في قتال مانعي الزكاة، حتى رجعوا إليه، ومناظرتهم في جمع المصحف حتى اجتمعوا عليه، ومناظرتهم في حدّ الشارب، وجاحد التحريم، حتى هُدوا إلى الصراط المستقيم ...» (^١).
وهذا هو الجدل المحمود والمناظرة المرضيَّة، التي تُحِق الحق وتكشف الباطل، وتهدف إلى الرُّشد، مع ما يرجى من رجوع المناظر عن الباطل إلى الحق (^٢).
هذه الطريقة كانت هي المعروفة المشهورة قبل أن يُفرد هذا العلم بمؤلفات مستقلة، وتدخله الداخلة من جهات عديدة، ستأتي الإشارة إليها.
وإذا جاز لنا أن نمثّل لهذه المرحلة، فيمكننا القول: إن الكتب الخلافية المتقدمة أصدق مثال عملي لعلم الجدل، يمكن للمتأمل فيها أن يستخلص كثيرًا من قواعد الفن وضوابطه الصحيحة، من مثل كتاب «الأم» للشافعي، خاصة مناظراته مع محمد بن الحسن وغيره من فقهاء العراق. وكتب ابن جرير الفقهيَّة «اختلاف العلماء» و«تهذيب الآثار». وكتب ابن المنذر «الأوسط» و«الإشراف» وغيرها.
المرحلة الثانية: وهذه المرحلة جاءت بعد تدوين أكثر العلوم في مصنفات خاصة، وتميُّز العلوم عن بعضها، وجاءت بعد استقرار المذاهب الفقهية، وتدوين المدونات الخاصة بكل مذهب، وجري العلماء والمتناظرين على انتصار كلٍّ لمذهبه وإضعاف مذهب المخالف بأيِّ طريق. وقد تزامن ذلك مع تأثر كثير من العلوم بالعقليَّات والمباحث المنطقية.
_________
(^١) «العقود الدرية» (ص ٤٧ - ٤٨)، و«تنبيه الرجل العاقل» (ص ٥).
(^٢) انظر: «الكافية في الجدل» (ص ٢٣).
المقدمة / 36