوزير كلما وجد الأصوات الكافية من أنصاره في البرلمان.
أما في مصر فالأحزاب لا تريح وزراءها من هذا العبء القديم، بل ربما كان الوزراء هم أصحاب الرأي والتنفيذ، وهم كذلك أصحاب التحضير والإقناع. (3)
والمساعدة الثالثة هي قوة الدولة التي يخدمها السياسيون الأوروبيون، فإن وزراء الدول الكبرى يعتمدون على نفوذ الكلمة أضعاف اعتمادهم على الإقناع وحسن السياسة، ويعولون على الأساطيل والجيوش والأموال كلما ضاقت بهم الحيل وقصرت بهم وسائل التفكير والتدبير.
أما الوزير المصري فليست لديه قوة يخيف بها خصومه أو سلاح يغنيه عن سلاح الحجة والبرهان، واغتنام الفرصة السانحة والموقف الذي تسوقه إليه الظروف. (4)
ومن أعوان الوزير الأوروبي أنه يعمل في اتجاه واحد محدود يستجمع فيه قواه، ولا يوزعها في وجهات متناقضة، قد تتفق وقد تختلف في أكثر الأحيان.
فإذا كانت الحكومة برلمانية، فكل حساب الوزير منصرف إلى إقناع البرلمان، ومن ورائه الرأي العام الذي يشبه البرلمان في اتجاهه، ويتغير معه في الرأي والشعور كلما طرأت عليه عوامل التغيير.
وإذا كانت الحكومة «دكتاتورية » فالسلطة واحدة، وطريق العمل معروف بعد الاطمئنان إلى ثبات الحكومة.
أما في مصر فالوزارة موزعة الجهود بين واجبات السلطة الشرعية، ومقاصد السلطة الفعلية ومناورات المعارضة في البرلمان، ومفاجآت الأقاويل والإشاعات التي تتحول بالرأي العام من اليمين إلى الشمال، ثم من الشمال إلى اليمين في كل صباح ومساء، ولا يعفيها الاهتمام بهذا كله من الاهتمام بالمقاصد الأجنبية التي تتمثل في بقايا الامتيازات، أو في الأموال التي يملكها الأجانب بيننا، ولا يزال لها في سياستنا الداخلية وسياستنا الخارجية صوت مسموع.
فالوزير المصري ينزل إلى الحومة في سباق الحواجز والخنادق والسدود، من حيث يجري الوزير الأوروبي إلى غايته في ميدان مفتوح مكشوف خلو من هذه العراقيل.
والوزير المصري يبدأ عملا غير مسبوق في الدواوين المصرية؛ لأنه نشأ مع عهد الاستقلال منذ عشر سنين، أو مع عهد الدستور منذ عشرين سنة.
ولكن الوزير الأوروبي يتمم عملا مسبوقا ويمشي في سبيل مطروق، ويقوم على رأس الهرم الحكومي بعد أن توطدت قواعده وأركانه بين ظهراني الأمة وفي حجرات الدواوين خلال مئات من السنين.
وإذا كانت هذه هي الحقيقة التي لا مكابرة فيها، فمن أين جاء ذلك الاعتقاد الجازم بأن الساسة المصريين أقل من الساسة الأوروبيين، أو لا بد أن يكونوا أقل منهم في الكفاية والاقتدار؟
جاء ذلك من وهمين شائعين: أحدهما هو الخلط بين قوة الدولة وقوة وزرائها، وتوهم الناس أن الوزير الإنجليزي أو الأمريكي أعظم مثلا من الوزير التركي أو اليوناني؛ لأن إنجلترا وأمريكا أعظم من تركيا واليونان.
وهو وهم ظاهر البطلان من المشاهدة، فضلا عن المنطق والقياس؛ لأن وزير تركيا قد يكون أعظم من وزير إنجلترا في الحنكة، وجودة الرأي، وطول الخبرة بالشئون الدولية، وإن كانت إنجلترا أعظم من تركيا بالثروة والعلم والسلاح.
وسويسرة أصغر حجما وشأنا من الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن من الجائز جدا أن يختار السويسريون رئيسا لهم يفوق رئيس الولايات المتحدة في العلم والدراية، والمناقب الشخصية، وليس من اللازم أن تكون النسبة بين الرئيسين كالنسبة بين سويسرة والولايات المتحدة في الغنى والصناعة وعدد السكان واتساع الأقطار.
وعلى هذا القياس نفسه لا يلزم أبدا أن يكون الساسة المصريون أقل من الساسة الأوروبيين؛ لأن الدولة المصرية أقل في الجاه والمال من الدولة الإنجليزية، أو الدولة الفرنسية، أو الدولة الروسية، أو ما شئت من الدول الكبار.
والوهم الآخر الذي سوغ الاعتقاد الجازم بتفوق الساسة الأوروبيين ضرورة على الساسة المصريين هو كثرة المهاترات والمنابذات بين هؤلاء وقلتها بين الساسة في الدول الديمقراطية الكبيرة.
ومن الواجب أن نذكر هنا أن المنازعات قد تبلغ في أمم الغرب الأوروبية والأمريكية مبلغا لا نحلم به في هذه البلاد، وليست المهاترات والمنابذات في أمريكا الجنوبية أو أوروبة الشرقية بأهون منها في البلاد المصرية، وما دام السياسي قادرا على سحق خصمه بالقول أو بالعمل، فهو يسحقه في كل مكان سواء كانت الخصومة بين الشرقيين أو بين الغربيين.
وإنما يمنع السياسي أن يفعل ذلك سلطان الرأي العام، حيث يكون له سلطان نافذ سريع النفاذ.
فالرأي العام الذي يعرف الباطل ويسقط قائله ضمان قوي لمنع المهاترات والمنابذات.
والرأي العام الذي يستمع لكل قول ويصغي إلى كل تهريج، ويسمح للساسة أن يستغفلوه وأن ينقضوا أمامه اليوم ما قد أبرموه بالأمس هو المسئول عن رواج المهاترات والمنابذات قبل الساسة وقبل الخصوم السياسيين.
ولم يكن مستر تشرشل أقل رغبة في الغلبة على مستر أتلي من وزرائنا، حين يهجم بعضهم على بعض وينحي حزب منهم على الحزب الذي يقاومه في الخطط أو في الميول، ولكنهم أخذوا عليه هناك كلمة نابية في نضاله الحزبي، فخسر من الأنصار أضعاف من هزم من الخصوم.
فالمهاترات والمنابذات ميسورة للسياسيين في كل مكان، وبين كل أمة شرقية أو غربية، ولكنها بضاعة تروج إذا وجدت القبول وتكسد إذا رفضها السوق، وإنما المعول في الرواج والكساد على جمهرة الشعب لا على أهواء الساسة والوزراء.
وهناك جانب لا ننساه في هذا السياق عند المقابلة بين ساسة مصر وساسة الأمم الديمقراطية الكبرى، وذلك هو «الثقافة المتعددة» بين ساسة تلك الأمم حيث تنحصر الثقافة عندنا في باب واحد من أبواب الدراسات العامة.
فلا تكثر في مصر طائفة الساسة الذين يساهمون في العلم والفن والشواغل الاجتماعية إلى جانب مكانتهم السياسية، وأعمالهم في الدواوين وخارج الدواوين، ولكننا رأينا مع هذا وزراء مهندسين ووزراء أطباء ووزراء معلمين، وسنرى بعد اليوم وزراء يعيشون في أفق أوسع من أفق النادي الحزبي وديوان الحكومة، ولا شك أن الأوروبيين تقدموا وتخلفنا عنهم في هذا المجال؛ لأن الحكم قد أصبح عندهم عملا سياسيا وعملا اجتماعيا، وعملا فنيا قبل أن يتطور في بلادنا هذا التطور الكبير، ولعله الآن ماض في خطواته التي ندرك بها شأو السابقين، فلا نحجم أن نقول إذا سئلنا: هل عندنا سياسيون بكل معنى من معاني هذه الكلمة؟
نعم عندنا سياسيون.
الفصل الثالث والثلاثون
مساجلات
لقيني كاتب معروف يتشيع للبدع الحديثة حتى تقدم فيتركها ويتشيع لغيرها، فقال لي: إنك أنكرت «الوعي» الباطن في التصوير، وأخذت على غلاة المحدثين أنهم يعتمدونه في صورهم، مع أنك ترجع إليه في شعرك، وترسم بالقلم نظائر لما يرسمونه بالريشة.
قلت: مثل ماذا؟
قال: مثل قولك في وصف قبة الفضاء إحدى الليالي:
كأنها الهاوية المقلوبة
كأنها الجمجمة المنخوبة
تهمس فيها الذكر المحبوبة
وهذا من صور الوعي الباطن، وليس من صور العيان.
والذي قاله الكاتب المعروف يخالف الواقع، ولا يؤيد المدرسة الغالية من المصورين، أو مدرسة «السريالزم» على وجه من الوجوه.
فأنا - من جهة - لم أنكر الوعي الباطن ولا موجب لإنكاري إياه، وإنما أنكرت أن يكون وجود الوعي الباطن ملغيا للوعي الظاهر، وللمشاهدات الحسية، والمرئيات العيانية، وأنكرت أن يكون الوعي الباطن ملغيا لقواعد التصوير قديمها وحديثها، فلا تبقى للمصور مزية على الجاهل بفن التصوير؛ لأنهما على حد سواء يهملان التلوين والمشابهة، وأصول الرسم والتمثيل، وأبيت أن أعتقد كما يعتقد الواهمون أن «الوعي الباطن» شيء جديد في هذه الدنيا، وهو هو تلك الملكة الراسخة في قرارة النفوس قبل ظهور التصوير والمصورين، فلم يكن رسوخها هذا حائلا بين المصورين الأقدمين، وبين رؤية الأشياء كما يمثلها العيان.
إن الوعي الباطن ليس من اختراعات هارتمان ولا فرويد، ولا من مصنوعات القرن العشرين ، ولكنه ملكة إنسانية وجدت في مصوري رومة وهولندة وإسبانيا، كما توجد في المصورين المحدثين؛ فلماذا نلغي العيون اليوم ولا نرى الأشياء إلا بالتنجيم والتخمين؟ ومن الذي قال: إن حامل الريشة هو المتخصص في تنجيمات الوعي الباطن دون المعلم والمهندس والطبيب، والكاتب والشاعر وسائر المثقفين وغير المثقفين؟
هذا كلامي عن «الوعي الباطن» لا يدحضه الشعر الذي ذكره الكاتب المعروف، وأراد أن يسلكني به في عداد أولئك المنجمين.
على أن الشعر الذي ذكره الكاتب المعروف يعطي العيان حقه، ويعتمد على الحس، ولا ينسى المشاكلة ولا المشابهة من جانبها الظاهر ولا من جانبها الباطن أقل نسيان.
فالتجويف ملحوظ في قبة الفضاء وفي الجمجمة المنخوبة، وهمس الذكر يقترن بالرأس، ويقترن بالسماء في لياليها المرهوبة، وإذا تسربلت السماء بسربال الرهبة، فالشعور الذي توحيه إلى النفس أقرب شيء إلى شعور الإنسان أمام الرؤى التي أحاط بها عالم الفناء والأبدية.
فالمشابهة الحسية والمشابهة المعنوية متوافرتان هنا كل التوافر، وليس في «السريالزم» أثر للمشابهات، ولا للتوافق بين الرسم والتصوير.
على أننا نذهب مع الكاتب المعروف إلى أقصى مداه، ونفرض أن وصفي الفضاء في إحدى الليالي المرهوبة بالجمجمة وعي باطن ليس فيه من الوعي الظاهر كثير ولا قليل.
نفرض أنني رجعت إلى «الوعي الباطن» في بيت أو بيتين، أو عشرة أبيات من عشرة آلاف بيت، فأين هذا من إلغاء الحس والعيان كل الإلغاء، وتطليق العيون والأسماع إلى آخر الزمان؟ إن تسلل الوعي الباطن مرة في كل ألف مرة لهو احتمال جائز موافق لطبيعة السوانح الباطنية، أما الوهم الذي لا يجوز ولا يوافق طبيعة من الطبائع، فهو أن نصبح كلنا وعيا باطنا، وأن تصبح الدنيا كلها موعية باطنة، لا تستخدم فيها عين ولا أذن كما يستخدمها خلق الله في المسكن والملبس والطعام والشراب والدرس والتخيل والتفكير.
هذا الذي ننكره وينكره كل ذي عينين وكل ذي وعي باطن مستقر في مكانه كما خلقه الله، أما المصورون الذين يقذفون بالألوان والرسوم إلى عرض الطريق ليحدثونا باسم «الوعي الباطن»، فأول ما ينبغي أن يسمعوه منا أنكم يا هؤلاء لستم بأصحاب الاختصاص في هذه الأسرار، فإذا فشلتم في حمل الريشة وخلط الألوان، فقد فشلتم في وظيفتكم المعترف بها، وادعيتم لأنفسكم وظيفة لا يعترف لكم بها إنسان، ولا حاجة بالناس إليها؛ لأنهم جميعا أصحاب «وعي باطن» مثلكم وزيادة ... فما حاجتهم إليكم وإلى غيركم من أدعياء هذه الكهانة المعروضة عليهم في ثوب التصوير؟ •••
ومن المساجلات التي نبهت إليها: كلمة لأديب قال فيها عني في صدد الكلام على أبي العلاء ورسالة الغفران: ... والعقاد يبدأ فيؤكد - فيما يعلم - أن فكرة أبي العلاء في هذه الرحلة إلى العالم الآخر لم يسبقه إليها أحد غير لوسيان في محاوراته في الأولمب والهاوية، وهذا قول عجيب يدخل في سلسلة تأكيدات الأستاذ العقاد التي لا حصر لها في كل ما كتب، والتي كثيرا ما تدهشنا لجرأتها؛ ففكرة الرحلة إلى العالم الآخر قديمة قدم الإنسانية، عرفها اليونان قبل لوسيان، وعرفها العرب قبل أبي العلاء.
لا يا شيخ!
العالم الآخر قديم قبل لوسيان، والجنة والنار قديمتان قبل أبي العلاء!
سبحان الله! كنا نظن غير هذا ... كنا نظن أن الجنة والنار خلقتا بعد المعري بثلاث، أربع سنوات! وأن لوسيان ظهر على الأرض فظهر معه الجحيم السفلي الذي تحدث به اليونان.
أما وصاحبنا المدهوش من جرأتنا يؤكد لنا أن الأمر على غير ذلك، فلنرجع إذن عن توكيداتنا الجريئة، ولنعلن التوبة بين يديه لنقول له: صحيح، صحيح والله ... الجنة والنار كانتا معروفتين قبل أبي العلاء، والعالم السفلي كان معروفا قبل لوسيان ... ولندن ... لندن نعم لأجل خاطرك كانت موجودة قبل رحلات المسافرين إليها، وكذلك والله باريس، وكذلك والله القاهرة، وكذلك والله الهند والصين وبلاد تركب الأفيال، أو بلاد تمشي على الأرض ولا تركب حتى النعال.
أفادك الله يا مولانا الذي يتربع على الكرسي العريض؛ لينكر على المساكين من أمثالنا توكيداتهم الجريئة، ويعلمهم كيف تكون التوكيدات من آخر طراز.
وأي توكيدات؟!
توكيداته التي لا جرأة فيها هي أننا نحن المساكين، أو أن أحدا من خلق الله أجمعين، يجهل أن أبا العلاء قد تكلم عن شيء معروف حين تكلم عن الجنة والنار، وأن لوسيان لم يكن أول من سمع بالعالم السفلي بين قدماء اليونان.
فنحن بعد الاستئذان في قليل من الجرأة التي يدهش لها صاحبنا نجترئ مرة أخرى، فنقول له: إننا لم نجهل معرفة الناس بالجنة والنار، وهبوط الملائكة وصعود الشياطين قبل أبي العلاء، وإن أحدا من القارئين لم يجهل هذا، ولا يحسن بأحد أن يرمي أحدا بجهله، فهذا تحصيل حاصل مفروغ منه، وليس أدعى إلى الدهشة من مجازف يجترئ على توكيده ... ولكننا إذا تكلمنا عن الآثار الأدبية التي تتخذ من الرحلة بين الجنة والنار موضوعا لها، فهذا كلام آخر يجمل به أن يصغي إليه؛ وإذا جمعنا بين المعري ولوسيان في هذا الصدد، فذلك مبحث يصح النظر فيه والاستفادة منه. أما أن يتربع متربع على كرسي الفتاوى ليحدث قراءه بوجود السماء والأرض والملائكة والشياطين قبل الكتابة عنهم والرحلة إليهم، أو بوجود لندن وبرلين قبل كتب السياحة والرحالين، فلا يستغرب أن يجترئ بعض القراء، ويا له من اجتراء، فيزحزح له كرسيه قليلا إلى الوراء!
بل لا نظن أن القارئ يكتفي بزحزحة الكرسي قليلا إلى الوراء إذا كان ممن يعلمون أن «العقاد» قد سبق إلى كتابة هذا، فقال قبل عشرين سنة عن رحلة أبي العلاء: «أي شيء من هذه الأشياء لم يكن من قبل هذا معروفا موصوفا؟ وأي خبر من أخبار الجنة المذكورة لم يكن في عصره معهودا للناس مألوفا؟ كل أولئك كان عندهم من حقائق الأخبار ووقائع العيان ...»
ثم قال: «فهي رحلة قديمة كما قلنا، ولكنه أعادها علينا كأنه قد خطا خطواتها بقدميه، وروى لنا أحاديثها كأنما هو الذي ابتدعها أول مرة ...»
ومن يدري؟ فقد يكون من اجتراء العقاد أنه اختلس هذه الحقيقة قبل عشرين سنة، ولم ينتظر الإذن قبل اجترائه على الاختلاس والادعاء! •••
ولا شك أن «المندورين» في هذا البلد كثيرون مع اختلاف في الأسماء والعناوين ... فمنهم ذلك الذي تسمى في إحدى المجلات باسم «مصطفى»؛ ليستر ما في مقاله من سوء النية وهو يتكلم عن النبي العربي، ويتميز غيظا لأننا عرضنا لتعدد زوجات النبي في كتابنا «عبقرية محمد»، فرددنا أسبابه إلى مصلحة الدعوة الإسلامية، ولم نتخذ منه ذريعة لتلويث السمعة كما فعل المتعصبون من المبشرين والمستشرقين، وليس هذا بالعلم ولا بالمنطق في رأي أذناب الاشتراكية الرعناء ... إنما العلم والمنطق أن تلوث كل عظيم في تاريخ بني الإنسان؛ لأن مقاصد الاشتراكية الرعناء لا تستقيم لأصحابها وفي الدنيا عظمة شريفة تستحق التبجيل والولاء، وكفى بحقارة مذهب لا يستقيم إلا بتلويث كل عظيم!
قال ذلك «المصطفى» المزعوم إننا دافعنا عن محمد فقلنا: «لا تصف السيد المسيح بأنه قاصر الجنسية لأنه لم يتزوج قط؛ فلا ينبغي أن تصف محمدا بأنه مفرط الجنسية لأنه تزوج بتسع نساء.»
ثم قال ذلك المصطفى المزعوم معقبا على كلامنا: «ولكن ما رأي العقاد لو قال الناقد: إني أرى المسيح قاصر الجنسية وما أنفي عنه هذه الصفة.»
ورأي العقاد أن الناقد لن يقول ذلك؛ لأنه كان من أساطين المبشرين، فإن أعدته الاشتراكية الرعناء بسوء أدبها فجوابه إذن أن نرده إلى تاريخ النبي، كما فعلنا فنريه بما يفقأ عينه أن الرجل الشهوان يجمع بين تسع زوجات من الأبكار الحسان، وهو قادر على ذلك كل القدرة، ولا يختار زوجاته كما صنع النبي من المسنات المتأيمات اللائي لم يشتهرن بالجمال، ثم البكر الوحيدة منهن بنت أبي بكر الصديق، التي يرجع التزوج بها إلى أسباب المصلحة الإسلامية قبل كل اعتبار.
فهل «تنبسط» الاشتراكية بهذا الجواب، أو يملؤها سم البغضاء وصديده؛ لأن في العالم الإنساني رجلا باقيا بغير تلويث؟!
وقال ذلك المصطفى المزعوم: إن العقاد «يقيم الحجة على نبوة محمد باضطراب الأحوال وقت نشوئه في بلاد العرب ... ترى أين يكون اقتناع العقاد لو انبرى مسلم - قبل أن يتصدى من لا يدين بالإسلام - وقال: إن الأحوال الحاضرة أشد قساوة مما مضى في عهود الإنسانية جميعا ... وإذن فالحال المعاصرة تستلزم نبيا ينشر الخير والعدل، فأين هذا النبي ممن عرفهم العالم حاليا ...؟»
والعجيب أن يسألني هذا المصطفى المزعوم عن رأيي وقد بينته صريحا في الكتاب نفسه حين قلت: إن العالم حائر في طلب العقيدة أو طلب المسوغ للوجود؛ لأن الوجود وحده لا يكفي الإنسان إلا أن يكون على طبقة مع الحيوان، فالإيمان للمستقبل، وعسى أن يكون المستقبل للإيمان ...
قلت ذلك في ختام الكتاب وجعلته خلاصة الرأي فيه وموضع العبرة منه، ولا أزال أقول كما قلت دائما: إن خلاص العالم مرهون بالإيمان، وإن حياة الناس بغير عقيدة نبيلة هي حياة حشرات.
ولكن الإيمان الذي يحتاج إليه العالم لن يكون إيمان المعدات والأمعاء؛ لأن الإنسانية لن تحتاج إلى رسل وحكماء ليعلموها عبادة الطعام والشراب، وإن أحقر حصان معلق في مركبة نقل ليعلم من هذه الفلسفة ما يعلمه كارل ماركس ولنين وإخوان هذه العصبة أجمعين.
إنما يحتاج العالم إلى إيمان يليق بأبناء آدم، ولا يحتاج إلى إيمان يزعم أنه يخلصه من ضرورات المعدة بعبادة هذه المعدة في الصباح والمساء، وفي ساعة العمل وساعة الرياضة، وفيما يدير عليه تجارب العلم ومطالب الفن، وأشواق النفس وعقائد الضمير.
قبحت عقيدة كهذه العقيدة إن قضى بها النحس على أمة من الأمم، فهي عقيدة لن تخلص الناس من ضرورات المعدة وخسائسها، بل تفرض عليهم عبادتها وتسجل عليهم الخضوع لرهبة الرجوع إلى آخر الزمان، وقبح من رسل أولئك الذين لا جديد عندهم يعلمونه الناس وراء ما علمته الحشرات قبل ملايين السنين، وأبى الله أن «تنبسط» الاشتراكية الرعناء إن كان تحقير عظماء الإنسانية وتحقير الإنسانية كلها فرضا لزاما لمن يسترون شرورهم بأمثال هذه الدعوات.
الفصل الرابع والثلاثون
الأدب والإصلاح
أشار الدكتور زكي مبارك إلى حديث لي لخصته صحيفة العزيمة الأسبوعية بقلم مراسل من مراسليها، ولخصه الدكتور في قوله: «إن الأدب ينبغي أن يكون للأدب، فلا يكتب الكاتب غير ما يوحي به الطبع، وهو يعنى بالحقائق الخالدة؛ أما المشكلات التي تتعلق بالطبقات المختلفة، فهي مشكلات وقتية يناط تدبيرها بالرجال الإداريين.»
ثم قال الدكتور: «أما بعد، فهذه مشكلة من أصعب المشكلات، وللأستاذ عباس العقاد أن يوضح رأيه كما يشاء.»
ورأيي في هذا الموضوع الذي يستحق التوضيح أن الأديب لا يغض من أدبه أن يكتب في مسائل الاجتماع والإصلاح الموقوت، ولكن الكتابة في هذه المسائل ليست شرطا من شروط الأدب، وليست حتما لزاما على كل أديب.
لأن الأدب التعبير، والتعبير غاية مقصودة، وغاية كافية، وغاية لا يعيبها أن تنفصل عن سائر الغايات.
ولا فرق بين الأدب المعبر بنظمه ونثره وبين الموسيقي المعبر بألحانه ونغماته، فكلاهما يصف النفس الإنسانية في حالة من حالاتها، وكلاهما مستقل بوحيه، لا يشترط فيه أن يتعرض لعمل المصلح الاجتماعي، أو الباحث الأخلاقي، أو الناظر في مشكلات الثروة وشئون المعيشة.
وإنما جاء اشتراط البحث الاجتماعي أو الاقتصادي على الأدباء وأصحاب الفنون بدعة من بدع المذهب الاشتراكي في العصر الحديث، وهو مع هذا نقيض الدعوة الاشتراكية في الأساس والصميم.
لأن الدعوة الاشتراكية تستكثر على الفقراء أن يستغرقوا حياتهم في طلب القوت، والاشتغال بأعباء المعيشة، وترى أن الحياة الصالحة هي الحياة التي يقل فيها جهد العمل، وتكثر فيها فرص المتعة بالنعيم.
فإذا كان هذا هو رجاءها الأعلى وغايتها القصوى، فمن أعجب العجب أن تجعل الخبز وضرورات المعيشة شاغلا لكل عامل وقائل، ومحورا للأحلام والآمال، وفريضة لا يعفى منها أحد من الناس حتى الذين وكلتهم المجتمعات الإنسانية منذ كانت إلى التجميل والتزيين، وتذكير أبناء آدم بأنهم نفوس وألباب لها مطالب في بعض ساعاتها غير مطالب المعدات والجلود! وأكبر من مطالب السوائم والحشرات.
ماذا نقول؟! أنقول السوائم والحشرات؟ كلا معاذ الله أن نتهم السوائم والحشرات بالاستغراق في المطاعم والمعدات، فإنها تعلمنا ما يجهله غلاة الاشتراكيين، ويريدون منا أن نغفل عنه ونتعلم نقيضه: تعلمنا أن الجمال غاية الحياة، وأن الطعام ضرورة مفروضة وليس بالحياة كلها، ولا بالشاغل الذي يستوعب كل حي في كل ساعة في كل عمل وكل مسعاة، تعلمنا أنها تغني وتمرح وتلعب، وتحب الشمس والقمر، وتلوذ بالأعشاب والأزهار، ولا تدين نفسها بدين الخبز والمعدة إلا ريثما تفرغ من هذه السخرة المفروضة عليها، أو هذا العبء الذي يثقلها ويعطلها عن سرورها ونشوتها.
ونحن إذ نقول هذا لا نجهل ما يقوله الاشتراكيون، إذ يستخفون بالفنون والآداب التي تناط بالجمال الخالد، ولا تناط بالمنافع الموقوتة، فإنهم يزعمون أن الجوع أولى بالتفكير والتعبير من هذه المطالب التي يسمونها بالكماليات، وهي هي كما أسلفنا طلبة الحياة وطلبة جميع الأحياء.
وحسن ما يقولون أو فليكن حسنا كما يشاءون، ولكن الأمة التي لا تستطيع أن تفرغ من حياة جميع أبنائها بضع ساعات لبعض هؤلاء الأبناء يشبعون فيها مطالب الجمال، هي أمة لا تستحق الطعام ولا تستحق الوجود، فبحسب الفرد عشر ساعات من الأربع والعشرين للكد والكدح وطلب المعاش، وبحسب الأمة تسعة ملايين وتسعمائة وتسعة وتسعون ألفا من عشرة ملايين بين أفرادها يكدون ويكدحون لمعاشها، وغير كثير بعد ذلك ألف أو أقل من ألف يذكرونها الجمال، ويعبرون لها عن أحلام الحياة التي يعطيها الطير والحشرة، وتعطيها الضارية والبهيمة كل ما استخلصته من براثن الضرورات.
لا بل نزيد على ذلك أن الألف الذين يذكرونها الجمال، ويعبرون لها عن أحلام الحياة لا يخلون من فائدة في باب الخبز والطعام، إذا نظرنا إلى النتائج والحقائق، ولم نقصر النظر على البوادر والعناوين.
