فلما استقر الرأي، عزم على نشر ما كان من رغبته في الطي. وسير قاضي الري أبا ساعد صاعدا إلى دار الخلافة رسولا، وضمن رسالته في خطبة السيدة ابنة القائم سؤالا وسؤلا، وذلك في سنة 453 ه. فندب الخليفة للجواب أبا محمد بن التميمي للاستعفاء، وأنه لم تجر بهذا سنة الخلفاء. ثم قيل له: إن عدمت في الاستعفاء الوسائط، فاطلب صداق ثلثمائة ألف دينار وأعمال واسط. فلما وصل ابن التميمي، أعلم عميد الملك بالحال، فقال: أما الاستعفاء فلا يحسن مع رغبة السلطان وضراعته في السؤال، وأما طلب المال والأعمال، فيقبح لأنه يفعل أكثر ما يدور في خواطر الآمال، والصمت أولى من هذا المقال. فخلني أخل سرك من هذا السر، ودعني أتول هذا الأمر. فقال ابن التميمي: الأمر إليك، والاعتماد عليك، والصواب ما تدبره، والتدبير ما تستصيبه، وأنت أعرف بما تخاطب به صاحبك وبما تجيبه. فقال عميد الملك للسلطان: إن القضية قد تسهلت، وإن العقدة قد تحللت، وإن المنية قد أمكنت، وإن البغية قد تمكنت.
فأشاع السلطان خطبته، وأذاع رغبته. وتقدم إلى عميد الملك بالمسير مع أرسلان خاتون بنت أخيه زوجة الخليفة إلى دار الخلافة، واستصحب ما جاوز حد الكثرة من الدنانير المبدرة والجواهر المثمنة، وسير معها عدة من الأكابر وذوي العلى، ومن عظماء الديلم: فرامرز بن كاكويه وسرخاب بن كامروا. وكان قد وزر للخليفة في تلك السنة مجد الوزراء أبو الفتح منصور بن أحمد بن دارست، فخرج لتلقي الواصلين إلى قرب النهروان، والتقى هو وعميد الملك وهما راكبان، ودخل عميد الملك بغداد وجلس على باب النوبي. فلما وصلت خاتون، سار في خدمتها إلى دارها، ثم حضر بيت النوبة وأخذ دواة الوزير ابن دارست. وأنهى حضوره وحضور الأمراء الذين معه، وأدى من الرسالة ما أودعه. فنفر الخليفة وغضب، وغاض ماء بشره ونضب، وقصد الامتناع ومنع المقصود وسد الباب ولم يفتح الباب المسدود. فشرع عميد الملك يتكلم بكل فن، ويقعقع بكل شن، ويقول: ما بالكم افترحتم، ثم امتنعتم؟
وفيم ذهبتم إلى أبعد غاية في الطلب ثم رجعتم؟ وقد خاطرتم عند السلطان بدمي، وأزلتم بما قدمتم من التقدم قدمي. فأخرج إلى النهروان مضاربه، وخلع الأهبة السوداء ولبس البياض، فاستوقفه ابن يوسف وقاضي القضاة ليستنزلوه من المضارة إلى المراضاة. وما زالا يتلطفان به، حتى حضر بعد ذلك عند الخليفة دفعتين، ومعه جماعة من الأمراء والحجاب والقضاة والشهود، وبلغ في الخطاب وبذل المجهود. وذلك في جماد الآخر سنة 453 ه.
وقال الخليفة: «نحن بنو العباس، خير الناس. فينا الإمامة والزعامة، إلى يوم القيامة. من تمسك بنا رشد وهدى، ومن ناوأنا ضل وغوى».
مخ ۱۹۴