فالشاعر الذي يفتن المرء بجمال الزهرة، يرفعه من معيشة الذل والشظف، ويجعل قناعته بالدون والسفساف ضربا من المستحيل. وفكتور هوجو لم يكن من أصحاب البرامج الاجتماعية، ولكنه وصف البؤس والظلم فأغنى عن البائسين والمظلومين ما لم يغنه الدعاة المنقطعون لما يسمونه: مشاكل المجتمع وبرامج الإصلاح. وكل نغمة موسيقية تعبر عن شوق إنساني هي خبز لا يحسن بالإنسان أن يحتمل جوعه ويصبر على فقده؛ لأن عدم الخبز الذي تطلبه المعدات فقر وعوز، أما عدم الخبز الذي تطلبه الأرواح، فهو مسخ وحرمان من الأذواق والأخلاق.
ويكثر الاشتراكيون من ذكر الاقتصاد، ويحسبون الدنيا بحذافيرها اقتصادا في اقتصاد، وهم يخالفون قواعد «القصد الطبيعي» فيما يشيرون به على نوابغ الأدب والفنون؛ لأنهم يطلبون من العبقريين الموهوبين عملا يقوم به من ليست لهم عبقرية فنية ولا ملكة أدبية، وإنما يغني فيه من درسوه وحذقوه، وتفرغوا لإحصاءاته وقواعده ومقابلاته ومقارناته، ونريد به بحث المسائل الاجتماعية، ومسائل الفقر والغنى، وتوزيع الثروة ونظام الطبقات. فهذه موضوعات لا حاجة بها إلى عبقريات هوميروس وابن الرومي والمتنبي وشكسبير وبيرون؛ ولا نخسر شيئا إذا أقبل عليها من خلقوا لها، وانقطعوا للإحاطة بمعارفها وأصولها، ولكن العالم الإنساني يخسر أولئك العبقريين إذا وقفوا ملكاتهم على مسائل يوم أو مسائل أمة، لن تصبح مسألة بعد يوم آخر ولا بين أمة أخرى ... في حين أن الذي كتبوه لا يزال من شاغل بني الإنسان في جميع الأيام وبين جميع الأقوام.
فليس من القصد الذي يترنم به الاشتراكيون أن تصرف عبقرية عن عمل تحسنه، وتحيلها إلى عمل يتولاه غير العبقريين وغير الموهوبين، وإنما هو خلط في التوزيع يعاب لما فيه من سوء الوضع فوق ما يعاب لفشله وقلة جدواه.
ويستطرد بي هذا إلى مقال في «الرسالة» للأستاذ رمسيس يونان، ينحلني فيه كلاما لم أقله ولم أقل ما يؤديه؛ بل قلت ما هو نقيضه على وجه صريح لا محل فيه لتأويل.
فالأستاذ رمسيس يونان يروي الحقائق عند العقاد، ومنها «أن الأمان كل الأمان، خطر على الهمم والأذهان، وأنه لو اطمأن كل فرد إلى قوته وكسائه، فقدنا من بني الإنسان العنصر المقتحم المغامر.»
ثم يقول: «ولو صدر هذا القول من إسماعيل صدقي مثلا لعذرناه، ولكن الغريب حقا أن يصدر من العقاد، فكيف يستطيع العقاد الشاعر أن يقول: إنه لا تكون مغامرة أو اقتحام إلا حيث يكون طلب الرزق، وإن الإنسان لا يغامر في سبيل غرام أو في سبيل كشف علمي أو إنتاج فني؟! ولماذا لا نقول: إن روح المغامرة إذا تحررت من هموم العيش وأعباء الثروات، فسوف تكتشف لنفسها ميادين وآفاقا جديدة هي أجدر بعواطف الإنسان؟!»
والعجيب كما أسلفت أنني صرحت بنقيض هذا الكلام في مقالي عن المال الذي يناقشه الأستاذ رمسيس يونان، فقلت: «إن طلب المال كطلب العلم فطرة لا تتوقف على التوريث ولا على ما يعقبه الآباء للأبناء؛ وقد يهمل الإنسان رزقه ورزق أبنائه؛ ليتابع الدرس ويتقصى مسألة من مسائل العلم والمعرفة ... وإنما تفسر أعمال الإنسان بالبواعث والدوافع قبل أن تفسر بالنتائج والغايات، وإذا قيل لنا: إن فلانا يجمع المال لأنه يخاف عاقبة الفقر، قلنا: ولماذا يخاف هذه العاقبة التي لا يخافها غيره؟! إنه لا يخالف غيره إلا لاختلاف البواعث النفسية دون الاختلاف في الغايات ...»
هذا كلامي فكيف فهمه كاتب المقال عن الفقر ومسألته الاجتماعية؟!
فهمه على أسلوب الاشتراكيين في فهم كل شيء؛ وأسلوبهم أنهم يفهمون ما يروقهم، وأن الذي يروقهم هو المناوأة والإنكار، وعلى هذه السنة ينكرون العصامية كما ينكرون الغنى، ويسمون الفقر مسألة اجتماعية ليريحوا أنفسهم من العطف على الضعفاء، فلا هم يطيقون الممتازين بالفضل أو بالثروة، ولا هم يشعرون بالعطف الصحيح على المحرومين من النبوغ والمال، وماذا يفيد العطف كما يقولون؟ أليست هي مسألة اجتماعية لا دخل فيها للشعور والرحمة؟!
وكأننا إذا قلنا: إن الفقر داء اجتماعي يعالج كما تعالج الأدواء الاجتماعية خرجنا به من طريق العلاج ... وكأنهم إذا قالوا: إنه مسألة وليس بداء فرجوا أزمة الفقر أو اقتربوا بها من التفريج.
على أن الحقيقة أن الدنيا لن يزال فيها الفقراء والأغنياء، ولن يزال فيها الأذكياء والأغبياء، ولن يزال فيها الأخيار والأشرار، ولن يزال فيها السمان والعجاف والطوال والقصار والأقوياء والضعفاء، وآفة الاشتراكيين أنهم لا يعيشون ويتعرضون مع هذا لعلاج مسألة العيش ... فحياة كارل ماركس الشخصية تكتب في صفحتين، وكذلك حياة لنين وستالين وإخوانهم أجمعين، ولو عاشوا لفهموا العيش غير هذا الفهم وعالجوه غير هذا العلاج.
فقوانين الحياة سابقة لقوانين الاجتماع، وقوانين الحياة هي التي أوجبت بين الناس هذا التفاوت في الأرزاق، كما أوجبته بين الحيوان والنبات، وعبث أن نعلق الرجاء بالمستحيل، فلا انتهاء للتفاوت في مطبوع ولا في مكسوب، وغاية ما نستطيع أن نمنع الفقر الذي يشقى به من لا يستحقه، وأن نرفع طبقة الفقراء بالقياس إلى الأغنياء، وأن نجعل للأمم نصيبا من ثروة الأفراد.
أما محو التفاوت في الكسب فلا سبيل إليه، وليست كلمة «مسألة» بالتي تخلق سبله لو كان إليه سبيل.
الفصل الخامس والثلاثون
المقترحون والمؤلفون
بين جمهرة القراء في اللغة العربية طائفة لا ترضى عن شيء، ولا تكف عن اقتراح، ولا تزال تحسب أنها تفرض الواجبات على الكتاب والمؤلفين، وليس عليها واجب تفرضه على نفسها.
إن كتبت في السياسة قالوا: ولم لا تكتب في الأدب؟
وإن كتبت في الأدب قالوا: ولم لا تكتب في القصة؟
وإن كتبت في القصة قالوا: ولم لا تكتب للمسرح أو للصور المتحركة؟
وإن كتبت للمسرح والصور المتحركة قالوا: ولم لا تحيي لنا تاريخنا القديم، ونحن في حاجة إلى إحياء ذلك التراث؟
وإن أحييت ذلك التراث قالوا: دعنا بالله من هذا وانظر إلى تاريخنا الحديث، فنحن أحق الناس بالكتابة فيه.
وإن جمعت هذه الأغراض كلها قالوا لك: والقطن؟ وشئون القرض الجديد؟ ومسائل العمال، ورءوس الأموال؟ وكل شيء إلا الذي تكتب لهم فيه.
وقد شبهت هذه الطائفة مرة بالطفل المدلل الممعود: يطلب كل طعام إلا الذي على المائدة، فهو وحده الطعام المرفوض.
إن قدمت له اللحم طلب السمك، وإن قدمت له الفاكهة طلب الحلوى، وإن قدمت له صنفا من الحلوى رفضه وطلب الصنف الآخر، وإن جمعت له بين هذه الأصناف تركها جميعا، وتشوق إلى العدس والفول، وكل مأكول غير الحاضر المبذول.
سر هذا الاشتهاء السقيم في هذه الطائفة من القراء معروف، سره أن الجمهور في بلادنا العربية لم «يتشكل» بعد على النحو الذي تشكلت به الجماهير القارئة في البلاد الأوروبية، وإنما نعد الجمهور القارئ متشكلا إذا وجدت فيه طائفة مستقلة لكل نوع من أنواع القراءة، وإن ندر ولم يتجاوز المشغولون به المئات.
وسنسمع المقترحات التي لا نهاية لها، ولا نزال نسمعها كثيرا حتى يتم لنا «التشكيل» المنشود، وهو غير بعيد.
ولسنا لهذا نستغربها كلما سمعناها من حين إلى حين؛ لأنها مفهومة على الوجه الذي قدمناه.
ولكن الذي لا نفهمه أن نتلقى تلك المقترحات من كاتب نابه يعرف حاجة الأمة العربية إلى كل نوع من أنواع القراءة، ولا سيما تاريخها القديم مكتوبا على النمط الحديث.
فغريب حقا أن يشير كاتب نابه إلى كتابة الدكتور هيكل، وكتابتي عن أبي بكر وعمر؛ فيقول كما قال كاتب المصور: ... حسن جدا هذا السابق وقد أجدتما الجري في ميدانه، ولكن هل نسيتما أن أبا بكر وعمر كتب عنهما مائتا كتاب؟ وأن في عصرنا الحاضر موضوعات قومية ووطنية وتاريخية ومالية واجتماعية تستحق منكما نظرة، ومن قلميكما التفاتة؟ وأن أكثر طلابنا لا يعرفون عن تاريخ بلادهم الحديث حرفا، وأن صدر الإسلام بحمد الله قد وفاه أئمته وأدباؤه وشعراؤه من العرب حقه، فلم يتركوا صغيرة ولا كبيرة إلا وفوها وشرحوها وفصلوها، وبقي تاريخ مصر الحديث والقديم بغير بحث ولا تحليل؟
غريب هذا الرأي من «المسئولين» كما نسميهم في لغة السياسة، وإن لم يكن غريبا من غير المسئولين.
وتتم غرابته لأنه يجمع من الأخطاء في بضعة أسطر ما يندر أن يجتمع منها في صفحات.
فبالأمس سمعنا دعوة إلى انفراد كل جنس بالكتابة عن جنسه، فلا يكتب عن المرأة إلا المرأة، ولا عن الرجل إلا الرجل، ولا يسمح للرجال أن يكتبوا عن الحوادث التي تدور وقائعها بين الرجال والنساء.
واليوم نسمع دعوة أخرى إلى انفراد كل جيل بالكتابة عن جيله الذي يعيش فيه، ولا يتعداه إلى جيل آخر، فلا يسمح لنا نحن أبناء العصر الحاضر أن نكتب عن شيء يتجاوز القرن التاسع عشر راجعا، أو القرن العشرين متقدما إلى الأمام.
رأي غريب لو صحت مقدماته وأسبابه. وإنه لأمعن في الغرابة حين نرجع إلى المقدمات والأسباب، فلا نرى مقدمة منها أو سببا يقوم على ركن صحيح.
إذ ليس بصحيح أن أبا بكر وعمر قد كتب عنهما مائتا كتاب إلى الآن؛ لأن الذي كتب عنهما إنما كتب عن الحوادث والأخبار في عصرهما، وهو مع ذلك لا يزيد على أصابع اليدين.
أما «الصور النفسية» التي تصور لنا كلا منهما على حقيقته الإنسانية، فلم توصف قط قبل هذا الجيل، ومتى وصفت صورة نفسية عن إنسان في زمن من الأزمان، فهي صورة عصرية تهم الإنسان حيث كان من أول الزمان إلى آخر الزمان.
بل الواجب المفروض على كل أمة تنبعث إلى الحياة أن تجدد فهم تاريخها، وتعقد الصلات الوثيقة ما بينه وبينها، ولا تقتصر على فهمه كما كانوا يفهمونه قبل مئات السنين.
وعلى أنه لو صح أن المصنفات التي كتبت عن عظماء التاريخ العربي فيها الكفاية، التي تغني عن المزيد من التصنيف والتصوير، فليس في ذلك حجة تتجه إلينا وتسوغ الملامة علينا.
لأننا لم نترك جيلنا الحاضر معرضين عن أبطاله وزعمائه وأصحاب الأثر في حياته القومية والوطنية؛ بل كتبنا عن «سعد زغلول» مجلدا ضخما يساير الحركة الوطنية من الثورة العرابية إلى اليوم الذي تمت كتابته فيه، وساهمنا بحصتنا في هذا الباب إن كانت هناك حصة مفروضة على كل كاتب في موضوع من الموضوعات. •••
ولكننا في الواقع لا نعتقد أن هناك واجبا مفروضا على الكاتب غير الإجادة في موضوعه الذي يتناوله كائنا ما كان.
وليس هناك موضوع يكتب كتابة حسنة، ثم لا يستحق أن يقرأ، ولا يفيد إذا قرئ قراءة حسنة.
فالبطل القديم الذي يدرس على الوجه الصحيح هو موضوع جديد في كل عصر من العصور.
والبطل الحديث الذي يساء درسه خسارة على القارئ والكاتب والبطل المكتوب عنه؛ لأن العبرة بتناول الموضوع لا بالموضوع، والعبرة بأسلوب العصر الذي تتوخاه وليست بالسنة التي يدور عليها الكلام.
فالكتابة عن سنة 1943 بأسلوب عتيق هي موضوع عتيق، والكتابة عن آدم وحواء بأحدث الأساليب العلمية أو النقدية هي موضوع الساعة الذي لا يبلى.
وأولى من الاقتراح على الكتاب أن نقترح على القراء أن يقرءوا كل ما ينفعهم كيفما اختلفت موضوعاته، لا أن نشجع «الولد المدلل الممعود» على رفض كل ما على المائدة، وطلب كل ما عداه. •••
وقد قال الكاتب النابه في ختام كلمته: «سلوا الأستاذ الكبير عبد الرحمن الرافعي كيف راجت كتبه أدبيا ومعنويا وماديا، وكيف انتفع بها النشء الحديث في دنيا تأليف مصرية صميمة كلها قحط وجدب وإملاق.»
وقد يفهم القارئ من هذا أننا نغري بالرواج للكتابة في الموضوعات التي اختارها الأستاذ الكبير عبد الرحمن الرافعي بك.
ولا شك عندنا في أن الرافعي بك لم يكتب في هذه الموضوعات لرواجها، ولكنه كتب فيها لأنها تروقه ويحسنها، ومهما يكن من رواج الكتب في مصر، فإن المحامي الذي يبلغ في عالم المحاماة مكانة الرافعي بك يكسب من قضاياه أضعاف ما يكسبه من كتبه، ولا يحتاج في دراسة مائة قضية إلى الوقت الذي يشغله بمراجعة المصادر التاريخية لكتاب واحد.
وكذلك نحن لم نؤلف «عبقرية محمد» لرواجه؛ لأننا طبعنا منه في الطبعة الأولى أقل مما طبعناه من كتب أخرى ألفناها، ولم يكن في وسعنا بداهة أن نعدل عن تأليفه إذا لم تنفد الطبعة الأولى بعد أسابيع معدودة!
وإننا لنعرف موضوعات شتى يقبل عليها عشرات الألوف من القراء، وتستغني عن الإعلانات والترويج.
فرواية من الروايات المكشوفة تترجم أو تؤلف قد تطبع منها عشرات الألوف، وقد تباع للصور المتحركة، وقد تستهوي من القراء والقارئات من ليس يستهويهم تاريخ أمة أو سيرة عظيم ...
وهذه الروايات أسهل في تأليفها أو ترجمتها من الكتب، التي تراجع من أجلها المصادر الكثيرة بين عربية وأوروبية، ولا تخلو من عنت في التمحيص والتحضير.
ولكننا نعدل عنها إلى الموضوعات التي هي أصعب منها، وأقل رواجا بين قرائنا.
بل نعدل عنها ونحن نعلم أن المدجلين بالروايات المكشوفة يسوقونها مساق الفتوح العصرية، والجرأة الفكرية، ويعدونها من دلائل النزعة الحديثة والنهضة المقبلة، والتحرر من التراث العتيق، والطلاقة من القيود، وإننا لا نسلم من اتهام هؤلاء الأدعياء لنا بالجمود أو مصانعة الجامدين إذ نكتب في سيرة الصديق والفاروق.
فلو كان الرواج مغريا لنا لكانت الكتابة في هذه الأغراض المقبولة أولى وأجدى.
ولو كان الرواج مغريا لنا لما حاربنا المذاهب التي وراءها دول ضخام تكافئ من يدعو إليها ويبشر بأناجيلها. ولا نظن أن الكاتب النابه ينكر علينا أن تلك الدول تعرف قيم الأقلام التي تستخدمها في دعوتها، وتحب أن تستخدم منها ما ينفعها.
فنحن نكتب ما نريده ولا يعنينا أن يروج أو لا يروج، وواجبنا الذي نلتزمه في الكتابة - ولا نعرف واجبا غيره - هو أن نعنى بالموضوع الذي نتصدى له، ونحس القدرة عليه.
ولسنا نقترح على الكاتب النابه أن يعدل عن اقتراحه إذا كان مؤمنا بصوابه؛ ولكننا نقول: إننا لو عملنا به لما عدمنا مقترحا آخر يقول: ما هذه الحوادث اليومية التي تخوضون فيها، وقد رأيناها أو سمعنا من رآها؟ دعوا هذا واكتبوا لنا شيئا من عجائب المجهول ...
ويومئذ لا تكون حجته أضعف من حجة الكاتب النابه صاحب الاقتراح.
الفصل السادس والثلاثون
الحروف اللاتينية
علم القراء أن صاحب المعالي الأستاذ العلامة عبد العزيز فهمي باشا قد اقترح على مجمع فؤاد الأول للغة العربية اقتباس الحروف اللاتينية وبعض الحروف المشابهة لها لتيسير الكتابة العربية.
وقد خالفه كثيرون، وعاود معاليه الكرة للرد على هؤلاء المخالفين، ومنهم كاتب هذه السطور.
وكنت قد خالفت رأي معاليه؛ لأن اقتراحه يترك الصعوبة الأصيلة قائمة، ويعنى بالصعوبة المتفرعة عليها، وهي تابعة لها باقية ببقائها.
فلا صعوبة عندنا في كتابة حرف من الحروف مضموما كان أو مفتوحا أو مكسورا إذا عرفنا أنه مضموم أو مفتوح أو مكسور، ولا صعوبة كذلك في قراءته مع هذه المعرفة، سواء أكان مشكولا أم غير مشكول.
إنما الصعوبة الأصيلة أن نعرف ما يضم وما يفتح وما يكسر، ثم نكتبه ونقرأه على صواب.
وترجع هذه الصعوبة إلى خواص في بنية اللغة العربية، لا وجود لها في اللغات التي تكتب بالحروف اللاتينية، غربية كانت أو شرقية.
ومن هذه الخواص الفعل الثلاثي واختلاف أبوابه، وارتباط ذلك بالمصادر والمشتقات، ولا وجود لهذا الفعل الثلاثي في غير اللغات السامية، وعلى رأسها لغتنا العربية.
ومنها الإعراب، وهو على وجود القليل منه في لغات نادرة، قد اختصت اللغة العربية بأحكام مستفيضة فيه، لا نظير لها في جميع اللغات.
ومنها أن حروف الحركة في بعض اللغات الشرقية التي تكتب الآن بالحروف اللاتينية، قلما تفيد معنى من المعاني غير إشباع الحركة أو خطفها والإسراع فيها، ولكنها في اللغة العربية تبدل معنى الكلمة أو تبدل قوة المعنى.
فقراءة العربية قراءة مضبوطة لا تتأتى بغير تصحيح العلم بهذه القواعد قبل كتابتها وقراءتها، وسبيل ذلك أن نختصر القواعد النحوية والصرفية؛ حتى يحيط أوساط الناس بالقدر الكافي منها لمقاربة الصواب جهد المستطاع.
ونقول مقاربة الصواب؛ لأن العصمة من الخطأ لن تتيسر في اللغة العربية ولا في غيرها من اللغات، ولن تتيسر أبدا في عمل يتناوله جميع الناس من خاصة وعامة.
أما الكتابة بالحروف اللاتينية، فإن صح أنها تضمن للقارئ أن يقرأ ما أمامه على صورة واحدة، فهي لا تمنع الكتاب المختلفين أن يكتبوا الكلمة على صور مختلفة كلها خطأ وخروج على القواعد اللغوية، ومن هنا يشيع التبلبل في الألسنة ويتقرر الخطأ بتسجيله في الكتابة والطباعة بدلا من تركه محتملا للقراءة على الوجه الصحيح، ولا شك أن الخطأ في النطق أهون ضررا من الخطأ المكتوب أو المطبوع؛ لأن كتابة الخطأ تبقي خطأ النطق وتزيد عليه أنها تسجله، وتضلل من عسى أن يهتدي إلى الصواب.
فقصارى ما نغنمه بهذا التبديل أننا ننقل التبعة من القارئ إلى الكاتب، ولا نمنع الخطأ ولا نضمن الصحة، وهي فائدة لا يبلغ من شأنها أن تبدل معالم اللغة، وتفصل ما بين قديمها وحديثها.
وكان من أسباب مخالفتي لاقتراح الأستاذ العلامة - وهي كثيرة - أن طريقته ليست بأيسر من طريقتنا التي نجري عليها الآن في كتابة الكلمات العربية مضبوطة بعلامات الشكل المصطلح عليها، في موضع الحاجة إليها.
لأن الطريقة اللاتينية المضاف إليها بعض الحروف العربية تعفينا من علامات الشكل، ولكنها تضطرنا إلى زيادة الحروف حتى تبلغ ضعفها أو أكثر من ضعفها في كلمات كثيرة، وتوجب هذه الكلفة على العارفين، وهم غنيون عنها.
ثم هي لا تغنينا بتة عن النقط والشكل؛ لأنها تعود بنا إلى النقط في حروف، وإلى ما يشبه الشكل في بعض الحروف؛ لتمييز الألف والثاء والذال والشين.
على أن الأمم الأصيلة في الكتابة اللاتينية لا تستغني بالرسم عن ضبط السماع.
فاللغة الإنجليزية التي أستطيع الإتيان بالشواهد منها حافلة بالكلمات التي يختلف نطقها ورسمها، والتي تنطق على وجه وتكتب على وجوه، كما أنها حافلة بالشواذ في صيغة الماضي والمفعول، ومشتقات أخرى.
ومن أمثلة الصعوبات في الرسم أنهم ينطقون هذه الكلمات نطقا واحدا، وهي مختلفة في الكتابة والمعنى والاشتقاق، وهي
write, right, rite ، وأنهم يكتبون حروف الحركة أحيانا على نمط واحد، ويخالفون بين النطق بها في درجة المد وفي مخارج الصوت، كما يفعلون على سبيل التمثيل في
soup, loud, sour
أو في
breadth, great, speak
أو في
done, bone
أو في
good, moon, door .
ومن حروف الإنجليزية ما يكتب ولا ينطق به مثل الباء في
climb
والكاف في
knot ، ومنها ما يهمل حينا وينطق حينا بخلاف حرفه مثل
laughter, daughter .
إلى غير ذلك مما تدل عليه هذه الأمثلة ولا تحصيه، ويكفي أن نرجع إلى المعجمات التي وضعت لأهل اللغة أنفسهم؛ لنعلم أنهم لا يستغنون عن إتباع كل كلمة بما يضبط نطقها، ودرجة امتداد الحركات فيها، وموقع النبرة في مقاطعها. •••
وقد رأينا أن نكتفي في مناقشة اقتراح اللاتينية بالأقوى والأظهر من الأسباب دون أن نذهب فيها إلى الاستقصاء والاستيعاب، وإلا فالأسباب التي تحول دون رسم العربية بالحروف اللاتينية أكثر من هذا الذي أجملناه بكثير.
وتناول معالي المقترح اعتراضنا، فقال بعد تلخيصه: «إنه على كل حال اعتراف خارج عن الموضوع، وما أشبهنا إزاءه بالباحثين عن طرفي الحلقة المفرغة، تقوم الساعة علينا قبل أن نهتدي إلى المطلوب! إن مسألة البحث في أصول اللغة، وتيسير قواعد نحوها وصرفها تلك التي يقول المعترضون: إنها هي العلاج الشافي لأدواء العربية هي مسألة أخرى قائمة بذاتها، وهي مطروحة فعلا على المجمع اللغوي يردد مداخلها ومخارجها، ويحاول ما وسعت قدرته تمهيد ما يقبل منها التمهيد.»
ثم قال معاليه: إن لائحة المجمع تجب اعتراضنا، ورد معاليه عليه لأن: «نصها صريح في أن عليه البحث في تيسير رسم الكتابة العربية، ووزير المعارف عهد إليه بهذه المهمة بقرار منه خاص، وهو مكلف نظاميا بتنفيذ قرارات الوزير.»
وعندنا أن رد معاليه على هذا الاعتراض هو أشبه شيء بالدفوع القضائية منه بالدفوع المنطقية.
فالحق أن تيسير القواعد اللغوية مسألة غير مسألة الرسم وكتابة الحروف، ولكن اختلافهما لا يمنع العلاقة الوثيقة بينهما، ولا يخرجهما عن حكم القضيتين اللتين لا تنظر إحداهما بمعزل عن الأخرى.
وكذلك على المجمع بموجب تكوينه أن يبحث في تيسير رسم الكتابة كما عهد إليه.
ولكن هذا الوجوب لن يوجب عليه أن يرحب بكل تغيير، أو يدين بأن التغيير أسهل من الطريقة التي نحن عليها الآن.
فتيسير الرسم العربي واجب لا شك فيه، ورفض الرسم اللاتيني كذلك واجب لا شك فيه للأسباب التي قدمناها، وأولها أنه يبدل معالمنا دون أن يخرجنا من تلك الصعوبة التي تدعونا إلى التبديل.
وقد نظر المجمع في عشرات من المقترحات التي تقدم بها أعضاؤه، أو تلقاها من الفضلاء المجتهدين في حل هذه المعضلة العسيرة.
فإذا قال قائل: إن الرسم الحاضر أيسر من جميع هذه المقترحات؛ لأنه في الواقع أيسر منها، فاللائحة لا تفرض عليه أن يخالف الحقيقة ويقول: بل هي جميعا أيسر من الرسم الذي نجري فيه.
ولكل لغة صعوباتها التي لا يتساوى الناس في تذليلها، ولو زالت صعوبات الرسم والكتابة جمعاء.
فلا بد من فارق في اللغة بين المتعلم وغير المتعلم، وبين الموهوب وغير الموهوب، وبين صاحب السليقة والدخيل عليها.
وليست لغتنا العربية بدعا بين اللغات في هذه الخاصة العامة ... فمهما نصنع في تيسير رسمها أو قواعدها، فلن نسوي بين الناس في كتابتها وقراءتها، ولن نغني الكاتب أو القارئ عن المزيد من الاستيفاء، كلما ارتفع درجة أو درجات في مراتب الفهم والشعور والتعبير.
ولهذا ينبغي أن نيسر كتابتها بتيسير معرفتها وتيسير فهمها، مع التسليم طوعا أو كرها بأن هذا التيسير لن يدفع كل عسر، ولن يزيل كل لبس، ولن يعصم من الخطأ كل العصمة، ولن يزال الباب بعده مفتوحا للتفاوت بين قدرة الناس على الصواب، واستعدادهم للخطأ من جهل أو سهو أو قصور.
وإذا قيل: أي العلاجين أدنى إلى تيسير الكتابة؛ فلا شك أن العلم التقريبي بالقواعد التي تقيم النطق خير من الرسم الذي يقرأ على صورة واحدة مع بقاء صور متعددة للكلمة، تختلف باختلاف حظوظ الكتاب من قواعد الصرف والنحو والإملاء والهجاء، وهذا إن صح أن الحروف اللاتينية تضمن القراءة على صورة واحدة، وهو غير صحيح ؛ لأن جرس الحروف اللاتينية يخالف جرس الحروف العربية في المخارج والحركات، وتوقيت الكلمة في أثناء نطقها، وهو شيء في صميم اللغة كالمعنى ورسم الكتابة على السواء.
وأسلم ما يقال في هذا الباب: إن الطريقة القائمة لا تزال أسهل وأقرب إلى بنية اللغة من كل مقترح علمنا به، ولا مانع من جديد يستدرك ما عز استدراكه إلى الآن.
الفصل السابع والثلاثون
الشجاعة الأدبية
كتبت مقالا أحيي ذلك الروح الإنساني الكبير الذي رحل عن الدنيا برحيل رومان رولان.
وقد كان للأدباء على ذلك المقال تعقيب يشبه الإجماع، ويتفق كله على تحية ذلك الكاتب العظيم إلا رسالة واحدة ينزع صاحبها منزعا يخالف ما سمعت وما تلقيت من الآراء في رومان رولان، وفيما كتبت عنه، وخلاصتها أن الأوروبيين في حاجة إلى أمثال رومان رولان؛ لقدرتهم على العدوان وإيغالهم فيه، ولكننا نحن الشرقيين أحوج ما نكون إلى التربية الحربية التي نعالج بها الضعف المقيم، ونحمي بها الحوزة المهددة، وإننا ينبغي أن نتعلم كل ما يحرضنا على منازلة الأعداء ومقاومة المعتدين، ونترك تلك الرسالة التي يبشر بها رومان رولان وأمثاله، حتى يحين موعد الحاجة إليها بيننا نحن الشرقيين. •••
رأي فيه شبهة من الصواب، ولكنها شبهة من الصواب، وليست بالصواب في اللباب.
لأن الأديب المعترض قد التبس عليه الأمر بين مذهب رومان رولان، ومذهب أولئك القعديين الذين عرفوا في أوروبا باسم «الضميريين» من قولهم: «إن ضميري يأبى علي حمل السلاح ولو دفاعا عن الأوطان.»
فليس رومان رولان من هؤلاء ولا هو ممن ينكرون الحرب حين يفرضها الحق والواجب على المدافعين، ولكنه ينكر البغضاء في سبيل الزهو والطمع، ويرى أن يكون السلاح آخر ما يعمد إليه الإنسان لعلاج أزمات السياسة، بعد أن تنفد وسائل الحسنى وحيل السلام.
وما دام في الدنيا حرب بغي، فالحرب الشريفة مفروضة على الناس لجزاء ذلك البغي، ومنعه أن يبلغ مقصده من الغلبة على الآمنين والموادعين، فمن ينكر حرب الإغارة والسطوة لا ينكر حرب المقاومة والدفاع .
والفرق عظيم بين من يقول بمنع الحروب وتغليب وسائل السلام، وبين من يرى الحرب الباغية وينكص عن دفعها؛ لأنه لا يميز بين الاعتداء ورد الاعتداء.
بل الفرق عظيم بين أولئك «الضميريين» وبين من يحاربون العنف بالحسنى، لعلهم يخجلون صاحبه، وينبهون فيه تبكيت الضمير، ومن هؤلاء غاندي وتولستوي، وطائفة من المصلحين الشرقيين والأوروبيين هنا وهناك، وإنهم ليقولون بالحسنى، ولكنهم لا يتخذون الحسنى عدة في الحروب حين لا مناص من الحروب.
ومهما يكن من رأي رومان رولان في ذلك، فليس كاتب هذه السطور بالذي يحمد «الدروشة» الضميرية في هذا المقام، وأقرب الشواهد على ذلك أنني كنت من دعاة المشاركة في الحرب، وإن كانت لا توجبها علينا معاهدة من المعاهدات؛ لأن كفاح الطغيان واجب غني عن الوثائق والعهود.
إلا أن العجيب في كلام الأديب المعترض قوله: إن دعوة رومان رولان وأمثاله قد يحتاج إليها الأوروبيون ولا نحتاج إليها نحن الشرقيين؛ لأن دعوة رومان رولان قائمة على الشجاعة الأدبية، وهي ألزم ما يحتاج إليه الضعفاء بعد عصور الجهل والظلم والفساد.
وإن الضعفاء الذين طال عليهم مراس تلك العصور لأحوج إلى الشجاعة الأدبية منهم إلى حمل السلاح؛ لأن الشجاعة الأدبية تشفي أمراض الفساد كلها، وتبدل بها الصحة والسلامة والقوة والكرامة، وليس شيء من ذلك بمكفول من حمل السلاح في أمة تخاف الجهر بالحق، ولا تجترئ على الباطل، بل لعل السلاح يصيبها قبل أن يصيب أعداءها، كما رأينا في كثير من الدويلات الأوروبية والأمريكية والشرقية، حيث يحمل السلاح ولا تعرف الآراء ولا الشجاعة في الآراء.
قال أبو الطيب:
والعار مضاض وليس بخائف
من حتفه من خاف مما قيلا
يريد أن الرجل قد يقدم على الموت ولا يقدم على العار، ويحسب أن العار كله فيما يقوله الناس.
فأهون الشجاعات عنده هي الشجاعة على الموت، ثم يجعل الخوف من العار أكرم من الإقدام على الحمام.
لكن الحقيقة أن شجاعة العقيدة أرفع من الشجاعتين بلا مراء، وإن شجاع العقيدة أكرم من الشجاع على الموت، ومن الشجاع الذي يموت لأنه يتقي العار، ويفهم أن العار هو ما يقول الناس: إنه عيب ذميم، وأن الشرف هو ما يقول الناس: إنه فضل حميد.
أكرم من هذا وذاك من لا يبالي بالموت ولا يبالي بما يقوله الناس، إذا اعتقد أنهم مخطئون فيه.
ولا شجاعة في الجري مع القطيع حين يثور ويعدو في الطريق الذي تدفعه إليه الغرائز الهوجاء، ولكن الشجاعة كل الشجاعة أن يقف الرجل أمام ذلك القطيع، ثم لا يتخلى عن مكانه حتى يصد القطيع أو يغلب على أمره غير مختار ولا ملوم.
وهذه الشجاعة الأدبية التي تعلو درجات على شجاعة الموت، وشجاعة العار هي الشجاعة التي نتمثلها في رومان رولان الذي يقول: «إن الإيمان - وليس النجاح - هو غاية الحياة.»
وهي هي التي نحتاج إليها - نحن الشرقيين - قبل كل حاجة، ونتحلى بها قبل كل حلية، ونجتزئ بها إذا كان لا بد من الاجتزاء بفضيلة واحدة من الفضائل تغني عن سائرها؛ لأن الأمة التي تحسن أن تجهر بالحق وتجترئ على الباطل تمتنع فيها أسباب الفساد، أو يكون مجرد اقتدارها على تلك الفضيلة دليلا لا دليل بعده على امتناع أسباب الفساد.
ومن الخطأ البين أن يقال: إن التربية الحربية أو التربية العسكرية تخلق الشجاعة، حيث لم تخلق في طباع الأمم جيلا بعد جيل.
وأبين ما يكون ذلك الخطأ إذا قيل: إن الضعفاء يتعلمون الشجاعة بتلك التربية الحربية في العصر الحديث على التخصيص.
ولا نبدأ بالتعليل قبل أن نمهد له بالإشارة إلى الواقع الذي لا جدال فيه.
فهذا مثال الفاشية في إيطاليا غني عن الإفاضة في مراجعة المثلات وضرب الأمثال؛ لأن الفاشية زعمت أنها تبعث النخوة بعثا جديدا في بقايا الأمة الرومانية القديمة، وزعم أناس من الشرقيين مثل هذا الزعم، فظنوا أن التربية الحربية منذ الصبا الباكر صنعت في الأمة الإيطالية الأعاجيب، وهي خليقة أن تصنع مثل تلك الأعاجيب في النهوض بعزائم الشرقيين، وراح بعض الدعاة يحاكونها محاكاة لا ترجع إلى فهم ولا اختبار، وكل ما كانت ترجع إليه تخيل كاذب ومظهر خلاب.
والحق أن التربية الحربية أو العسكرية - كما كانوا يسمونها هناك - كانت أولى بالفلاح في التجربة الإيطالية، لو أنها كتب لها أن تفلح في بلد من البلدان.
لأنهم كانوا ينشئون الأطفال عليها من الخامسة، ويتعهدونهم بها إلى ما بعد العشرين، ومضى على التجربة منذ بدايتها نيف وعشرون سنة، بدأت قبل الزحف الفاشي على رومة، وانتهت قبل الزحف عليها بجيوش الحلفاء الديمقراطيين.
فماذا أفاد كل ذاك؟
لقد كان أولئك الجنود الفاشيون أسبق المقاتلين إلى الفرار في ميدان الصحراء وفي ميدان اليونان، وكانت هذه التربية مجبنة لهم، ولم تكن سبيلا إلى الشجاعة ونهوض العزيمة؛ لأن العزيمة والجعجعة قلما تجتمعان.
ثم ذهب موسوليني - إمام الفاشية - بين عشية وضحاها، فلم يسرع إلى نجدته أحد من جنوده في طول البلاد وعرضها، سواء ما وقع منها في قبضة الحلفاء الديمقراطيين، وما بقي منها في قبضة الألمان النازيين، وجاءه المدد حين جاءه من هؤلاء، ولم يجئه من أبطاله الذين دربهم على نظامه سنوات بعد سنوات.
وتعليل ذلك غير بعيد على من يكلف نفسه مئونة النظر وراء المواكب والصيحات؛ لأن الشجاعة خلق من الأخلاق، وليست نظاما من النظم المدروسة، وكل خلق من الأخلاق فلا بد له من الشعور بالتبعة ومن الحرية التي يقتضيها الشعور بالتبعة؛ لأنك لا تحمل الإنسان تبعة خلقية وأنت توثق مشيئته بوثائق الطاعة العمياء، ولا تعوده خلقا قط، وهو ملقي التبعة على سواه.
وأظهر من هذه العلة البدهية علة الإحجام عن معونة الدولة المدبرة، ومن حولها أولئك الأنصار الناشئون على يديها.
فإن جنود الفاشية قد نبتوا في حمايتها وقاموا على يديها، فهي التي تحميهم وهي قوية، وهم العاجزون أن يحموها يوم تزول عنها القوة، ومن قام على يد فهو يضرب بها ولا يضرب دونها، ويسقط معها ولا يقيمها بعد سقوطها.
وهكذا صنع الجنود الفاشيون بالدولة الفاشية، وهكذا يصنع أمثالهم بأمثالها في كل زمن وبين كل قبيل.
فالتربية على الشعور بالتبعة - أو على الشجاعة الأدبية بعبارة أخرى - هي حاجتنا اليوم نحن المصريين أو نحن الشرقيين على التعميم، وأمثولة رومان رولان ألزم لنا من أمثولة العسكرية المزعومة، التي رأينا قصارى جهدها في تاريخ قريب لا نزال نشهده، ولا حاجة بنا إلى التاريخ البعيد.
الفصل الثامن والثلاثون
الشعر والقصة
حين يقول القائل: إن الذهب أنفس من الحديد يقرر شيئا واحدا، وهو أن الحديد لا يدرك ثمن الذهب في سوق البيع والشراء، ولكنه لا يقرر إلغاء الحديد ولا استخدام الذهب في المصانع والبيوت بديلا منه، ولا يعني أن الذهب يغني عن الحديد، أو عن غيره من المعادن في غرض من أغراضه.
كل ما يقرره شيء واحد، وهو أن سعر الذهب أغلى من سعر الحديد، ولا لوم عليه في ذلك، وإن قيل له: إن الحديد أنفع وأشيع من معادن الزينة والتجميل.
ونحن قد فضلنا الشعر على القصة في سياق الكلام عليهما من كتاب «في بيتي» ... فكل ما قلناه إذن هو أن الشعر أنفس من القصة، وأن محصول خمسين صفحة من الشعر الرفيع أوفر من محصول هذه الصفحات من القصة الرفيعة.
فلا يقال لنا جوابا على ذلك: إن القصة لازمة، وإن الشعر لا يغني عن القصة، وإن التطويل والتمهيد ضرورتان من ضرورات الشرح الذي لا حيلة فيه للرواة والقصاصين.
ويستطيع الأديب الأستاذ محمد قطب أن يقرر كما قرر في «الرسالة»: «أن القصة دراسة نفسية لا غنى عنها في فهم سرائر النفوس، وليس الشعر أو النقد أو البيان المنثور بمغن عنها؛ لأنها في ذاتها أحد العناصر التي يحتاج إليها قارئ الحياة.»
يستطيع الأديب هذا، كما يستطيع أن يقول: «إن الحديد معدن نافع لا غنى عنه في تركيب الآلات وبناء البيوت، وليس الذهب أو الفضة أو الجوهر النفيس على اختلافه بمغن عنها؛ لأنه في ذاته أحد المعادن التي نحتاج إليها في الحرب والسلم، وفي الصناعة والتجارة.»
ولكنه بعد كل هذا يذهب إلى السوق ليشتري الحديد، فلا يبذل فيه ثمن الذهب والفضة، ولا ينكر على التاجر أن يزن له درهما من النقد برطل من الحديد المفيد.
وقد قلنا في كتاب «في بيتي»: إن القصاص قد يرجح الشاعر في الملكة الذهنية والقريحة الفنية، ولكننا لا نفضل القصة على الشعر من أجل ذلك كما لا نفضل الجميز على التفاح لأن الأرض التي أثمرت الجميز كانت في حالة من الحالات أخصب وأجود من الأرض التي أثمرت التفاح.
وينفعنا مثل الجماد هنا كما ينفعنا مثل النبات، فإن تاجر الحديد قد يكون أغنى وأقدر من تاجر الذهب، وقد يكون المنجم الذهبي أقل ربحا ومحصولا من المنجم الحديدي في حالة من الحالات، ولكن تقويم المعدنين لا يتوقف على تقويم التاجرين أو المنجمين؛ لأنهما لا يرجعان إلى نوع واحد من التقدير والحساب.
ويقول الأستاذ محمد قطب: «قرأت سارة وقرأت في الديوان ما يقابلها من شعر، وهو شعر جيد رفيع، ولكنني لا أستطيع مع ذلك أن أقول: إنني استغنيت به عن قراءة سارة، أو إن سارة ليس فيها جديد مفيد من الدراسات النفسية العميقة ...»
فالذي نقوله: إن الأستاذ غير مطالب بأن يقول هذا في باب الموازنة بين الروايات والقصائد؛ لأن موافقته على رأينا في الشعر والقصة لا تقتضيه أن يمحو القصة، وأن يثبت الشعر وحده، وإنما يبقيهما ويبقي معهما الترجيح بينهما، ويقدم الشعر على القصة في هذا الترجيح.
ولا حاجة به إلى جهد طويل للتسليم بفضل الشعر على القصة في هذه الموازنة؛ لأنه ينتهي إلى هذه النتيجة إذا سأل نفسه: أيهما أوفر محصولا من الشعور والثروة النفسية: ألف صفحة من الشعر المنتقى، أو ألف صفحة من الرواية المنتقاة؟
أما أنا فجوابي على ذلك جزما وتوكيدا أن صفحات الشعر أوفر وأغنى، وأن معدن الشعر من أجل ذلك أنفس وأغلى من معدن الرواية.
فإذا كان هذا رأيه فقد اتفقنا.
وإذا لم يكن رأيه ورأيي متفقين في ذلك، فهذا هو الجمل وهذا هو الجمال، كما يقولون في أمثالنا الوطنية. هات ألف صفحة من رواية أو عدة روايات، وخذ ألف صفحة من الشعر الرفيع، وارجع إلى حكم القراء فيما شعروا به بعد قراءة القصائد وقراءة الحكايات، أو قدر ما يشعرون به على سبيل الظن والتخمين، واحتفظ برأيك بعد ذلك كما تشاء.
إنني لم أكتب ما كتبته عن القصة لأبطلها وأحرم الكتابة فيها، أو لأنفي أنها عمل قيم يحسب للأديب إذا أجاد فيه.
ولكنني كتبته لأقول أولا: إنني أستزيد من دواوين الشعر، ولا أستزيد من القصص في الكتب التي أقتنيها، وأقول ثانيا: إن القصة ليست بالعمل الذي يحسب للأديب، وإنها ليست بأفضل الثمرات التي تثمرها القريحة الفنية، وإن اتخاذها معرضا للتحليل النفسي أو للإصلاح الاجتماعي لا يفرضها ضربة لازب على كل كاتب، ولا يكون قصارى القول فيه إلا كقصارى القول في الذهب والحديد: الحديد نافع في المصانع والبيوت، ولكنه لا يشترى بثمن الذهب في سوق من الأسواق. •••
وكتب العالم الفاضل الأستاذ علي العماري - المدرس بالأزهر - يعقب على المقياسين اللذين ذكرتهما في الكتاب للمفاضلة بين الشعر والقصة، وهما:
أولا:
أن القصة كثيرة الأداة قليلة المحصول.
وثانيا:
أن الطبقة التي تروج بينها القصة لا ترتقي في الثقافة والذوق والتمييز مرتقى الطبقة التي تفهم الشعر وتشعر بمعانيه.
وقد قال الأستاذ: «فالمقياس الأول تحدث عنه علماء البلاغة والنقد، فكانوا يرون أن خير الكلام وأبلغه ما جمع المعنى الكثير في اللفظ القليل، وهذا المقياس وإن صلح للمفاضلة بين عبارة وعبارة، أو بين بيتين من الشعر، أو قطعتين من النثر في موضوع واحد، فإنه لا يصلح للمفاضلة بين القصة والشعر؛ وذلك أن فائدة القصة ليست مقصورة على الغرض الأساسي الذي وضعت من أجله، ولم تكن خمسون صفحة في قصة ما، ولو بلغت الطبقة الدنيا في القصص، تمهيدا لفائدة تقال في سطر أو أسطر، ولكن هناك التصوير الرائع والوصف الدقيق لحركات الأحياء ونوازع النفوس.»
والذي نقوله للأستاذ الفاضل: إن الموازنة بين الشعر والقصة لا تكون إلا بذلك الميزان الذي قال: إنه لا يصلح للمفاضلة بينهما.
لأنك إذا قلت: إن هذه القصيدة أبلغ من تلك لجمعها المعنى الكثير في اللفظ القليل، فإنك لا تفاضل بين فنين أحدهما قاصر بطبيعته عن مرتبة الفن الآخر، ولكنك تفاضل بين كلامين؛ أحدهما فاضل في الفن نفسه، والآخر مفضول فيه.
أما إذا قلت : إن الشعر أفضل من القصة؛ لأن الشعر من شأنه أن يجمع المعنى الكثير في اللفظ القليل، فتلك هي المفاضلة بين طبيعة الشعر وطبيعة القصة، وإن بلغت في بابها غاية الإتقان.
ونرجع إلى التمثيل بالذهب والحديد، فنقول: إن ترجيح ذهب على ذهب بخفة الوزن يدل على أن أحد الذهبين ذهب ناقص، وأن الذهب الآخر ذهب كامل، ولا يفيدنا شيئا في الموازنة بين هذا المعدن وغيره من المعادن.
ولكننا إذا قلنا: إن قليل الذهب أغلى من كثير الحديد، فلا يلزم من ذلك أن الحديد ناقص في صفاته المعدنية؛ لأنه قد يكون في بابه على غاية من الجودة والمتانة، وإنما يلزم منه أن معدن الذهب أغلى من معدن الحديد.
وهذا بعينه الذي قصدنا إليه حين قلنا: إن قليل الشعر يحتوي من الثروة الشعورية ما ليست تحتويه الصفحات المطولات من الروايات، فإن احتياج القصة إلى التطويل لبلوغ أثر الشعر الموجز هو وحده الذي يبين لنا أن قنطارا من القصة يساوي درهما من الشعر، وأن القصة في معدنها دون الشعر في معدنه؛ لأن النفاسة هي أن يساوي الشيء القليل ما يساويه الشيء الكثير.
أيقول الأستاذ: إن خمسين صفحة من القصة لازمة للتصوير والحوار الذي يتحقق به سياق القصة؟
حسن، فهذا اللزوم نفسه هو الذي ينزل بها دون منزلة الشعر في متعة الذهن والخيال؛ لأن الشعر بغير حوار وبغير تمهيد من أمثال تلك التمهيدات القصصية يعطينا في خمسين صفحة أضعاف ما نعطاه في تلك الصفحات، بل هي لا تعطينا في القصة شيئا إلا إذا وصلت بعد التمهيد والحوار إلى مادة الشعر في لبابها، وهي التصوير والخيال.
وقال الأستاذ عن المقياس الثاني: «أما المقياس الثاني فأحسبه ليس كذلك فاصلا، فالطبقات الدنيا في الثقافة أو في الأخلاق لا تروج عندها إلا أنواع خاصة من القصص ليست هي التي يفاضل بينها الكاتب وبين الشعر، وكما يروج عندهم نوع من القصص رخيص كذلك يروج عندهم أنواع من الشعر رخيصة، على أننا نجد أن ميل العامة ليس دائما إلى القصص، فهناك من الأمم ما يميل عامتها وخاصتها إلى الشعر ويروج عندهم ...»
ونقول نحن: إن ميل بعض العامة إلى الشعر صحيح، ولكن حين يكون الشعر قصة، وحين يكون الشعر من قبيل ملاحم الهلالي والزير سالم، أما حين يكون الشعر وصفا كوصف ابن الرومي أو البحتري، وحكمة كحكمة أبي الطيب وأبي العلاء، وفخرا كفخر الشريف وأبي فراس، فالعامة لا تفضله على القصص التي تفهمها، وإن أسفت غاية الإسفاف.
ومما لا شك فيه أن عدد النسخ التي تصدر من ديوان المتنبي في الطبعة الواحدة أقل من عدد النسخ التي تصدر من ألف ليلة وليلة، أو من الروايات العصرية التي تتداولها الأيدي مرة في كل شهر أو مرة في كل أسبوع، وهذا مع إقبال القراء على ديوان المتنبي لغرض غير لذة المطالعة، وهو غرض الدرس أو المحاكاة، ومهما يكن من طبقة القراء الذين يقبلون على تلك الدواوين وتلك الروايات، فلا نزاع في أن الروايات إنما تروج لأن تحصيل لذتها أسهل وأقرب من تحصيل لذة الدواوين، وليس لارتفاعها عليها في طبقة الفن وملكة التأليف.
وقد يأكل الفقير اللحوم ويأكل الغني البقول، ولكننا لا نستطيع أن نقول من أجل ذلك: إن البقول طعام الأغنياء، وإن اللحوم طعام الفقراء.
وكذلك قد يوجد من العامة من يقرأ الشعر حتى الرفيع منه، كما يوجد من الخاصة من يقرأ القصة حتى الوضيع منها، ولكننا لا نستطيع أن نقول من أجل ذلك: إن الشعر هو قراءة الجهلاء، وإن القصة هي قراءة المثقفين.
الفصل التاسع والثلاثون
ندرة البطولة
كتب العالم الفاضل الأستاذ أحمد أمين بك مقالا في الرسالة ذهب فيه إلى أن البطولة قد ندرت في العصر الحديث، فلا تجد في الشعر أمثال بشار وأبي نواس وابن الرومي، ولا في النثر أمثال ابن المقفع والجاحظ وسهل بن هارون، ولا في السياسة أمثال عمر بن الخطاب وعمر بن العزيز، ولا في الغناء أمثال إسحاق الموصلي وإبراهيم بن المهدي، وعلل ذلك على الجملة بانتشار التعليم وكثرة المتوسطين بين الناس.
وقد ناقشه صاحب الكتاب بالمقال الأول من المقالين التاليين، فنادى الأستاذ قائلا: «إن كثرة العلماء والفنانين في عصرنا الحاضر حجة لي لا علي؛ وهي السبب في أننا لا نعدهم نابغين ولا أبطالا.» إلى أن قال: «فعصرنا الحاضر طابعه طابع المألوف والمعتاد لا طابع النابغة والبطل، وإن كان مألوفنا ومعتادنا أرقى من نابغة القرون الماضية وبطل القرون الماضية.»
وفي المقالين التاليين بيان لوجهة النظر الأخرى في هذا الموضوع:
1
العالم الفاضل الأستاذ أحمد أمين يروي ما يتحدث به فريق من المتشائمين حين ينعون على العصر الحديث ندرة البطولة، وقلة النبوغ، ويسأل معهم: «هل تجد في الشعر أمثال بشار وأبي نواس وابن الرومي وابن المعتز وأبي العلاء؟ وهل تجد في النثر أمثال ابن المقفع والجاحظ وسهل بن هارون وعمرو بن مسعدة؟! وهل تجد في الغناء أمثال إسحاق الموصلي وإبراهيم بن المهدي؟» وقس على ذلك بطولة الحرب والسياسة والزعامة وسائر البطولات.
ثم يعقب الأستاذ على ذلك قائلا: «يظهر لي مع الأسف أن الظاهرة صحيحة، وأن الجيل الحاضر في الأمم المختلفة لا يلد كثيرا من النوابغ، ولا ينتج كثيرا من الأبطال، وأن طابع هذه العصور هو طابع المألوف والمعتاد، لا طابع النابغة والبطل.» ثم يستعرض الأسباب ويختمها بقوله: «ما أحق هذا الموضوع بالدرس وتناول الكتاب له من وجوهه المختلفة!» والموضوع - كما قال الأستاذ النابه - حقيق بالدرس والتناول من وجوه مختلفة، وليس له أوان يفوت بفواته، فإذا شغلتنا موضوعات أخرى عن تناوله في الأيام الماضية، فليس ما يمنع اليوم أن نبدي الرأي فيه.
رأينا أننا نخالف الأستاذ مخالفة النقيض للنقيض، ونعتقد أن العصر الحديث أغنى بالبطولة والنبوغ من كل عصر سلف بغير استثناء ولا تحفظ ولا تغليب للظن والاحتمال، وأنه ليس أسهل ولا أقرب من ظهور خطأ المتشائمين فيما وصلوا إليه من نتيجة؛ لأنه ليس أسهل ولا أقرب من ظهور الخطأ فيما اعتمدوه من قياس.
إن الوجه في المقارنة بين جيل وجيل أن نحصر الزمن وأن نحصر المزايا، وأن نحصر العناصر التي تقوم عليها شهرة الأدباء أو الأجيال.
وهذا الذي ينساه المفاضلون بين عصرنا الحديث والعصور الغابرة كل النسيان.
فمن أمثلة ذلك: «هل تجد في الشعر أمثال بشار وأبي نواس وابن الرومي وابن المعتز وأبي العلاء؟»
فالذين يسألون هذا السؤال يحسبون الماضي كله عصرا واحدا يقابله عصر واحد من الحاضر هو العصر الذي نعيش فيه ... وينسون أن الزمن الذي نشأ فيه بشار والمعري يمتد من أواسط القرن الثاني للهجرة إلى أواسط القرن الخامس؛ أي نحو ثلاثمائة سنة!
وينسون أن المكان الذي نشئوا فيه يمتد من العراق إلى الشام، ومن الحضر إلى البادية.
وينسون أن العصر الحاضر الذي نعيش فيه لا يمتد إلى أكثر من أربعين أو خمسين سنة، وهو الزمن الذي يبدأ بفتوة الشاعر وينتهي بوفاته.
وإنما الوجه أن يحضروا أربعين أو خمسين سنة من العصور القديمة، ثم يعقدوا المقارنة بين هاتين الفترتين، فإنهم ليدركون إذن حقيقة التفاوت بين عصرنا الحاضر وبين كل عصر من تلكم العصور.
كذلك ينسى النعاة على المحدثين أن يسألوا أنفسهم: ما هي المزية التي كان بها النابغ القديم «أنبغ» من قرينه الحديث؟ فلا يسألون مثلا: ما هو كتاب الجاحظ الذي يستعجزون أبناء عصرنا عن الإتيان بنظيره؟ فإن لم يكن كتاب، فما هو الموضوع، وإن لم يكن موضوع، فما هو المقال أو الجملة أو العبارة؟! ولو كلفوا أنفسهم سؤالا كهذا لمالت معهم كفة الميزان، وعلموا أن الجاحظ ومن هم أكبر من الجاحظ يحتاجون إلى أن يتتلمذوا على أناس من المتخلفين، وقلما يعتزون بمزية واحدة لا يعدلها نظير من مزايا المتأخرين.
وأعجب من ذلك حديثهم عن الموصلي وإبراهيم بن المهدي، ومن جرى مجراهما من المطربين في العصور الأولى، فماذا سمعوا من هذا أو ذاك؟ ومن أين لهم أن الموصلي يبلغ شأو سلامة حجازي أو السيد درويش أو أم كلثوم، فضلا عن السبق الذي لا يجارى والبون الذي لا يدرك؟
أما أنا فأغلب الظن عندي أن الأمر معكوس، وأن ألحان الموصلي لا تعدو أن تكون مزيجا من تنغيم البدو وصبغة الحضارة المستعارة والآلات الناقصة، وكل ما يأتي على هذا الخط معروف الأصول، معروف النطاق، وإن يكن معروفا بحروف النوطة وأصوات السماع.
كذلك ينسى المتشائمون أن يتقصوا عناصر الشهرة في العصور القديمة قبل أن يعقدوا المقارنة بينها وبين نظائرها في العصور الحديثة.
فدع أنهم ينسون أن يرجعوا إلى وقائع قائد مثل يوليوس قيصر أو الإسكندر المقدوني أو جنكيز خان قبل أن يرجحوهم في فنون الحرب على فوش وهندنبرج ومصطفى كمال، ولو أنهم رجعوا إلى تلك الوقائع لما أكبروا من شأن الانتصار فيها كل ذلك الإكبار.
ودع أنهم ينسون أن كل حرب لا بد فيها من ظافر ومن مهزوم، وأن الظفر وحده ليس بشيء إن لم ننظر معه إلى عوامله ودواعيه، ونتبين أنها صالحة للتكرار في كل وقعة وكل حين.
ودع أنهم ينسون أحكام المصادفات والعوارض، وأنها تندر في الزمن الحديث وتكثر في الزمن القديم.
دع هذا جميعه، فقد يكون في نسيانه بعض أعذار لمن ينسون، ولكن كيف تراهم يجارون الأقدمين في مبالغاتهم عن هؤلاء العظماء، وهي قائمة على دعاوى وأكاذيب، نحن على يقين من بطلانها كل البطلان؟ ألم يكن هؤلاء العظماء أربابا وأنصاف أرباب وقديسين وأشباه قديسين في رأي الأقدمين؟ فكيف نقابل بينهم وبين خلفائهم في عصرنا قبل أن نسقط في الميزان تلك المبالغات وتلك الدعاوى والأكاذيب، إن هذا لخليق أن يضيف إلى فضل المتأخرين، لا أن يغض معه ويحيف عليه؛ لأنهم - وهم آدميون ليس إلا - يوضعون في الميزان أمام أرباب وأنصاف أرباب.
ليس في تاريخ بني الإنسان منذ بدايته إلى يومنا هذا عصر يعرض لنا من عجائب الحوادث والأمم والأفراد مثال ما يعرضه لنا العصر الذي نحن فيه.
ليس في تاريخ بني الإنسان عصر برز فيه من البطولة والمغامرة والدهاء والقدرة، والصبر على النصر والهزيمة مثل ما برز أمامنا في الحرب العظمى.
وليس في تاريخ بني الإنسان عصر تولى فيه عروش القياصرة والخواقين والأكاسرة وقبض فيه على أعنة السلطان رجال من «أبناء الشعب» كمصطفى كمال، ورضا بهلوي، وستالين، وموسوليني، وهتلر، وكابللرو، وكرديناس، وماذا عندنا من الأدلة على أن العصاميين في الزمن القديم كانوا أعجب وأدنى إلى البطولة في صنيعهم من هؤلاء؟
وليس في تاريخ بني الإنسان عصر واحد عرض لنا من نخوة الحب وفروسية العاطفة مثل ما عرضه لنا العصر الحاضر في غرام ملك الإنجليز السابق، وصديقته السيدة سمبسون، فماذا عندنا من الأدلة على أن غرام هيلانة في طروادة المزعوم كان أعجب وأدنى إلى البطولة من هذا الغرام؟ وليس في تاريخ بني الإنسان عصر واحد عرض لنا من أطوار الشعوب ما عرضته لنا الثورة الإسبانية، والثورة الروسية من قبلها، وعرضته معها الثورات في مصر والهند والصين، فماذا عندنا من الأدلة على أن عصر الثورة الفرنسية، أو عصور ثورات اليونان والرومان كان لها نصيب من العجب، وجلائل الخطوب أوفى من هذا النصيب الذي شهدناه؟
وليس في تاريخ بني الإنسان عصر أنجب في كل أمة نموذجا يمثلها، كما أنجب عصرنا سعد زغلول وغاندي وسون ياتسن وشيان كاي شيك وفيصلا وابن سعود.
وليس في تاريخ بني الإنسان عصر فيه ما في عصرنا من الحقائق التي تشبه الخيال والعبر التي تشبه نوادر الأمثال، والشواهد التي تتعدد على كل ملاحظة من ملاحظات النفس الإنسانية، والبواعث القومية، والطوارق السياسية ... فعندنا وعلى مسمع ومشهد منا مصداق كل رأي حام في ذهن فيلسوف، وتطبيق كل مذهب دعا إليه داعية قديم أو حديث في عالم النظريات، وليس في تاريخ بني الإنسان مخاطرات أهول ولا أنبل من مخاطرات ركاب الطيارات والمظلات والغواصات المتفجرة، والسفن المدمرة التي يقع فيها الخطر كل يوم ويقع فيها الإقدام كل يوم، ولا مبالاة بالموت ولا بالخطر كأنهما رياضة من اللهو، أو لعبة من ألعاب الرهان.
فإن كنا لا نسمي ما نبصره ونسمعه عجائب وروائع، ولا نحسبها معارض للبطولة والنبوغ، فقد غيرنا الأسماء وقد بدلنا اللغة، وقد أصبحنا مطبوعين على النظر إلى البعيد دون النظر إلى القريب.
نعم إننا ننظر حولنا إلى عظيم في الشعر من طراز شكسبير، فلا نرى له ندا بين الشعراء المعاصرين، ولكن النوابغ من طراز شكسبير تتساوى فيهم جميع العصور، ولا يستأثر بهم القرن الذي نبغوا فيه، وهكذا كان أبناء القرن السادس عشر خلقاء أن يبحثوا في زمانهم عمن يضارعون نوابغ القرن العشرين في العلم والاختراع والموسيقى والفن كافة، فلا يجدوا بينهم أندادا لهم يضارعونهم كثرة وقيمة ... وإن العصر الحديث مع هذا ليفهم قصائد شكسبير خيرا مما فهمها معاصروه، ويقدره خيرا مما قدروه، ويمثل رواياته أكثر وأجمل وأبرع وأكفل بالإقبال والإعجاب مما كانوا يمثلونها في حياته.
أذكر أنني رأيت منذ سنوات في إحدى الصحف الإنجليزية صورا لبعض العظماء الغابرين في أزياء العصر الحديث شفعتها الصحيفة بهذا السؤال: هل تعرفهم؟
وحق للصحيفة أن تسأل سؤالها الآن؛ لأن الصور التي رأيناها لأولئك العظماء قد سلبتهم كثيرا من الهيبة، وبدلت ما حولهم من هالات الفوارق والمسافات التي يوحيها اختلاف المظاهر والأزياء.
وإن حاجتنا اليوم لشديدة إلى متحف يستعرض لنا عظماء الأمس في أزياء اليوم، وعظماء اليوم في أزياء الأمس؛ لنعرف مقدار ما نضيفه إلى الغابرين من هيبة الفوارق والمسافات، ومقدار ما نسلبه المعاصرين من جراء الألفة والمقاربة.
فإن تعذر علينا أن نرسم ذلك المتحف عيانا فلنرسمه بالظن والتقدير، ولنرجع إذن إلى مقاييسنا وموازيننا نلمس مواضع الزيادة والنقصان فيها، ونصلح جوانب الغلو والبخس في كفايتها، ونغنم تصحيح الميزان في الحكم على الرجال والأزمان؛ لأن هذا التصحيح غنيمة أنفس وأجدى من تفصيل نابغ على نابغ، أو ترجيح جانب على جانب، إذ لا ضرر ولا قصور في اختلاف التفضيل والترجيح متى صحت النظرة واستقام القياس، تلك هي الحقيقة فيما يقال عن ندرة البطولة والنبوغ بيننا كما أراها، أما تواتر القول بندرتها بين جماعة من الناقدين، منهم أناس فضلاء محبون للإنصاف، فله أسباب قد تعود إلى تفصيلها ومناقشتها.
2
إن كان هذا - يا أخي - هو الذي أردت فأظن أنه لا يرد علي بمزايا العصر الحاضر، وعلم العصر الحاضر، وفن العصر الحاضر، وإذا كان النبوغ في السبق وكانت المقارنة بين عصرين بقياس مسافتي البعد، فأرجو أن نكون على وفاق فيما ذكرت وذكرت.
وموضع الوفاق بين ما قال الأستاذ وما قلت: أننا لا ينبغي أن نقيس علم السابقين إلى علم المحدثين، فليست المقارنة بين مقدار ما نعلم ومقدار ما يعلمون، وإنما المقارنة بين الملكات في الزمن الماضي، والملكات في الزمن الحاضر، وهذا ما نختلف عليه؛ إذ لا موجب عندي لأن تكون ملكات النابغين في عصرنا أقل مما كانت في عصر الأقدمين.
إن النبوغ صفة في أصحابها وليست صفة في غيرهم، فإذا تعلم غير النابغين أو لم يتعلموا، فصفة النبوغ باقية في أصحابها سواء ظهروا بين المتعلمين أو ظهروا بين الجهلاء، وكل ما هنالك من فرق أن النابغة الذي يظهر بين المتعلمين أنبغ من زميله الذي يظهر بين الجهلاء، وتلك شهادة للنابغين في العصر الحديث تضاف إلى ميزان الحسنات والمرجحات.
ومسافة البعد بين النابغ القديم ومعاصريه هي مسافة البعد بين نابغينا، وأبناء عصرنا إذا نحن تجاوزنا مسألة التعليم ووفرة المتعلمين؛ لأن النبوغ ملكة مطبوعة، والمسافة بين المطبوعين وغير المطبوعين اليوم هي هي المسافة بين الفريقين قبل مائة عام أو ألف عام، فليس فضل إديسون في زماننا أنه يعرف في علم الضوء وعلم الصوت ما ليس يعرفه أبناء عصره، ولكنما فضله أنه نابغ وهم غير نابغين، فأفاد بالعلم اليسير ما لم يفده الآخرون بالعلم الغزير، وظلت المسافة بينهم وبينه في النبوغ كالمسافة بين أرخميد ومن عاصروه من غير النابغين، وإن اختلف العصران في شيوع العلم وكثرة المتعلمين.
يقول الأستاذ الفاضل: «مقياس النابغة في نظري أن يفوق أهل زمانه، ويسبقهم في فنه أو علمه أو أدبه حتى لا يدركوه إلا بعد أزمان، وعلى مقدار هذا السبق يكون النبوغ، فسيبويه نابغة في النحو؛ لأنه رأى من قواعده ما عجز أهل زمانه عن النظر إليه.»
وأنا أقول كما يقول الأستاذ: إن النابغة يفوق أهل زمانه في معرض من معارض العلوم والفنون، ولكني لا أقول: إن عصرنا لم ينحب أمثال سيبويه، بل أقول: إن سيبويه لو عاش في عصرنا لما فاق نوابغه الأحياء، وإن نوابغنا الأحياء لو عاشوا في عصره لما قصروا عن شأوه؛ لأن الملكات التي تعرف وحدة الأسماء والأفعال بين لغات أوروبا ولغات آسيا لا تقل عن الملكات التي تعرف الوحدة أو الاختلاف بين قبيلة وقبيلة من أبناء البادية؛ لا لأن الأمر يرجع إلى كثرة المتعلمين عندنا وقلة المتعلمين قبل نيف وعشرة قرون.
وعندي أن المعاصرين ينظرون إلى نوابغهم وأبطالهم، كما كان الأقدمون ينظرون إلى النوابغ والأبطال في عصورهم، إلا من كان منهم موسوما بسمة الدين أو محوطا بهالة الإيمان، فالأستاذ يقول: إن نابليون ظهر «فاستبعد الناس وأجرى الدماء أنهارا، وقلب الممالك رأسا على عقب ودوخ الدنيا، فكان نابغة حقا في ناحية، وبيننا الآن في عصرنا من هم أعلم منه بفنون الحرب، ومن هم أقوى منه إرادة وأبعد نظرا، ولكن من الصعب أن نسميهم نوابغ؛ لأن الناس ليسوا مغفلين كما كانوا أيام نابليون؛ ولأنه وحده كان هو القاهر المريد، ومن حوله كانوا المنفذين المأمورين، فظهر ولم يظهروا ونبغ ولم ينبغ بجانبه إلا قليل.»
فليت الأمر كما يبشرنا الأستاذ من هذه الناحية، إنما الواقع أن أحدا من أبناء القرن الثاني عشر لم يناد بأن الإمبراطور معصوم، كما ينادي الفاشيون من أبناء القرن العشرين بعصمة «الدوتشي» وطاعته بغير تفكير ولا امتعاض.
والواقع أن نابليون لم يجسر يوما على صنيع كالذي صنعه «الفوهرر» قبل ثلاث سنوات من «تطهير» البلاد بلا محاكمة ولا سؤال.
وقد كان «لنين» ينحي على القديسين، ولا يعترف للعظماء بأثر في توجيه التاريخ إلا الأثر الذي يعترف به الشيوعيون، فلما مات أقاموا له ضريحا لم يحلم به كاهن ولا راهب في عهد القياصرة أو عهد الكنائس والقديسين.
وإننا لنسمع كل يوم عن الألوف التي تندفع حول نوابغ الصور المتحركة للظفر بتوقيع بطاقة أو صورة شمسية، كما نسمع بالألوف التي تندفع من أجل هذا حول أبطال الألعاب الرياضية، وأبطال السياحة والطيران، وأشباههم من أصحاب الشهرة في كل ميدان يتصل بالجماهير. أما العلماء والأدباء فمن نبغ منهم واشتهر فليس نصيبه من الإعجاب والجزاء بأقل من نصيب أمثاله قبل أجيال وأحقاب، ومن لم ينبغ ولم يشتهر فله قرناء يماثلونه بؤسا وغبنا وشظفا في أقرب العصور وأبعد العصور .
لا، بل نحن لا نستثني أصحاب المكانة الدينية على إطلاق الاستثناء، فما يربحه الدعاة باسم الدين اليوم لا يقل عما كانوا يربحونه في الأيام الخالية، والثقة بأغاخان اليوم وهو يعيش في أوروبا عيشة المترفين المتطلقين لا تقل عن الثقة بإمام زاهد عاكف على العبادة كان يعيش في صومعته قبل عصر الكشف والاختراع.
ولم ننفرد نحن بإكبار البعيد في الزمان أو المكان، وترجيحه على أنداده وقرنائه الذين نراهم رأي العين، ونعرفهم بالمصاحبة واللقاء، فقديما كانوا يقولون: إن زامر الحي لا يحظى بإطراب، وقديما كان الجاحظ يكتب الرسائل وينحلها الكتاب الأسبقين ليحظى بالإصغاء والتقريظ.
وأحسب أن إيثار الماضي على هذا النمط له علة شائعة، بل علل شائعات لا تنحصر في وقت ولا يخلو منها قبيل.
فالماضي يشبه المثل الأعلى؛ لأنه غائب عن الأنظار كالمثل الأعلى في هالاته وخيالاته، أما الحاضر فهو كالواقع المحسوس الذي نحب أبدا أن نتجاوزه ونطمح إلى ما وراءه.
ولقد كان المشركون ينكرون النبي - عليه السلام - ولا ينكرون منه إلا أنه «يأكل الطعام ويمشي في الأسواق»، ترى، هل كان الأنبياء فيما مضى لا يأكلون طعاما ولا يمشون في سوق؟ كلا بل كانوا يأكلون ويمشون، ولكنهم بعدوا واحتجبوا فخيل إلى غير معاصريهم أنهم مختلفون.
ومن العلل التي تجنح ببعضهم إلى تهيب «السلف الصالح» أننا ننظر إليهم كما ننظر إلى الآباء والأجداد، كأنهم كبار ونحن صغار؛ لأنهم ولدوا قبلنا بمائة عام أو مئات من الأعوام، وينسى المتهيبون أن السابقين كانوا أطفالا في سن الطفولة، وأننا سنصبح شيوخا مع السنين أو نربي في الشيخوخة على أولئك الآباء والأجداد.
ومن تلك العلل ما أومأنا إليه في مقالنا الأول عن سهو الذين يقارنون بين الماضي والحاضر، فيجعلونهما كفتين تتساويان في نطاق الزمان والمكان، مع أن الحاضر زمن واحد، والماضي حاضر قد تكرر عشرات ومئات.
وعندنا - نحن الوارثين للثقافة العربية - سببان آخران لا يلحظان بهذه القوة في جميع الشعوب: أحدهما أن العربي يعتز بالأنساب وينوط الفخار كله بماضيه؛ لأنه من سلالة القبائل التي تغلب فيها العصبية، وترسخ فيها الأصول.
والثاني أن الماضي أقرب إلى منشأ الدين، فيخيل إلينا أن الأقدم فالأقدم هو الأصلح، فالأصلح والأعلم فالأعلم، وإن لم تدلنا الدلائل على اطراد هذا القياس. •••
تلك الأسباب كلها خليقة أن تضاعف احتراسنا كلما عمدنا إلى الموازنة بين حاضر وغائب وقريب وبعيد، فهي صنجة تؤخذ من كفة الأقدمين، وتضاف إلى كفة المحدثين في ميزان الإنصاف، ومما لا شك فيه أن ملكات النبوغ لا تقل في عصرنا، بل هي أحجى أن تزيد وتنشط، بل هي قد زادت ونشطت فعلا باتساع مجال السعي والمنافسة والتفكير والاستنباط ... ومما لا شك فيه أن الأقدمين لم ينظروا إلى معاصريهم إلا كما ننظر نحن إلى معاصرينا، وأنهم لم يشعروا قط بتلك المهابة التي نضفيها عليهم الآن، ولا بذلك الترجيح الذي نمخضهم إياه. أما أنهم كانوا يرون نوابغهم وأبطالهم كما نراهم الآن فذلك ما نخالف فيه الأستاذ؛ لأنه خلاف المعهود والمروي والمسطور، وهبهم أكبروا معاصريهم لأنهم قلائل، وأصغرنا معاصرينا لأنهم كثيرون لا نادرون كما يقول الأستاذ الفاضل، فإنما يكون ذلك كالذهب الذي يكثر تداوله فيرخص سعره وهو ذهب لا شك فيه، وإنما يكون النبوغ نبوغا ولا يكون شيئا آخر مهما يكن حظ الناس من التعليم؛ لأنه ملكة في الطباع لا يختلف كنهها، وإن اختلفت أنظار الناس إليها، ولا تزال الإنسانية بحاجة إلى الكثير منها والقليل.
وخلاصة القول: أننا نستطيع أن نقول مع الأستاذ الكبير: إن النبوغ في عصرنا كثرة لا ندرة، ولا نستطيع أن نقول معه: إن المسافة بين النابغ وسواد الناس تقترب في العصر الحديث؛ لأن ازدياد التعليم يزيد نصيب المتعلم من المعرفة، ولا يخوله فطرة أخرى ولا ملكة مطبوعة، كتلك التي يخلق بها النابغون الممتازون.
الفصل الأربعون
توارد الخواطر
قبل أربع عشرة سنة كتب صديقنا الأستاذ المازني مقالا عن الخيام ألمع فيه إلى تصوف الخيام، واستغرب أن يدين رجل مثله بخيالات المتصوفة، وشطحاتهم البعيدة عن تحقيق العلم وتقرير الواقع؛ لأنه «كانت له موهبة تنأى به عن التصوف؛ ذلك أنه كان رياضيا بارعا ، ومما يذكر له في هذا الباب تنقيحه التقويم السنوي تنقيحا أظهر فيه من الحذق والأستاذية ما أطلق لسان جيبون المؤرخ الإنجليزي بالثناء عليه، وله كذلك طائفة من الجداول الفلكية ومؤلف في علم الجبر بالعربية. والذهن الرياضي مجاله وعمله ضبط الحدود والحصر، وتعليق النتائج بأسبابها والمعلول بعلته، وهو عمل يتطلب من الدقة والعناية والترتيب والتبويب ما لا يطيقه أو يقوى عليه ذهن المتصوف، ومن العجيب أن فتزجرالد لم يفطن إلى دلالة هذا، ولا خطر له أن يسوق هذه الحجة فيما ساقه لتبرئة الخيام من التصوف.»
ومن رأيي الذي لا أزال أراه أن الملكات الرياضية أقرب الملكات إلى التصوف والفروض البعيدة، والعقائد الخفية، فكتبت يومئذ بصحيفة البلاغ مقالا عن القرائح الرياضية والتدين، ناقشت فيه رأي الأستاذ المازني وبينت فيه أسباب العلاقة بين القريحة الرياضية وبين التدين والإيمان بالغيب، وأهمها أن حقائق الرياضة ذهنية وليست خارجية، فهي أقرب إلى الفروض وأبعد عن مراجعة الواقع الذي يراجعه علماء الحس والتجربة والمشاهدات العملية، فاعتماد الرياضيين على البديهة أكثر من اعتمادهم على الملاحظة، واستعانتهم بالفرض أكثر من استعانتهم بالتجربة، وموقفهم أمام المجهول موقف من يسلم به فرضا، ولا يستبعد فيه أي شيء، وهذا سر تدينهم وإخباتهم وميلهم إلى تصديق المعجزات والخفايا، وما شاكلها مما يلي البديهة الغامضة ولا تكاد تجمعه بظواهر الأشياء صلة. وفي عصرنا هذا لم يشتهر أحد من الرياضيين كما اشتهر أوليفر لودج الإنجليزي وفلامريون الفرنسي وإديسون الأمريكي، وكلهم من أعظم علماء الرياضيات، وكلهم مسترسل في إثبات أسرار الروح، وكشف غوامض الاستهواء.
قلنا: «لهذا تتآخى فروع هذه الحقائق أحيانا، وتتآلف العلوم التي تبحث فيها، وتتقارب الملكات التي تكون في المشتغلين بها، فيكثر من يجمع بين الفلسفة والرياضة، ولا يندر أن ترى من يجمع بينهما وبين الموسيقى معا، فالفارابي مثلا كان رياضيا مبتكرا في الموسيقى، وفيثاغوراس - وهو من أقدم فلاسفة ما وراء الطبيعة عند اليونان - كان يبني فلسفة الكون كله على النسب الموسيقية بين الأعداد، وقد مر بمصر قبل أيام نابغة من أفذاذ الرياضة هو ألبرت أينشتين صاحب فلسفة النسبية، التي دهمت الناس ببدع شتى في تعريف الوقت والفضاء، يكفي أن نذكر منها أن الخط المستقيم ليس من اللازم أن يكون أقرب موصل بين نقطتين، وهو فيلسوف رياضي وموسيقار بارع في العزف على القيثار، وليس يخفى الشبه القريب بين ملامح العظماء من الفلاسفة والرياضيين، وملامح العظماء من نوابغ الموسيقيين، فقد تلتبس عليك صورهم حتى لا تكاد تميز بعضهم من بعض، ولا سيما في نظرات العين وسعة الجبهة وارتفاعها ...» ومن ذلك أن ينبغ العازفون والحاسبون والعدادون في الطفولة الباكرة وفيما دون الخامسة أحيانا، ولا يحصل ذلك في سائر العلوم.
ذكرني ذلك البحث القديم الجديد اتفاق عجيب بين أمور متعددة لا رابطة بينها في هذه الأيام.
فالأستاذ المازني يكتب عن توارد الخواطر، وفي مقالي الأخير بالرسالة كلمة عن الرياضيات، واتصالها بعالم الروح، وبينا أفكر في هذه الموضوعات إذا بكتاب جديد يصدر من مطبعة «جولانكز» الإنجليزية عنوانه «عظماء الرياضيين» لمؤلفه الأستاذ «بل» الرياضي المشهور في الجامعات الأمريكية، فتصفحته واستقصيت بعض تراجمه، فإذا به لا يقول ما قلته عن الصلة بين التدين والرياضة والموسيقى والحقائق الفرضية، ولكنه يعرض لنا تراجم العظماء الرياضيين، وعجائب آرائهم ونوادر صباهم وطرائف أخبارهم، فلا يسع القارئ إلا أن يخرج منه بتلك النتائج التي أجملناها قبل أربع عشرة سنة، كأنها استقصاء ثم تلخيص لكل ما ورد في ذلك الكتاب.
من ذلك أن الرياضي الكبير سلفستر يقول: «ألا يجوز إذن أن توصف الموسيقى بأنها رياضيات الحس، وأن توصف الرياضيات بأنها موسيقى العقل؟ وأن يقال: إن الموسيقار يحس رياضيا وإن الرياضي يفكر موسيقيا؟ فالموسيقى هي حلم الحياة، والرياضة هي عمل الحياة، وكلتاهما تستوفي نصيبها من الأخرى. يرتقي الذهن البشري إلى أوجه الأعلى ويسطع في مزدوج من العبقرية يجمع بين موزار وديرشليه، أو بين بيتهوفن وجاوس، وهو الازدواج الذي تجلى وميض منه في عبقرية هلمهولتز وأعماله.»
ومن ذلك أن الرياضي السويسري النادر المثال لونا إيلر الذي قيل فيه: إنه يصنع المعادلات كما يتنفس الهواء، كان شديد التدين، وكان يصلي بالأسرة في منزله، وخطر له أن ينتقل من ألعوبة دبروها في البلاط الروسي للفيلسوف «ديدرو» إلى الجد كل الجد في إثبات وجود الله بالمعادلات الرياضية. فلما تمادى ديدرو في تكفير رجال الحاشية الروسية، ومجادلتهم في وجود الله، تعمدت كاترين الكبيرة أن تداعبه وتفحمه من طريق الرياضيات التي كان يجهلها كما يجهل اللغة الصينية، فوكلت به إيلر فواجهه في جد ورصانة، ولفق له معادلة وتحداه أن يجيب إن استطاع الجواب ... فلم يدر الفيلسوف بماذا يجيب، وكانت أضحوكة البلاط إلى حين.
قال الأستاذ «بل» مؤلف الكتاب: «ولم يقنع إيلر بفكاهته الفاخرة، بل حاول بعد ذلك أن يجلو الزنبقة وراح وهو جاد غاية الجد يركب المعادلات والبراهين الرياضية التي تثبت أن الله موجود، وأن الروح مجردة من المادة، وقيل: إن هذه البراهين تسربت إلى فلسفة الفقه والتصوف على أيامه، فكانت على الأرجح نخبة الأزاهير التي تتمثل فيها عبقريته الرياضية بمعزل عن الشئون العملية.»
ومن ذلك أن جاوس الملقب بملك الرياضيين عرف تصحيح الحساب قبل بلوغ الثالثة من عمره، وكان أبوه رئيسا لطائفة من العمال، فلما كان يوم السبت، واستدعاهم لإحصاء ما لهم وما عليهم بمسمع من طفله الصغير غلط في الجملة، فصاح به الطفل: «يا أبتاه! ليس هذا بصحيح، وإنما الصحيح كيت وكيت.» وروجع الحساب فإذا هو على صواب.
ويقول المؤلف: «ومما تشوق ملاحظته - لما هو معهود في الرياضيين من الميل إلى الموسيقى - أن فيراستراس الكبير لم يكن يقبل الأنغام على ضروبها مع اتساع مشاركاته، فلم تكن تعنيه، ولم يزعم هو أنها تعنيه.»
وعندنا أن هذا غريب حقيق بالملاحظة كما قال المؤلف، إلا أن غرابته تهون كثيرا متى ذكرنا أن فيراستراس هو القائل: إن الرياضي لا تستقيم له ملكة الرياضة إلا بقسط من الشاعرية فيه، وأنه كان يعارض إخوته في تعلم الموسيقى؛ لأنهم كانوا يروضونه بها على الرقص وشهود المجتمعات.
وكان «كبلر» يزعم أنه اهتدى إلى نسبة بين حركات الكواكب السيارة، ومواقعها تشابه النسب التي بين الأنغام الموسيقية والمقامات.
وتتعدد الأقوال التي ترجع بتركيب الكون كله إلى النسب الرياضية، ولا سيما بعد ما ظهر في السنوات الأخيرة من تحليل النور ورد المادة كلها إلى الإشعاع، ورد الإشعاع كله إلى مقدورات عديدة يوشك أن تخرج به من عالم المادة إلى عالم الحساب.
فبعد مقال أفلاطون: «إن الله يهندس.» ومقال جاليلي: «إن كتاب الطبيعة العظيم مكتوب بلغة الرياضيات.» ومقال جاكوبي: «إن الله يحسب.» يقول الأستاذ جينس في كتابه «الكون الخفي»، وهو من أقطاب العصر الحديث: «إن مهندس الكون الأعظم قد بدا لنا اليوم محض رياضي ... وإن الكون يلوح لنا رياضيا على منوال مخالف لكل معنى تصوره الفيلسوف «كانت»، أو كان في وسعه أن يتصوره في أيامه، فإن الرياضيات بالإيجاز تهبط إلى الكون من عل ولا تصعد إليه من الأدنى.»
ومن الاتفاق الذي ينساق في هذا المساق ما رواه الأستاذ جينس في كتابه المتقدم عن رأي هكسلي في المصادفات وتوارد الخواطر، فهو يعتقد اعتقاده أننا لو أسلمنا الآلات الكاتبة إلى ستة قرود يدقون على حروفها بغير قصد ولا معرفة، ملايين بعد ملايين من السنين لكان لزاما أن يجيء الوقت الذي «تنكتب» فيه بهذه الوسيلة جميع الكتب التي في المتحف البريطاني.
ولا يخفى ما يرده هكسلي بهذه النكتة المنطقية، ولكنه على كل حال قد خرج بالمسألة إلى «ما وراء الطبيعة»، وأبطل حكم العقل والإرادة فيها، فمهما يطل عمر الإنسان فما هو ببالغ أن يفسر لنا على هذا النمط اتفاق الخواطر في صفحة واحدة، بله الألوف من المجلدات التي تحويها دار الكتب البريطانية.
ولا حاجة إلى القرود الستة وملايين السنين والآلات الكاتبة لتعليل توارد الخواطر في الآراء أو في العبارات، فإن علم النفس يغنينا، حيث لا يغني التطوح ملايين السنين وراء المشهود والمحسوس، وقد كان علم النفس كافيا حتى الآن لتعليل حفظ العقول صفحات عديدة في حالة «الغيبوبة»، أو حالة التنويم المغناطيسي أو حالة «التنويم الذاتي»، أو ما يشبه هذه الحالات من عوارض الحمى العصبية، فإذا رأينا حالة كالتي رواها صديقنا الأستاذ المازني يستوعب فيها الإنسان بضع صفحات، لا يخرم منها حرفا ولا نقطة ثم يعيدها، وهو معتقد أنه يمليها من وحي بديهته فلنرجع إلى علم النفس في وصف العوارض، التي تأتي بهذه الغرائب، فإنه لكفيل بتعليلها أو بإبداء مقطع الحق فيها.
وإنما العبرة من جميع ما تقدم أن نسأل: ترى لو صدر كتاب «عظماء الرياضيين» قبل كتابة المقال الذي ناقشت به الأستاذ المازني منذ أربع عشرة سنة، أما كان أقرب الاحتمالات إلى الذهن أنني قرأت ذلك الكتاب، واستوحيت منه التحليل الذي فرقت به بين عقول الطبيعيين وعقول الرياضيين، وعقول الموسيقيين؟ أما كان من المستغرب يومئذ أن يقال: إنني لم أطلع على ذلك الكتاب وإن كان مؤلفه لم يبسط فيه الرأي الذي بسطته، ولم يتجاوز أن جمع أخبار الرياضيين وعجائبهم في سجل واحد؟
فأما وصدور الكتاب بعد كتابة المقال محقق لا شك فيه، فهذا التوافق يبدو سهلا جائزا خلوا من الغرابة، ومن ثم ينبغي أن نقدم الاستقراء العقلي - في تمحيص الخواطر المتواردة - على استقراء التاريخ مع رجاحة هذا وصعوبة الاستغناء عنه؛ لأن استقراء التاريخ وحده لا يكفي للبت في جميع الأمور.
ونعني بالاستقراء العقلي أن نمتحن ذهن الكاتب، وأن نتابع وجهته في تفكيره، فإذا عرفنا أنه قمين أن يقول ما قال، وأن يخوض حيث خاض، ويتوجه حيث توجه، فالاتهام بعد ذلك ضرب من اللغو والتمحل، وإن لم يكن كذلك فهو متهم ولو لم يكشفه استقراء التاريخ.
أما حين يقع الاتفاق في العبارات والحروف صفحات متواليات، فليس من المروءة أن نجزم باستحالة ذلك قبل أن نحتكم إلى الاستقراء العقلي من طريق علم النفس، ودرس الذهن الذي تقع له أمثال هذه الغرائب، فقد يهدينا الحكم الوئيد هنا حيث يضلنا الحكم السريع، ولا ضير علينا إذا تطابق الحكمان في النهاية بعد الموازنة والمقابلة بين جميع الفروض.
الفصل الحادي والأربعون
لا نخدع أنفسنا حتى يخدعونا
لم نخدع أنفسنا حتى خدعنا الأوروبيون عنها فانخدعنا!
ثم صدقنا أننا أهل عاطفة ولسنا أهل عقل، وأننا أهل خيال ولسنا أهل حس، وأننا أهل روح ولسنا أهل مادة، وأننا لذلك مخفقون.
وأنا مع الذين يقولون: إننا لسنا أهل عقل ولا أهل حس ولا أهل مادة، ولكني لست ممن يقولون: إن هذه «الليسية» توجب لنا نقيضها وتعطينا ما يقابلها، فنصبح أغنياء في الروح لمجرد أننا فقراء في المادة، ونصبح نفاذين في الخيال لمجرد أننا محجوبون عن الحس، ونصبح و«العاطفة» فياضة من نفوسنا لمجرد أننا مستريحون من العقل، أو واقفون منه عند ينبوع جديب.
فجائز جدا أننا لا عاطفيون ولا عقليون، ولا روحيون ولا ماديون، ولا خياليون ولا حسيون؛ وأننا على نصيب نزر من جميع هذه الصفات، فلا تستلزم القلة في إحداها كثرة في نقيضها؛ لأن الصفات الإنسانية لا تمشي عدلين عدلين متلازمين يعلو أحدهما حيث يهبط الآخر ضربة لازب، بل قد ينعدم العدلان والبعير معهما في كثير من الأحيان ...! •••
واليقين عندي أننا منذ زمن طويل فقراء في العاطفة محتاجون إليها أشد من حاجتنا إلى العقل والعلم والحكمة وسائر مشتقاتها.
وكان هذا رأيي يوم ناقشني فيه فقيد العراق الأكبر جميل صدقي الزهاوي المصلح الحكيم، وكان - رحمه الله - يسألني: بماذا عبر لندنبرج المحيط الأطلسي: أبالعقل أم بالعاطفة؟ فأجيبه: «بالعاطفة» ... فإن العاطفة لا العقل هي التي أركبته الطيارة بعد أن فرغ العقل من تركيبها في المصنع، وتركها حديدا لا تتحرك ولا تأتي بالفلق إلا أن تقدم بها عاطفة مجازفة لا تبالي العقل، ولا تحفل بالسلامة.
والذي كان يسمعه - رحمه الله - يقسم حسبة الطيارة إلى كومين: كوم العاطفة وكوم العقل، يخيل إليه أننا - نحن الشرقيين - قد ظفرنا منها بكل ما فيها من عاطفة وهمة وطموح ومغامرة واستطلاع، ولم يبق منها للغربيين غير حفنة من مسامير ومطارق وأرقام، هي التي يرتع فيها العقل ما يشاء! •••
والآفة كلها من أوروبة نفسها.
فقبل اتصال أوروبة بالشرق لم يقل أحد من الشرقيين: إن الشرقيين أهل أحلام وخيالات، وإنهم من رجال العاطفة وغيرهم من رجال العقل والواقع.
ولكن الأوروبيين وصفونا هذه الصفة فاغتررنا بها ومضينا فيها، ولا سند لها على الأرجح أقوى من ألف ليلة وليلة وما جرى مجراها من القصص والنوادر، وهي كما نعلم ليست «بالخيال» في أي سمة من سماته، ولكنها «واقع» مع إيقاف التنفيذ كما يقولون في لغة القانون! أو هي أحلام الجائع في سوق الطعام، لا فرق بينها وبين الواقع إلا أن الجائع يستطيع الأكل فعلا، وهو عاجز عن الأكل؛ لأن الأكل غير موجود!
فالخيال المزعوم عند الشرقيين هو «واقع ناقص» لا يحسب له فضل الواقع، ولا يحسب له فضل الخيال.
ولو كان خيالا حقا لكان ابتكارا وخلقا وسعيا إلى عالم جديد، ولم يكن واقعا في كل شيء إلا في أنه غير موجود.
فنحن واقعيون مفرطون في الواقعية.
وكل الفرق بيننا وبين الأوروبيين أن الأوروبيين واقعيون يجدون المائدة التي يأكلونها، ولكننا نحن واقعيون نمضغ مائدة من الهواء ... ومن الخطأ جد الخطأ أن نسمى من أجل ذلك خياليين أو حالمين.
أخياليون وحالمون لأننا نعيش في عالم ألف ليلة وليلة؟ فما عالم ألف ليلة وليلة إذن؟ عالم قصور وموائد وكنوز وفتيات حسان ... عالم واقع ملموس تراه العيون وتذوقه الأفواه إلا أنه لا ينال، وليس هذا هو الخيال.
بل الخيال هو فكرة يبيع الإنسان في سبيلها متاع الدنيا وكنوز الأرض وبهرج الحياة.
أو هو مثل أعلى لا تعرفه شهرزاد، ولا يتبعه صائغ البصرة، ولا تراه في ديوان من دواوين تلك القصص التي هي وسوق الرقيق سيان.
وبودنا ألف ود لو يعظم نصيب الشرق من هذا الخيال. •••
وقريب من هذا اعتقادنا أننا - نحن المشارقة - أهل السماحة والبر؛ لأننا لا نصول ولا نجول، أو لا نصنع اليوم السلاح الذي نصول به ونجول!
فماذا يوم كنا نصنعه، أو يوم كان سلاحنا الذي نصل إليه كفيلا بالنصر على أعدائنا وعلى العزل المستضعفين من جيراننا؟
كنا نتغنى بالسيف كما لم تتغن أمة قط بسلاح، وكنا نعيب «رذيلة» السلم كما يعيبون اليوم رذيلة الكفاح.
ولعل الأموال التي بذلت في الخير بين الغربيين لا تقل عن الأموال التي بذلت فيه بين الشرقيين، ولعل جهودهم فيه لا تقل عن جهودنا، وثمرات أعمالهم فيه لا تقل عن ثمرات أعمالنا، وعلامات البر في عصرنا الحديث لا تقل عن علاماته في سائر العصور.
فالإنسان إنسان حيث كان.
ذلك أصدق ميزان للخلائق الإنسانية في كل أمة وفي كل أوان. •••
وأحرى بنا فيما نعتقد أن ننجو بعقولنا من أحلام الأوروبيين التي أفرغوها علينا لا من أحلامنا نحن، فليست لنا بحمد الله أحلام من القوة بحيث تتقاضانا النجاة منها.
إن أناسا من هؤلاء الأوروبيين أفزعتهم بلادهم في القرن الثاني عشر وما بعده، فحلموا بالشرق كما يحلم آكل الأفيون بما يراه في غيبوبة الخدر والجمود، ونحلوه صفات ليست منه وليس منها، فأعجب الشرقيون بما كتبوه.
أو أن أولئك الكتاب الأوروبيين قد تخيلوا أبطالهم من الشرقيين، كما نتخيل الأبطال الذين ننحلهم في الروايات شمائل نتمنى أن نراها في عالم الحس فيعيينا طلابها.
أما الواقع فلا.
الواقع أننا - نحن الشرقيين - لسنا عاطفيين ولسنا مأخوذين بالروح، ولا مفتقرين إلى من يسوق لنا المواعظ بالإقبال على المادة والانصراف كما يقولون عن الخيال، ونحن أفرح من طفل بالدرهم وأعجز من طفل عن كسبه في سوق الابتكار.
أنحن أهل خيال؟
سمع الله منكم أيها القوم!
لقد عشنا عصرنا الحديث نضرب المثل «بالجرسون» الرومي في الحرص على المليمات، ولو رأينا معاهده في بلاده وفي بلادنا لعرفنا من صاحب الحرص، ومن صاحب الأريحية وإن اختلفت العوارض والأشكال.
وربما ألقينا بقطعة اللحم من الفم لنزدرد قطعة اللحم التي في الماء ...!
أخيال هذا؟
كلا! ولا النحاس الذي يستحيل ذهبا ولا الصفقة التي يدركها الصعود في سوق القطن، فتفتح الكنز كله بعد يوم.
ما في شيء من هذا خيال وإنما هو كله واقع العاجزين. •••
وبعد فنحن في عصر اضطراب الثقافات وارتجاج الأخلاق والمزايا لا جرم يخطر لنا أن ننظر فيما يصلح وفيما لا يصلح، وفيما تعز به النفوس وفيما تهون، وأن نسأل أنفسنا ماذا نأخذ وماذا ندع مما يتمخض عنه عراك الأمم والدولات.
فلنكن على يقين - سواء كنا من طلاب الحرية أو طلاب القوة - أن النخوة مطلب لا غنى عنه في الحالتين وأننا محتاجون إليه، وأن الخيال عدة لا محيص عنها في المعسكرين، وأننا - نحن الشرقيين - عزل منها، وأن أمة من الأمم لن تصاب في سلمها ولا في حربها بمصاب هو أفدح عليها وأقبح بها من مصاب الانحصار في واقعها؛ لأن الانحصار في الواقع خلة حيوانية وليس بخلة إنسانية، وكلما ضاق أفق النفس عز عليها أن تخرج من الواقع القريب إذا أرادت الخروج منه، ولا مناص لها أن تريد ذلك في بعض حالاتها.
تريد ذلك لتعلو على أثرتها؛ ولتعلو على ضنكها؛ ولتعلو على حاضرها في انتظار مستقبلها أو مستقبل بني قومها، وتريده لتشعر بأن الواقع الذي هي فيه دون الواقع الذي تبغيه.
وهذا هو الخيال الذي يرتفع بالنفس عن واقعها.
أما الخيال الذي هو ظل اللحم في الماء فذلك هو الواقع مشوبا بالعجز والغفلة.
وأما «الواقعية» التي يقولون: إنهم ينقذون الشرق بها، ويردون الشرق من أحلامه إليها فحذار حذار منها ... هي داء الشرقيين أجمعين، وإنهم لأئمة الواقعيين بين العالمين.
الفصل الثاني والأربعون
القدوة والإصلاح
رويت في مقال لي كلمة الفلاح الكبير صاحب الأفدنة الكثير في «حمالة الجورب» التي عابها على بعض المعلمين الإلزاميين، وقال: إنه لم يسمع بها إلا من هؤلاء المعلمين.
وقد كتب أديب في «الرسالة» يعقب على تلك الكلمة، ويرى أنه كان الأجدر بكاتب هذه السطور «ألا يسوق إلينا فكرة صاحب الأفدنة التي ترمي إلى إصلاح المعلم الإلزامي؛ لأنه إذا سئل عن العيب الذي يراه لا يجد ما يقوله سوى أنه يعلم النشء التبطل والحذلقة، وكيفية وضع «حمالة الجورب» وإحسان رباط الرقبة وهلم جرا ...»
وجاءتني رسائل شتى في هذا الصدد ينظر بعض كاتبيها إلى ملاحظة الوجيه الريفي نظرة الفكاهة والسهولة، ويشتد بعضهم في الإنحاء عليها كأنها خطر على التعليم.
وعندي أن المعلم الإلزامي هو آخر من يحق له أن يكتم أمثال هذه الملاحظات أو يطلب كتمانها؛ لأن التعليم الإلزامي في اعتقادي مشتق من اللزوم قبل أن يشتق من الإلزام، فلا يضيره أن ينكره كبير أو صغير حنقا على حمالة الجورب أو حمالة الحطب! ولا يفهم من اختلاف الآراء في برامجه ومواده وأساليبه أن الخلاف على أصوله وأساسه، وإنما هو في نهاية الأمر خلاف على الفروع والتفصيلات.
هذا سبب من الأسباب التي تأبى على المعلم الإلزامي خاصة أن يكتم ملاحظة تساق في معرض الرأي، أو في معرض الفكاهة عن هذا التعليم.
وسبب آخر أن المعلم الإلزامي مطالب قبل غيره باستطلاع «الحالة العقلية»، أو الحالات العقلية التي تتصل بمعيشة الفلاح وأبناء الريف، وهو أحرى أن يستطلع ما يخصه، ويخص عمله من تلك الحالات العقلية التي يتصدى لها في تعليمه، قبل أن يتصدى لتعليم الحروف والأرقام وسائر الدروس.
قيل فيما قيل عن التعليم الإلزامي، وأشرنا إليه في مقالنا السابق: «أليس الأجدى على الفلاح أن نطعمه ونرفه عنه بهذه الأموال التي ننفقها على تعليمه إلزاما، وهو مفتقر إلى الطعام النافع والماء النظيف؟»
وكان من رأينا في ذلك أنك إذا أعطيت الفلاح ماء نظيفا وهو جاهل صدف عنه وعافه وآثر عليه الماء العكر؛ لأنه ماء «دسم» يروي الأصلاب كما يروي التراب.
وقلنا: «إنك إذا أنشأت فلاحا سليم الذوق مرهف الحس مفتوح العقل مستجيب السليقة، فسيجري وراءك لتعطيه الماء النظيف والغذاء الجيد والأدوية النافعة والنصائح القويمة، ولا يجشمك كما يجشمك اليوم أن تعدو وراءه؛ لتقصيه عن موارد الماء العكر، بدسمه وخيره، وتدنيه من مساقي الماء المرشح وموائد الغذاء المفيد.» •••
ومقطع الرأي في كل إصلاح اجتماعي - كما أحسب - أن القدوة فيه خير أنواع التعليم.
ولكن ممن تأتي القدوة في الريف؟
بعض إخواننا المعنيين بالإصلاح يخيل إليهم أن إقامة الوجهاء الريفيين في قراهم وسيلة ناجعة لعميم القدوة الحسنة في المعيشة، وتعويد الفلاح الصغير أن يحيا في كوخه حياة الفلاح الكبير في القصور.
وهذا حق لو كان الفلاح الكبير قدوة صالحة في جميع الأحوال، أو لو كان الوجيه في قريته مثلا يحتذى في نظام المعيشة ومناهج السلوك.
لكننا نعلم أن الأمر لا يستقيم على هذا التقدير.
ونعلم أن كل فلاح كبير يصلح للقدوة ويتخذ مثالا حسنا للسلوك ، فإلى جانبه عشرة يضلون من يقتدي بهم، ويأبون أن يتمثل بهم المتمثلون من الفقراء والضعفاء فيما هو من مظاهر «الوجاهة» واليسار.
قال لي أحد هؤلاء الوجهاء مرة: لقد فسد الزمان وتغير الناس!
قلت: ولم؟
قال: إنك لا تعرف الآن ابن فلان العظيم من ابن فلان الصعلوك، ولا تميز الفتاة التي يملك أبوها ألف فدان من الفتاة التي يعمل أبوها في دكان، أو يعمل في ديوان بين صغار الموظفين الموقوتين ... هذه تلبس كما تلبس تلك، وهذا يتأنق كما يتأنق ذاك، و«البركة» في التقسيط لا بارك الله فيه.
قلت: وما يضيرك من ذاك؟ إن كان فيه ضرر فعلى جيب اللابس، لا على جيبك، وإن لم يكن فيه ضرر فهو جمال ونظافة ورواج للقصارين والخائطين.
فتأفف وأبى أن يقتنع، وظل يقول: إن الأصول، أصول، والمقامات «محفوظة» لا ينبغي أن تزول أو تحول.
وسمعنا آخرين من الوجهاء لا يبالون أن يجهروا في غير خجل ولا حرج قائلين: من يخدمنا إذا لبس الفلاح الطربوش أو اغتر بما حصل في المدرسة الإلزامية من دروس الكتابة والحساب؟ وإذا خدمنا هذا «الأفندي» الجديد فكم يطلب أجرا على الخدمة التي كان يؤديها وهو حاف قانع باللبدة والجلباب الأزرق، راض بالخبز القفار.
هؤلاء الأغبياء لا يعقلون ما ينفعهم وما يضرهم، ولا يدرون عاقبة هذا التفكير الأثيم.
والأنكأ من هذا أن الفلاح الفقير قد يحجم عن الاقتداء بنظافة الأغنياء إذا كانوا من النظفاء، كما يحجم عن شراء السيارة والاستمتاع بالطعام الفاخر واللباس الأنيق.
فتمتنع القدوة من ثم؛ لاعتقاد الغني والفقير معا أن النظافة والمعيشة الصالحة حق لصاحب المال كحقه في ركوب السيارة الخاصة والإيواء إلى الدار القوراء.
وتقول له: كن نظيفا كفلان بك أو فلان باشا، فيستكبر هذا الكلام منك ويقول لك في جد الواثق من صوابه وسداد رأيه: وأين أنا من هذا وذاك؟ ولو استرسل قليلا لزعم أن النظافة منه افتيات على حقوق الموسرين، وخروج على الأدب الحميد! ... •••
نعود إذن فنسأل : ممن تأتي القدوة الصالحة إذا علمنا كما أسلفنا أن القدوة «الشخصية» خير وسائل التعليم في الإصلاح الاجتماعي؟
تأتي من بعض الأغنياء الرحماء العارفين حين يقيمون في الريف إقامة يتصل فيها العطف والود الكريم بينهم وبين الفقراء، وكم عدد هؤلاء الأغنياء الرحماء العارفين؟!
قليل ولا ريب، والرجاء في ارتقاء معيشة الفلاح الصغير أقرب من الرجاء في زيادة هؤلاء.
فأفضل القدوة وأنفعها على هذا ما جاء من قبل المتعلمين الذين يشبهون الفلاح في نشأته، فيعمد إلى التشبه بهم غير متحرج ولا معتقد في نفسه أنه يعدو طوره، ويخرج من أفقه.
وهنا يأتي دور المعلم الإلزامي في الإصلاح، فيجمع بين الإصلاح بالتعليم والإصلاح بالقدوة السائغة في رأي الفلاح، ويروح في القرية وهو معلم الأبناء والآباء على السواء.
كن أيها المعلم الإلزامي قدوة لمن حولك، وكن على حال ينظر إليها الفلاح فيحب أن يتشبه بها، ويرى بعينه دلائل الخير في محاكاتها، ثم يأنس إلى نصحك بعدما أنس إلى عملك، فيسمع منك القول ويحمد منك العمل، فأنت بما تهديه وتلقي في روعه مصلح جيل لا تفلح في إصلاحه المدرسة وحدها، ولا الكلام الذي يجري به اللسان أو تنطوي عليه الأوراق.
الفصل الثالث والأربعون
المال
قال الدكتور زكي مبارك في حديثه عن الفقر والغنى، ولا نهاية لحديث الفقر والغنى، ولا الفقر والغنى ينتهيان من الدنيا: ... لن أقول كلمة في الوارثين بحجة أنهم يرزقون بلا كد ولا اجتهاد، فلو عطل نظام الميراث لانعدم النشاط الإنساني بعض الانعدام، ولآثر الناس جميعا أن تكون جهودهم مقصورة على كسب القوت من يوم إلى يوم، ولو قلنا الحق كل الحق لصرحنا بأن الميراث هو أجمل نظام عرفته الإنسانية، فهو الشاهد على أن الجهاد في طلب الرزق لا يضيع، وأنه قد يصل إلى الأعقاب وأعقاب الأعقاب، وذلك أقوى حافز لتأريث عزائم الرجال.
ورأيي في الميراث أنه حق وعدل، وأن المذاهب الاجتماعية التي تحرمه تجور على الآباء والأبناء، ولا تتحرى سنن الطبيعة فيما جرت عليه بين جميع الأحياء؛ لأن المجتمع لا يستطيع أن يحول بين الأب وبين توريث أبنائه ما اشتمل عليه من عيوب الخلق والفكر، ومن دمامة الوجه وشوه الجسم وضعف التركيب؛ فليس من العدل أن يحول بينه وبين توريثهم الخير أو نصيبا من الخير، وإن كان عدلا أن تفرض للمجتمع حصة وافية من ذلك النصيب.
كذلك تجري الطبيعة على سنة الوراثة في جميع السلالات، وهي سنة أعرق من المجتمعات الإنسانية وغير الإنسانية، ولم تنشأ عبثا ليلغيها الإنسان كل الإلغاء بقانون أو نظام.
لكنني أخالف الدكتور في قوله: إن الميراث لو عطل «لآثر الناس جميعا أن تكون جهودهم مقصورة على كسب القوت من يوم إلى يوم ...»
فإن طلب المال كطلب العلم فطرة لا تتوقف على التوريث، ولا على ما يعقبه الآباء للأبناء، وقد يهمل الإنسان رزقه ورزق أبنائه؛ ليتابع الدرس ويتقصى مسألة من مسائل العلم والمعرفة، وهو على يقين أنه لن يخلف لأبنائه زادا من علومه ودروسه إلا ما يخلف المعلمون للمتعلمين، وقد يفوتهم منه حتى هذا النصيب.
وبين طلاب المال من بلغ أرذل العمر، وليس له عقب ولا هو ممن يبسطون الكف بالإنفاق، فيخشى نفاد ماله الكثير، ومنهم من لو بسط يده بالإنفاق عشرات السنين لما خشي على ماله النفاد.
أعرف رجلا له نظراء كثيرون كان يملك القصور، ويدخر الأموال في المصارف، وله معاش لا ينقطع من خزانة الحكومة، وهو مع هذا يبخل على نفسه بالقليل، ويعيش معيشة الفقراء، ويراه الحوذية في الطريق فيهربون منه؛ لأنه يأبى أن ينقدهم الأجر إلا على حساب ما تعود قبل أربعين أو خمسين سنة ... يوم كان للمليم سعر القرش في هذه الأيام، وأعجب العجب أن هذا الرجل الشحيح كان مجدودا في أوراق المصارف التي يناط بها النصيب، فكان يربح جوائزها الأولى من حين إلى حين، وحدث مرة أن وكيله تسلم جائزة من هذه الجوائز وأخر إيداعها المصرف الذي يعاملونه بضعة أيام، فلما راجع الغني الشحيح حسابه قطع أرباح الجائزة في هذه الأيام القليلة من مرتب الوكيل المسكين، وهو شيء يبذله من يربح مثل هذه الجائزة هبة لمن يحمل إليه بشارتها ولا يندم عليه .
ولم يكن لهذا الرجل عقب ولا كان له مطمع في العيش الطويل بعد السن التي ارتفع إليها؛ ولكنه يطلب المال لأن طلب المال شهوة، ولا يشترط أن تتعلق بالإنفاق والتوريث.
ولو نظر الناس إلى الواقع في أمر الورثة لما حرصوا على ترك المال بعدهم للأبناء والأحفاد؛ فإن أبناء الفقراء الذين عاشوا في الدنيا عيشة راضية بغير ميراث يبلغون أضعاف الوارثين عدة، سواء ورثوا الكثير أو القليل، وإن الذين أشقاهم الميراث لا يقلون عن الذين سعدوا به وحفظوه أو زادوا عليه، وإن الذين يموتون وهم خائفون من تبديد أبنائهم أكثر جدا من الذين يموتون وهم مطمئنون إلى حسن التصرف ودوام الحال.
كان العلامة يعقوب صروف - طيب الله ثراه - يوصيني كلما لقيته أن أدخر وأن أحسب حساب المال والثراء، وكأنه أنس مني التواني في الإصغاء إلى هذه النصيحة، فروى لي حديثا جرى بينه وبين تاجر من كبار التجار السوريين العصاميين رآه مشغول البال معنى بما يخشاه على ثروته وأبنائه بعد موته من تقسم وبوار، قال: وهكذا الدنيا دواليك بين جيل عصامي يجمع، وجيل عظامي يضيع ما جمعه الآباء، ويأتي بالمعذرة لمن يتركون الأبناء فقراء ناشطين في طلب الجاه والثراء.
قال العلامة صروف: ومنذ أيام طرق علينا الباب أبناء صاحب من أصحابنا مات فجأة، وليس في الدار ما يشيعونه به إلى لحده؛ وكان هذا الصاحب مفراحا، يأكل ما يشتهي ويلبس الفاخر من الثياب، ويطعم أبناءه أحسن مطعم، ويكسوهم أجل كسوة، ويقضي سهراته بينهم ضاحكا متهللا على صينية من الحلوى أو الفاكهة، وهو لا يشغل باله لحظة بما يكون، ولا يبالي بعد موته ما يأكلون ويشربون، فأي الأبوين أسعد؟ وأي الأبناء أحظى بحسن المصير؟
وهذا السؤال الذي سأله الدكتور صروف سيظل أبد الزمان مسئولا يجيبه من يشاء كما يشاء؛ ولكنه جواب لن يجعل المفراح مشغولا بتوريث أبنائه، ولا المشغول بتوريث الأبناء مفراحا ينعم بالحاضر، ولا يعني نفسه بالغيب المجهول.
فخديعة من خدائع النفس أن تعلل حرصها على المال بحب الأبناء، ولو كان حب مانعا أن ينفق الإنسان كل ما عنده لكان حبه لنفسه وخوفه على غده أحرى أن يمنعه ويقبض يديه، ولكنها خديعة النفس كما نقول تتراءى لها في مختلف الذرائع والتعلات.
إنما تفسر أعمال الإنسان بالبواعث والدوافع قبل أن تفسر بالنتائج والغايات. وإذا قيل لنا: إن فلانا يجمع المال؛ لأنه يخاف عاقبة الفقر، قلنا: ولماذا يخاف هذه العاقبة التي لا يخافها غيره؟! إنه لا يخالف غيره إلا لاختلاف البواعث النفسية دون الاختلاف في الغايات التي قد يتفقون عليها من جانب التأمل والتفكير.
المال يطلبه الإنسان لباعث قبل أن يطلبه لغاية، ومن بواعث طلبه الخوف والمنافسة والطموح، وحب الكسب للكسب، كما يفرح اللاعب بالرهان الذي ليس من ورائه طائل، وهنا موضع التحذير للمصلحين الذين يعالجون مسألة الغنى والفقر على أساس الأرقام والقواعد الاقتصادية، ويغفلون علاجها على أساس الشعور والبواعث النفسية، فأنت إذا أعطيت الفارس قصبة السبق قبل دخوله الميدان لم ترحه، ولم تعطه ما يريد؛ وإذا منعت المتنافسين أن يتنافسوا؛ لأنك ضمنت الرزق لأبنائهم أو ضمنت الأمان لهم في عقباهم لم تستأصل أسباب التنافس، ولم تعطهم الحياة التي جعلتهم يتنافسون.
إنما الواجب أن ندع الناس يطلبون المال كما يطلبون العلم أو يطلبون الجاه، أو يطلبون السرور، أو يطلبون الفرص النادرة والمقاحم المجهولة، وليس علينا أن نسألهم لماذا يطلبونه، وإنما علينا أن نمنعهم إنفاقه فيما يضير الآخرين، فغاية ما يحق للمجتمع في هذا الصدد أن يحرم الغش والجور، وتخويل أناس بغير حق ما يحرمه غيرهم من العاملين.
كان أوليفر لودج عالما رياضيا من الطراز الأول، وكانت له بحوث مشهورة في مخاطبة الأرواح وما وراء المادة، وربما انصرف أحيانا من الرياضيات والروحيات إلى المباحث الاجتماعية، وشئون الثروة والسياسة، ولكنه كان يأتي فيها إذا انصرف إليها بمقطع الرأي وفصل الخطاب؛ لأنه بعيد من الهوى والتشيع لهذا المذهب أو ذاك ... فمن نصائحه في هذا الباب أن تتولى الدولة مراقبة المال كما تتولى مراقبة السلاح؛ لأن الخطر من سوء استخدام المال لا يقل عن الخطر من سوء استخدام السلاح ، وربما ظهرت جريمة السلاح بعد اقترافها بقليل، ولقي صاحبها من الجزاء ما فيه عبرة لغيره، أما جريمة المال فقد ينقضي العمر وهي خافية، وقد يقترفها أناس بعيدون من الشبهات؛ لأنهم ليسوا من حثالة الخلق الذين يعتدون بالخناجر والمسدسات.
فإذا وجبت مراقبة المال في أيدي المسيطرين به على سواد الناس، فمن الواجب أن تكون الرقابة على النحو الذي قصد إليه الرياضي الكبير، ولا سيما في العصر الذي أصبح المال فيه مرادفا لمعنى الثقة والائتمان، فلا يجوز في هذا العصر أن توضع الثقة الاجتماعية في أيدي أناس يعبثون بها جهرة أو خفية، ولا يجوز إذا هي وضعت في بعض الأيدي أن تترك هملا بغير رقابة أو حيطة، أو بغير علم بما تتجه إليه وتجري فيه.
وهنا نسأل: ما هي حدود الرقابة الاجتماعية على سيطرة الأموال في أيدي الأفراد أو الجماعات التي تسوس أموال الأفراد؟
وجواب هذا السؤال أن الرقابة الوحيدة الممنوعة هي الرقابة التي تشل الدوافع النفسية والبواعث الحيوية، وتخرجها في نظامها مخرج الجهود الآلية والأرقام الحسابية، فإن المجتمع الإنساني لن يكسب شيئا من تنظيمه النفوس تنظيم الآلات التي تتحرك بأمر وتسكن بأمر، ولا تتخطى ما يرسم لها من الخطوط والغايات.
فللمجتمع أن يراقب المال، وأن يأخذ نصيبه منه للمصلحة الاجتماعية التي يشترك فيها الأغنياء والفقراء، ولكن ليس للمجتمع أن يمسخ الطبيعة، ويجور على حركات النفوس وبواعث الحياة؛ لأنه يتعرض بالقوانين لأمر لم تخلقه القوانين، ويأخذ ما ليس في وسعه أن يرده أو يعوضه بمثله.
الفصل الرابع والأربعون
الزوجة المثلى
وصلت إلي محاضرة العالم الفاضل الدكتور عبد المعطي خيال عميد كلية الحقوق بالإسكندرية في موضوع «الزوجة المثلى»، وفيها يقول ما فحواه إن الآفة كلها هي: «حرص الشباب على المادة، وجريه وراء الكسب، وحظه من القيم التي خلفها السلف الصالح، ومن قواعد الأخلاق التي كانت مقررة عندهم، واكتفاؤه بالعاجل من اللذات.»
وظهر في «الرسالة» مقال صديقنا الأستاذ الزيات الذي يعقب به على خطاب السيدة «ليلى »، وما رأته من أن السبب المباشر والمصدر الأول لمشكلة الزواج هو المادة، وكان ختام مقاله: «إن المال إذا جعل غاية للزواج كان شقاء لمن وجدته ولمن فقدته على السواء ...»
وعندي أن المادة هي آفة العصر الحديث كله، وفي عداد مشاكله الكبرى مشكلة الزواج، فالناس لا يتهالكون على المادة ولا على اللذة العاجلة إلا إذا قل إيمانهم بالحياة، ومن ثم يغلب الشح على الشيوخ والضعفاء، كما يغلب على الشعوب التي ضاعت من أيديها السيادة وقيم الحياة العليا، فكل تهالك على المادة إنما هو بديل من الحياة الصحيحة، أو من الثقة بنفاسة الحياة، وكأنما يقول الإنسان لنفسه: علام الصبر والانتظار والإرجاء، وأي ضمان لك من الأخلاق والعواطف وهي هباء؟ إنما ضمانك الوحيد المادة التي في يديك، والمنفعة التي تسوق غيرك إليك، وكل ما عدا ذلك فهو فضول لا يجدي شيئا عليك.
لكن الزواج مشكلة كبرى، ولو خلص الناس من آفات العصر ومشكلاته، ومن ولع الشباب بمآربه ولذاته.
الزواج مشكلة؛ لأنه يحاول التوفيق بين نقائض كثيرة في الطبيعة الإنسانية، ولا يقتصر أمره على التوفيق بين فردين.
فمن الناس من يظن أن الزوجة المثلى هي المرأة المثلى؛ وهذا في اعتقادنا خطأ ظاهر يتكشف بقليل من الروية.
لأن المرأة المثلى من شأن الطبيعة.
أما الزوجة المثلى فمن شأن المجتمع والآداب الإنسانية حسبما تتعاقب بها الأزمان.
وقد تكون المرأة أنثى طبيعية من الطراز الأول في تكوين الأنوثة، وليس من اللازم بعد هذا أن تكون زوجة من الطراز الأول في معاشرتها لزوجها، وفي أمومتها، أو في رعايتها للآداب وقيودها.
وقد تكون المرأة زوجة مثلى في البيت والأمة، ومع الزوج والولد، ولا يلزم من ذلك أن تبلغ فيها الأنوثة الطبيعية تمامها.
وتنجلي هذه الحقيقة بعض الجلاء إذا تذكرنا أن الحيوان فيه إناث مثليات في عرف الطبيعة، وليس فيه زوجات مثليات على النحو الذي يتطلبه الإنسان.
وهنا مشكلة ليست بالهينة من مشكلات الزواج؛ لأنها مشكلة التوفيق بين ما توحيه طبيعة الأنثى، وبين ما تمليه آداب المجتمعات، وهما شيئان لا يتفقان كل الاتفاق.
ويفهم بعض الناس أن الزوجة المثلى هي التي ترضي الرجل، وأن الزوج الأمثل هو الذي يرضي المرأة.
وهذا خطأ آخر من أخطاء الآراء في هذا الموضوع، ويكفي أن نسأل: ما هو غرض الزواج؟ ليكون الجواب تصحيحا سريعا لهذا الخطأ المشهور.
الزواج مقصود؛ لأنه وظيفة اجتماعية ونزعة إنسانية، ويصح أن يتم أداء هذه الوظيفة بمضايقة الزوجين معا أو بمضايقة زوج واحد منهما، كما يصح أن يتم أداؤها بما يرضي أحدهما أو كليهما، فلا غرابة من أجل هذا أن تبر الزوجة المثلى بعهد الزواج، وهي لا ترضي الرجل كل الإرضاء في كل حين، وأن يبر الزوج الأمثل بذلك العهد وهو مكروه على إغضاب حليلته التي يتوخى لها الإرضاء والإيناس.
وهنا مشكلة ليست بالهينة كذلك من مشكلات الزواج؛ لأنها مشكلة التوفيق بين الهوى والواجب، أو بين النظر القريب والنظر البعيد، وهي المشكلة الخالدة في حياة الإنسان. •••
ومن المشكلات في هذا الباب أن الزوج الأمثل لامرأة لا يلزم أن يصبح زوجا أمثل لامرأة أخرى، فالرجل في الأربعين زوج أمثل لامرأة في حدود الثلاثين، والرجل الذي فيه صلابة زوج أمثل للمرأة التي فيها شكاسة، والرجل الحليم المتئذ زوج أمثل للمرأة المتعجلة الرعناء، ولكنهم يختلفون ولا يتوافقون هذا التوافق، فإذا هم أسوأ الأمثلة للأزواج، وأقلهم أملا في الرفاء والوفاء. •••
والبيت مشكلة المشاكل في العصر الحديث.
ففي العصور الماضية كانت المسافة قريبة جدا بين العالم البيتي والعالم الخارجي، وكانت الملاهي الخارجية أشبه شيء بملاهي المنادر في البيوت مع قليل من التوسع والتعميم، فلم يكن من العسير أن تتفق معيشة الأسرة، ومعيشة المحافل الساهرة ولو كانت محافل لهو وانطلاق.
أما اليوم، فالمسافة بعيدة جدا بين عالم البيت والعالم الخارجي؛ لأن المناظر التي يراها الساهر في العالم الخارجي لا يراها في بيته، ولو كان من أهل السعة واليسار، وإنما نشأ هذا عن اختراع الآلات التي تعمل للألوف وألوف الألوف، ولا تقصر عملها على جماعات من الناس يعدون بالعشرات كما كانت محافل اللهو في العصر القديم، وليس من المعقول أن تنفق الشركات مليون ريال على منظر سينما يدار في مندرة أو بهو أو قصر كبير بضع ساعات، ولا نعرف اختراعا من هذه الاختراعات يوافق الحياة البيتية غير المذياع، الذي يسهل اقتناؤه في الصغير والكبير من البيوت، وهو وحده لا يغني عن سائر الأفانين التي تتنوع في محافل السهرات.
فالبيت في العصر الحديث مهدد الأساس، ولا وقاية له من هذا التهديد إلا الإقلال من العواصم الكبرى، وتشجيع الإقامة في الريف، وإلا تربية الذوق المستقل الذي يصعب انغماسه في غمرة الجماهير، وتربية الإرادة الفردية التي يهمها أن تنطوي على نفسها حينا بعد حين، ويعجبها أن تنعم بالعشرة الأخوية بين الصحب المتفاهمين والأقارب المتعاونين، فوق إعجابها بضجة السواد وزحام القطيع.
وليس ما نذكره هنا حلولا لمشكلة الزواج ولا علاجا حاسما لآفات العصر الحديث، ولكنه محاولة لفهم المشاكل على حقيقتها لا غنى عنها وعن أمثالها قبل الرجاء في علاج ناجع؛ إذ كل علاج لا يسبقه الفهم الصحيح يقع على غير الداء، وقد يضاعف الأذى ولا يدني من الشفاء. •••
إلا أننا نعتقد أن الحلول جميعا لن تخلي الزواج من عقدة مؤربة باقية على الزمن كله؛ لأنها قائمة على طبيعة في النفس الإنسانية لا يرجى لها تبديل كبير.
تلك العقدة هي غرابة الأسرار الجنسية التي تدفع بالرجل إلى اختيار المرأة، وتدفع بالمرأة إلى اختيار الرجل، فليس لزاما أن يحب الرجل امرأة تستحق حبه، أو تصلحه وتصلح أبناءه، أو تجد فيه مزية كالمزية التي يجدها فيها، بل يتفق كثيرا أن يترك المرأة التي تسعده، ويتعلق بالمرأة التي تشقيه، ويتفق كثيرا أن يهواها للأسباب التي توجب عليه اجتواءها والإعراض عنها، وشأن المرأة في هذه الخليقة أعجب من شأن الرجل وأنأى عن الرشد ودواعي الاختيار المميز البصير؛ فإن إخلاصها لمن يستحق منها الإخلاص أندر من إخلاصها لمن يفسدونها ويسيئون إليها، وهي خليقة لها أسرار أعمق من عرف المجتمع وآداب الزواج وأواصر الأهل والأسر، وليس بالميسور مع بقائها في الطباع خلو الزواج من المشكلات.
ولكن الطبيعة تهدينا إلى بعض الأسرار، كما تخفي عنا كثيرا من الأسرار، وحسبنا أن نقتدي بها في أساليبها لننتهي إلى شيء في هذا الباب خير من لا شيء.
فإن أساليبها في علاقة الجنسين تجري في نهجين مطردين لا يختلفان بين الإنسان وسائر الحيوان، وإن اختلفت في الحيوان العاقل بعض المظاهر والغايات.
أول هذين النهجين هو مزج الواجب بالسرور، فلا يخدم الإنسان النوع بإدامة النسل، أو بالإصلاح والإرشاد إلا وفي خدمته سرور له يقويه على واجبه، ويغريه باحتماله.
وثاني هذين النهجين «التوريط» الذي يقيد الإنسان حين يريد الإفلات، فلا يقدر على الإفلات؛ لأن مصاعب النجاة من الحالة التي يعانيها أكبر من مصاعب الصبر عليها بعد وقوعه فيها، وخير الأمثلة على ذلك كفالة الأبناء ومتابعة السعي في سبيل المجد من مرحلة إلى مرحلة، وقد كان الساعي فيه يحسب أنه مستريح بعد المرحلة الأولى.
وتلك هداية لا يعدم الفائدة من يتوخاها في علاج جميع المشكلات.
الفصل الخامس والأربعون
ما يمكن تبديله
عقب أحد الأدباء على ما كتبناه في «عبقرية محمد» عن رواية النبي - عليه السلام - للشعر وقال: «... في ص144» يذكر أن النبي
صلى الله عليه وسلم
كان يتمثل بشطرات من أبيات يبدل وزنها كلما أمكن تبديله، فكان يقول مثلا: «ويأتيك بالأخبار من لم تزود.» لأنها لا تقبل التبديل، ولكنه إذا نطق بقول سحيم بني الحسحاس: «كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا.» قدم كلمة الإسلام، فقال: «كفى الإسلام والشيب للمرء ناهيا.»
ثم يعقب الأديب فيقول: «وتقسيم ما يتمثل به الرسول - عليه الصلاة والسلام - إلى ما يمكن تبديله لم يورد المؤلف ما يؤيده ويقتضيه، والمثال الذي ذكره لما لا يمكن تبديله غير صحيح، فإن تبديله ممكن، وقد روي أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - تمثل به هكذا: «ويأتيك من لم تزود بالأخبار».» (راجع السيرة الحلبية في باب الهجرة إلى المدينة). •••
والذي نعقب به على تعقيب الأديب هو الكلام فيما يمكن تبديله من الشعر والنثر، وكل ما له معنى من القول.
فإذا كان المقصود بالتبديل هو نقل كلمة في موضع كلمة بغير نظر إلى المعنى والسياق، فالتبديل ممكن في كل مكان بلا استثناء؛ إذ ليس للكلام قوة مادية تمنعك أن تقدم فيه وتؤخر كما تشاء، وفي وسع كل قارئ أن يعمد إلى كتاب من الكتب فيقرأه عكسا وطردا، ومن أسفله إلى أعلاه، ويضع الأول في موضع الوسط والوسط في موضع الأول، ثم يعود فيصنع به مثل ذلك إلى غير انتهاء، فلا يستعصي عليه عصي ولا يحول دونه حائل.
وليس هذا بالبداهة هو التبديل المقصود حين نقول بإمكان التبديل أو استعصائه، وإنما المقصود هو التبديل مع بقاء المعنى وبقاء المزية الكلامية، أو المزية البلاغية التي من أجلها كان الشعر أو النثر مستحقا لروايته والاستشهاد به.
وكثير من المعنى ومن المزية البلاغية يتوقف على تقديم كلمة إلى موضع أخرى، حتى في العبارة التي لا تتجاوز كلمتين أو ثلاث كلمات. «فالعالم زيد» غير «زيد العالم»، وما اختلف منهما إلا تبديل موضع الكلمتين.
لأن «العالم زيد» قد تفيد أنك تخص زيدا بالعلم وتنفيه عن غيره، وليس هذا مستفادا من «زيد العالم» على هذا الوجه.
وقد شرح علماء البلاغة دلالة التقديم والتأخير، وعرض لها الإمام الجرجاني فقال مما قال في دلائل الإعجاز: «... إنه قد يكون من أغراض الناس في فعل ما أن يقع بإنسان بعينه ولا يبالون من أوقعه، كمثل ما يعلم من حالهم في حال الخارجي يخرج فيعيث ويفسد ويكثر به الأذى، إنهم يريدون قتله ولا يبالون من كان القتل منه، ولا يعنيهم منه شيء، فإذا قتل وأراد مريد الإخبار بذلك فإنه يقدم ذكر الخارجي فيقول: قتل الخارجي زيد، ولا يقول: قتل زيد الخارجي؛ لأنه يعلم أن ليس للناس في أن يعلموا أن القاتل له زيد جدوى وفائدة فيعنيهم ذكره ويهمهم، ويتصل بمسرتهم ويعلم من حالهم أن الذي هم متوقعون له ومتطلعون إليه متى يكون وقوع القتل بالخارجي المفسد، وإنهم قد كفوا شره وتخلصوا منه ...» إلى آخر ما قال.
على أن الحكمة في التقديم والتأخير معنى من معاني العقل والمنطق، وليست بقاعدة من قواعد اللغة وحسب.
ولهذا ينص عليها في جميع اللغات، ولا يقتصر التنبيه إليها على لسان دون لسان.
فالإنجليز مثلا ينبهون إلى الفرق بين معاني العبارات إذا تغير موضع كلمة واحدة فيها، ويمثلون لذلك بأمثلة كثيرة منها هذه الأمثلة الأربعة: (1)
أنا «فقط» أتحدث بهذه القصة إلى فلان. (2)
أنا أتحدث فقط بهذه القصة إلى فلان. (3)
أنا أتحدث بهذه القصة فقط إلى فلان. (4)
أنا أتحدث بهذه القصة إلى فلان فقط.
فالفرق بعيد جدا بين كل عبارة من هذه العبارات وبين سائرها، لتغير الموضع الذي توضع فيه كلمة واحدة؛ لأن العبارة الأولى معناها أنني وحدي أتحدث بهذه القصة إلى الشخص المذكور، والعبارة الثانية معناها أنني أتحدث فقط ولا يصدر مني شيء غير الحديث، وقد يتحدث به غيري كذلك، والعبارة الثالثة معناها أنني أتحدث بالقصة فقط إلى فلان، ولا يتعدى التخصيص ذلك، فكل ما عدا هذا التخصيص فهو عام لا تقييد فيه، والعبارة الرابعة معناها أن المتحدث إليه هو فلان فقط وليس إنسانا غيره، ولا تخصيص للقصة ولا للمتحدث ولا للحديث.
وتبديل الموضع الذي توضع فيه كلمة فقط ممكن جدا لكل من أراده، ولكن المهم هو المعنى الذي يترتب على هذا الإمكان، فإن كان المقصود أن نحافظ على معنى لا يتغير، فالتبديل مستحيل أو كالمستحيل، وإن لم يكن هنالك معنى مقصود فبدل وقدم وأخر كما تشاء. •••
ونأتي إلى الأبيات التي نطق بها النبي - عليه السلام - فننظر ماذا كان يترتب على التبديل في مواضع كلماتها؟
إن منها لأبياتا لا يتغير منها شيء غير الوزن كالبيت الذي أنشده - عليه السلام - حين قال للعباس بن مرداس: أأنت القائل:
أصبح نهبي ونهب العبي
د بين الأقرع وعيينة
فإن البيت موزون على قول الشاعر:
وأصبح نهبي ونهب العبي
د بين عيينة والأقرع
ولا فرق بين الوضعين إلا كالفرق بين قولك: إن طنطا واقعة بين القاهرة والإسكندرية، وقولك: إنها واقعة بين الإسكندرية والقاهرة، أو كالفرق بين قولك: إن زيدا يجلس بين بكر وخالد، وقولك: إنه يجلس بين خالد وبكر.
فهل الفرق بين قول الشاعر: «ويأتيك بالأخبار من لم تزود.» وقولنا: «ويأتيك من لم تزود بالأخبار.» هو فرق من هذا القبيل؟
إن كان الفرق من هذا القبيل فالتبديل ممكن، وإن لم يكن كذلك فهو مستحيل أو كالمستحيل.
والمفهوم الذي لا يغيب عن سيد الفصحاء هو أن المعنيين مختلفان.
فالمفهوم من قول الشاعر أن الأخبار هي المقصودة، وأن الشاعر يورد قوله على سبيل الاستغراب، أو التحدث بالغريب الذي لا ينتظر في الأغلب الأعم أن يكون: تسمع الخبر الذي تنتظره من مسافر لم تودعه، ولم تحفل بسفره ولم تنتظر إيابه، وهذه هي الغرابة! وهذا موقع التنويه والاستشهاد.
أما قولنا: «ويأتيك من لم تزود بالأخبار.» فهو شيء آخر في معناه، أو هو شيء لا يستشهد به في الموقع الذي عناه الشاعر.
فنحن لا نزود التاجر المسافر بزاد، ولكنه يعود إلينا من السفر بالبضائع والتحف ولا نستغرب ذلك، إذ لا وجه للغرابة في أن يسافر المسافر ولا تزوده، ثم يعود إليك بشيء من الأشياء، أما إن عنيت غرابة الأمر، وعنيت الأخبار خاصة فلا بد من التقديم، ومن إظهار ما يفيد هذه الغرابة.
وهذا فضلا عن التباس آخر في قولنا: «ويأتيك من لم تزود بالأخبار.» إذ يحتمل أن يفهم السامع أن المقصود: «من لم تزوده أنت بالأخبار.» ثم ينتظر تتمة الكلام، ولا وجه لهذا الالتباس إذا لم يتبدل موضع الكلام.
فتبدل مواضع الكلمات ممكن إذا نحن لم نحفل بهذا الالتباس، وممكن إذا نحن تركنا المعنى الذي من أجله نظم البيت، واستحق أن يروى في مقام الاستشهاد، وممكن إذا صرفنا النظر عن كل معنى وكل قصد.
ولكنه مستحيل أو كالمستحيل إذا أردنا المحافظة على معناه، وهو فرق واضح لا يغيب عن سيد الفصحاء كما أسلفنا؛ ولهذا رجحنا الرواية الغالبة ولم نكترث لغيرها من الروايات؛ ولهذا كان ينبغي للأديب المعقب أن يتريث طويلا قبل أن يجزم، ويتحقق أن قولنا: «لا يمكن تبديله.» غير صحيح؛ فغير الصحيح هو ما قال وما قالته كل رواية توهم أن محمدا - عليه السلام - قد غاب عنه الفرق الواضح بين الروايتين. •••
وما دمنا بصدد التعقيب على كتاب «عبقرية محمد»، فلنذكر تعقيبا سمعناه من المذياع لطالب نجيب من طلاب الجامعة كان يتحدث عن هذا الكتاب ... فقد أشار إلى كلامنا عن موت إبراهيم ابن النبي - عليه السلام - حيث نقول: «مات ذلك الطفل الصغير ومات ذلك الأمل الكبير: مات كلاهما والأب في الستين ... أي صدمة في ختام العمر؟ أي أمل في الحياة؟ الدين قد تم وهذه الآصرة قد انقطعت، فليس في الحياة ما يستقبل وينتظر، كل ما فيها للإشاحة والإدبار.»
ثم عقب الطالب النجيب بما فحواه أن هذا يأس يتنزه عنه مقام الأنبياء.
وكل ما نجيب به أن هذا ليس بيأس يتنزه عنه مقام الأنبياء، وإنما هو علم بأن الحياة قد أصبحت للإشاحة والإدبار، ومحمد - عليه السلام - كان يقول: «إن معترك المنايا بين الستين والسبعين.» فلا يأس في انتظاره إدبار الحياة بعد الستين.
إنما اليأس الذي يتنزه عنه مقام النبي أن ييأس من أداء الرسالة التي بعث بها إلى الناس، وهذه قد تمت يوم مات إبراهيم، فلا يأس فيها، ولا حرج أن يقبل النبي بعدها على أخراه، وما قلنا عن محمد - عليه السلام - بعض ما قاله بلسانه الشريف حين قال: إن ما به من موت إبراهيم ليهد الجبال، ثم استرجع. وما يكون الاسترجاع إلا أن يذكر الإنسان في كل عمر أنه تارك الحياة وراجع إلى الله!
الفصل السادس والأربعون
الحق المجرد
عجب صديقنا الأستاذ الزيات لابن آدم «المخلوق الوحيد الذي يرى الشيء الواحد بعينيه الاثنتين، أبيض تارة وأسود أخرى على حسب الصبغ الذي يلونه به الهوى.»
وضرب لذلك أمثلة شتى، منها أن راديو باري أذاع منذ ليلتين أن فريقا من الطلاب الهنود تظاهروا في بمباي، فاعترضتهم فئة من الشرطة الإنجليز، فتفرقوا في شوارع المدينة أباديد بعد أن أصيب نفر منهم بجروح، ثم عقب المذيع على هذا الخبر بأن الاعتداء على المتظاهرين بالضرب ينافي المدنية، ويجافي الخلق، ويصم الذين ارتكبوه بالقسوة الوحشية والبربرية الأثيمة، ثم أعلن المذيع في هذه الإذاعة نفسها أن مليونا من جنود المحور قد اقتحموا بالدبابات الثقيلة والطيارات المنقضة والسيارات المدرعة منازل ستالينجراد على الروس، وفيهم النساء والأطفال والشيوخ والمرضى، فدكوا كل بناء، وسحقوا كل حي، وركموا أشلاء القتلى في الحجرات والطرقات على صورة لم يرها الراءون ولم يروها الراوون، ثم أخذ هذا البوق البشري يهذي بفضل هذا النصر على المدنية، وينوه بعظيم أثره في مستقبل الإنسانية.
وأتى الأستاذ بأمثلة متعددة في هذا المعنى تؤيد شقاء الإنسانية بين العقل والهوى.
وإنه لشقاء باق لن يزول أبدا، ولن يزال الهوى يرينا الشيء شيئين، واللون لونين ما دمنا نحس ونرى، وقد:
أعيى الهوى كل ذي عقل فلست ترى
إلا صحيحا له حالات مجنون
وهذا نقص لا ريب فيه.
وقد تناوله صديقنا الزيات من هذه الناحية، فأبرزه في صور الحياة اليومية التي لا يخطئها من يرقبها.
فهل هو نقص لا يوازنه جانب كمال؟ وهل هي آفة لا عزاء فيها لبني آدم؟
وهل نغير ما طبعنا عليه من هذه الخليقة بما طبعت عليه سائر المخلوقات من توافق وتشابه حالات؟
مصيبتنا أننا لا نستطيع!
لأن الإنسان لا ينقص إلا من حيث يزيد؛ فهو يعرف الخطأ لأنه يعرف الصواب ويختل في هندسته، من حيث يتقن النحل هندسته كل الإتقان؛ لأنه أعلم بالهندسة من النحل؛ لا لأنه أجهل منه بفنونها وأنواعها ... فهو يشتري الخطأ بثمن؛ لأنه لا يشتري الصواب إلا مخلوطا به، مضافا إليه.
نحن نرى الشيء أشياء لأننا نرى.
أما سائر المخلوقات فهي لا ترى إذ تنظر بعينيها، وإنما الأصح أن يقال: إنها تلمس الأشياء بالعين على نحو من الملمس بالأيدي، فلا تقبل عندها التعدد والاختلاف.
وهكذا الآدميون الذين يشبهون تلك المخلوقات.
إنهم يلمسون الأمور بأعينهم كما يلمسونها بأيديهم، ولكنهم لا يرونها متعددة الحالات، متعددة الألوان، متعددة الواقع في الخواطر والأهواء؛ وإن تعددت عندهم قليلا فهو أقرب تعدد إلى التوحيد.
كنت أقول لبعضهم والألمان يدخلون باريس: إنهم سينهزمون.
وكنت أقول لبعضهم والألمان يتقدمون في الأراضي الروسية: إنهم سينهزمون.
فكانوا يقولون: ولكننا نرى أنهم سينتصرون لأنهم منتصرون ... فأقول لهم: ما هذا برأي، هذا لمس بالعين، هذا ما تبصرونه كما تبصره كل عين حيوانية تفتح أجفانها، وإنما الرأي غير هذا، الرأي ما يبصرك بالانهزام وأنت تنظر إلى النصر الملموس، فإن لم يفدنا الرأي هذه الفائدة فلا خير فيه، ولا حاجة بنا إليه مع وجود العيون والأجفان، إذ حسبنا بالعيون والأجفان أن نفتحها فنلمس بها، ثم لا نفكر ولا نرى خلاف ما تبديه.
وهكذا يبصر الإنسان وجوه الرأي؛ لأنه لا يرى الشيء على حالة واحدة ولا يستوفيه كله في صورة حاضرة.
فهو يبصر وجوه الرأي في الضرب مثلا؛ لأنه يحسه لذيذا في حين ومؤلما في حين، ولا يحسه في بعض الأحايين.
يحسه لذيذا حين يكون هو الضارب، ويحسه مؤلما حين يكون هو المضروب، وليس يحس له لذة ولا ألما حين لا يكون ضاربا ولا مضروبا ولا شأن له في الحالتين.
ومن العسير عليه جدا أن يعرف ما هو الضرب إذا عرفه على وجه واحد، ولم يعرفه على شتى الوجوه.
ومن البعيد جدا ان يراه بالحق إن لم يره بالهوى على اختلافه، فيحبه ويبغضه وينظر إليه بين الحب والبغض، و«يراه» بعد ذلك مستجمعا لجميع هذه الوجوه.
وهذا هو باب الكمال في تعداد الأهواء وتعدد الحكم على العمل الواحد، إذ نعمله نحن وإذ يعمله الخصوم، وإذ يعمله من ليس من الخصوم ولا من الأصدقاء.
وكل صورة من صوره هذه تمام لغيرها، ولا سبيل إلى التمام فيها بغير هذا التعديد.
يقولون في الصعيد: إن نواتيا سمع مضغا قويا في مخزن الخبز الجاف من سفينته، فأشفق من نفاد المئونة في الطريق وصاح مغضبا: من هذا الذي يقضم في الخبز قضم الحمار؟
فقيل له: ابنك حسن!
قال: اسم الله عليه! أهو الذي يقرش هكذا قرش الفوير؟
والرجل قد صدق بعض الصدق فيما سمع من قضم حمار ومن قرش فوير، فإن أكل ابنه من الخبز يسره ولا يؤذيه، وإن انطلاق الغريب عليه يؤذيه ولا يسره، ويبقى أن يسمع المسافر الذي لا يسمع حمارا ولا فويرا، ولكنه يسمع الصوتين على حسب ما عنده من الزاد.
وما أعجز الإنسان أن يتبين حقيقته بهذا الصغر وبهذه البساطة ما لم يسمع من جانب مخزن الخبز صوت حمار، وصوت فأر، وصوت إنسان!
هذا نقص في خليقة بني آدم يؤدي إلى تمام.
وإنما هو نقص دائم إذا وقف حيث هو، ولم تجتمع صوره الكثيرة في صورة واحدة، هي أدنى إلى الصدق وأبعد من الهوى وأوسط في الرأي بين مختلف الآراء.
وذلك هو النقص الذي يحبه جماعة من أصحاب المذاهب الاجتماعية، ويفرضون دوامه ويحضون على الاقتداء به في فهم التاريخ، ونريد بهم الشيوعيين.
فهم يجعلون الهوى فرضا لزاما في معالجة كل حقيقة من حقائق الحياة.
ويكتبون التاريخ فيذمون من لا يستحق الذم، ويثنون على من لا يستحق الثناء؛ لأنهم يستوحون المصلحة الشيوعية، ويعلنون أن الخروج من هوى المصلحة في تقدير الأمور مستحيل.
فأما أنه مستحيل فلا؛ لأن الإنسان يعرف الفرق بين صوابه وهواه، وإن أحب هواه وآثره على الصواب.
فإذا كانت له قوة خلق تصحب المعرفة غلب الهوى بالجمع بين معرفته وقوة خلقه، وأصبحت مصلحته تابعة لما يلزمها من جادة قويمة في رأيه.
ولكن الشيوعيين لا يغلبون هوى المصلحة؛ لأن الخروج منه مستحيل؛ وإنما يغلبونه لأن تغليبه نافع لهم فيما يقدرونه ويفسرون به الأمور.
ولا نقول: إن الشيوعيين وحدهم يغلبون الهوى في تفسير التاريخ وتصوير الحقائق، فهذه خليقة شائعة بين جميع الناس ملحوظة بين أصحاب المذاهب بلا استثناء.
ولكننا نقول: إن الشيوعيين وحدهم هم الذين جعلوا ذلك فرضا لا مناص منه، ولم يجعلوه عيبا يصححونه ويخجلون من إعلانه.
وهذا هو الفارق الكبير بين الرأيين.
فعلينا أن نعترف بالهوى ولا نجهل صنيعه في أفاعيل الأمم والأفراد، ولكن علينا أن نغالبه ما استطعنا كلما عرفناه واقتدرنا عليه.
وهذا هو الواجب في كل عيب من العيوب أيا كان سببه وأيا كان الناظر إليه.
فأذكر أن «برتراند رسل» الفيلسوف الرياضي الباحث الاجتماعي الكبير قد أشار في بعض كتبه بإباحة العلاقات بين الفتيان والفتيات «بغير بنين»؛ ليتم لهم اختبار الحياة الجنسية قبل الاضطلاع بتبعاتها؛ ولأن المنع رياء ما دامت الإباحة قائمة فعلا، وإن سترت من أعين المجتمع والشريعة.
فأما اختبار الحياة الجنسية، فليست الإباحة سبيله الوحيد، وليس الزواج بعلاقة جنسية وكفى، فيكون اختباره من طريق ذلك الانطلاق.
وأما أن الإباحة مطلوبة ما دامت حاصلة، فهذا الذي يشبه عندنا مذهب الشيوعيين أن الهوى مفروض ما دام من عادات بني آدم.
فالسرقة موجودة ولا نعالجها برفع العقوبة عنها، والسقم الذي يأتي من الطعام موجود، ولا نعالجه بتسويغ الطعام المسقم للأبدان؛ وإنما وجود هذه الآفات هو الذي يدعونا إلى محاربتها واستئصالها؛ إذ نحن لا نحاربها وهي معدومة غير مكروهة الوجود. •••
هو الهوى إذن نقص في طبيعة الإنسان تميز به بين المخلوقات؛ لأنه طريقة إلى التمام.
فلا نرميه ولا ندخره، ولكننا نتناوله بضاعة للاستبدال، كلما تسنى لنا أن نبدل به بعض الصواب.
وهوى واحد لا يصلح ثمنا مقبولا في هذه التجارة.
ولكن خمسة أهواء متقابلات هي أصلح الأثمان للمقايضة فيها، فليس أقمن بأضعاف الهوى من تعدد الأهواء.
أيشقينا ذلك التبديل والاستبدال؟
نعم لا مراء ... ولكن من الذي قال: إننا خلقنا لنسعد؟ ومن الذي قال: إن السعادة في استئصال الأهواء؟ لم يقل ذلك أحد؛ وإن قاله لم يحفله سامع، ولم تزل دنياه ماضية في شقائها وسعادتها وهواها.
الفصل السابع والأربعون
حول ما نكتب
علقت صحيفة «البورص إچبسيان» على ما كتبناه في موضوع الشيوعية، فقالت بعد تلخيص رأينا فيها: «... وإن الأستاذ العقاد لينظر إلى الشيوعية في لون قاتم، وهي ما زالت على حسب سياسة ستالين في دور الكشف والظهور، فلا تعرف على التحقيق إلى أي طريق تسير في تطبيقها العملي بعد تجاربها في السنوات الأخيرة، فقد أنشأ نظام الأسرة فيها يتكون ثم المدرسة ثم الأخلاق، ثم الاعتراف بتفاوت الدرجات والرجوع أخيرا إلى الدين، وكل هذا معناه أن الشيوعية الحالية ليست إلا اسما مسمى، وإن هي في حقيقتها إلا اشتراكية مستنيرة.»
وهذا التعليق في رأينا هو أقرب إلى التأييد والتوكيد منه إلى المناقضة أو التفنيد.
لأن معناه أن ستالين يخالف الشيوعية التي ننكرها، ولا يدين بقواعدها التي بسطها كارل ماركس وشرع في تحقيقها لينين.
ومعناه من جهة أخرى أن الشيوعية في تطبيقها تخالف الشيوعية في أصولها النظرية، وأنها من أجل ذلك مذهب لا يصلح للتنفيذ في الحياة العملية.
وقد اضطر ستالين فعلا إلى الاعتراف بتفاوت الدرجات والأجور، واضطر إلى التسليم للأسرة ببعض الحقوق، وقبول الملكية في وضع من الأوضاع، ثم انتهى خلال الحرب الحاضرة بتعظيم فضيلة الوطنية التي كانت في عرف كارل ماركس وأصحابه لعنة من لعنات الاستغلال، وحيلة من حيل أصحاب الأموال، فهو وأعوانه يسمون الحرب الحاضرة بالحرب الوطنية، وحرب الدفاع عن الدمار؛ لأنهم علموا أن اسم الشيوعية وحدها لا يشحذ همة الشعب إلى النضال، ولا يغني عن نخوة الوطن والعصبية القومية.
فاضطرار الأقطاب الشيوعيين إلى العدول عن بعض قواعدها الأولية يؤيد ما نقول، ولا ينفي أنها مذهب غير معقول ولا مقبول.
ولكننا مع هذا ندعو إلى الحذر من تصديق كل ما يروى عن التطبيقات الشيوعية في الوقت الحاضر؛ لأن الوصول إلى حقيقة النظم الروسية اليوم من أصعب الأمور، ولم يسمح قط لرجل مستقل الرأي منزه عن الغرض بالطواف في أرجاء روسيا على حريته بغير رقيب أو دليل، وإذا سمح له بالطواف في المواطن البعيدة عن الأسرار والخفايا، فلا ينقضي أسبوع على معاشرته لفرد من الأفراد، أو فئة من الفئات إلا أسرع الحاكمون بتبديله، وإحلال آخر أو آخرين في محله، حتى لا تنعقد بين السائحين المستقلين وبين أحد من الروسيين صلات وثيقة تطلق عقال الألسنة، وتكشف كوامن الصدور.
ولا حاجة بنا بعد هذا وذاك إلى ملاحظات السائحين المستقلين لإدراك هذه الحقائق الغنية عن الدليل، فحسبنا أن حرية الكتابة مكبوحة في روسيا منذ نيف وعشرين سنة؛ لنعلم أن بواطن الأمور غير ظواهرها، وأن رعايا الشيوعيين لا يملكون الإفضاء بما في ضمائرهم لأبناء وطنهم فضلا عن الغرباء الطارقين، الذين يحاطون بالرقباء والأدلاء من قريب وبعيد.
ولا نزال نذكر الفكاهة التي رويت على لسان الفلاح الروسي حين سمح له بالتحدث إلى العالم الخارجي من محطة الإذاعة العامة على شريطة أن يفوه بكلمة واحدة، ولا يزيد عليها، فكانت كلمته التي جمعت كل ما أراد الإفضاء به إلى العالم الإنساني كله هي: «النجدة!» ولاذ بعدها بصمت الأموات.
فحسبنا أن المذهب في أصول النظرية غير معقول، وأن أقطابه لا يقدرون على تطبيقه إلا بعد الانحراف عنه والتعديل فيه، وأن الأقوال التي تصل عنه إلى العالم الخارجي لا تخلو من حجر ورقابة، وهذه كلها حقائق متفق عليها، حسبنا كما قلنا أن نعلمها لنعلم أن الحذر من تصديق ما يقال هو أقل ما تقابل به تلك الأقوال.
وليست كل التعليقات جدا كهذا التعليق الذي ألمعنا إليه من كلام «البورص إچبسيان».
فهناك تعليقات الأوشاب!
وهناك تعليقات عبيد المعدة!
وهناك تعليقات الماديين الذين يفسرون كل شيء بالماديات!
والأوشاب وعبيد المعدة والماديون هي كلمات مرادفة لكلمة الشيوعيين باعتراف هؤلاء الشيوعيين الفخورين!
وهؤلاء - أو أذناب هؤلاء - يقولون: إنني لا أكره الشيوعية ولا أكتب ما أكتب عنها إلا لأنني قبضت من أعدائها خمسة آلاف جنيه للتشهير بها في بضع مقالات.
ولكنني أكتب ما أكتبه اليوم عن الشيوعية منذ كانت الشيوعية، أو منذ عشرين سنة على التقريب.
وأكتب عن جميع المذاهب التي تناقض الديمقراطية كما كتبت عن الشيوعية والشيوعيين.
فما تفسير ذلك يا ترى؟ ولم لا تكون الكراهة هنا كراهة رأي ما دامت مطردة في جميع الأوقات، وعلى جميع المذاهب وبين جميع الأحوال؟
كلا، لا يمكن أن يفسر كلام إنسان بالرأي والعقيدة في عرف الأوشاب، وعبيد المعدة، والمفسرين للتاريخ كله بالماديات.
أفي الدنيا إنسان يحارب رأيا لأنه يؤمن ببطلانه؟ كيف يكون هذا؟ وكيف يكون الإنسان عبدا للمعدة إذن، ويكون الرأي محور أقواله ومثار خصوماته؟
هذا مناقض «للمذهب» في الصميم.
وهو كذلك مناقض «للخطط الحربية» التي أوصى بها ماركس أتباعه علانية، ولم يتورع أن يزينها لهم في منشوراته على مسمع من الدنيا بأسرها؛ فهو القائل: إن تشويه كل ديمقراطي حسن السمعة واجب مفروض على الدعاة ، وهو الذي سن لهم هذه السنة حين أشاع أن «باكونين» جاسوس للروس والنمسويين، وهو يعلم أنه لطريدة الروس والنمسويين!
ومن عقائدهم التي لا يخفونها أن «الحق» المطلق خرافة ليس لها وجود، وأن ما يسمى حقا إنما هو جملة المصالح التي تنتفع بها الطبقة الغالبة في أمة من الأمم، وأن الكذب العمد على هذا لخدمة «الطبقة» أمر مشروع بل واجب مشكور.
فلا عجب إذن أن يقرفني الأوشاب عبيد المعدة بما يعهدون في أنفسهم وفي عقائدهم من الخلائق والأدناس.
بل عندي أنهم حيوني أكبر تحية في مقدروهم حين رفعوا سعر الرشوة التي أرشاها إلى خمسة آلاف من الجنيهات أجرا مقدورا لبضع مقالات.
نعم هي أكبر التحيات التي يملكونها وهم يعلمون أن سعرهم جميعا وأجور مجهوداتهم جميعا منذ خدموا الشيوعية إلى أن تستغني الشيوعية عن خدمتهم لن يقارب خمس هذه الآلاف.
فلهم على تحيتهم المغصوبة شكر يلائمها.
ولهم فوق ذلك تبرع آخر ينتفعون به في كل لحظة إن وجدوا السبيل إليه.
فإنني لمتبرع لهم بهذه الآلاف الخمسة حيثما وجدوها في مصرف أو بيت أو ثمنا لعقار أو بضاعة أو أسناد تشرى وتباع.
وحيثما وجدوا ذلك المال فليكتبوا إلى صاحب الرسالة بموضعه، ولهم أن أتبع كتابتهم بعد يوم واحد بتحويل صريح يخولهم قبضه حالا مباحا وفاقا لكل شرط يقترحونه من شروط القانون.
وليدعوا لي بالخير إذن كما يدعون للرفقاء أجمعين، فإنني سأعطيهم إن صدقوا ما لم يأخذوه - ولن يأخذوه - من رفيق! •••
وندع هذه الأضاحيك ونعود إلى موضوع «المؤلفين والمقترحين»، الذي كتبنا عنه في الرسالة مقالنا الأخير.
فقد وردتني في هذا الموضوع رسائل شتى من مؤيدين ومناقشين، وخير ما وردني من رسائل التأييد رسالتان إحداهما يقول صاحبها «أ. زين العابدين»: إن كل نسخة من كتاب يقتنيها قارئ مثقف هي رد مطول على أصحاب المقترحات على قلتهم، وإن كانوا من ذوي الثقافة والاطلاع.
والأخرى يقول صاحبها «محمد عبد الهادي»: إن رضا المؤلف عما كتب قراؤه هو العزاء الذي يرجح بكل جزاء، ويغنيه حتى عن الإعجاب والثناء .
وراقني فحوى هذه الرسالة على التخصيص؛ لأنني تلقيتها من محض المصادفة في بريد واحد مع مجلة «ورلد ديجست» الإنجليزية، وفي صدرها خطاب معاد لمستر تشرشل يتكلم فيه عن «غبطة المؤلفين»، ويجعلها - كما يجعل كل غبطة من نوعها - عليا المطامح التي ترتقي إليها آمال الناس في هذه الحياة.
فليس في الدنيا - كما يقول - سعادة أسعد من نجاحك في التوفيق بين موضوع عملك وموضوع سرورك، أو من اتخاذك العمل سبيلا من سبل الرياضة والرضاء، وهو يسأل ويطيل في سؤاله بما خلاصته: ماذا يعنيك مما يحدث وراء الأفق الذي تعيش فيه بعملك وسرورك؟ ليصنع مجلس النواب ما بدا له؛ وليصنع معه مجلس اللوردات مثل هذا الصنيع؛ ولتضطرب الأسواق، وليثر من يثور، فلا ضير عليك وأنت منزو في تلك الساعات القلائل عن عالم يساء حكمه أو يساء نظامه.
ثم ينتقل إلى الحديث عن الحرية والتأليف، فيرى أن أداة التأليف هي أخف الأدوات مئونة وأقلها كلفة؛ لأنها قلم وصفحات من الورق، وإن أبقى شيء يبقى من وراء أسداد الزمان والمكان هو الكلمات. •••
قل: إنه عزاء للمؤلفين يخلقونه من الخيال أو يخلق لهم من وقائع الأيام، فالمهم أنه قد خلق، وأنه قد نزل من نفوسهم منزل العزاء الصحيح.
الفصل الثامن والأربعون
السلفية والمستقبلية
عني الأديب الفاضل الأستاذ الحوفي بالرد على اللغط الذي يلوكه باسم التجديد ذلك الكاتب الذي يكتب ليحقد، ويحقد ليكتب، ويدين بالمذاهب ليربح منها ولا يتكلف لها كلفة في العمل أو في المال.
فهو يشتري الأرض، ويتجر بتربية الخنازير، ويسخر العمال، ويتكلم عن الاشتراكية التي تحرم الملك وتحارب سلطان رأس المال.
وهو يعيش من التقتير عيشة القرون الوسطى في الأحياء العتيقة، ويتكلم عن التجديد والمعيشة العصرية.
وهو ينعي الحضارة الآسيوية، وإنه لفي طواياه يذكرنا بخلائق البدو المغول في البراري السيبيرية.
ومن لغطه بالتجديد ذلك اللغط الذي لا يفهمه، قوله الذي رد عليه الأستاذ الحوفي وهو: «التفت إلى عبارة قالها الأستاذ العقاد بشأن الاشتراكيين في مصر لها مناسبة هنا، إذ هم يدعون على غير ما يجب إلى اللغة العامية، وقد حسب عليهم هذه الدعوة في فاتحة رذائلهم؛ لأنه هو يعتز بفضيلة اللغة الفصحى، ويؤلف عن خالد بن الوليد أو حسان بن ثابت، ولكنه غفل عن التفسير لهذه الظاهرة الاجتماعية، وهي أن الاشتراكيين شعبيون يمتازون بالروح الشعبي ويعملون لتكوينه، وهم لهذا السبب أيضا مستقبليون وليسوا سلفيين ... في حين أنه هو سلفي الذهن في لغته وأسلوبه وتفكيره وسلوكه ...»
وهذا كلام عن السلفية والمستقبلية ببغاوي العبارة لا يعقل قائله ما يقول: لأن الكتابة في الموضوعات التاريخية ليست هي مقياس السلفية أو المستقبلية، وإلا كان المؤرخون كلهم سلفيين؛ لأنهم ما كتبوا ولن يكتبوا في غير العصور السالفة، وفي غير الماضي البعيد أو القريب، وإنما المقياس الصحيح هو طريقة الكتابة في الموضوعات التاريخية والأبطال التاريخيين، وبهذا المقياس يحسب الإنسان سلفيا رجعيا ولو كتب عن المستقبل الذي يأتي بعد مئات السنين؛ إذ هو قد يكتب عنه بروح الجهل القديم والعصبية الرجعية، وهي العصبية التي عششت في دماغ ذلك الكاتب الببغاوي، فلا ينساها في موضوع قديم ولا حديث.
ومن أصدق المقاييس للمستقبلية الإيمان بالحرية الفردية والتبعة الشخصية.
فليس في التاريخ الإنساني كله مقياس للتقدم أصدق ولا أوضح ولا أكثر اطرادا في جميع الأحوال من مقياس حرية الفرد بين أمة وأمة، وبين زمان وزمان، وبين خليقة وخليقة، وبين تفكير وتفكير.
فإذا قابلت بين عصرين اثنين، فأرقاهما ولا ريب هو العصر الذي يعظم فيه نصيب الفرد من الحرية والتبعة الشخصية.
وإذا قابلت بين أمتين في عصر واحد، فأرقاهما ولا ريب هي التي تدين بالنظم القائمة على تقرير حرية الفرد، وتحميله التبعة في السياسة والأخلاق.
وهذا الفارق الحاسم هو أيضا مقياس الفارق بين العالم والجاهل والرفيع والوضيع والرجل والطفل، والرئيس والمرءوس وكل فاضل وكل مفضول.
ولهذا كنا نحن مستقبليين؛ لأننا ندين بمذاهب الحرية الفردية، ولا ندين بمذاهب الفاشية والشيوعية، ولا نرى واحدة منها خيرا لبني الإنسان. وقد حاربنا الفاشية والنازية في الوقت الذي كان فيه الببغاوات من أمثال ذلك الكاتب يطبلون لها ويزمرون ويسجدون لأبطالها ويركعون، وعشنا وعاش الناس حتى رأوا ورأينا مصداق ما أنذرنا به وأكدناه وقررناه، وسنرى عن قريب مصداق ما أنذرنا به وأكدناه وقررناه في أمر الشيوعية الماركسية على الخصوص؛ لأنها هي المذهب الذي نحن على يقين من سوء مصيره وسوء وقعه وسوء فهمه بين أدعيائه، وليس هو الاشتراكية في صورتها الحرة المهذبة كما يغالط ذلك الكاتب الببغاوي في التسمية، وهو يتعمد أو لا يتعمد التغليط والتخليط.
وقد بدرت البوادر التي لا خفاء بها، فعلم الشرقيون والغربيون أن سياسة بطرس الأكبر - لا سياسة المستقبل - هي التي يترنم بها الببغاوات في هذا البلد وفي غيره من البلدان، وسيرون المزيد من دلائل الرجوع إلى القديم في كل مسألة من مسائل الخلاف بين السلفيين والمستقبليين. •••
ومن مقاييس المستقبل التي لا تخطئ، ولا تكذب في الدلالة على الوجهة التاريخية العامة مقياس التعاون بين الدول، أو التعاون بين الطبقات، أو التعاون بين الأفراد، فإن هذا التعاون ملحوظ الخطوات في السياسة الدولية من الزمن القديم إلى الزمن الحديث، وهو كذلك ملحوظ الخطوات في المعاملات التي تشيع بين أبناء الوطن الواحد، وسيكون له الشأن الأكبر في علاج مشكلات الاجتماع والاقتصاد على توالي السنين.
وبهذا المقياس - بعد مقياس الحرية الفردية - تعتبر الشيوعية من المذاهب الرجعية، التي ترجع بنا إلى سيادة الطبقة الواحدة، وإن كانت تزعم أنها طبقة وحيدة وأنها هي طبقة الصناع والأجراء، فسيادة الطبقة الواحدة أقدم الصور الاجتماعية التي عرفها الناس، والشيوعية لا تغير في الأمر غير عنوان الطبقة ... إن صح ما تدعيه. •••
وأسخف السخف قول ذلك الكاتب الببغاوي: إن الشيوعيين «يفضلون اللغة العامية؛ لأنهم شعبيون مستقبليون.»
ومصيبة الدنيا أن تحشو هذه الببغاوات أفواهها بما تسميه تفسير الظواهر الاجتماعية، وهي لا تفسر تحت آنافها ما تسمعه بالآذان وتبصره بالعيون.
فاللغة العامية لغة الجهل والجهلاء، وليست بلغة الشعبيين ولا من يحبون الخير للشعوب.
لأن الغني الجاهل يتكلم اللغة العامية، ولا يقرأ اللغة الفصحى، ولا يمتاز بفهمها على الفقراء.
ولأن الفقير المتعلم يفهم الفصحى ويكتبها، كما يفهمها سائر المتعلمين من العلية أو السواد.
فأعداء الشعب حقا هم أولئك الذين يفرضون عليه الجهل ضربة لازب، ولا يحسبونه في يوم من الأيام صاعدا من حضيض الجهل إلى طبقة المعرفة والثقافة.
وأصدقاء الشعب حقا هم الذين يفتحون له أبواب المزايا العالية، ويسوون بينه وبين القادرين على التعلم والمتكلمين بلغة المتعلمين.
والمسألة هنا - أيتها الببغاوات التي تفسر الظواهر الاجتماعية - ليست مسألة شعبيين وطبقات، وأجور ورءوس أموال كما يهذي كارل ماركس وأتباعه المفتونون.
وإنما هي مسألة الفارق السرمدي بين المعيشة اليومية وبين الحياة الإنسانية الباقية على اختلاف الأمم وتعاقب العصور.
فكل ما هو من باب القيم الإنسانية الباقية، فلا مناص له من تعبير غير تعبير السوق والبيت، وكلمات التسلية والاستلقاء، ولو أجبرنا الناس جميعا في هذه الساعة على الكلام بالعامية دون غيرها لما استطاعوا أن يتجنبوا اللغة الخاصة والمصطلحات الخاصة والتراكيب الخاصة سنة واحدة حين يكتبون في الطب، أو الرياضة العليا أو الكيمياء أو القانون، ولكان عسيرا عليهم أشد العسر أن يكتبوا بالعامية مذهبا كمذهب كانت أو مذهب لمبروزو، أو قصيدة كقصائد المتنبي وبيرون وشكسبير.
فإذا كانت اللغة الخاصة لازمة للمتعلم على كل حال لاستيفاء علم الطب، أو علوم الرياضة أو علوم القانون، فلماذا تحرم عليه لاستيفاء علوم الأدب والقدرة على التعبير الذي لا يتجاوز حدود اليوم، ويصاحب الأمم الإنسانية عدة أجيال؟ ومن قال: إن الإنسان يستخدم لغة واحدة حين يساوم على بطيخة أو حين يغسل القدور، ويخرط الملوخية، وحين يتكلم عن غبطة النفس بالربيع وسمو الأمل بالحب، ونبل الفداء في سبيل المثل العليا؟
ما هذا الولع بالتسفل وهذا الإنكار لكل ارتفاع؟ ما هذا التمرغ في كل وضيع، وهذا الحرد الذي لا يطاق على كل شريف رفيع؟
فاللغات الفصحى لم تحفظ حتى اليوم لأن الأغنياء وأصحاب رءوس الأموال يتكلمونها في البيت والسوق، ولم تحفظ حتى اليوم لأنها مزية طبقة من الطبقات الاجتماعية، أو مزية الأغنياء القادرين على التعليم، فإن أغنى الأغنياء كثيرا ما كانوا من أضعف المعبرين، وأفصح الفصحاء كثيرا ما كانوا من الفقراء والمعدمين، وإنما اختلفت اللهجتان على مدى الزمن بضرورة الاختلاف بين حياة البيت والسوق، وحياة المعرفة والتهذيب التي تتجاوز حاجة اليوم إلى حاجة الأجيال.
وإنما الحقد على كل شريف رفيع هو الذي يسول للببغاوات أن يحاربوا اللغة الفصحى باسم الشعبية، والشعبية منهم براء.
والمرجع بعد إلى الذوق والشعور وخصب الخيال، وهي ملكات حرمتها الشيوعية وذووها من كارل ماركس إلى أذنابه الذين لا يفقهون ما يقول، ولو فقهوه لما عظم شأنهم بين شئون النفوس والعقول.
الفصل التاسع والأربعون
في مصر فلسفة
نعم في مصر فلسفة.
ونحمد الله على ذلك كما حمد فردريك الكبير ربه على أن في برلين قضاء.
ولكننا نحن أولى بالحمد من فردريك الكبير؛ لأن القضاء العادل ضرورة من ضرورات الحياة الاجتماعية يتفقدها الناس إذا فقدوها، ويجدونها إذا طال تفقدها، وكان بهم صلاح لوجودها.
أما الفلسفة فلا يبحث عنها من يفقدها؛ لأن من يفقدها يجهلها ولا يحفل بها، وقد يسخر منها إذا سمع بذكرها، وقد يتفق أصدقاؤها وأعداؤها على أنها نافلة من النوافل وزيادة من الزيادات، وإن قال الأصدقاء: إنها نافلة الكمال، ولا غنى عن الكمال، وزيادة الفضل ولا تطيب للفاضلين حياة المفضولين.
فإذا كان القضاء العادل ضرورة محسوسة فصناعة الفلسفة ليست بضرورة من ضرورة المعاش، أو هي على الأقل ليست من الضرورات المحسوسات: تلك ضرورة وطن وزمن؛ وهذه ضرورة لا يشعر بها الإنسان إلا إذا تجاوز نطاق الأوطان، وأصبح نطاقه الكون كله، في كل زمان.
أو هي العلم الكلي كما قال المعلم الثاني أبو نصر الفارابي: «فإن العلوم منها جزئية ومنها كلية، والعلوم الجزئية هي التي موضوعاتها بعض الموجودات أو بعض الموهومات ... مثل علم الطبيعة فإنه ينظر في بعض الموجودات، وهو الجسم من جهة ما يتحرك ويتغير ويسكن عن الحركة، ومن جهة ما له مبادئ ذلك ولواحقه، أما العلم الكلي فهو الذي ينظر في الشيء العام لجميع الموجودات مثل الوجود والوحدة، وفي أنواعه ولواحقه، وفي الأشياء التي لا تعرض بالتخصيص لشيء؛ شيء من موضوعات العلوم الجزئية مثل التقدم والتأخر والقوة والفعل والتام والناقص، وما يجري مجرى هذه، وفي المبدأ المشترك لجميع الموجودات، وهو الشيء الذي ينبغي أن يسمى باسم الله جل جلاله؛ لأن الله مبدأ للموجود المطلق لا لموجود دون موجود، فالقسم الذي يشتمل منه على إعطاء مبدأ الموجود ينبغي أن يكون هو العلم الإلهي؛ لأن هذه المعاني ليست خاصة بالطبيعيات، بل هي أعلى من الطبيعيات عموما، فهذا العلم أعلم من علم الطبيعة، وواجب أن يسمى علم ما بعد الطبيعة ...»
وكلام صاحبنا الفارابي على تركيته العربية أو عربيته التركية كلام صحيح في التعريف بفضل الفلسفة، أو البحث فيما وراء المادة وما وراء الزمان والمكان، ولكننا بعد ما قدمناه في موقع الفلسفة من الضرورة نعود فنقول: إنها ليست من البعد عن حياتنا الفردية أو حياتنا الاجتماعية بحيث تخرج من عالم الطبيعة إلى ما وراءها، وإن الإنسان ما عاش ولن يعيش بغير فلسفة حياة منذ بحث في العلاقة بينه وبين العالم المنظور والعالم المحجوب، ومرحلة الحياة كما قلنا في بعض كتبنا الحديثة: «كجميع المراحل التي نقطعها من مكان إلى مكان، لا تركب القطار حتى تحصل على التذكرة، ولا تحصل على التذكرة حتى تعرف الغاية التي تسير إليها، غاية ما هنالك من فرق بين راكبين أن أحدهما يقرأ التذكرة والثاني لا يقرؤها، أو أن أحدهما يؤدي ثمنها من ماله والثاني يؤدى له الثمن من مال غيره ...»
والعجب أن بعض الفضلاء من طلاب الحقيقة لا ينظرون إلى الفلسفة هذه النظرة، ولا يحجمون عن نعتها باللغو الفارغ والهذر الذي ليس وراءه طائل، وكذلك فعل الكاتب النزيه الأستاذ نقولا حداد حين جرى البحث على صفحات «الرسالة» عن وحدة الوجود، فضرب المثل على سخف المذاهب الفلسفية القديمة بقول فيثاغورس: إن العدد هو سر الوجود، وإن النسبة بين الأشياء هي نسبة بين أعداد.
قال فيثاغورس ذلك قبل خمسة وعشرين قرنا، فكان فرضه هذا أقرب إلى الصدق من فروض علمية كثيرة فتن بها الناس إلى سنوات.
وقال فيثاغورس حين رأى أن الأوصاف كلها قد تفارق الموجودات من لون أو لمس أو صلابة أو ليونة أو وزن، أو ما شابه هذه الأغراض الكثيرة إلا العدد؛ فإنه ملازم لكل موجود، فردا كان أو أكثر من فرد، وكاملا كان أو غير كامل، وأن الفروق بين الأشياء هي فروق بين تركيب وتركيب، أو فروق بين نسب الأعداد، وأن الكون كله «دور موسيقي» هائل يدور على قياس منسجم كما يدير العازف الماهر ألحان الغناء.
وأنشد الكون ألحانه التي لا عداد لها، وتوالت الفترات التي نعدها نحن بالسنوات والقرون، وظهر اليوم للباحثين أن الأجسام نسب بين أعداد، وأن الفارق بينها فارق في هذه النسب دون غيرها، وأن التناسق في هذه النسب أصدق من أجرام المادة الملموسة باليدين، وأن الأصح في تركيب الذرة أن يقال: إنه «عددي» لا إنه «مادي» ملموس.
وإذا قال فيثاغورس هذه المقالة قبل خمسة وعشرين قرنا، فليس من حقه أن توصف مقالته بالفراغ، وهي أملأ من فروض العلماء بعده في معنى الوجود وفوارق الأجسام، وهي على أضعف الأحوال أدق من قول بعض العلماء: إن أصل المادة أثير. •••
وكان الفلاسفة يبحثون في العقل والمادة من عهد الفراعنة إلى عهد اليونان إلى عهد العرب إلى عهد الأوروبيين المحدثين.
يسأل سائل: أهما محدثان أو قديمان؟
ويسأل آخر: وإذا كانا محدثين فمن الذي أحدثهما؟
ويسأل غيرهما: وإذا كانا قديمين فكيف يتفق قديمان ليس لواحد منهما بداية ولا نهاية؟
ويعود هذا السائل أو ذاك فيقول: وإذا كان أحدهما سابقا للآخر وموجدا له، فأيهما الأول وأيهما الثاني في ترتيب الوجود؟
ويفترق المجيبون فيقول فريق منهم: إن الحيوان ظهر بعد الجماد، وإن الإنسان ظهر بعد الحيوان، فالمادة إذن أسبق من العقل في الترتيب.
ويقول فريق آخر: إن فاقد الشيء لا يعطيه، وإن العقل أشرف من المادة، فهي لا تخلقه وهو أولى بأن يخلقها، ويسبقها في الوجود على الأقل سبق العلة للمعلول.
أكلام فارغ هذا؟
أهو كلام لا يعنينا ولا يدخل في حسابنا؟
كلا ... لأن التفسير المادي للتاريخ مذهب عملي في الحياة الاجتماعية قام على القول بأن المادة هي القديمة وأن العقل هو الحديث، وتوطدت عليه دعوة «كارل ماركس» التي فعلت بعد ذلك الأفاعيل في مجرى السياسة العالمية، وفي مجرى العلاقة بين الطبقات، ولو استطاع فيلسوف أن يقنع الإمام وأتباعه بقدم العقل وحدوث المادة لتغير تاريخ الكرة الأرضية، وتغيرت نظرات الملايين من الناس إلى الحياة.
فهذه الصناعة التي تسمى بالفلسفة لا تغادر الطبيعة كل المغادرة، ولا تنطلق منها إلى ما وراءها بغير رجعة إلينا في حياة الغذاء والكساء.
وإهمال هذه الصناعة غير مأمون على مهمليها؛ لأن الفرق بين الفلسفة الصالحة والفلسفة الطالحة قد يكون فرقا بين ثورة واستقرار، أو بين حرب وسلام، أو بين هداية وضلال.
ونحن حين نذيع البشارة بقيام الفلسفة في مصر لا نذيع بشارة سماوات الخيال، ولا ننسى الذين يعيشون ويعلمون أنهم يعيشون؛ لأنهم يأكلون ويشربون ويلبسون؛ أو لأنهم لا يطلبون من هذا الوجود مطلبا غير المأكل والمشرب واللباس. •••
نعم في مصر فلسفة.
نعم وفيها عناية بالكتب الفلسفية.
وآية ذلك أننا تلقينا في عام واحد نحو عشرين رسالة في المباحث الفلسفية وما إليها، وعلمنا أنها تقرأ في بيئة المتعلمين الذين يؤدون الامتحان المدرسي، وتقرأ في بيئة المطلعين الذين يقنعون بالاطلاع.
من هذه الرسائل القيمة رسالة للأستاذ الجليل مصطفى عبد الرازق باشا عن فيلسوف العرب، والمعلم الثاني، والشاعر الحكيم، وابن الهيثم، وابن تيمية، فيها أوفى تعريف ينال بمثل هذا الإيجاز.
ومنها كتابا الأسرة والمجتمع والمسئولية والجزاء للدكتور علي عبد الواحد وافي أستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب، وقد نوهنا بالكتاب الأول في «الرسالة»، وثانيهما في طبقة الأول من حيث الإفادة والتحقيق.
ومنها كتب ثلاثة في «الفلسفة الرواقية» وسيرة الإمام محمد عبده، وشخصيات ومذاهب فلسفية للدكتور عثمان أمين، وأولها أوفى كتاب بالعربية في موضوعه، ويضارع خيرة الكتب الأوروبية في هذا الموضوع، وقد أنصف الأستاذ الإمام في سيرته الوجيزة، وصحح أوهاما شائعة في الشخصيات والمذاهب الفلسفية، وأغنى المتطلعين إلى هذه البحوث عن كثير من المراجعات.
ومنها التعليم عند القابسي للدكتور الأهواني، وهو بيان لفن من الفنون كان المظنون أن العرب أهملوه، فألم الدكتور بتاريخه وشرح آراء القابسي فيه.
ومنها كتاب التنبؤ بالغيب عند مفكري الإسلام، وكتاب الشعراني إمام التصوف في عصره، وكتاب الأحلام للدكتور توفيق الطويل مدرس الفلسفة بجامعة فاروق الأول، وكلها نمط واحد في حسن التقسيم وتقرير المعلومات وفطانة التعقيب.
وظهرت إلى جانب هذه الكتب القيمة والرسائل المسعفة مجلة مقصورة على علم النفس للأستاذين يوسف مراد ومصطفى زيور، تعنى بأشرف البحوث المتخيرة في موضوعها، وتشغل مكانا لم يكن بالجميل أن يفرغ بعد الآن في اللغة العربية.
ويجب أن نقرر هنا أننا أحصينا ما رأيناه، ولم نحص كل ما صدر للجمعية الفلسفية، أو لغيرها من دراسات الفلسفة والتصوف وعلم النفس وما إليها.
وبعض هذا يكفل للمباحث الفلسفية حيزا موقرا في هذا البلد، ويجيز لنا أن نقول: إن في مصر فلسفة، وإنها بشارة تذاع؛ لأنها بعض الأدلة على انتقال المصريين من عالم الضرورة إلى عالم الحرية والاختيار، ومن أسر الحاجة التي لا تخلو من عبودية إلى شرف الكماليات التي لا تخلو من عزة وارتفاع.
وقد وددنا لو استطعنا أن نبسط القول في كل كتاب من هذه المجموعة النفسية لولا أنها حرب خاطفة تقابل بإشارات خاطفة، وإذا بلغ بأصحاب الفلسفة أن يشكو الناس سرعتهم ونشاطهم، فتلك علامة خير وحجة على من يحسبون الفلسفة قرينة للدعة والركون إلى السكون.
لكن نشاطهم هذا يغريني باقتراح عليهم أوحاه إلي حديث مع أستاذ الجيل وكاشف أرسطو للعرب في هذا الزمان العلامة الكبير أحمد لطفي السيد باشا، مد الله في عمره وأدام به النفع والهداية.
فالأستاذ قد ترجم لأرسطو كتاب الأخلاق، وكتاب الكون والفساد، وكتاب السياسة، وينوي أن يترجم له كتاب الروح أو كتاب ما بعد الطبيعة.
وما ترجمه الأستاذ الجليل هو أصح ما نقل عن المعلم الأول إلى اللغة العربية، وقرين في الصحة والوضوح لأفضل الترجمات في اللغات الأوروبية.
ولكن لا يزال الغلط البالغ محيطا بالمنقولات الأخرى عن أرسطو منذ تصدى له النساطرة والإسرائيليون الأندلسيون؛ لأن الجلة من أولئك المترجمين كانوا يجهلون معاني الفلسفة ويجهلون دقائق العربية، ولا ندري الآن مبلغ علمهم باليونانية، وليس أولى بتصحيح أغلاطهم من عصرنا هذا الذي تيسرت فيه مراجع الفلسفة اليونانية، وتيسرت فيه العناية بها والترجمة عنها.
وقد خطر لي أن ترجمة أرسطو وأفلاطون عسيرة على الفرد إذا استقل بها، ميسرة للجماعة إذا تعاونت عليها، فماذا على شبابنا الفضلاء المتفرغين للفلسفة بأنواعها لو تقاسموا بينهم آثار الحكيمين جميعا، ففرغوا منها في عام واحد أو عامين؟
إن في أرسطو وأفلاطون لما يصلح العقول ويقوم التفكير حتى في هذا الزمان، وما تباعد فيه الخلف بين آرائهما وآراء عصرنا حقيق بالدراسة كتلك الآراء الخالدة التي لم يطرأ عليها الخلف والتغيير؛ لأن دراسته دراسة لعقل الإنسان، وهو موضوع الدراسة في كل أوان.
وعمل الجمعية الفلسفية ناقص إذا بقيت اللغة العربية بين لغات الحضارة خلوا من ترجمة صحيحة للحكيمين الخالدين، وظننا بها أنها قادرة على التمام.
وطلب التمام على من يستطيعه فرض عين في لغة الحكماء، وهي هنا قريبة من لغة المتصوفة ولغة الفقهاء.
الفصل الخمسون
الفلسفة مأمونة
«أتمن الله على الخطر؟ إن الفلسفة خطر على أصحابها وخطر على عقول العامة؛ لأنها ما زالت منذ كانت تثير الظنون وتعرض المشتغلين بها للقيل والقال ...»
قرأت هذا في كتاب غفل من الإمضاء، فكان في ذلك بعض الدليل على أن اتهام الفلسفة بالخطر في زماننا هذا هو الخطر الذي يستتر منه الناس.
وأبادر فأقول لصاحب الخطاب ومن على رأيه: إن الكتب الفلسفية التي أشرت إليها في مقالي السابق بالرسالة ليست من الكتب التي يختلف فيها قولان؛ لأنها تتناول المباحث التي يتفق على دراستها رجال الدين ورجال العلم، ولا يتحرج من قراءتها أصحاب رأي من الآراء.
ونحن مع هذا في زمان غير الزمان الذي كان يخشى فيه على الفلاسفة والمتفلسفين.
وبودي أن أقول بعد هذا وذاك: إن الفلسفة مظلومة في تلك الأزمنة التي كانت تتخذ فيها ذريعة للتنكيل بمن أصابهم التنكيل من جرائها، أو من جراء الانتساب إليها.
فقد ظلموها والله حين أصابوا باسمها من أصابوه، فإنما كانوا يحسدون الفيلسوف على مكانة مرعية، أو يبغضونه لعلة ظاهرة أو خفية، فيظلمونه ويظلمون الفلسفة معه، ويجهل الأمر من يجهله فيقول: إن هؤلاء الظالمين منصفون؛ لأنهم عاقبوا من يستحق العقاب ولم يأخذوه بغير جريرة، ولم يختلقوا عليه الذنوب!
ولو كانت الفلسفة هي العلة الصادقة لأصابت النكبات كل فيلسوف يبحث فيما وراء الطبيعة، ويتصدى للكلام في أصل الوجود أو أصول الموجودات.
ولكنهم لم ينكبوا من الفلاسفة في الواقع إلا من كان ذا منزلة محسودة، ومقام ملحوظ، وإلا من دخل معهم في مشكلات السياسة ومطامع الرئاسة، أو كانت لهم عنده ترة يتحملون الأسباب لمجازاته عليها، فيرجعون به إلى هذه الفلسفة المسكينة، وهي غنية بالعلل والأسباب!
وإلا فما بالهم لم ينكبوا الكندي والفارابي، ونكبوا ابن سينا الوزير وابن رشد قاضي القضاة؟
فالكندي كان رجلا ميسور الحال موفور المال، ولكنه اعتزل الناس ولم يشترك معهم في مطامع الرئاسة، فتركوه يتفلسف كما يشاء، وكان قصارى ما أصابه من ألسنتهم أنهم تندروا ببخله، وزيفوا الأحاديث عن عشقه وغرامه، وسلم له رأسه إلا مما سرى إليه - فيما قيل - من وجع في الركبة قد استعصى على العلاج.
والفارابي نظر إلى محيط السموات، وأعرض عن الأرض ومن عليها، وقال في رياضته الهندسية ورياضته النفسية:
وما نحن إلا خطوط وقعن
على نقطة وقع مستوفز
محيط السموات أولى بنا
ففيم التزاحم في المركز!
فقالوا له: دونك وما تشتهي من محيط السموات، ودعنا وما نتزاحم عليه من هذه المراكز والنقاط!
أما ابن سينا فقد زج بنفسه بين المتنازعين من الأمراء والرؤساء، فزجوه في السجن وألجئوه إلى النفي، وضيقوا عليه المسالك، وعلموه طلب السلامة في زوايا الإهمال.
قال تلميذه ومريده أبو عبيد الجوزجاني: «ثم سألوه تقلد الوزارة فتقلدها، ثم اتفق تشويش العسكر عليه وإشفاقهم منه على أنفسهم، فكبسوا داره وأخذوه إلى الحبس وأغاروا على أسبابه، وأخذوا ما كان يملكه، وسألوا الأمير قتله فامتنع منه، وعدل إلى نفيه عن الدولة طلبا لمرضاتهم، فتوارى في دار الشيخ أبي سعد ...»
إلى أن عاد.
فالعلة في الأرض لا في السماء.
والمصيبة من «الطبيعة» لا مما وراء الطبيعة.
وآفة الرجل أنه أراد أن يكبح السلاح بالحكمة، ولو استطيع ذلك لاستطاعه أرسطو في سياسة الإسكندر ... وهيهات.
ثم مات الرجل في داره حينما زالت عنه رهبة السلطان، ولم يمت في الحبس كما وهم بعضهم في قول بعض حاسديه:
رأيت ابن سينا يعادي الرجال
وبالحبس مات أخس الممات
فلم يشف ما ناله بالشفا
ولم ينج من موته بالنجاة
وإنما كان «الحبس» في اصطلاحهم بديلا من داء «الإمساك» في اصطلاح هذا الزمان!
وقد صدق هذا الحاسد الشامت حين رد البلية كلها إلى معاداة الرجال لا إلى معاداة الله، أو معاداة رسل الله.
وابن رشد جمع على نفسه بين حسد الوجاهة والنباهة، وبين سخط العظماء ونكاية ذوي السلطان.
شرح كتاب الحيوان لأرسطو وهذبه، وقال فيه عند ذكره الزرافة: «رأيتها عند ملك البربر ...» وكان إذا حضر مجلس المنصور، وتكلم معه أو بحث عنده في شيء من العلوم يخاطب المنصور بأن يقول: تسمع يا أخي! ولا يخاطبه بألقاب الملوك والخلفاء.
فجزاه «ملك البربر» دقة بدقة ونكاية بنكاية، ورآه يستكثر عليه أن ينسب إلى العرب أو يسمى بخليفة المسلمين، فقال له: بل أنت الدخيل على أمة العرب وملة الإسلام فيما صح لدينا من الأنساب التي لا تقبل الكلام!
وهكذا أصبحنا «خالصين»!
وأصبح «محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن أحمد» يستتر وراء هذه الأسماء سلسلة من أسماء بني إسرائيل، ونفوه إلى محلتهم في جوار قرطبة؛ لأنه دسيسة على المسلمين من سلالة اليهود الذين يفتنون أتباع محمد بفلسفة اليونان!
ولولا تلك المقابلة في الإساءة والانتقام لجاز أن يلصق هذا الظن بالرجل، وإن لم يقم دليل أو قام الدليل على نقيضه؛ لأن أعدى أعدائه الشامتين به في نكبته قد نفى هذه الدسيسة عن نسبه، وشهد لجده بالتقوى والصلاح حيث قال:
لم تلزم الرشد يا ابن رشد
لما علا في الزمان جدك
وكنت في الدين ذا رياء
ما هكذا كان فيه جدك!
ومن قائل هذه الشهادة في جده؟ هو الحاج أبو الحسين بن جبير الذي جعل من أهاجي ابن رشد أغنية يرتلها ، ويعيد ترتيلها على اختلاف القوافي والأوزان، فقال في تلك الأهاجي الكثيرة:
ألآن قد أيقن ابن رشد
أن تواليفه توالف
وقال:
كأن ابن رشد في مدى غيه
قد وضع الدين بأوضاعه
وقال يحرض على قتله:
وقد كان للسيف اشتياق إليهم
ولكن مقام الخزي للنفس أقتل
ولو رجعنا إلى سر هذه البلية كلها لوجدنا أن «علا في الزمان جدك.» هي تفسير هذه الأبيات أو تفسير تلك النكبات، وأن الزرافة التي عند «ملك البربر» هي التي أدخلت نسب الرجل في سلالة بني إسرائيل.
فالخطر يا صاحبي على الفلاسفة من الدنيا لا من الدين، ومن الخاصة الحاسدين، لا من العامة الغافلين.
وما خطب العامة والفلسفة، وهي لا تصل إليهم وهم لا يصلون إليها، ولا تنعقد بينهم وبينها علاقة نظر ولا علاقة سماع؟
فإذا تحرك العامة، فابحث عن «الصلة» بينهم وبين القضية فلن تجدها في أكثر الأحوال إلا نكاية حاسد، أو وشاية جاحد أو حجة ظالم يستر ظلمه للفلسفة بدعوى الإنصاف للدين، وإن الدين منه لبراء.
واعلم يا صاحبي أن العامة في كل زمان وحش محبوس لا ينال فريسته إلا بعد تحريش وانطلاق، وإن الذين يحرشونه ويطلقونه هم أصحاب الدنيا وعروضها، وليسوا بأصحاب العقائد وفروضها، إلا في النادر الذي يحسب من الاستثناء.
وما أصدق المعري حين قال متسائلا: ما للناس ولي وقد تركت لهم دنياهم؟!
فإنه قد لمس الداء في أصوله حين حسب أن ترك الدنيا يتركه في أمان، وقد تركه فعلا في أمان إلا من القيل والقال، وهو أهون ما يمر بالرجال.
تفلسف يا صاحبي كما تشاء، ودع الناس يتفلسفون كما يشاءون، فما دامت فلسفتك لا تصيب أحدا في دنياه، ولا تفيد أحدا في دعواه، فأنت ظافر برضوانهم وظافر عندهم برضوان.
أما إذا أصبت دنياهم ونقضت دعواهم فيا ويلك إذن من الأرض والسماء، ويا سوء ما تلقاه من العلية والدهماء، ولو زكاك النبيون وشهد لك الأولياء، ولزمت الصلاة والدعاء في كل صباح ومساء.
وما لك تذكر الخطر على الفلاسفة ولا تذكر الخطر على حماة الدين من الأنبياء والمرسلين؟ فهم الذين علموا الناس الأديان، وهم الذين يثار الناس باسمهم حين يثارون على الفلاسفة ومن يزعمونهم من أهل النكران والجحود، ولو وزنت حظوظهم من البلاء والاستهزاء ووزنت معها حظوظ الفلاسفة والمتفلسفين، لما حارت «شركات التأمين» بين أصحاب اليسار وأصحاب اليمين.
هي الدنيا يا صاحبي تظلم الدين كما تظلم الفلسفة بما تدعيه عليه وعليها، وأحسبني قد باكرت هذا المعنى القديم حين قلت قبل نيف وثلاثين سنة:
لو كان ما وعدوا من الجنات في
هذي الحياة لسرهم من يكفر
فدع دنياهم وتفلسف على بركة الله، وأنت في أمان من الله ومن عباد الله.
ناپیژندل شوی مخ